٨
«… فاعلم أن لفظة كان تعطي التقييد الزماني وليس المراد هنا به ذلك التقييد؛ وإنما المراد به الكون الذي هو الوجود. فتحقيق كان أنه حرف وجودي لا فعل يطلب الزمان؛ ولهذا لم يرد ما يقوله علماء الرسوم من المتكلمين وهو قولهم: وهو الآن على ما عليه كان، فهذه زيادة مدرجة في الحديث ممن لا علم له بعلم كان. ولاسيما في هذا الموضع … ولهذا سماها بعض النحاة هي وأخواتها حروفًا تعمل عمل الأفعال، وهي عند سيبويه حرف وجودي. وهذا هو ما تعقله العرب وإن تصرفت تصرف الأفعال، فليس من أشبَهَ شيئًا من وجهٍ ما يشبهه من جميع الوجوه، بخلاف الزيادة بقولهم وهو الآن، فإن الآن تدل على الزمان، وأصل وضعه لفظة تدل على الزمان الفاصل بين الزمانين الماضي والمستقبل. ولهذا قالوا في الآن إنه أحد الزمانين، فلما كان مدلولها الزمان الوجودي لم يطلقه الشارع في وجود الحق، وأطلق كان لأنه حرف وجودي، وتخيل فيه الزمان لوجود التصرف مِن كان ويكون فهو كائن ومكون كقتل يقتل فهو قاتل ومقتول، وكذلك كن بمنزلة اخرج، فلما رأوا في الكون هذا التصرف الذي يلحق الأفعال الزمانية تخيلوا أن حكمها حكم الزمان؛ فأدرجوا الآن تتمة للخبر وليس منه …»
جلس محب في المكتبة القومية الفرنسية وأمامه عدد من الكتب والمخطوطات. كان قد تصفح جميع المخطوطات التي تتصل بأسامة بن منقذ وأعماله، واكتشف بعد دراسة طويلة أن المخطوط الموجود في المكتبة القومية هو نسخة من مخطوط «الاعتبار» الموجود في مكتبة الإسكوريال في إسبانيا، والذي سبق أن حققه الأستاذ الكبير «فيليب حِتِّي» وأصدره عام ١٩٣٠م. ويبدو أن أحد الباحثين في القرن التاسع عشر قد عثر على مخطوط الإسكوريال وكتبه بيده ثانية، حيث وصل في النهاية إلى مكتبة باريس. وقد حاول محب أن ينقذ ما يمكن إنقاذه بأن طالع المخطوط مع الكتاب المنشور، ووجد أنه يختلف مع الأستاذ «حِتِّي» في تحقيقات بعض الكلمات والعبارات. ولكن، هل يكفي مثل هذا الاختلاف أن يكون أساسًا لرسالة علمية؟
كان محب قد أنجز بعض ما يحلم به من راحة بعد أن نجحت كميلة في التوسط له؛ فالتحق بالعمل جزءًا من الوقت بالمركز الثقافي المصري في الحي اللاتيني، وقد أتاح له ذلك المكان التعرف على كثير من المصريين والعرب الذين يفدون على المركز لاستعارة الكتب والاستماع للمحاضرات أو مشاهدة الأفلام المصرية التي يعرضها المركز. وكان العمل يناسبه تمامًا، فلم يكن يأخذ منه وقتًا ولا جهدًا، كما أن المشرف على المركز يقدِّر عمله في المخطوط ويتيح له ما يحتاج من وقت للدراسة. وقد مكَّنه الراتب المقرر له أن يستأجر استوديو مناسبًا بالقرب من المكتبة القومية، فرح به بوصفه قد وفر له حرية واستقلالًا معيشيًّا.
وبينما محب غارق في تأملاته، وجد أمامه أحد موظفي المكتبة يقول له: مسيو فوزي؟
– نعم.
– هذه رسالة لك.
– رسالة ممن؟
– إنها من إحدى رواد المكتبة. وقد تركت لك هذا الخطاب بعد أن علمت أنك تدرس مخطوطة معينة تطلبها دائمًا.
«مسيو محب فوزي
قد تعجب من كتابتي لك دون سابق تعارف، ولكني علمت أنك باحث مصري تدرس المخطوطات العربية القديمة، وأنك مهتم خاصة بمخطوط كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ. ولما كنت أمتلك عددًا من المخطوطات التي تتصل بالموضوع الذي تدرسه، فقد فكرت بأنك قد ترغب في رؤيتها لترى ما إن كان فيها ما يفيد دراساتك وبحثك. أرجو إذا كان في الأمر ما يستحق اهتمامك أن تتصل بي على رقم … لنرى ما يمكن عمله. وتقبل تحياتي. شانتال دي أونفلير.»
وملأت الدهشة نفس محب؛ فها هو باب جديد ينفتح أمامه دون أن يحتسب، وإن كان عليه أن ينتظر ليرى ما وراء هذا العرض المغري العجيب. كان يسمع عن مؤامرات تُحاك للإيقاع بالشباب العربي من أمثاله للعمل في أمور مريبة؛ لذلك وعد نفسه بالتقصي والتمهل كي لا يكون في هذا الموضوع ما يريبه.
وحمل محب معطفه القصير وأخذ الخطاب في يده، وسار في البهو الطويل إلى الخارج. كان العرض المقدم من شانتال مغريًا وملغزًا إلى درجة شعر معها بالرغبة في استجلائه في أسرع وقت. كان الطريق أمام المكتبة القومية مزدحمًا بالسيارات، صفًّا وراء صف. وتطلع محب حوله باحثًا عن كابينة تليفون. ووجد واحدة فدَلَف إليها، غير أنه تبين له أن التليفون فيها معطل، بعد أن عبثت الأيدي به بحثًا عن النقود التي يضعها المتحدثون في خزانته. وإذ وقف محب داخل الكابينة دهِشًا من وجود هذا التخريب في بلد متحضر كفرنسا، غشيته غمامة الرؤى، وتطلع أمامه فوجد طرقات العاصمة تمتلئ بكبائن تليفونية مختلفة، لا يلزم لاستعمال تليفوناتها أي نقود، بل بطاقات بلاستيكية خفيفة يدفع بها المتكلم في شَق مخصص لها، فتحادثه شاشة مرئية بها تعليمات ما يجب عمله لإتمام الاتصال. وبذلك حلَّت فرنسا بالتفكير الخلاق تلك المشكلة التي تهددت هذه الخِدمات، وأبعدتها تمامًا عن نطاق التخريب والسرقة، ولاح لمحب طيفه هو ذاته وقد شُغف بجمع تلك البطاقات التليفونية ذات الصفة الفنية، ومنها بطاقات لمشاهير النجوم، رأى في يده منها بطاقة لمارلين مونرو وأخرى لشنايدر، واللوحات المشهورة الموجودة في المتاحف الفرنسية، لفان جوخ ورينوار وسيزان وغيرهم.
وأفاق من غِشيته فخرج من تلك الكابينة وتوجه إلى كابينة تليفون أخرى، ووجدها تعمل، فأخرج عملة معدِنية من ذات الخمس فرنكات، وهي أعلى فئة في المكالمات، كيما يكون متأكدًا من كفايتها لمدة المكالمة الموعودة.
ورد عليه صوت نسائي.
– مدموازيل دي أونفلير من فضلك؟
– من يطلبها؟
– لقد تركت لي بطاقة تطلب مني الاتصال بها على هذا الرقم.
– لحظة من فضلك.
وبعد برهة، جاء صوت آخر مختلف: مسيو فوزي؟
– بعينه. مدموازيل دي أونفلير؟
– نعم.
– لقد وصلتني رسالتك عن المخطوط الذي أعمل فيه، وأرجو ألا أكون قد تعجلت في الاتصال بك، فالأمر يهمني جدًّا.
– إني مسرورة باهتمامك واتصالك، وواثقة من أن الأمر سيكون في غاية الأهمية بالنسبة لك، لقد علمت من صديقي في المكتبة عن اهتمامك بمخطوط ابن منقذ. وأعتقد أن لدي مخطوطات لهذا المؤلف، وقد يكون من بينها الكتاب الذي تدرسه.
– المخطوط الذي رأيته في المكتبة القومية يبدو أنه نسخة من المخطوط الإسباني الذي تم تحقيقه بالفعل ونشره في أمريكا.
– على العموم، أنا أقترح أن تحضر عندي لترى مخطوطاتي.
– هذا كرم عظيم منك. متى يمكنني الحضور يا تُرى؟
– أنا الآن في شقتي بباريس، ولكن كتبي ومخطوطاتي — وقد ورِثت معظمها عن جَدي — موجودة في بيتنا بنورماندي. فإذا أحببتَ نتفق على يوم أصحبك فيه إلى هناك وأريك كل شيء.
هذا عظيم، لكِ أن تحددي أي يوم يناسبك؛ فأنا كما تعلمين دارسٌ حر.
– ما رأيك في يوم السبت القادم؟
– هذا يناسبني تمامًا.
– إذن نتقابل يوم السبت مبكرًا. سآتي بسيارتي الساعة التاسعة صباحًا. أين تحب أن تنتظرني؟
– أمام المكتبة القومية؟
– وهو كذلك، أرجو أن أعرفك، وأن تتعرف إليَّ من سيارتي، بي إم دبليو.
– وأنا طويل ورفيع. سنعرف بعضنا بسهولة.
– داكور، إلى اللقاء إذن.
– إلى اللقاء وشكرًا.
ووضع محب السماعة وهو يشعر أنه مقبل على شيء جديد يحمل في طياته وعودًا وآمالًا كبيرة.
•••
وقف محب في انتظار شانتال، جاء إلى الموعد مبكرًا كعادته، وجعل ينظر إلى المارة ويفكر. هل يا تُرى تقوده هذه المعرفة الجديدة إلى شيء مهم في أبحاثه؟ كان الأفضل أن يستفسر منها حين حادثها تليفونيًّا، بدلًا من القلق الذي اعتراه حتى الآن. ولكن … ها قد حان وقت معرفة ما سيكون. وشاهد السيارة من بعيد؛ لأنه كان يحب معرفة أنواع السيارات المختلفة؛ ولأن السيارات غير الفرنسية قليلة في باريس.
وتوقفت السيارة أمامه، وفيها شبح فتاة شقراء، فتحت النافذة وصاحت: مسيو فوزي؟
– مدموازيل أونفلير؟
– تفضل.
ودَلَف محب إلى السيارة في جوار الفتاة، التي أغلقت النافذة وتحركت بالسيارة دون اتجاه معين.
– إني آسفة على لقائك هكذا دون المزيد من التفاصيل، ولكني متأكدة أن ما سأعرضه عليك مهم جدًّا لدراستك وعملك.
– أنا واثق من هذا، فقد ذكرتِ لي أن لديك فيما يبدو مخطوطة عن كتاب أسامة بن منقذ. ولكن، كيف حصلت على تلك المخطوطة؟
– هذه حكاية طويلة. أبدأ بالقول بأني قد درست اللغات الساميَّة والأدب المقارن في السوربون. ولكن هذا ليس له عَلاقة بما عندي من مخطوطات.
– وهل عندكِ مخطوطات أخرى غير مخطوط أسامة بن منقذ؟
– الكثير.
وصمتت شانتال برهة وهي تُجاهد في المرور الكثيف للسيارات في قلب باريس. وتعجب محب من قدرتها على المحاورة بالسيارة في ميدان النَّجمة الذي ذكَّره بالمرور في ميدان التحرير بالقاهرة.
– أرجو ألا يكون لديك مواعيد اليوم؛ فرحلتنا ومهمتنا في دوفيل سوف تأخذ اليوم كله.
– دوفيل؟ أليس هذا شاطئ الملوك؟
– ها ها ها. طبعًا، فهو كان مصيف ملككم السابق.
– نعم، أذكر ذلك.
– السيارة عادة تقطع المسافة بين باريس ودوفيل في ساعتين، ولكن مع هذه السيارة الألمانية، يمكن أن نقطعها في أقل من ذلك. كنت أقول إن المكتبة الثمينة التي عندي ترجع إلى جدي لوالدتي الذي كان مغرمًا بجمع الكتب والمخطوطات النادرة. كان مقيمًا في الجزائر، وقد وُلدت أمي هناك. وكان من المفروض أن أولد أنا أيضًا في الجزائر، ولكن والديَّ ذهبا إلى باريس عند مولدي. وقد أقمت في الجزائر فترة طويلة رغم ذلك؛ ولهذا آثرت أن تكون دراساتي ذات صلة باللغة العربية والدين الإسلامي اللذين نشأت في أحضانهما. إني خريجة السوربون كما ذكرت لك سابقًا.
– جميل.
– أنا أعرف أن السوربون مشهورة عندكم جدًّا في مصر؛ فكثير من الوزراء منذ عهد طويل من خريجيها. وقد تعرفت إلى شخصيات كثيرة من مصر والبلاد العربية الأخرى في الجامعة في أثناء دراستي بها.
– وماذا درستِ يا تُرى؟
– دراستي الجامعية كانت في اللغات الساميَّة وآدابها المقارنة أساسًا. ثم درست شيئًا معادلًا للماجستير عندكم في اللغة العربية، وأنا الآن بصدد تحضير رسالة الدكتوراه. مثلك تمامًا.
– في أي موضوع؟
– تأثير الأدب الفرنسي في أعمال وفكر توفيق الحكيم.
– يا له من موضوع شائق!
– نعم، ولكنه يحتاج إلى دراسات وقراءات عديدة.
– ولكن … كيف عرَفت بي وبدراساتي؟
– إن رئيس المخطوطات العربية في المكتبة القومية من معارفي الوثيقين منذ أيام جدي، وبيننا تعاون كبير في مجالات الكتب والمخطوطات. وقد حدثني عرَضًا عن وجود باحث يتوفر على دراسة مخطوطة كتاب الاعتبار لابن منقذ. ولما كنت أعرف أن لدينا مخطوطات لابن منقذ فقد رأيت أنك أفضل مَن يمكن له الانتفاع بمثل هذا الكَنز.
– إذن أنت تعرفين العربية؟
– نعم، ولكن ليس بسلاسة أو طلاقة، خاصة في الكلام، إني أقرأ الفصحى على نحو حسن وأتكلم بعض اللهجة الجزائرية.
– فلتجربي إذن معي. كي تتمرني.
فضحكت شانتال: لا، لا. سوف تضحك مني. وعلى كل حال، سوف نتعامل باللغة العربية معًا بالطبع حين أُريك ما لديَّ من مخطوطات. لقد تمكنت من فرز بعض المخطوطات بنفسي، ولكن قراءتها أو حتى معرفة عناوينها أمر في غاية الصعوبة بالنسبة لي؛ ولهذا فقد تجنبت دراسة الأدب العربي القديم وفضلت أدبًا حديثًا كأدب توفيق الحكيم كما ذكرت سابقًا. تعرفه طبعًا؟
ضحك محب في سره: أعرفه؟ لقد غرِقت فيه.
– أجل، قرأت معظم أعماله، كما أنني حضرت له ندوات كثيرة تحدث فيها.
– لقد قابلته أنا أيضًا منذ فترة في القاهرة وحدثته عن رسالتي. كان مشجعًا جدًّا لي وأعطاني بعض الإرشادات والمعلومات القيمة عن الموضوع الذي أبحث فيه. وقد دعاني لحضور الندوة التي يعقدها أحيانًا في كافتيريا فندق سميراميس، وقابلت هناك عددًا من كبار الأدباء والصحفيين.
– إني أحسدك؛ لأنك تعملين في موضوع أدبي. كنت أحب أن أتفرغ أنا أيضًا للأدب، ولكن الظروف دفعت بي إلى دراسة التاريخ. غير أني أقضي أوقاتًا كثيرة في الاطلاع على الآداب العالمية.
– عظيم، إذن لا بد أن أستنير برأيك في أعمال رسالتي.
– هذا أقل ما أستطيع أن أقوم به ردًّا على كرمكِ البالغ.
وكان محب يتطلع في نفس وقت الحديث إلى الطرق التي يمران بها. كم كان يحب مناظر الطبيعة الخلابة، خاصة بعد أن خرجا من المدينة وأصبحا منطلقين «على طرق فرنسا» كما يقولون. كانت الحقول تمتد شاسعة على الجانبين، وقد بدأت المحاصيل في الظهور. الطبيعة تزداد جمالًا وأناقة كلما دخلت السيارة إلى منطقة النورماندي المشهورة بالخضرة والجمال، والأبقار الناعمة، والبيوت الأنيقة المسماة «شوميير». لم يكن محب يدع الحديث مع شانتال يشغله عن متابعة الطريق والمدن والقرى التي يمران بها. «بونتواز» لو دخلنا المدينة لرأينا أثارًا لفان جوخ حدثته عنها كميلة: المنزل الذي مات فيه، والكنيسة، ودار البلدية، وقبره هو وأخيه ثيو. ثم بعد ذلك «روان» مدينة جان دارك الجميلة. سألته شانتال: هل زار «روان» فأجاب بالنفي، فأوصته بضرورة زيارتها. قال إنه ينوي زيارة نورماندي كلها هذا الصيف، فأوصته أيضًا بزيارة «مون سان ميشيل»، ذلك الجبل المدينة، الذي تتنازعه كل من بريتاني ونورماندي. وحسمت شانتال الأمر بتأكيدها أنه تابع لنورماندي! وتحدثت شانتال إليه عن آثار فرنسا التي يجب أن يزورها، ومنها أيضًا «كاركاسون». وسألها محب عن وجود أي آثار لمعركة «بلاط الشهداء» في بواتييه أو تور، فأجابته بالنفي، على حد علمها؛ ربما لعدم إثارة حساسيات مع العرب. وبعد روان هبطت السيارة إلى طريق فرعي، وبدأ محب يرى لوحات الطريق إلى دوفيل. لم يكن يحلم يومًا بزيارة هذه المدينة التي ارتبطت دومًا بالأثرياء والأمراء والملوك. ربما يمكث فيها بعد زيارة منزل شانتال يومًا أو يومين للزيارة، هذا إذا وجد فندقًا رخيصًا تتحمله ميزانيته.
وأهلت المدينة، وقللت شانتال من سرعة السيارة. لم يكن هناك داعٍ لذلك؛ فالطرق فيها فسيحة هادئة، وهناك قليل من الناس. وكالعادة، لفتت نظره الموائد على الأرصفة أمام المقاهي الأنيقة، وروادها ينعمون بشمس أبريل مع أقداح القهوة. وتماوجت السيارة في طرق براقة ناصعة قبل أن تقف أمام بوابة حديدية عريضة وتطلق شانتال الكلاكس. وسرعان ما ظهر وراء البوابة رجل في بِزة رسمية سارع بفتح الأبواب لتدلِف السيارة إلى الداخل.
وراع المنظر محبًّا. رأى قصرًا منيفًا على البعد، تحيط به مساحة كبيرة من الحدائق والخضرة. كما يتبدى في الأفلام تمامًا.
– ما هذا؟ يبدو أنك تقيمين في قصر فرساي!
فضحكت شانتال ولم تُجب.
– كان يمكن لك أن تعيشي هنا بلا أوجاع الدراسة والدكتوراه وما إليها.
– إني اعشق الدراسة والبحث. هل قرأت تشيكوف؟
– نعم، أظن أنك تشيرين إلى شخصية «الطالب الأبدي» التي صورها في إحدى قصصه.
– فعلًا، يبدو أنك قارئ جيد للأدب العالمي.
– على قدر استطاعتي.
وتوقفت السيارة أمام باب القصر، وهبطا منها. ودقت شانتال الجرس الخارجي، وبعد برهة فتحت الباب سيدة يبدو إنها مدبرة المنزل. رحبتْ بشانتال ومحب، بينما قادت شانتال محب إلى حجرة داخلية بدت كالصالون، وأشارت له إلى مقعد، وسألته ما يريد أن يشرب، وهل تناول فطورًا أم لا.
– أجل لقد أفطرت؛ فأنا لا أستطيع الخروج دون إفطار الصباح، ولكن لا مانع من قهوة أخرى باللبن لو سمحت.
وعادت شانتال بعد برهة وقد غيرت ملابسها بملابس عادية، جينز وتي شيرت، قائلة لمحب إن هذه هي الملابس التي تستريح فيها، والتي شاركت بها في مظاهرات الطلاب. ودهش محب من تلك المعلومة؛ ذلك لأنها من طبقة الأثرياء، بينما كانت فكرته عن ثورة الطلبة أنها ثورة شيوعية.
– كلا، إنها ثورة فكرية تحررية مستقبلية. كما أنني أعتنق أفكارًا تقدمية أيضًا. إني من حواريي سارتر وإن لم أصبح شيوعية. إني أعشق أفكاره الفلسفية عن الحرية، والوجود السابق على الماهية. أما الالتزام، فإذا كنت ألتزم بشيء فهو الالتزام بالإنسانية.
– وهل تعرفين سارتر؟
– طبعًا؛ فأنا أحضر مجلسه في الكوبول، وقد زارنا هنا مع سيمون دي بوفوار. ولدينا كتب ممهورة بتوقيعهما. إذا رغبت، يمكن أن تأتي معي إلى مجلسه.
– إن هذا يكون رائعًا؛ إني أحلم بلقاء هؤلاء الكتَّاب.
وبعد أن فرغا من تناول القهوة، دعته شانتال لرؤية المكتبة ودلَفا إلى قاعة فسيحة محاطة بالرفوف من كل جانب حتى السقف. ومنها رفوف مغطاة بزجاج فاخر، خمَّن محب أنها تلك التي تحتوي على المخطوطات.
– كلا. إن المخطوطات في غرفة جانبية صغيرة، لها حرارة مضبوطة. أما هذه الرفوف الزجاجية فهي للكتب النادرة التي تحمل توقيع مؤلفيها. تعالَ. إن أقرب الكتب فيها إلى قلبي الطبعة الأولى من رواية «الغريب» لألبير كامي، وعليها إهداؤه إلى جدي عام ١٩٤٢م.
– أوه، أنا أيضًا أعشق كامي.
وأزاحت شانتال ضلفة زجاجية وتناولت كتابًا منها قدمته لمحب، الذي تناوله برهبة، وفتح صفحاته وقرأ توقيع كامي فأصابته رعشة، وتخيل أمامه المؤلف بوجهه الصبوح وعينيه البارزتين العميقتين وفي يده القلم وهو يخط هذا الإهداء ويؤرخه في عام صدور الكتاب.
– لا بد أن أباك فخور جدًّا بكل هذه الكتب الثمينة؟
– في الحقيقة إنه غير مهتم بقيمتها الفكرية والأدبية؛ فهو قد وهب وقته كله لصناعة وتجارة المشروبات الروحية، في شامباني مقر العائلة. وهو منذ وفاة والدتي لم يعد يأتي إلى دوفيل إلا نادرًا.
وأخذ محب يتطلع إلى عناوين الكتب الأخرى. كل اللغات والجنسيات. أكثرها فرنسي. جانب للحاصلين على جائزة نوبل للآداب. لم يحصل عليها عربي واحد للأسف. رأى الكتَّاب بدءًا من «سللي بريدوم» وحتى آخرهم صمويل بيكيت. كان يعمل مع جيمس جويس ومع ذلك لم ينلها جويس. هل حقًّا لديها توقيع كل هؤلاء الأدباء الذين حصلوا على الجائزة؟ همنجواي، شتاينبك، باسترناك، تشرشل. لكم يحب أن يرى توقيعاتهم وخطهم. كان يعلم أنها استثمار جيد كالاستثمار في لوحات الرسامين المشهورين، فأسعارها في ارتفاع دائم، ولكن يجب معرفة الأسماء التي تزداد قيمتها وتلك التي تظل أسعارها ثابتة أو حتى تنخفض.
– كم أحب أن أقضي هنا بقية حياتي بين هذه الكتب، حتى لو أصبحت سجينًا في هذه الغرفة.
ضحكت شانتال لهذه العبارة وردت بأنه يستطيع البقاء كما يحلو له، ولكن على ألا ينسى عمله في الدكتوراه.
ثم قادته إلى ركن خاص، وقالت له: هنا تجد الكتب التي أعمل فيها.
وتطلع محب فرأى ترجمات لكتب توفيق الحكيم التي صدرت بالفرنسية، وبعض كتب طه حسين. لم يكن يظن أن ترجمات الحكيم بهذه الكثرة: شهرزاد، عودة الروح، يوميات نائب في الأرياف، أهل الكهف، عصفور من الشرق، والمسرحيات الأخرى، حتى مسرحية يا طالع الشجرة.
– أرى أيضًا أن لديك الترجمات الإنجليزية، وبعض الإسبانية.
– أجل، إني أقرأ بهذه اللغات. وعندي مؤلفاته كلها بالعربية. إني أقرأ العربية على نحو حسن، ولكن ليس بنفس السرعة والدقة التي أقرأ بها في اللغات الأوروبية.
– ولكني أرى معظم مؤلفاته موجودة بالفرنسية؛ لذلك فلن تجدي صعوبة في رسالتك.
– هناك بعض الكتب التي لم تترجَم بعد، وهي هامة جدًّا لرسالتي. معظمها عن تفاصيل حياته، وهذه أساسية لمعرفة قراءاته المبكرة وعن حياته في باريس.
– أها، مثل عصفور من الشرق؟
– بالضبط، أنا بصدد قراءته للمرة الثانية هذه الأيام. إني أعمل في الرسالة تحت إشراف البروفيسور جاك بيرك. لقد قبل الإشراف برغم انهماكه في إعداد ترجمة جديدة للقرآن.
– شيء عظيم، هو مستشرق معروف جدًّا في بلادنا، أنت محظوظة بالعمل معه.
– لقد أنجزت الكثير من الرسالة، وقد وجهني للتعمق في دراسة كتاب عصفور من الشرق كي آخذ منه كل ما يفيد.
– كم أحب ذلك الكتاب. وله كتاب آخر عن حياته في فرنسا يماثل الآخر في الأهمية بالنسبة لموضوعك، هو كتاب زهرة العمر.
– أعرف ذلك العنوان، ولكني لم أقرأ الكتاب.
– غريب أن الأستاذ بيرك لم يُشِر به عليك، إنه سيزودك بالكثير من الأفكار عن كاتبنا العظيم وتكوينه الفكري. بإمكاني أن أقرأه معك إذا أحببتِ.
– أوه، هذا يكون فضلًا كبيرًا منك. تعال الآن حيث اختصاصك.
وتقدمته إلى غرفة ملحقة بالمكتبة، قادتهما إلى غرفة أخرى مغلقة الباب. وحين فتحته ودخلا، أحس محب بتغير في درجة الحرارة واختلاف في درجة الإضاءة، وأدرك أنها غرفة المخطوطات. ووجد خزانات حفظ مماثلة، وفي أرجاء الغرفة المختلفة إطارات زجاجية تحفظ أوراقًا مخطوطة، رأى حين دقق فيها أنها خطابات أصلية بخط مؤلفين مشهورين.
قادته شانتال إلى خزانة كبيرة، فتحت بابها، وأخذت تتفحص عدة مجلدات ضخمة بعناية وحرص، ثم جذبت إحداها وقدمتها إلى محب قائلة:
– أرجو منك أن تحرص في التعامل مع هذه المخطوطات. أنا أعلم أنك خبير بذلك. هذا مخطوط أسامة بن منقذ، وقد قام خبراء في المخطوطات بترميمه وحفظه، مثله مثل المخطوطات الأخرى التي لدينا. تفضل اجلس.
جلس محب وتناول المخطوط بخشوع، وفتحه فوجد أن كل ورقة من ورقاته محفوظة في غِلاف شفاف. وقرأ في يمين المجلد وصفًا للمحتويات فلم يجد غير: «مخطوطة كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ»، مكتوبة بخط غريب يصعب تفسيره لغير العربي. لا بيانات أخرى. وجال في خاطره أنها نسخة أخرى من نسخ الإسكوريال. فتح أول صفحة بيد مرتجفة فأصابه الذهول؛ لم تكن الصفحة تبدأ بالعبارة المشهورة: «ولم يكن القتل في ذلك المصافِّ في المسلمين كثيرًا وكان وصل من الإمام الراشد بن المسترشد رحمهما الله ابن بشر رسولًا إلى أَتَابِكَ يستدعيه.» كانت المخطوطات المتوافرة تبدأ بهذه العبارة، التي لم تكن أول الكتاب، فقد كانت هناك صفحات مفقودة، يقدرها الخبراء بحوالَي ٢١ صفحة ولكن دون إثباتات قاطعة. وقد رأى محب الصفحة الأولى من المخطوط الذي بين يديه فأصابه الذهول، إذ كانت فيما يبدو فاتحة الكتاب على ما جرى به العرف في كتابة المخطوطات أيامها. وطبعًا كانت الكلمات باهتة، والخط مغربيًّا وغير منقوط ولا تشكيل به. ولكن الأمل أن يكون هذا المخطوط كاملًا وبه الصفحات الناقصة جعل دقات قلب محب تتسارع، ولكنه أخفى حماسه عن شانتال، مدفوعًا بالخوف الغريزي المتأصل من رد فعل الطرَف الآخر من اكتشاف كنز مهم كهذا.
– ما رأيك؟
– مخطوط جدير بالنظر. ولكن لا بد من فحصه وتقييمه.
– أعرف هذا، إني جِد آسفة من عدم إمكان تصويره. أو إخراجه من هنا. هذه أوامر والدي. حتى أنا حين أريد دراسة هذه الكتب أو أي من المخطوطات، لا بد أن أقرأها هنا في هذه الغرفة. وطبعًا، يمكنك أن تفعل هذا أيضًا.
– إمممم، سيكون ذلك صعبًا.
– لا صعوبة بالمرة، كما ترى، البيت كبير، ويمكنك أن تأتي إلى هنا عندما ترغب، بل وتقيم أيامًا كما تشاء. وسوف نرتب هذا فيما بيننا.
– وهل يقرأ والدك هذه الكتب؟
– لا أعتقد ذلك؛ لقد ورث معظمها عن جدي، الذي ورثها عن أجداده الأقدمين. إن أسرتنا تعود جذورها إلى القرون الوسطى، ولا أظن أن أبي يعرف عنها شيئًا غير ندرتها. أما عن عمله فهو قد تخصص، كما ذكرت لك، في صناعة وتجارة المشروبات الروحية. عنده مزارع العنب ومصانع ومخازن في إقليم شامباني ومدينة كونياك.
– أها، هذا غريب.
– لقد كوَّنت أسرتنا من فرع والدتي ثروتها من هذه التجارة، وهم يأخذونها مأخذ الجِد، ولهم ابتكارات باسم العائلة في هذه المشروبات تضارع أسماء كورفوازييه. هل زرت أيًّا من تلك المصانع؟
– كلا ليس بعد.
– إنها زيارات شائقة، أصبحت ضمن المزارات السياحية. ولكني أعرف أن من يهتمون بالثقافة والكتب لا يهتمون بهذه الأمور الأخرى. هيا بنا نأكل.
وصحبته إلى غرفة الطعام. كان هناك العديد من الخدم في المنزل-القصر. أخذوا يقدمون الطعام بالطريقة الأرستقراطية. الشراب أولًا. تتبعه فاكهة. ثم الأطباق الرئيسية، وبعدها أنواع الجبن المختلفة، فالقهوة. وجلسا يأكلان بينما الخدم يقدمون الأطباق ويرفعونها. لم يكن محب متعودًا على الأكل تحت المراقبة تلك، ولا بهذه الطريقة، ولكنه أكل ما وسعه مشاركةً لشانتال.
– ها أنت تشرب يا مسيو فوزي؟
– ناديني محب.
– داكور، فلنرفع الكلفة. أنت محب وأنا شانتال.
– عظيم. نعم أنا أشرب، وخاصة من هذا النبيذ الرائع.
– إنه من مزارعنا أيضًا.
– وهذا سبب آخر يدعوني لتذوقه.
شعر محب أنه في جو سحري، وخاف أن يكون ما يمر به إحدى الرؤى الغرائبية التي تمر به كثيرًا. ولكن، ها هو، إنه في هذا القصر، وأمامه هذه الفتاة الساحرة التي جمعت بين الجمال والثقافة واللطف. فماذا يا تُرى يخبئ له المستقبل؟