٩

أسرعت كميلة خطاها كي تلحق بموعدها مع محب، فرغم تعوده على عدم احترامها للمواعيد بسبب جموحها الدائم، كانت لا تحب أن تجعله ينتظرها طويلًا. كانا دائمًا يتلاقيان أمام البوابة الرئيسية لمتحف اللوفر، ولكنها اليوم لن تدخل المتحف، بل ستجلس مع محب في أحد المقاهي يتحدثان. كان لديها ما تحكيه له، وهو أيضًا قال إنه يريد الإفضاء لها بأشياء.

وجدته في انتظارها كعادته جالسًا إلى جدار منخفض، يقرأ في كتاب. وقف حين لمحها قادمة، وصافحها مرحِّبًا، ووجدت في عينيه نظرة جديدة.

– أين سنذهب؟

– هيا بنا إلى شارع مونبارناس؛ أريد الجلوس إلى الروتند.

ومضيا يسيران في تمهل في طرقات باريس الزاخرة بالعلامات والإشارات الفنية والثقافية والتاريخية. عبرا شارع ريفولي بمحلاته المليئة بالتحف السياحية، وانعطفا يسارًا متجهَين لعبور الجزيرة من على البُون نيف «الكوبري الجديد». وتحادثا وهما يتشربان ما يرياه.

– لقد وقعت لي حادثة غريبة جدًّا.

– طيبة أم سيئة؟

– جميلة جدًّا. كالحلم.

– إذن ففي الأمر فتاة. احكِ لي.

قص عليها محب لقاءه مع شانتال، وقصرها المنيف، وكتبها الثمينة. ثم حكاية المخطوطة الجديدة التي اكتشفها هناك.

– وهل تأكدت أنها مختلفة عن المخطوطات التي تعمل فيها؟

– أكيد؛ فهي كما أعتقد أول مخطوطة كاملة للكتاب؛ فهي تبدأ بالمقدمة المعهودة في بداية المخطوطات في عصر أسامة بن منقذ. وقد عددت صفحاتها وهي أكثر بكثير من صفحات المخطوطة بنسخها المعروفة.

– هذا اكتشاف يا محب، بل هو كنز.

– لا أدري ما أفعل الآن. هل أخبر الأستاذ المشرف في مصر؟

– أرى أن تنتظر قليلًا حتى ترى ما يمكن عمله.

– آه لو أن الدكتور «فيليب حِتِّي» ما يزال موجودًا اليوم! كم كان سيسعده مثل هذا الاكتشاف.

– ولكن، قل لي: كيف هي تلك الفتاة شانتال؟

– جميلة وذكية.

– إذن سيكون لك قصة معها!

فضحك محب وقد تورد وجهه.

– حدثني عن مناطق الفتنة فيها.

– المناطق على ما يرام، وهي تُذْكي خيالاتي. ولكني أتطلع أيضًا إلى مناحيها الفكرية والثقافية.

– ليس هناك من تعارض، بل إن الأمرين يكمِّل أحدهما الآخر. أنا أحلم بشخص يجمع الاثنين. وقد حكيت لك كيف أنني أكافح مع ماجد حتى أجعله يتذوق الفن والموسيقى، وقد نجحت في ذلك قليلًا وسأتقدم فيه شيئًا فشيئًا.

– أنت تعرفين رأيي في هذا الأمر. إن ماجد لا يصلح لك.

– ومن يصلح؟ أنت؟

فتورد وجه محب وضحك.

كانا قد وصلا إلى كوبري «البون نيف»، وأخذا يعبرانه.

وابتسم محب. ولما سألته كميلة عن سبب ابتسامته العريضة، قص عليها كيف أن هذا الكوبري، رغم اسمه، هو أقدم الكباري في باريس على هيئته الأصلية. فقد وُضع أول حجر فيه أصيل يوم ٣١ مايو ١٥٧٨م بيد الملك هنري الثالث في حضور الملكة الأم كاثرين آل مديتشي والملكة لويز دي فوديمون. وقد لقي هذا الجسر ترحيبًا كبيرًا من الجمهور الفرنسي عند إنشائه؛ فلأول مرة أصبح بإمكان سكان باريس المرور فوق الجسر وتأمل نهر السين من تحتهم.

قالت كميلة: كم أحب كباري باريس، إنها تحفة في تصميمها وجمالها، وحتى أساميها. فأنا أحب جدًّا العبور مرارًا من على «كوبري الفنون».

– طبعًا فهو تخصصك، ولا تنسي كوبري ميرابو، والقصيدة الجميلة التي ارتبطت به.

– تقصد قصيدة أبولينير. كم هي جميلة! أتعلم أنها من أوائل القصائد التي جرى تسجيلها بصوت مؤلفها؟

– حقًّا؟ إن ذلك مدهش. كم أود سماع ذلك الصوت القديم. هل عندك التسجيل؟

– نعم، سوف أسمعك إياه حين تزورني في المرة القادمة. ولو أعجبتك فسأسجل لك نسخة منها. هل عندك كاسيت؟

– لم أشتر واحدًا بعد. ولكن عندي جهاز تسجيل صغير من نوع البكرات.

– أجل أعرف ذلك النوع. عندي واحد منه كبير. ولكن اختراع شرائط الكاسيت الصغيرة أفضل وسوف تنتشر أكثر من أجهزة التسجيل الثقيلة تلك.

وبدأت كميلة تتلو بصوت عذب بداية سطور القصيدة:

«تحت جسر ميرابو
يسري نهر السين
ويسري غرامنا.
أعَلَيَّ أن أتذكر كل ذلك؟
البهجة دائمًا ما تأتي بعد الألم.»

ثم قالت: لماذا لا تترجمها يا محب؟ أعرف أنك قد ترجمت عددًا من القصائد إلى العربية.

– فكرة طيبة. سأدرجها في قائمتي.

– رغم أنهم يقولون إن الترجمة خيانة، وما بالك بترجمة الشعر.

– صحيح؛ ولذلك لا بد في الشعر من التصرف في الترجمة وإلا جاءت حرفية لا معنى لها، سنترجمها معًا حين نصل إلى المقهى. ربما كان أبولينير جالسًا في ذلك المقهى حين كتب هذه القصيدة؟

– إن خيالك جميل يا محب. لماذا لم نصبح معًا؟ ها أنت لديك فتاتان بدلًا من واحدة، وأنا ما زلت حائرة.

– أي فتاتين؟

– خطيبتك في القاهرة وشانتال.

– حرام عليكِ. إن خيالك جميل أيضًا. من يدري ما يصنع القدر معي وشانتال؟

– هذه أمور تسير وفق ناموس معين. سترى.

– سيصبح ذلك مأزقًا صعبًا لو حدث.

أجل إن شانتال تهيئ له كنزًا مرصودًا من كل شيء؛ الثقافة والعلم والجمال والفتنة، ثم معاملتها الرائعة له. كيف يا تُرى تفكر فيه؟

ووصلا إلى مقهى «الروتند»، واحتلا مائدة خارجية. طلب كلاهما زجاجة من البيرة. وبينما أخذا يحتسيان المشروب ويتفرجان على المارة، تجاذبا أطراف الحديث.

– وماذا عنك يا كميلة؟ ما أخبار قلبك؟ لماذا تتحدثين عن حيرتك؟

– كما قلت لك من قبل. إني موزعة بين حبي لماجد وبين عدم اهتمامه بالفن. إني أجاهد كي أقربه من اهتماماتي الفنية. ولكن، ربما أفعل مثلك وأحب أحد الفرنسيين بدلًا من هذا التوزع.

– ها أنت تصرين ثانية على أني أحب شانتال.

– هذا يبدو من حديثك عنها.

– لا أنكر أنها فتاة مثالية، فيها كل الصفات المحببة. ربما لو لم أكن مرتبطًا بسهير لتجاوبت معها.

– ها قد وقعت بلسانك. هذا يعني أنها تحبك.

– لم أقل هذا، إنها متعاطفة معي فحسب.

– ولماذا هذا التعاطف؟ انتظر وسترى.

وطاف في ذهن محب الطريقة التي تتعامل بها شانتال معه. لا شك أنها تتودد إليه. لقد أعطته الكثير. ذهبت معه أكثر من مرة إلى دوفيل، بل ومكثا هناك أيامًا، حيث أعدت له حجرة نوم هناك. وأعطته حق التردد على المكتبة متى شاء. وكانت تود لو أعطته المخطوط لولا الحرص الشديد لأبيها على عدم القيام بذلك تحت أي ظرف.

– أتعرفين يا كميلة، إن وضعينا متشابهان. أنت محتارة في حبك لماجد، ويبدو أنني في الطريق إلى الموقف نفسه من الحيرة.

– ها قد اعترفت. يبدو أن أفضل شيء أمامنا هو أن نترك من معنا ويحب أحدنا الآخر.

ضحك محب مقهقهًا. واستمرا يشربان ويفكران. ورويدًا رويدًا، شعر محب بالنوبة تتسلل إليه. كان يعرف مقدماتها جيدًا الآن، رغم أن تلك المقدمات لا تدوم سوى لحظات؛ إذ وجد نفسه جالسًا إلى «الروتند» ولكن كل ما حوله بدا في شكل مغاير. كل شيء انقلب إلى ما كان عليه عام ١٩١٩م، بالطراز الذي كان سائدًا وقتها بعد الحرب العالمية الأولى. «الدوم» هناك، ومقاهٍ أخرى عديدة، قد أُخرجت الموائد والمقاعد أمامها والناس يَقصِفون ويَلهُون. ورأى شابًّا زَرِيَّ المظهر، غير حليق الوجه، يمر على المقاهي والمشارب وفي يده وُرَيقات بها رسومات غريبة، أناس ذوو وجوه وأجساد متطاولة بشكل ظاهر، وهو يعرض على الناس أن يرسمهم مقابل خمسة فرنكات للرسم. كان أشبه بالمتسولين. وكانت كثرة الناس تزجره، والبعض يلقي نظرة على الرسوم التي يحملها في يده، وآخرون ينفحونه فرنكًا أو اثنين على سبيل الصدقة. أحس محب بقلبه يخفق عند رؤية ذلك الرجل. لم يكن يدري من هو أو في أي عصر عاش. لم يكن في قراءاته أو دراساته ما يمكنه من التعرف إليه، رغم وضوح وجهه ورسوماته في النوبة الحُلمية، وأفاق محب تدريجيًّا من نوبته الغريبة.

كانت كميلة تحملق في وجهه وهي شاردة الذهن. كانت تكلمه ولكن لم يكن يرد عليها. اكتشفت أنه ربما كان يموج في إحدى تلك النوبات التي سبق له أن حكى لها عنها. وكانت كميلة منبهرة بها، وتسميها «رؤًى» كالرؤى التي كان يستشعرها نوستراداموس، وترى فيها علامة على السمو والاختلاف عن بقية القطيع، كما كانت تردد دائمًا عن الناس الذين لا يشعرون بالفن وأحاسيسه المرهفة.

وحكى لها محب ما رآه؛ فاتسعت حدقتاها اندهاشًا وهتفت: طبعًا، إنه موديلياني. ألا تعرفه؟

– سمعت عنه.

– إنه من أشهر الرسامين الآن. وقد عاش حياة بوهيمية في باريس وهنا في مونبارناس. وله أسلوب معين في الرسم لا تخطئه العين، يعتمد على إطالة الوجوه والأجسام. وقد انتهت حياته نهايةً مأساوية بعد أن نهش السل صدره فقضَى وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وانتحرت حبيبته بعد يوم واحد من موته.

– غريب، هذا مصير كثيرٍ من الفنانين، خاصةً في تلك الأيام القاسية. إني أسمع أن لوحاته الآن تباع بالآلاف.

– أجل، لقد أصبحت في مستوى لوحات بيكاسو وفان جوخ ومونيه. أتعرف أيضًا، لقد تمرن موديلياني في نفس أكاديمية الرسم التي التحق بها خليل جبران في العام الذي قضاه في باريس.

– يا لمعلوماتك الغزيرة يا كميلة! كم أود أن أكون مثلك، خاصةً حين يتعلق الأمر بفنانين مثل موديلياني.

– إنك تعرف أكثر مني، وأنا التي أود أن أدخل في تلك الرؤى التي تمر بك.

– غالبًا ما تأتيني تلك النوبات بمشاهد وعصورٍ تاريخية، ربما لتخصصي في التاريخ، ولكن يبدو أن وجودك بقربي أحال الرؤية إلى موضوع فني.

– والمكان أيضًا، فموديلياني كان يتردد على «الروتند» و«الدوم» كثيرًا. لسوف أصحبك يومًا لرؤية فيلم شهير عن حياته. عنوانه مونبارناس ١٩، من تمثيل جيرار فيليب. أنا أعشق هذا الممثل، خاصةً صوته الرنان الذي جعله يسجل أشعارًا فرنسية شهيرة بصوته.

– أليس هو الذي سجل تلخيصًا دراميًّا لقصة الأمير الصغير لسانت إكزوبري؟

– بالضبط، لقد قضى هو أيضًا قبل الأوان. وكتبت زوجته آن ماري فيليب كتابًا غاية في الرقة والحنين عن حياتهما معًا. انظر يا محب، انظر إلى يمينك.

– واااو. أليس هذا بيكاسو؟

– أجل.

– غريبٌ أنه بمفرده. لماذا لا تذهبين وتحادثينه؟

– وهل أنا مجنونة، معروف أنه لا يحب قطع وَحدته؛ ولهذا يتجنب الناس إغضابه. ألا ترى أنه يداري نفسه كي لا يتعرف عليه السياح؟

– غريب أمر ذلك الرجل. يقال عنه إنه ساحر النساء رغم عدم تناسق تكوينه.

– السحر كله يكمن في الفن والعقل، وليس المظهر.

– معك حق؛ إن هذا المقهى ساحر.

هناك مقاهٍ كثيرة يمكن أن تشاهد فيها من تحبه من الفنانين والأدباء.

– لقد وعدتني شانتال أن تصحبني إلى الكوبول هنا.

– طبعًا، حيث سارتر.

– إنها تعرفه، وسوف نجلس في حلقته. وأنا قد رأيته من قبل عند زيارته إلى القاهرة عام ٦٧.

– من الواضح أن شانتال سوف تستولي عليك يا محب؛ ولذلك يجب أن تفكر منذ الآن عما ستفعل مع سهير.

وغرِق محب في تفكير ذاهل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤