القول في أقوالنا وأفعالنا
أكُلَّما جنى جانٍ قلنا له: استغفر وتب، وأنت في حِلٍّ مما كسبت يداك، فإذا عاد لما نُهي عنه أملينا له ما أملى هو لنفسه في الباطل؟ وكيف لعمري يسامَح صاحب الكبيرة على كبيرته، وهو مُصِرٌّ عليها لا يحيد عنها، ويقال للظالم لنفسه أو لغيره: إن باب التوبة مفتوح أمامك، تدخل منه متى شئت، فتعود كيوم ولدتك أمك؟
إذا كان القاتل يَقتل ويقول تبتُ، والظالم يظلم ويقول رجعتُ، والفاجر يفجر ويقول أنبتُ، فلِمَ الشرائع نحتفظ بحدودها، وما الفائدة من القوانين، نُعنى بتطبيق مفاصلها؟
كان أحد المشايخ يسترضيني عن رجل أساء إليَّ على إحساني إليه، ويورد ما أُمرنا به من معاملة المسيء والعدو، فقلت له: إني خُلقت كما خُلق هؤلاء الذين تراهم من لحم ودم، وعصب وعظم، يُغضبني ما يغضبهم ويرضيني ما يرضيهم، وأرى السلامة في البعد عمن أساءوا، ولا رجاء منهم أن يحسنوا، ألوي وجهي عنهم، لا أنظر إليهم ما عشت.
أنا لا أُحاول الاشتغال بمداواة نفوس مريضة، ومرضها عُقام، ولا أغامر بمداناة الموبوء المتفسخ، ولا أرجو خيرًا من مأفون الرأي، ولا أُداري مَن هُم أشبه بالحيوان المفترس منهم بالإنسان المُدرِك، أتخير لصداقتي من يلائمني، ولا تتناكر روحي وروحه، وليس هناك ما يضطرني إلى مراعاة كل الأمزجة، ومسايرة جميع الأهواء. فقد خالقتُ قومًا بأخلاقي فما أفلحتُ، وأرادوني أن أخالقهم بأخلاقهم فما أفلحوا.
ما جريتُ ولن أجري على سياسة الترقيع ما إن وجدت إنسانًا أُكلمه، والصالح في العالم غير قليل، وما عقدت ولن أعقد مع المنحلين من كل عقد صلحًا على دَغَل، رجاء أن أستديم به عشرتهم، ولا أَرمُّ جرحًا نغَّارًا على فساد ظاهر يتبين منه تفريطي، ولن أُحاول نزع الحسد من قلب الحسود، وتعرية اللئيم من لؤمه، وزحزحة المبطل عن طبيعته. أحسنت الظن ببعض الأشرار، وعملت بما قيل: «الأصل براءة الذمة» فما حمدت غبَّ تساهلي معهم، وندمت على مغالطة النفس فيهم، وأعترف أني أخطأت الحزم، وما أصبت شاكلة الصواب.
ليقل علماء الدين ما يقولون، وليقرر علماء النفس ما يقررون، وليكرر علماء الأخلاق ما يكررون، فأنا أكره الشر ولا أقصد الآن إلى مداواة صاحبه، وأعشق العدل ولا أُغضي عمن يهدم عموده، وأرغب في النظم السليمة ولا أُغالط النفس في استصلاح الفاسد، فالأخلاق ليست ثوبًا تنزعه، وتستعيض عنه غيره في ساعة، ولا الفضائل ببضاعة تعرضها على أول مبتاع فيحسن الانتفاع بها في الحال، ومن يقلُّ للصالحات استعداده أنت لن تخلق فيه ما حَرَمَتْه الفطرة إياه، ولو جهدت كل جهدك.
نصحنا للمدمنين أن يُقلعوا عن عادتهم فضحكوا وأغربوا، وأردنا المقامرين أن يكفوا فقال قائلهم: إنا نعلم ما لا تعلمون فهزأوا وسخروا، وَذَكَرْنَا للبخلاء سوء أثر التقتير فما توسطوا ولا اعتدلوا، وكرَّرنا على مسامع المسرفين عاقبة إسرافهم الوبيل فما ارعوَوا ولا اتزنوا، وحذرنا الكذابين عواقب كذبهم فما انتصحوا ولا صدقوا، وصرخنا في الجاهلين صرخة كادت تُسمع الصم، فظنوا أنَّا نغالطهم فأصروا واستكبروا.
وطال الأمد على هذه الدعوة، والمدمن ما برح على إدمانه، والمقامر ما فتئ مثابرًا على قماره، وظل البخيل متمسكًا ببخله، والمسرف راضيًا عن سرفه، والكاذب مغتبطًا بكذبه، وانقضى العمر في أمل لم يتحقق منه بعض ما كان يُرْتَجَى وصُرفت في هذه السبيل جهود لم يسترد منها عُشرها، فهل من مطمع بعد هذا في أن نجعل من جذع يابس غصنًا نضيرًا، ومن جسم ميت كائنًا حيًّا؟
في الحديث الشريف: «إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا، وإذا سمعتم برجل زال عن خلقه فلا تصدقوا، فإنه يصير إلى ما جُبِلَ عليه.»
كلما عَلَتْ بي السنُّ يتعاظمني ما أرى من سر بعض المشهورين وعلانيتهم، وما يتجلى من قلة الصدق في أكثر الطبقات، وما يُمنى به بنوها من غرور. ورأيت معظم من كانوا، بحسب العرف، أُمناءَ الشرع هم أول الجانين عليه، ومن كانوا يتناغون بالفضائل هم في مقدمة من يعقُّها، ورأيت المتزمتين المتزهدين يأكلون بصلاتهم وصيامهم.
وعاصرت طوائف من الخلق تستحل ما أُخذ في سر وجلب مغنمًا، وشهدت بعض من أُطلق عليهم، أو أطلقوا هُمْ على أنفسهم اسم: «أرباب الشخصيات البارزة» أو: «طبقة الخواص» لصوصًا في مظهر حَمَل وديع، لا يتعففون عن بيع المروءة في أقل عرض تافه.
وآلمني أن جُلَّ من وقفوا في الصفوف الأولى كانوا من الأثرة على ما استحلوا به أن يجعلوا غرضهم الشخصي فوق الأغراض كلها، فما ربحوا وما ربحت تجارتهم، وكُنَّا بهم أمام الأقربين والأبعدين من الخاسرين.
كان بعضهم ينتمي إلى فريقين، ويلعب في آنٍ واحد على حَبْلَين، وأنت لو أخذت عليه العهد بالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، على أن يُخْلص القصد ويعمل بجِدٍّ ما صدق ولا بَرَّ.
ولو كانت الأمة تعرف عدوَّها من صديقها، لعاملت أصحاب هذه الأخلاق كما يعامَل الخائنون، وبئست الأرض أرضٌ لا يُجازَى فيها الخائن على خيانته، ولا السارق على سرقته، وتعسًا لأمة تنسى من يسيء إليها، وترقُّ على من يستحق القتل.
عشت في جيل كانت فيه السرقة والرشوة والتجسس مما لا يُستهجن، إذا أُنكرت على فاعلها فأضعف إنكار. وعهدت بعض أدعياء الفهم يَصِمُون بالبلاهة كل من لا يجمع المال بطريقتهم، ولا يتوصل إلى المعالي بأساليبهم. ورأيت المغتني إذا اغتنى، والمتصدر إذا تَصَدَّرَ، لا يسألهما أحد عن مالهما كيف جمعاه، ولا عن جاههما كيف وصلا إليه، ويعدُّون من يحاسِب على ذلك داخلًا فيما لا يعنيه.
أتى عليَّ زمن كنت أتمنى فيه ألا أعرف تراجم من عرفت، فإني بما لَقِفْت من أحوال الناس كاد يسوء ظني بالإنسانية، ويؤسفني أن أصرح أني شهدت الإفرنج أقرب إلى السلامة من المغرورين من الشرقيين. الإفرنجي يعمل لمقصد، ولا يُسفُّ حبَّ الإسفاف، ولا يؤذي طمعًا بالإيذاء، وقد يرجع إلى العقل، ويصدر عن تفكر، ويبتعد ما أمكن عن الفضول. والصالحون للمجتمعات من الإفرنج أكثر من الصالحين لها منَّا، ونسبة من يعمل لغاية حسنة منهم أعلى من نسبة من حالُهُ كذلك من بني جلدتنا، والسر أنهم يتعلمون ويتهذبون، ونحن لا نتعلم ولا نتهذب، وهم مُولَعون بالتجدد ونحن جامدون.
نحن قوم ليس لنا إلا الدعاوى العريضة وكأننا أصبنا بعقولنا، وكانت إلى عهد قريب ثاقبة، وضعف على الأيام تفكيرنا، وكان سليمًا صحيحًا، نستحسن كل ما فينا، ونستهجن حتى الصالح مما عند غيرنا، نكفر وأسباب الهدى موفورة لدينا، والمكتوب عندنا غير المخطوب، والمكسوب غير الموهوب.
قال أحد ساسة الغرب لأحد أشراف مكة، وقد رأى في خزانته مصحفًا شريفًا، ما هذا الذي أراه؟ قال: هو القرآن الكريم، وأخذه وَقَبَّلَه. فقال له الغربيُّ: دعني أنا أيضًا أتشرف بالنظر إليه «إنا لَقَوْمٌ عَمِلْنا بتسعين بالمائة مما فيه، وأنتم أصحاب هذا الكتاب لم تعملوا بغير عشرة في المائة منه» أوليس ما قاله الغربي قريبًا من الصحة إذا أنصفنا؟
غبر العمر بين جاهل وحسود، ومن العناء رياضة البهيم، ومن أشق المكاره مداراة الحاسد الممازق، ومضت الأعوام في إصلاح أغلاط الجهلة، ومداواة أسقام العوام، واستهدفت طول العمر لسهام من أهمتني وقايتهم من المهلكات، ولشد ما غامرت لأجلب إليهم السعادة، وما عقدوا لي مِنَّة في أعناقهم، كأن ما أقوم به ليس من باب التفضل، بل هو دَيْن عليَّ واجب الأداء، وفرض لا بد معه من الاقتضاء. ولولا أن اليأس على العاقل حرام، لما قلت بعد الذي عانيت كلمة في إصلاح معوجٍّ وتقويم زائغ، ولكن الواجب على من يعرف أن يقول مهما أساء أبناء الزمان الفهم.
ولقد كنت كلما مَنَّيْت النفس بأن الخير سيكون في الجيل الذي يجيء بعد الذي أشكو منه، أرى الزمان هو الزمان والناس هم الناس، وإذا الأبناء ينشئون على غرار الآباء، وإذا اللؤْم والحسد والدناءة عسيرة العلاج.
وعلى قدر ما كنت أحسن لإنسان كان ينالني مكروهُهُ، أخجل من تصرفه معي، ولا يخجل من إساءته إليَّ، ومن التوفيق أن بعض من قابلوا خيري بشَرِّهم عُرفوا بسقوط الأخلاق فانصرفت الوجوه عنهم. باعوا أنفسهم لقاء تافهات توهموها مغنمًا فخسروا خسرانًا مبينًا.
ولكثرة ما رأيت من أصحاب هذه الأخلاق أنشأت أقول لأصحابي: بالله عليكم اقتصدوا حتى في عمل الخير؛ فالمرء كلما توسع في الإحسان يجيئه الضرر عظيمًا على نسبة إحسانه، فالأَوْلى أن يسمح بما لا يأسف عليه إذا ضاع، ويَعُدُّهُ ساعةَ يسديه من المال المفقود، لا يرجو عليه مكافأةً ولا ثوابًا.
قومي أبدًا يحيلون على الأقدار، ويتوهمون أنهم صنف ممتاز من أجيال البشر، ولطالما نسبوا كل ما هم فيه من الأمراض إلى من يتولى أمرهم، يُعْفُون أنفسهم من كل لائمة وتقصير. إنهم في حاجة إلى أن ينصفوا غيرهم وينصفوا أنفسهم، وأن يخلعوا هذه الأثواب البالية عنهم، ويستجِدُّوا لهم كسوة جديدة، وأن يدركوا أنهم إذا لم يكونوا صالحين في أنفسهم فإنهم لا يخدعون بحسن حالهم أحدًا.
وسواء كان قانوننا دستوريًّا جمهوريًّا، أو ملكيًّا مقيدًا أو مطلقًا، أو استبداديًّا طاغيًا، أو كنا مستقلين محررين من كل قيد، لا تنفعنا حكومة إن لم نكن في أنفسنا شيئًا، وقد نؤلف الحكومات الشورية، ونجمع المجالس النيابية، ويكون لنا جيش وأسطول وطيارات ودبابات، فإذا أعوزنا الصدق، وما انتظمنا الجد، فأيقن أننا علة استعبادنا، وأَنَّا بيدنا نفتح أبواب دارنا لنُدخل إليها عدوَّنا.