القول في ماضينا القريب
كانت أدوار الحركة في الأمة العربية أقل من أدوار الفتور، وكانت الأدوار الأولى مما يرفع الرءوس ويوجب المباهاة، وما جاء بعدها مما يخجِل ويؤسف. والسبب في استمرار الفتور سخفاء الملوك وأشباه الفقهاء. الملوك أفسدوا الحكم والإدارة، والفقهاء عبثوا بالدين والقضاء. ومتى تحكَّمت الأهواء في حكم الناس اضمحلَّ أمرهم، ومتى فسد شرع أمة فسد فيها كل شيء. وبذلك أصيبت العقول بالضعف، والقرائح بالركود، والحضارة بالتراجع، والشرائع إذا لم تنفذ لا تنفع، والعقول إذا لم تتجدد بالابتكار يضيق نطاقها ويتحيفها الوهن، ووهن العقل مُؤَدٍّ حتمًا إلى هلاك الإنسان وخراب العمران.
كان ماضي الأمة يقوم على دعائم من الدين والمدنية، ولما انحطت هذه ضعف الدين نفسه، ومناط الدين النفوذُ إلى لبابه لا الاكتفاء بقشوره، وجوهره يتجلى في المعاملات أكثر من تَجَلِّيه في العبادات، والمعاملاتُ تتعدَّى فائدتها إلى المجموع، والعبادات مقصورةٌ منافعها على الفرد، وما لا يقوى يضعف، وما لا يزيد ينقص، وليس للارتقاء حدٌّ وكذلك القول في الانحطاط.
أوهم الجامدون هذه الأمة أنها أرقى شعوب الخافقين، وأنها ما دامت متمسكة بدينها لا يضرها التأخر في دنياها.
أوهموهم، وهم في القرن الثامن والتاسع والعاشر من الهجرة، أنهم كما كانوا في القرون الأول والثاني والثالث، تهابهم الأُمم وتقتبس منهم فنها وعلمها وصناعتها، وأنهم القدوة الصالحة والمثال المُحتذى، واتسعتْ هذه الدعوى مع الزمن حتى جاءت القرون الأخيرة وجمهور الأمة لا يهتم لأكثر من قُوتِ يومه؛ لأن رب الغد متكفلٌ به، وفي تلك العصور كان الغرب يعلو بحضارته إلى فوق، والشرق ينزل بحضارته إلى تحت … كان الغرب بدأ بإتحاف العالم باختراعاته واكتشافاته وإصلاح أدبه، ونبغ فيه كبار الشعراء والكتاب، والشرق ينحط حتى في بيانه وتبيانه.
كانوا إذا قام امرؤٌ، أنار الله بصره وبصيرته، وحاول أن يَدُلَّهم على مواطن النقص فيهم ليدفعهم إلى سبيل الكمال، عَدُّوهُ عدوًّا لأُمته، خارجًا على شريعتها، ووصموه بالابتداع والضلالة، وكفَّروه وقوَّلوه ما لم يقل، وعَزَوْا إليه ما لم يخطر له في خاطر. وكم من مجدد قام في الأرض العثمانية — وكانت الأقطار العربية كلها من جملة ولاياتها إلا مُرَّاكُش — فكان نصيبه الهزءَ به وتزييفَ آرائه، وليس أهونَ عليهم، إذا خافوا سراية دعوة مصلح، من أنْ يشردوه أو يسجنوه أو يتهموه بالجنون، ويشتدون في إيذائه حتى يكاد يختل عقله بالفعل، أو يقتلونه من أول يوم يريحونه ويستريحون منه.
وتضاءل عمران هذه الملة تضاؤلًا أصبحت معه وليس غير جوامعها ومساجدها وزواياها مفخرة لها، وليس أكثرها في طراز بنائه مما ينم عن ذوق وحسن هندسة، وإذا وقع لملك أن كان على شيء من البصيرة كقلاوون وبرقوق وبيبرس وتنكز، من دولة المماليك في مصر والشام، وأحب أن يعمر بلاده وينتفع بقرائح من فيها من المهندسين والمعماريين لا تتعدى أعماله بناء جسر أو ترميم سور أو إنشاء إصطبل أو إصلاح شراريف قلعة، وإذا أفلح وأثبت تفوقه على غيره فببناء قصر له، وقصور لأبنائه وبناته. أما معظم سلاطين العثمانيين فلم تتعد أعمالهم المساجد والتكايا، ومن بنى سورًا أو قلعة فلأسباب حربية قاهرة، وإذا أُنشئت مدرسة فلا يُعَلَّم فيها إلا ما أقره جماعة الدين فقط، حتى لا تخرج عقلًا أرقى من عقولهم، ولا نفوسًا أقرب إلى الخير من نفوسهم. والبلية في هؤلاء أنهم لم يُجْمِعوا، حتى في فِقْهِهِمْ، على رأي معين، يتناقضون ويتخالفون، فيتشاكلون ويتقاتلون، وما وَجَدَ التوحيد سبيلًا إلى قلوب زعماء ملة التوحيد.
لجأ كل فريق، في إثبات ما اعتقد، إلى الاستعانة بقوة السلطان والاستنصار بالعامة. وكان من الاختلاف بين الشيعة وأهل السنة ما أتى على مدن برمتها، وقتلت خلائق بالألوف، وأدت هذه المماحكات الضارة إلى تباغض أهل القبلة على نحو ما أدى النزاع على الخلافة في القرن الأول إلى قتل سبعين ألف مسلم في وقعتي الجمل وصفين، ثم نشأ الخلاف بين الحنابلة وغيرهم من أرباب المذاهب فخرب جزء من مدينة بغداد، وشغل الناس زمنًا بهذه الاختلافات، واختفت علوم الحكمة في ظلمات الرجعية، ونال القوي من الضعيف فأُكره هذا على اتباع طريقة القوي، فكانت النتيجة ويلًا للغالب والمغلوب، والله أعلم لمن الجنة يوم يقوم الحساب.
باعد الاختلاف في المذهب بين أهل البلد الواحد في أمور الدنيا، وتعلق أهل كل دين بدينهم وتركوا دنياهم، فكان من الشعوب العربية أن غَفَلَت عما يصلحها غفلة مخزية، وبَرَدَ بفعل عصور الجهالة ما كان من الحماسة عاملًا أقوى في الفتوح وما كان من قوة الإرادة في تنظيم المُلك، وضعف حب الجنس والقومية، وفتر الإخلاص الحقيقي للدين. وخلا الجو للديانين فماحكوا في أبسط الأشياء، وضعف العلم الديني ضعفًا مرمضًا. وبقيت أشياء من علوم الدين والدنيا مكتوبةٌ في الكتب لا يفهمها إلا النبهاء، ولم يبق من الصناعات إلا بقايا لا تستغني عنها الشعوب الابتدائية، بل لقد انتهى الحال ببعض الأصقاع أن جهلت الضروري فيها وأصبحت تحتاج للخيط والإبرة والدبوس والمسمار، وأمست معظم الأقطار إذا شاء جيرانها كَسَوْها وإن شاءوا أَعْرَوْها، وإن أحبوا عَمَرُوها وإن راقهم خربوها.
لنتصور مدينة من مدن الانحطاط يُعد سكانها بعشرات الألوف ليس فيهم من له صلة بالفكر غير أشباه الفقهاء وعملهم أن يؤموا بالجماعة ويخطبوا في الجُمَع، ويعظوا مواعظ يدور معظمها على التزهيد في الدنيا، وهم ما تأبوا أن يكرعوا منها بالكبير والصغير، ويتولون من أمور القوم ما لا غنية لهم عن ممارسته كمسائل الزواج والطلاق والوصايا والمواريث والأوقاف. وما كانت المنازعات بين الأفراد والبيوت تنقطع؛ لأن أرباب الشأن عجزة عن تنفيذ الأحكام، أو لهم مآرب في دوام الخصومات بين الخلق يضيعون لهم أوقاتهم بإطالة النظر في الدعاوى ويشغلونهم بإذكاء نار البغضاء بينهم، وغدا القوم يعتقدون أن الإنسان لا يثري وينعم إلا إذا أحسن سرقة جاره وقريبه، وتغلب عليه بالحق والباطل.
ثم لنتصور بعدُ كيف يعيش أهل تلك القصبة عيشًا رتيبًا لا هناء فيه ولا صفاء، يتحكم في الحي صاحب الوجاهة فيه، وليس لأحد من الحرية إلا بقدر ما يفضل به عليه سيد حارته وشيخ منزلته، ولا من الثروة إلا ما تتغاضى له عنه حكومته، والكبير والصغير يشرب كأس الذل حتى الدُّرْدِيِّ، وليس لأحد أن يعلو عن جيرانه في أمر، والبلاهة شرطٌ أعظمُ في هذه البيئة التي ما وصل فيها أحد إلى معرفة شيء من المعارف البشرية، ولا بلغ غير أفراد قلائل جدًّا ما تم في العالم من الارتقاء، وليس أمامهم إلا ما يُزَيَّن لهم الرضا بما هم فيه.
هناك لا أمن على الأرواح ولا على الأعراض، يتكدس السكان في بقعة ضيقة لا ترى الشمس والهواء، لينجوا بتجمعهم من اعتداء الحامية حماة الأمن ومن سطو أرباب الشقاوة فتحصدهم الأمراض الوافدة والأوبئة والطواعين. والسكان درجات في التظالم، الوالي يظلم المتسلم ليأخذ منه أكثر ما يقدر عليه من الجباية والضرائب. ويرسله إلى العاصمة ليثبت مركزه أسابيع أو أشهرًا، والمتسلم يظلم من تحت يده ليبيض وجهه أمام الحاكم، ولا يقطع عنه رزقه، وهو يحتال أبدًا ليجلب له المنافع فَيَسْلُب ما يَنْعَم به، ويؤدي منه بعض مطالب المتسلم، والرعايا يتظالمون لا يتناصفون، والحاكم الأكبر هو الظالم الأكبر، والعدل لا يعرف في غير الكتب المقدسة، وقد غدا الناس بما تسرَّب إلى نفوسهم من الفساد لا يرهبون العادل والعالم بقدر ما يرهبون الظالم والجاهل.
تصوروا هذه المدينة التي خلت من طبيب يطب المرضى، ويخفف آلام المتألمين، والخلق يهلكون في المدن — دع القرى — لأقل عارض يطرأ على صحتهم، ومن جسر فقال إن التطبيب مشروع، وإن الآجال تزيد وتنقص على ما هو رأي كبار علماء الأمة كَفَّروه وبَدَّعوه، ويا ويل من يُرمى بمثل هذه التهم. وليس في المدينة غير دجاجلة سلمت إليهم أرواح الخلق وأجسامهم.
أدركتُ مدينة دمشق وليس فيها طبيب قانوني ولا صيدلي قانوني ولا حقوقي قانوني ممن درسوا هذه الفروع على الأصول، وعرفوا صناعتهم معرفة ثاقبة لعهدي بها وليس فيها حيسوب؛ لأن الأمة عاشت وتريد أن تعيش بدون حساب، أما العلوم الرياضية التي كان يدرسها أجدادهم مع علوم القرآن والحديث فقد غدت عندهم أسماء لا مسميات لها، أو من المعارف التي يُستغنى عنها ذلك لأن الأمة لا تحبُّ التقييد، ولا ترغب في التدوين، وهي سائرة على البركة في كل ما يصلحها. حدثني من أثق به أن والده أراد، أواخر القرن الماضي، أن يفتح كُتَّابًا في دمشق فرأى أنه لا يعرف من الحساب إلا الجمع والطرح والضرب فقصد عارفًا بالقسمة وعرض عليه أن يعلِّمه إياها مقابل ألفي قرش وبعد يومين صرح المعلم لتلميذه الجديد أن في تعليمه القسمة قَطْعَ رزقه؛ ذلك لأنه إذا كثر سواد العارفين بها في المدينة انصرفت الوجوه عنه!
أما العلوم الطبيعية فما وقف على بعض حقائقها واحد في العشرة آلاف، ويتلقف أكثر الجمهور من ذلك تخريفات من أفواه العجائز والزنجيات، وما كان العقلاء يجرءون أن يلفظوا اسم الطبيعة وعلوم الطبيعة؛ لأن البحث فيها مَدْرَجَة إلى الكفر عند أشباه الفقهاء، فإذا أراد أحد أرباب النباهة ذكرها أطلق عليها اسم «خواص الأجسام» أو غير ذلك من الأسماء التي لا تكاد تنطبق على حقيقتها ليبعدوا من ذكر اسم الطبيعة؛ لأن من قال بالطبيعة وتعلم علوم الطبيعة أضاع دينه حتمًا.
وحل محل علم النجوم والأفلاك ما عرفوه بالتنجيم والسيمياء، واستخراج الفأل وأخْذ الطالع وضرب الرمل والمندل، وخَلَفَ علومَ الكيمياء النافعة علمُ الكيمياء المزورة، ولطالما أنفق الطماعون أموالًا ليحول لهم المحتالون مادة الحديد والفضة إلى ذهب إبريز. وأتت القرون بعد القرون وهذه الدعوى يروجها أدعياء هذه الصناعة الموهونة ويَقْبَلُها المغفلون على نحو ما يعتقدون بعلم الجفر وعلم الملاحم وما صح شيء منها قط.
مضت أجيال وأكثر القوم يبنون أعمالهم على المنامات ويهتدون في سير حياتهم بالأحلام، ويعتقدون بالخوارق والكرامات، وهم أبدًا في غمرة من التفاؤل والتشاؤم، وما أفادهم الدين شيئًا في هذه السبيل، والدين يحظر القول بمثل هذه الأباطيل، ولا يقدس إلا العقل، حتى قال جماعة من العارفين: إذا تعارض العقل والنقل يُئَوَّل النقل ليطابق العقل. ولكن المتأخرين تواقحوا حتى أوهموا العوامَّ أنهم عرفوا من الدين ما لم يعرفه أهل الصدر الأول، وجهلوا سر النقل، وأضاعوا فضل العقل، فادعوا ما لم ينزل به سلطان، ولا تستقيم به دولة، ولا تحيا عليه أُمة. وإلى القرن الماضي كان الجيش لا يتحرك إلا إذا كان الطالع حسنًا، ولذلك غلب جيش محمد علي الكبير جيش العثمانيين؛ لأن القائد العثماني لم ير الهجوم على عدوه لانحراف الطالع بزعمه، وهجم من لم يبن أموره على مثل هذه المخرقات فظفر بعدوِّه.
ثم إنهم قالوا بصوفية نختزل في وصفها؛ لما حملت من سُخْف، وأقل ما ترتب عنها إنشاء طرق كثيرة (في مصر منها اليوم سبعٌ وعشرون طريقةً معترف بها) سرى في الداخلين فيها داء الاتكال والزهد في العمل الشريف، وبلغتْ القِحَة بهم أن قالوا إن الأعمال اليدوية غير شريفة، وكان أعاظم الأمة في القرون الأولى لا يستنكفون عن العمل بعض ساعات النهار في صناعة من الصناعات، يتَلَهَّوْن بذلك أيام السعادة فإذا احتاجوا إليها أيام الشقاء مارسوها فأغنتهم عن الاستجداء.
وما فتئت المعتقدات الضارة إلى اليوم متجلية في بعض الكفور والقرى البعيدة عن مواطن العلم، ومَرَدُّ كل هذا إلى فُشُوِّ الأُمِّية، وما كان عدد من يقرءون ويكتبون منذ مائة سنة يتجاوز الواحد أو الاثنين في المائة. وكان حتى بعض من يُعدون من الفقهاء لا يكتبون وقراءتهم قراءة عامية، وغاية ما تعلموا أن حفظوا سور الصلاة وبعض الأحاديث الضعيفة في فضائل الأيام والشهور، والبلدان، والأطعمة، والأناسي، وشيئًا من الرقائق والأشعار، ومارسوا من أمور العبادات ما شاركهم الأطفال في معرفته، ورَوَوْا عجائب آخر الزمان وأحاديث الدجال والمهدي والعفاريت مما لم يثبت من طريق مأمون، ولا رُوِيَ في كتاب معتمد صنفه ذو مسكة من العقل.
وكيف لا تنحطُّ الأُمة في دينها ومَلِكُ مصر، منذ أوائل القرن الثامن، يكتب لنائبه في دمشق أن كل من يقرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية حَلَّ دمه وماله مع أن كتبه ما خرجت عن الدين الصحيح في شيء إلا أنها حاربت البدع والمبتدعين، وكانت المملكة، على ما يظهر، بأيدي الشافعية وابن تيمية حنبلي وتَعادِي أرباب المذاهب معروف موصوف. ومن سخف الأقدار أن يقوم عالم، فيه بلاهة عصره، يُحَرِّم تعلم المنطق؛ لأن من تمنطق تزندق، بزعمه، وكل ما يقوي العقل محظور الخوض فيه ومصلحة المسيطرين والديانين في أن يكون القوم مقلدين رجعيين ليسهل حكمهم وتؤمَن غائلتهم. ومن المضحكات أيضًا أن يحرموا درس التاريخ وكان يدرس في الجوامع في القرون الخالية، وذلك لأن التاريخ يلقح فكرًا جديدًا، وهذه بدعة لا يريدونها، ونسوا قوله تعالى: وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وقوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ. وتناسَوا أن جزءًا من الكتاب العزيز عرضٌ لتاريخ الأُمم وعِبَر الحوادث.
ولقد عم الظلم في عصور الظلمات كُلَّ نظام؛ لأن الفوضى أصل عندهم، ومن ذلك ظلم الرجال للنساء. حظروا تعليمهن إلا الغَزْلَ وسورة النور! وأغلظوا حجابهن، وقصروا عملهن على التزين والتجمل وجعلوا منهن أداة سرور الرجل وآلة لولادة الأولاد فقط وغمطوهن حقوقهن التي خولها الشرع لهن وآض المجتمع الإسلامي لا رواء له ولا بهجة وحيث نفقد بشاشة النساء تسود الكآبة.
وكما كان الكبار يدوسون الصغار من دون ما رحمة ولا شفقة، وإذا أبقوا عليهم فلأنهم أداة يتوسلون بخدماتها الشاقة إلى الغنى والجاه كذلك كانوا في معاملة النساء، فقد تَأَوَّلُوا آيات القرآن الكريم في تعدد الزوجات وأغفلوا القيود التي قيده بها ليزيدوا في استمتاعهم بأكثر من زوجة، فرخصوا لأنفسهم الجمع بينهن في بيت واحد، وما بالوا بالتبعة التي تلحق من يفعل ذلك من الرجال، وما ينال المرأة من هذا التعدد، ويصيب البيوت من هذا التمزيق.
ولما أقفرت العقول، وانحطَّت الأخلاق، واختل الوازع، ارتضى الناس من العيش بالدون. وظهرت عوارض المسكنة، وعدمت الرفاهية، وغدت المزرعة الكبيرة لا تساوي أكثر من بضعة آلاف قرش، والقصر المنيف يشرى بألف قرش، وصداق الآنسة الجليلة لا يتجاوز أكثر من خمسين أو سبعين درهمًا، واختفى النقد الذهبي والفضي من التداول في الأسواق؛ خبأه مالكوه في مخابئ أخفوا أمرها عن أعزِّ ذوي قرباهم، خوف المصادرات، فكان القوم يظنون إذا عثروا على مال مدفون في الجدران والأرض أنه كنز من الكنوز المرصودة، ورجع أهل المدن والقرى إلى قانون المقايضة في البيع والشراء على ما كانت الحال في العصور المتقهقرة.
أما السياسة فتولاها، على الغالب، زعنفة من القتلة السفاكين، ممن لا يحللون ولا يحرمون، ولا تهمهم إلا مظاهرهم ومنافعهم، من الصنف الذي يعتقد أن الغنى لا يتم إلا بسلب الضعفاء والمجد لا يقوم إلا على الجماجم. وكانت القاصية والدانية، للضعف المستحوذ على الناس، عرضة كل حين للفتن الأهلية، وكل من آنس من نفسه قوة يَسْتَجْيش له أنصارًا من الغوغاء ويقطع السابلة، ويسلب الآمنين ويروع المساكين، فإذا ازدادت قوته عدا فشق عصا الطاعة على صاحب السلطان الأكبر أو على الأمير الذي في جواره، ولا تَسَلْ عن حال الرعايا، إذ ذاك، كيف تضيع أرواحهم وأموالهم بين العاصي ومن عُصِيَ عليه؟
وما كان للسلام والاستقرار — وهُمَا من أهم الأسباب في سعادة الشعوب — من أثر محسوس في بلد ولا جيل ولا قرن، والناس أبدًا عبيد صاحب القوة يعطونه ما يشاء ويدهنون له كما يهوى؛ ليأمنوا شره، وإذا حدث لثائر أن وُفِّقَ إلى بسط سلطانه على أرض واسعة، وعلق بعض الأغمار آمالهم على تغير في صورة الحكم الجديد وعلى راحة نسبية تحتاجها الأمة لتضميد جراحاتها وترميم ما خرب من مرافقها، يجيء الخلف أنحس من السلف، وهكذا دواليك؛ لأن الحكم لا يصل إليه يومئذ إلا من كان على جانب من القسوة والجبروت ومن كان يحمل بين جنبيه روحًا سُداه الخبث ولُحْمَتُه الشرُّ، أما الإصلاح فمن الكلمات التي لا معنى لها، ولا يَفهم مدلولها إلا قلائلُ من أرباب الأذهان المفكرة، وهم فئة قليلة تقصيهم أخلاقهم عن الوصول إلى الحكم.
وبضعف السياسة الإقليمية ضعُفت السياسة العامة فكان من مجموع الأقطار العربية كتلةٌ تمثل الانحلال أقبح تمثيل. ومع هذا استبد كل طاغٍ بجزء من الأرض وسمى نفسه خليفة أو ملكًا أو أميرًا يعسف مَنْ تحت يده ليستخرج ما يصرفه في أُبَّهَتُهُ من المال. ومن أجل هذا كان الخلق يتظاهرون بالصعلكة لا يأكلون إلا ما يسد الرمق، ولا يلبسون إلا ما يستر العورة، وبتوالي عهود الخصاصة والمسكنة ضعف الذوق والشعور بالواجب، وليس لأحد هدف أسمى تتطلب الأُمم في العادة تحقيقه على أيدي المصطفين الأخيار من أبنائها. وقوة الأُمم — كما قال ليون — بقوة طبقتها المختارة لا بعدد نفوسها، والمدنيات من صنع الطبقة العالية، بهم تنهض، فإذا ما فقدتهم تسقط البلاد للحال في البؤس والفوضى. وهذا ما كان محسوسًا في البلاد العربية في قرونها الأخيرة.
•••
انقلب الزمن، والزمن قُلَّبٌ حُوَّل، فأخذت الأمة تشعر بما لم يكن يشعر به سلفها، وتنظر إلى الحياة غير نظرهم إليها؛ ذلك لأن الحوادث التي مرت بها تدعو الغبيَّ، فضلًا عن الذكي، إلى البدار بالاعتبار، وكان القوم، إلى عهد قريب، راضين، طوعًا أو كرهًا، عن حالتهم، تخدَّرت أعصابهم تخديرًا أتى على كثير من صفاتهم الحسنة، وطال عهد هذا التدلِّي حتى قام أفراد أذكياء وقع في روعهم أن يكسوا الأمة كسوة جديدة يستعيضون بها عن ذاك الثوب الرث البالي، فقاومهم سخفاء الزعماء وأغبياء الفقهاء، وكان هذان الفريقان يذهبان إلى أن كل نهضة تذهب بسلطانهما، وتقضي على نفوذ جماعتهم. وسلطانُهم إنما يقوم بجهل الرعية، ونفوذُهم متوقف على خضوعها الخضوع الأعمى.
فاضت المدنية الغربية على العالم، وبحكم الطبيعة أصاب الأقطار العربية من منافعها قسط غير قليل، وما رأى معظم الأصقاع مندوحة عن الأخذ منها، وكانت عصت عليها زمنًا، كما عصت بعضُ قريش على الإسلام يوم ظهوره، فلم يبادروا إلى الاستجابة له، ثم قبلوه واشتركوا في خدمته مع السابقين الأولين. وطفق العربي يتلمس الطريق إلى تَرَقِّيه، واستعادة شيء من باهر ماضيه. وكلما حَلَّ عروة من العرى التي طوق بها حَمَلَةُ التعصب عنقَه اقترب من ورود حياض المدنية.
كان الفقهاء يمنعون أصحاب الحكم من كل جديد، فحظروا في عاصمة السلطنة العثمانية طَبْعَ القرآن والكتب، وحرموا، على غير هدًى، أشياءَ كثيرة من المباحات كالقهوة والدخان، فقُتل بتعصبهم ألوف من الأبرياء. حنبلية مرهقة أسفرت بعد جيل عن إباحية مطلقة. ومما لم يفتوا به تنظيم الجيش بنظام الغرب، وإدخال العلوم إلى الأرض العثمانية. وجسروا على قتل أحد ملوك العثمانيين؛ لأنه قال بالإصلاح الجديد، فجاء من خلفه فتغلب عليهم، ويومئذ أخذت دولتُهم تضعف، وكلمتهم تتمزق.
وكلما زاد انتباه العرب ظهرت مزايا عنصرهم واستعدادهم للأمور النافعة، وساعد على هذا الانبعاث ما لَقُوه من ضغط القريب والبعيد، وكثرة الضغط تُحدث انفجارًا، وقد تظهر الشدة مزايا الأُمم أكثر مما يظهرها الرخاء، ويُورَى زنادها بأدنى احتكاك بحرارة. وطفق العربي يضم إلى قديمه ما جَدَّ، ويوجه مدنيته وجهة لم يكن موليها، أي شرع يدرك ضعفه ونقصه ويتلمس قوته وسيادته. وكلما رفع كابوس الاستعباد عن قطر لا يعتم أبناؤه أن ينهضوا نهضة ما كان يتأتى تحقيق مثلها في الزمن الطويل؛ ذلك لأن المتأخر في العادة يتناول في يسر ما تعب المتقدم في إيجاده دهرًا، وما لم يصل إليه إلا بكثير من العناء والمفاداة.
سبقت مصر إلى اقتباس مدنية الغرب؛ لأنها تقدمت غيرها إلى التحرر من ربقة الحكم العثماني، وهي في موقع مُواتٍ بين جزيرة العرب في آسيا وإفريقية، وبفتح ترعة السويس زاد اختلاط الغربيين بالشرقيين، وكانت مصر تحتفظ بجزء عظيم من تراث العرب بعد ذهاب دولتهم، وأخذت تتمتع بشيء من الاستقرار منذ القرن الماضي إذ تولاها أمراء تابعون للدولة وفي حقيقتهم يعملون عمل الملوك المستقلين.
وبينما كانت تسري الدعوة في مصر للأخذ من العلوم التي امتازت أوربا بها بمعرفة الحكومة المصرية نفسها قام أناس من أرباب البصائر، بمحض إرادتهم وبدافع من غيرتهم، يتمحضون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أُسلوب جديد، ويجاهرون بالترحيب بكل علم لا يعرفه قومهم، ويحملون على الجمود حملة شعواء، يدفعهم صوت الحق الذي كان يدوي في أعماق نفوسهم.
بدأ الإصلاح في المظهرين الديني والدنيوي، وسار كل منهما في طريقه الطبيعي، يتعارضان ثم يتفقان، ويختلفان ثم يجتمعان، وكان السيد جمال الدين الأفغاني من أول من نادَوْا بالإصلاح في هذا الشرق القريب. قام بدعوته والناس شبه نيام في مصر وفي غير مصر، لا يخرجون في العلم عما ورد في الكتب، ولا يعتبرون قولًا إلا لرجل مات وشهد بحسن حاله بعض الحشويين المخبولين بالرُّؤَى المبشرة بأنه صار إلى الجنة وغُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ لأنه أتى الحسنة الفلانية يوم كذا. قام جمال الدين بإصلاحه وأكثر شيوخ الأزهر يومئذ يحرمون ما لم يعرفوه من المعارف، ويقولون بتكفير من يقول بكروية الأرض، وكان أجدادهم قالوا بهذا الرأي منذ ألف ومائتي سنة، ويُبَدِّعون مَنْ لا يقول بأن الأرض واقفة على قرن ثور إلى غير ذلك من تخريفهم، نادى بإصلاحه أيام كان العالم من الطبقة الأولى من الأزهريين لا يعرف شيئًا من الجغرافيا والتاريخ والرياضيات. وكان السيد ومَنْ تابعه على مثل اليقين من أن الشرق إذا لم يبادر إلى اللحاق بالغرب في اقتباس العلوم يهلك ولا يرحمه تعصبه، ولا تجبر عثرته دعواه وتبجحه.
استجاب الشباب للدعوة الأفغانية ودعوته سياسية اجتماعية، وفي مقدمة المستجيبين له الشيخ محمد عبده، خرج بإرشاد شيخه الجديد من طور طالب علم على الطريقة القديمة غلب عليه التصوف والجمود، إلى طور عالم عصري يستعمل عقله ويدرك ما حدث في العالم من تجدد ويدعو إليه. وبث الأفغاني في العقول حب قدماء العلماء، ودعا إلى الاقتصار على كتبهم وإطراح كتب المحدثين لما تحمل من زوائد، كما دعا إلى الرجوع بالإنشاء العربي إلى عدم التكلُّف فبرز من حلقته كُتَّاب أَبْيِنَاء، وحبب اللغة العربية إلى العرب، ولطالما قال: إن العرب ما نجحوا بفتوحاتهم بشكل الدين الظاهري فقط بل بفهمهم أحكامه والعمل بآدابه، وذلك ما تم ولا يتم إلا باللسان أي: بالعربية. فكانت إرشاداته كالماء الشديد الحرارة غسل وَضَر العقول، وأتى على ما علق فيها من فضلات وفضول.
وحاول السيد الأفغاني أن يقوم بمثل هذه الدعوة في إيران، والظاهر أن أرضها يومئذ لم تكن صالحة لإلقاء بذوره، لما كان فيها من إدغال الحكم المطلق، وتبين أن مصر كانت أوسع صدرًا لقبول الأفكار الحرة، ولما انتهت به خاتمة المطاف إلى الأستانة وَفَّقَ دعوته مع البيئة التركية ولم يخرج عن تعاليمه ودعوته، وأحسن ظنه بدولة الترك وسلطانها. وكان كسائر العقلاء في ذاك العهد يحرص على بقاء الدولة العثمانية على ما عشش فيها من ضعف وسوء إدارة.
وبينما كان السيد جمال الدين الأفغاني يعاني مع تلميذه الشيخ محمد عبده ما يعاني من معالجة الإصلاح في مصر كان الشيخ طاهر الجزائري في الشام يسير على طريقة له هو اخترعها شارعًا من الأساس، والأساس عنده المدرسة، فينشئ المدارس الابتدائية والوسطى بمعاضدة الحكومة، ويوهمها أنه لا يقصد من مدارسه إلا نشر العلم البسيط ليكون ممن يتخرجون فيها خدامًا للدولة في المستقبل! ويحبب إلى الناس الرجوع إلى كتب الأسلاف وإتقان اللغة العربية، ويحث على الأخذ من كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وفيها بحوث ضافية في البدع التي أُلصقت بالإسلام وما هي منه بسبيل، ويحض الناشئة على تعلم العلوم الرياضية والطبيعية والسياسية والتاريخية، ويؤلف لهم أسفارًا في مباديها، يزين إلى من حَذَقُوا لغات العلم أن ينقلوا منها ما أمكن إلى لغتهم ليستفيد منها العرب عامة، وينشر الجيد الصحيح من كتب الأقدمين، ويحمل كل من يأنس منه استعدادًا على معاناة الطبع والنشر، وعلى شغل ذهنه بما يفيده، وكان يقول: إن السياسة تأتي بعد إعداد المعدات لها من علم وصناعة، وكان غرامه أن يتعلم كل طالب صناعة ما، وهو عملي في علمه وسيره، ولطالما قال: إن الاشتغال بالعلم مضمون النتائج يأمن العاملون في ظله عتو العاتين، وما كان يخلو من استعمال شيء من التقية مخافة الإخفاق في دعوته إذا عُرفت حقيقة مقاصده، وهواهُ، أبدًا، التوفيق بين أرباب المذاهب المختلفة في الإسلام، والتقريب بين أرباب الأديان السماوية المتفقة على القول بالمعاد وخلود الروح.
ورأي الشيخ طاهر الجزائري كرأي السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده بأنه: قام بين القرن الثالث والرابع أقوامٌ ظهروا بمظهر الدين، أبدعوا فيه البدع وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت قواعد الجبر وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها عن الأعمال، وأن الزنادقة والسفسطائية أضروا بالدين ضررًا بالغًا لم يَقِلَّ عن ضرر من وضعوا أحاديث نسبوها إلى صاحب الشرع وأثبتوها في الكتب، وفيها السم القاتل لروح الغيرة والإقدام.
يقول الراغب الأصفهاني من أهل القرن الرابع: «ولما تركت مراعاة المتصدين للحكمة والوعظ تَرَشَّحَ قومٌ للزعامة بالعلم من غير استحقاق منهم لها، فأحدثوا، بجهلهم، بدعًا استغوَوا بها العامة، واستجلبوا بها منفعة ورياسة، فوجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم وقرب جوهرهم منهم.
وفتحوا بذلك طرقًا مُنسدَّة ورفعوا بها ستورًا مسبلة، وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيهم من الشَّرَه، فبدَّعوا العلماء وكفروهم اغتصابًا لسلطانهم ومنازعة لمكانهم، وأغرَوا بهم أتباعهم، حتى وطئوهم بأخفافهم وأظلافهم، فتولد من ذلك البوار والجوار العام.»
•••
والظاهر من دعوة الشيخ الأفغاني أنه كان يحرص على إخراج فئة مستنيرة من الخاصة تكون منها نواةٌ صالحة للنهضة. والمفهوم من دعوة الشيخ الجزائري أنه كان يحرص على تعليم أطفال الأمة أولًا لينشأ منهم جنود يجاهدون وهم ينتخبون قوادهم في المستقبل. الطريقة الأولى سريعة صعبة، والثانية بطيئة أكيدة. وكانت دعوة الشيخ محمد عبده وسطًا، يعلِّم ويفقِّه ويصلح الأزهر وينشئ الجمعية الخيرية الإسلامية لتعليم أبناء الفقراء، ويصلح الكتابة العربية والمحاكم الشرعية، ويبث أفكاره في الطبقة المختارة من أرباب العقول، ويبعث هممهم على العمل، ويستفيد من كل قوة تُعينه على بث دعوته.
وغريبٌ ألا تكون مُباءة الدعوة الأفغانية ديار الأفغانيين، ولا دعوة الشيخ الجزائري أرض الجزائريين، وكلتاهما في أشد الحاجة إلى الإصلاح، وألا يكون لدعوتهما صدًى يسمعه مَنْ كان في آذانهم وقر، وأن يكون الحظ الأوفى لبلاد الشرق القريب يخدمانه بقلبيهما وروحيهما. فنفع الرجلان في غير بلدهما، والشجرة إذا نُقلت من أرضها قد تنمو نموًّا لا تصيب بعضَه في منبتها الأول، وزامر الحي لا تُطرب مَزامرُه.
ويرجع الفضل في توجيه بعض نبهاء خريجي المدارس الحديثة في مصر والشام لهؤلاء الشيوخ المستأنين في بث دعوتهم وإلى مَنْ حذا حذوهم، فربى وهذب سائرًا على آثارهم. والمدرسة تعطي من العلم ما تعطي ليأخذ منها التلميذ حسب ذكائه واستعداده ومهارة معلِّميه في تلقينه، والكتاب محصور الفائدة في المسائل، والعمدة في التثقيف على العمل الذي عاناه المصلحون. واستعانوا بالصحف على بث أفكارهم وبهم تخرَّج صحافيون ومؤلفون، بَثُّوا في العقول معلوماتٍ استفاد منها مَنْ أحب الاستفادة، والمبتدئ، أبدًا، متطلعٌ إلى تلقين وتدريب تَطَلُّعَهُ إلى الدرس والتهذيب، ورب طالب أفاد من مجلس عالم في ساعة ما تضن عليه به الكتب بدرس ساعات. العالم يشرح ما فهم وتمثل واستنبط، ومن أضاف علمه إلى علم غيره وما ضن على طلابه بتجاربه وتجارب غيره، كان المعلم المرشد حقًّا.
ولم يخلُ قطر من الأقطار العربية، ولو كان مما تغلب البداوة عليه، من أفراد أدركوا قصور أُمتهم فراحوا يتمثَّلون بعض الأفكار الحرة وينفثونها في قومهم. ومِن رجال الدين مَنْ صعب عليهم، بادئ بدء، أن يتابعوا اليقظة التي أتت من طريق المجددين، فحملوا عليها معتقدين أن في إنكارها إرضاءَ العامةِ وإرضاء الحاكمين. والواقع أن الجامدين ما انقطعوا عن النيل من المجددين إلا لَمَّا قنطوا من المقاومة وأدركوا أَنْ لا نجاة لهم بغير مجاراة العصر وإصلاح ما يمكنهم إصلاحه من أساليبهم. والوقوف في وجه الحق ضربٌ من السخف لا يجدي فتيلًا.
ومما ساعد في هذا الإصلاح: أن غدا الدين يدرس على أساليب جديدة وأُبطلت طريقة الأزهر القديمة في التعليم، وقامت معاهد التخصص تنشئ ناشئة منورة، واعترف المشايخ بفساد طريقة المتأخرين من العلماء حتى قال العلامة المراغي شيخ الأزهر في بعض تقاريره: «ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة وظنوا أَنْ لا مطمع لهم في الاجتهاد، فأقفلوا أبوابه ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح العلم، وابتعدوا عن الناس فجهلوا الحياة وجهلهم الناس، وجهلوا طرق التفكير الحديثة وطرق البحث الجديد، وجهلوا ما جَدَّ في الحياة من عِلْم، وما جد فيها من مذاهبَ وآراء، فأعرض الناس عنهم ونقموا هم على الناس فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له، وأصبح الإسلام بلا حَمَلَة ولا دعاة بالمعنى الذي يتطلبه الدين.» ا.ﻫ.
وكان من أولئك المُصلحين أن تسلحوا، من جملة ما تسلحوا به من الأدوات للقيام بإصلاحهم، إتقان بعض اللغات الغربية، وقد تعلموها هم بالفعل لاعتقادهم أن العربية وحدها لا تكفي طالب العلم والمدنية. وكان المأخوذ عن الأُمم اللاتينية أولًا أكثر من القدر الذي جاء من طريق الشعوب الأنكلوسكسونية، ثم توازنت الكفتان بمَنْ تَخَرَّجَ في مصر والعراق وفي أمريكا من أبناء العرب باللغة الإنكليزية على مثال من تخرج في الشام وشمالي إفريقية بالفرنسية والإيطالية والإسبانية. فالمدارس والهجرة إلى القاصية والاختلاط بالأُمم الغربية، كل أُولئك كَوَّنَ للعرب عقلية أتتهم جديدة، شذبها لهم مصلحوهم الدينيون ومصلحوهم المدنيون.
ومن أهم ما ساعد على تدعيم هذه النهضة مسارعة لبنان إلى الأخذ بمذاهب التعليم، فأنشأ الوطنيون والأجانب في ربوعه مدارسَ تدرس بالعربية، وفي حجرها ظهرت عبقرية أفرادٍ كان كل واحد منهم داعيةً عظيمًا للغة العربية حَبَّبَهَا إلى الدارسين، وتخرج بهم وبتلاميذهم مئاتٌ من الرجال انتشروا في الشام ومصر، وكان منهم المؤلف والصحافي والكاتب والشاعر، وبصنعهم استعادت العربية بعض رونقها القديم، وبهم عمت المعارف بعض الطبقات. وكانت خدمة هذا الرعيل يومئذ، والبلاد تئن من جهلها، بلسمًا نافعًا في مداواة العقول. وكان عملهم مع عمل مصر العظيم في هذا المعنى مما جعل للغة كيانًا علميًّا وسياسيًّا، والرجاء أن لا ينقضي عقدان أو ثلاثة من السنين حتى يعم العلم قاصينا ودانينا.