القول في دور انتقالنا
يتولَّد من كل دين نوعٌ من الحضارة تكاد تختلف في بعض مناحيها عن حضارة الدين الآخر، وحيث تتعدد المذاهب تتبلبل الحضارة في مجموعها، ويُلحظ التفكك في أنحاء من جهازها. وهناك أديانٌ سماوية قديمة، ونِحَلٌ أرضية حديثة، منها ما يُعبد فيه الله، ومنها ما يُعبد الشيطان، ومنها ما يؤلِّه البشر، ومنها ما يكتفى بتقديسهم، ومنها ما لا يتجاوز منتحلوه المئات، ومنها ما يُعد المعتقدون به بألوف الألوف.
ولا أمل في إيجاد حضارة متوحدة إلا إذا عَمَّ العلمُ أرباب الأديان كافة، وصُبغ المواطنون في مصبغة واحدة، وليس أفعل من التربية المشتركة في نزع الفوارق بين أبناء الوطن الواحد. وهذا لم يتم حتى اليوم لقطر من الأقطار العربية، والتخالف في العقلية والزي والعشيرة والتعامل ماثل كل المثول في أرجائها لتخالف التربية بكثرة الأديان وتعدد ضروب الثقافات.
من أصعب الأدوار التي تمر بالأُمم دور الانتقال من حضارة إلى حضارة، وهو في صعوبته كالانتقال من دين إلى دين، أو من نظام حكم قديم إلى نظام حكم جديد، فإن عادات رسخت، ومنازع أُلِفَتْ، وعقيدة تأصلت، في الدهر الطويل، لا يسهل إحلال غيرها محلها، فليس بدعًا أن يبطئ علينا هذا الدور الطبيعي في تعرجه وتَلَوِّيه، ولا ندري إن كنا قطعنا نصف المرحلة الواجب اجتيازها أو أكثر أو أقل.
تطورنا في تفكيرنا وبلغنا من ذلك درجة لا بأس بها، وكنا إذا حاولنا شغل عقولنا نكتفي بقليل من علوم المعاد وذَرْو من الأدب، وأدبنا شعر يكثر مديحه وغزله وفخره وهجره، وفيه شيء من الميوعة، وإلى عهد قريب كانوا يقولون: أعذبُ الشعرِ أكذبُه، فأصبحنا نتطلب منه الخوض فيما يجدي علينا، وأمسينا نفضل استثمار ذكائنا فيما فيه عون لنا على الغنى والرفاهة. وتجلى الزهد في القديم فضعفت ممارسة الشعائر عن ذي قبل، وما نعلم هل أخذنا من دنيانا ما يوازي ما أضعناه من ديننا، سؤال يختلف الجواب عليه باختلاف الأقطار، وقد تتعذر الإجابة عنه، وأهل القطر الواحد ليسوا سواء في هذا الباب.
خرجت الأمة عن بعض مألوفات العصور الماضية، ونال الأغنياء ومن يليهم قسط عظيم من هذا التجدد. وفي العادة أن تضيء شعلة الحضارة من قصور العظماء، ثم تسري في جمهرة القوم طبقة بعد طبقة. وأدرك أرباب السعة أن سعادتهم بالمعارف وكانوا أعرضوا عنها زمنًا فهبوا بأخرة لتعليم أولادهم، ينافسون من سبقوهم إلى الدرس من أولاد الفقراء. وغدا أبناء الأعيان اليوم يتولَون في مصر إنشاء الصحف والمجلات وكانوا من قبل يتعالون عن الصحافة، والصناعة والتجارة، ويعتقدون أنه لا يليق بهم الاشتغال بغير الحكم وما يتصل بالحكم.
تبدلت حالة المدن في تنظيمها وتنظيفها واتساع شوارعها وساحاتها، ورُوعيت قواعد الصحة في معابدها ومجالسها ومدارسها ومصانعها، وتوفرت في القصبات والقرى البيوت ذات الطبقات، وكثرت المخازن والمكاتب والمعامل على الطراز الغربي. وتطورت المقاهي والمطاعم والفنادق والحمامات بنيقتها وترتيبها، ومعاملة من يختلفون إليها، ودخل التطور في معظم المرافق، نتيجةً لازمة للإقبال على التعليم، وهجوم المدنية الحديثة علينا من كل أُفق.
اقتبسنا أزياء الغرب وما زلنا مقلدين فيها، وأتى التخالف في الألبسة من الغرام بالاحتفاظ بالقديم منها، وربما كان أهل القرن الماضي أقرب إلى وَحدة الزي من أهل جيلنا هذا. ومن يشهد ضروب الألبسة العجيبة في المدن يظن الأهلين في ليالي المرافع، اكتسوا ما يلفت الأنظار، وما لا يسع من يراه إلا أن يسخر منه. أما أزياء النساء المُطَرِّسات على آثار الغربيات فالتحوُّل آخذ بناصيتها، وبعضها مما لا يورث المرأة جمالًا، وينم عن سرف وترف، ومنها ما لا يناسب الإقليم ولا المواسم ولا أعمار المكتسيات به ولا طبقتهن، لا هو شرقي فيه شيء من الحشمة، ولا هو غربي يجمع إلى الأناقة الذوق السليم. فالنساء متصنعات في أزيائهن بعض الشيء، ولا يخلو الرجال من خُرق في لباسهم أحيانًا، وفي مجالسنا النيابية نموذج من هذا الاضطراب، فمن المتصدرين على مقاعدها من اكتسوا على آخر زي عصري، ويتكلمون كلام ابن العصر، وإلى جانبهم زملاؤهم يلبسون ثيابًا زِيُّها من عهد نوح، وإذا تكلموا كان كلامهم كلام أهل العصر الماضي، والغالب أن هذه المجالس تحتاج إلى زمان طويل حتى يشترك فيها المتماثلون في الزي والتربية والتفكير.
يعد في باب ترقي الذوق عدول أكثر المدخنين عما كانوا يستعملونه من الأدوات كالقصبة والغليون والنارجيلة أو الشيشة. استعاضوا عن تلك الأدوات الغليظة بهذه اللفائف الخفيفة، وبدأ يقل عدد من يدخنون التنباك في النارجيلة، كما يقل عدد من يتعاطون المخدرات والمسكرات. ولما كان التدخين من المكيفات كان من مُصْطَلَحِهِمْ ألا يدخن الصغير أمام الكبير، إلا إذا سمح له بذلك، وكان الولد، إلى عهد قريب، لا يجلس أمام والده ولو أصبح صاحب زوجة وأولاد، وما كانت المرأة تواكل زوجها، وتنتصب أمامه قائمة على رجليها تحمل له كأس ماء وهو يتناول طعامه. وكل هذا بطل اليوم وانقلبتْ العلائقُ بين أهل البيت الواحد إلى ما هو أقرب إلى العقل.
كان الناس يجتمعون في بيوت أعيانهم في المدن والقرى، أو في المقاصف والمتنزهات، وينظرون فيما يهمهم النظر فيه من مسائلهم، ويتحدثون ويتسامرون. ولما أنشئت النوادي والمقاهي أقفرت البيوت من الضيوف، ثم نشأت النقابات والجمعيات، فأخذ القوم يتعلمون كيف يجتمعون، ويتناقشون، وهم ينزلون على إرادة الممتاز منهم، يضعون على بساط البحث ما يهتمون له من أمورهم ملتجئين في إقرار ما يقرون ورَدِّ ما يَرُدُّون إلى التصويت، ويُكثرون من ترداد لفظ الأكثرية والأقلية.
وإلى عهد قريب كانوا يرون من المروءة أن يُطعم المرء من يعرف ومن لا يعرف، ومن العار أن يهرب من وجه الضيف مهما كان المضيف فقيرًا معدمًا، وما كان للكرم عندهم حد ينتهون إليه، وكلما ظهرت على بعضهم أماراته رددوا آيات الثناء عليه، وإذا أعوز لووا وجوههم عنه. فعلَّم الزمن أولئك المسرفين أن هذا الكرم الذي طالما أودى بالبيوت فدَكَّهَا دكًّا، لا يوجبه شرعٌ ولا عقل، فعاد القوم يعتدلون في سخائهم ويقتصدون في مآدبهم. وكأن عادة إطعام الطعام هي من بقايا أخلاق البادية لم تنزعها منهم سكنى الحواضر والدساكر.
وما زلنا في العلم عند حد النظريات، نفتخر إذا أجدنا النقل، أي: أن قرائحنا لا تعرف الابتكار، وما انبعثتْ عبقريتنا إلى الحد الذي بلغتْه أيام كان أجدادنا يبحثون وينتجون، وما زال علمنا علم الصناع بالنسبة لعلم المهندسين، أي: علمًا وسطًا فيه جمود، لم يسفر إلى اليوم عن اختراع جديد يصح عَدُّه مع ألوف من المخترعات قام بها الغرب وحده، ولا يتأتى أن يأتي المتوسط بكبير أمر، والمقلِّد لن يشبه المقلَّد.
كان الأدب أول ماتعا ورناه بالقلب والإبدال، فأخذنا نستعمل فيه أمورًا لا عهد له بمثلها، ونكيِّفه بروح الزمن، وننهج فيه على أساليب الإفرنج، وأدخلنا في تضاعيفه فن القصة، وأحيينا جانبًا من أدبنا القديم، وما بَرَّزنا إلى الآن التبريز المطلوب في الأدبين، أي: لم ينشأ لنا قصصيون وشعراء وكتاب على مثال ما عند الغربيين منهم، وإذا ظهر التجدُّد في النثر خَفَّ التكلُّف في الإنشاء، وظهرت عليه الرشاقة والجزالة والإيجاز، فقد ظل الشعر محتفظًا بما كان يقلِّبه من المعاني القديمة، وما استطاع أعظم شعرائنا، صبري وشوقي وحافظ، أن يتحللوا من المديح تزلفًا وانتجاعًا، ودرجوا على النحو الذي درج عليه أئمةُ هذا الشأن أمثال أبي تمام والبحتري والمتنبي ومَنْ قبلهم ومن بعدهم، وامتاز شعرنا الحديث بأن كثُرت فيه الموضوعات السياسية والاجتماعية والقصصية والفكاهية.
وما كاد التمثيل يتأصل فينا حتى جاء السينما ينازعه فَأَنْشَأْنا نَضَع الروايات السينمائية كما نضع الروايات التمثيلية، وأخذنا نقلد في موسيقانا الموسيقى الغربية، قلدناها بأنغامها وتلحينها، وما اهتدينا إلى الآن لمحاكاتها في تأثيراتها، وكما تحتاج الموسيقى إلى من يبرع بها تحتاج إلى من يحسن سماعها، أي: يشارك مشاركة جيدة في فهمها، ويقدِّر المُتقَن وغير المُتقَن من معزوفاتها. وارتقت الخطابة في مصر والشام والعراق، ونشأتْ لنا طبقةٌ صالحة من خطباء المعابد والمساجد والمدارس، وأخرى من رجال القضاء والسياسة، وأصبح من الخطباء مَنْ يرتجلون ويجوِّدون، ومن المحاضرين من يحاضرون على الأصول الحديثة، وكان التطور في الصحافة عظيمًا والتطور في الكتب ضئيلًا. وانتشر حب الصور في صغارنا وكبارنا، وفي رجالنا ونسائنا، وظهر نوابغُ من المصورين والمَثَّالِين، وبدأنا نُقيم التماثيل لرجالنا الذين اشتهروا بالسياسة أو بالأدب على النحو الذي سار عليه الإفرنج في إعظام رجالهم النابغين، وكنا نحرِّم ذلك في الدهر الغابر، وما عُهد في مدنيتنا قيام مَثَّال.
قلَّدنا الغربيين في معظم المظاهر تقليد المبتدئ للمنتهي، اقتدينا بهم وأَحْسَنَّا في آداب المعاشرة والاجتماع والسلام والقيام والطعام، ومشينا على آثارهم في السياحة والتنقل والاصطياف، وفي حب الاستطلاع والاستقراء، وبقيت أُمور لم يكتب لنا اقتباسها، أَو هي موجودةٌ لدينا وما تغيرت التغير المطلوب، فالرقص مثلًا لم يرتق عندنا واقتصرنا فيه على تعلُّم الرقص الغربي، وأَهْمَلْنا رَقْصنا القديم ومنه رقص السماح. والظاهر أن في المدنية العربية أشياء يصعب على العربي هضمها الآن، وهذا من أسباب طول أمد انتقالنا، وأُمة ذات مدنية قديمة تقضي زمنًا طويلًا لإحيائها أكثر من أمة جديدة لا تاريخ لها ولا تقاليد. الأُولى تتوقف على حذف وإثبات، والحذف لا يسهل كل حين، والإثبات أقرب تناولًا. والولد الصغير يسهل تأديبه بما لا يسهل معه تثقيف الشاب.
يتجلى التبدُّل عندنا في معظم مظاهر الحياة، ويبدو معه شيء من ضعف أو نقص، ويشع تخلُّفنا هذا حين ننشد مثلًا الكيماوي الكبير، والمالي الكبير والسياسي الكبير، والسبب في هذا أَنا قطعنا الصلة بيننا وبين العلم والنظر قرونًا، فلما جئنا نربط السلسلة المقطوعة اقتضى لنا صرف جهود طويلة لنصل إلى جبر ما أضعناه من أعمارنا في الجهل، وإذا اقتضى جيل أو جيلان لحضانة العلم فنُضجه، ولا جرم، يستلزم أجيالًا.
ومن التبدُّل أن أمسى القوم يُفْرِطون في التبرم بما يُتبرم به وما لا يُتبرم، ويُكثرون من الاعتراض على ما عرفوا وعلى ما لم يعرفوا. وبديهي أن عدم رضا الناس بما صاروا إليه، وتطلعهم إلى عيش أهنأ وسعادة أكمل هو من جملة دواعي النهوض، والهممُ إذا وَنَتْ يَقِلُّ الاعتمال للثروة، ومن قل ماله جَمَد وذَلَّ، والنفوس إذا اكتفت بما حصل تضعف المدنية، وحب الذات مما يحفز النفوس إلى طلب الكمال، وقلَّ أن عُهد شعب رضي كل الرضا عن أعمال حكومته مهما كانت صالحة، كما ندر أن اقتنع طلاب مدرسة بأن ضغط معلمهم عليهم إنما هو لخيرهم.
لطُف ذوق ابن هذا العصر، وتَفَوَّقَ على ذوق سلفه، في الجملة، وكان هذا مغرمًا بخيال الظل ويعده أجمل الملاهي، على ما فيه من بذاءة، فأُولع بالسينما، وكان جده يحب الصيد والقنص والرماية وركوب الخيل، فأصبح ابنه مغرمًا بالألعاب الرياضية وامتطاء الدراجات والسيارات والتجديف في قوارب البحر والنهر. نشأ الابن أرقى من أبيه وجده، والبنت ظهرت أرقى من أُمها وجدتها، وأخذت المرأة تجاري الرجل في إنشاء جمعيات التعليم والإحسان، وتنجح في انتشال بنات جنسها من انحطاطهن، على ما نجحت في تمريض المرضى وترفيه البائسين، يتطوع لذلك الغنيات والشريفات على مثال بنات الغرب، وكلما زاد خروج المرأة عن عزلتها زادت الفوائد الناجمة عن هذه الأعمال المشكورة.
ظهر التطوُّر في استمتاع المرأة بحريتها، وأصبح بيدها زواجها وطلاقها، وكان ذلك لأبويها وذويها، وأمسى من النادر أن يجمع الرجل في المدن بين زوجتين فأكثر، ولا سيما في الطبقتين العالية والوسطى. وبطل الضرب والتعذيب في المدارس والثكنات منذ أُلغي الرقيق، وبإلغائه بطلتْ عادة التَّسَرِّي بالزنجيات والشركسيات والكرجيات، وما عاد الزنوج يُمتهنون في الخدمات الشاقة، ومحظورٌ اليوم على رب البيت أو رَبَّتِهِ أن يضرب خادمته أو خادمه، فالقانون يعاقِب الضاربَ، وعلى هذا لم يبق من حاجة للعصا والسوط وسائر أدوات التعذيب.
وتطور الإحسان فصارت النفوس تثلج بالإفضال على الجمعيات المنظمة أكثر من التصدق على من يُلْحِفون في طلب الصدقة في الشوارع، وربما كانوا من الصنف الذي لا يستحقها، وراح الناس يفهمون معاني المؤاساة ويدركون سر الاجتماع لخدمة المصلحة العامة، ويتعلمون تأليف الأحزاب والنقابات وانصرفت القلوب عن الفردية وشمل الوعي القومي معظم الطبقات.
ولا نقصد بهذا أننا بَلَغْنَا في المدنية درجة استجمعْنا لها صفات الظرف عامة، فهذا أمرٌ بعيدٌ عنا الآن، وما وصلنا في الواقع إلا إلى ارتقاء نسبي بالقياس إلى تخلفنا في الماضي، وقد صار حكمنا على الأشياء أقرب إلى الصواب، وزدنا حرصًا على الأخذ بأسباب التجدد ومجاراة من تَخَطَّوْنَا إلى الرقيِّ، وهذه درجةٌ محمودةٌ تُؤْذن بأنا سائرون إلى الأمام بخطًى متزنةٍ، وما دام الغرب ماضيًا قدمًا في حضارته ونحن نقتفي أثره فحضارتنا مضمون لها أن تصبح في مستوى أرقى الحضارات الحديثة.
كان للحربين الأخيرتين، وانتشار السينما وشيوع المذياع، أثر بليغ في تعجيل نهضتنا الصناعية والاقتصادية والأدبية، فعَلَّمَتْنا الحرب صناعات كنا فيها عالة على الغرب، اضطررنا إليها لما وُضعت الحواجز بين الممالك، وخلقت لنا السينما والراديو ذهنية جديدة قَرَّبَتنا من ذهنية الأُمم الرشيدة، وعلمتنا، بما نرى ونسمع، أمورًا ما كان يصل سوادُنا الأعظم إلى معرفتها إلا بالزمن الطويل.
فيما مضى نقلت الطباعة والصحافة البَشرَ من طور إلى طور، وتنقل السينما والمذياع الآن حضارة العالم من دور إلى دور، ونحن آخذون بحظ ظاهر من كل أولئك.