القول في نهضتنا الأخيرة
يقول بارتولد في تاريخ الحضارة الإسلامية: إن القول بأن العالم الإسلامي كان في سبات عميق قبل أن ينهض بتأثير أوربا في القرن التاسع عشر مبالغ فيه كثيرًا. أي: أن المسلمين لم يكونوا في انحطاطهم كما صورهم بعض من تعمدوا الكذب عليهم لغرض من الأغراض. ولا مُشَاحَّة في أن العلم كان حتى في الممالك المعدودة من الأقطار الراقية في حالة نزع مؤلمة. ونقصد بالعلم هنا: العلم الديني؛ لأن علوم القدماء كانت قد انقرضت فيها منذ قرون. ودخل على الدين بجهل المسيطرين عليه ما ليس منه فأفسد جوهره الصافي، وتخرج بهم فاسدون وجهلاء لا يصلحون للدين ولا للدنيا.
بدأ ضعف العلم في أرض المسلمين بعد أن سبق الضعفُ سياستَها حقبةً طويلةً، فأخذت العلوم الدينية تميل بعد القرن الخامس إلى الفتور، وهبطت العلوم المادية هبوطًا عظيمًا في السادس والسابع، وتراجعت علوم الحضارة فلم يبق مَنْ يَشد أَزرها سوى أفراد نزرٍ علمُهم، منحلةٍ رابطتُهم، أما العلوم المدنية الأُخرى فظلَّت مدونة في الكتب لا تتقدم بشيء جديد، ولا يُنتفع بحقائقها حق الانتفاع. ولاذت علوم الحكمة بأهداب التقية، وحُجبت عن أنظار المستفيدين بحجاب كثيف من التعصب الذميم، وسقطت الأمة بسقوط الهمم والعزائم، وفساد الأخلاق والتربية، وضعف الوازع والسلطان. ضعفت العلوم ومن ضعفها الحَظْر على المشتغلين بها النظر في أصولها من الكتاب والسنة، وتعطلت العقول، واشتغلت الأذهان بالفضول، وتَفِهَتْ علوم اللسان فانحط الشعر والنثر والخطابة انحطاطًا محسوسًا حتى تكاد لا تجد منذ القرن التاسع منازلًا شاعرًا أو ناثرًا يعجبك بيانه، ولا تكاد تسقط على المعنى البارع والفكر السليم، ولو نظرت إلى كلام أهل هذه العصور بالمجهار. وأحسنُ التآليف ما أجاد أصحابها الاقتباس من الكتب القديمة مع حذف الأسانيد وتعمية المصادر، فحق لعصورهم أن تُدْعَى: عصور الجَمَّاعين والمنتحلين.
وأتى القرن الثالث عشر وقد نَفِدَ من العالم العربي أكثر ما تقوم به حياة الأُمم من المعارف، وأصبحت الأفكار في رقود وأُهمل كل ما يرقى بها، وأمست الأقاليم تسير على غير هدًى، لا منهاج تعمل به ولا دليل يقتادها. وآلت السياسة إلى أيدي الأعاجم لا يسمحون لرعاياهم أن يتعلموا على حساب أنفسهم ولا على حساب غيرهم لاعتقادهم مضرة النور على العقول وإن كان هناك تعليم فهو ناقص الجهاز من معظم نواحيه.
دام هذا إلى أن قامت مصر بإنشاء دولة عربية، فسرت منها شعلة ضئيلة من العلوم الحديثة إلى الأقطار المجاورة بفضل ما أنشأه محمد علي من مدارس ومعامل وما أرسله من بعثات لتخريج الأذكياء بالعلوم، وفي هذه الحقبة كان باي تونس يسير على منهاج والى مصر في التمدين. وبعد سنين توارد دعاة التبشير إلى الساحل الشامي فأنشئوا فيه مدارس، ونشروا مع مذاهبهم مدنياتهم. فصاحب الفضل الأول في نهضة العرب هو محمد علي الكبير، ولو كتب له أن يضم إلى مصر ديار الشام والأقطار المجاورة كجزيرة العرب وبلاد الرافدين لكانت خدمته للمدنية العربية أوسع نطاقًا وأوفر عائدة.
لا جرم أنه كان لمصر — حتى على عهد قوة العثمانيين — شيء من الحكم أَشْبَهُ باستقلال داخلي، وكان أهلها يختلطون كالشاميين بشعوب البحر المتوسط، وبدءوا يحسون منذ أول القرن الماضي أنهم دون شعوب جنوبي أوربا في كثير من مقومات الحضارة. وإلى ذلك كان الأزهر في مصر، وفيه حفظت ثمالة علوم اللسان والدين، أرقى من جامعي الزيتونة والقرويين، ومن بعض مدارس دمشق وحلب والقدس والموصل وبغداد والنجف والحرمين وصنعاء وصعدة. ومن الأزهر خرج أناس جسروا على الأخذ عن بعض العلماء الذين رافقوا نابليون يوم وافى مصر فاتحًا، ومن الأزهريين نشأ بعض دعاة التجدد وأركان النهضة المصرية الحديثة، خرج الأذكياء منهم بنور سرى إليهم بعضه من تلك البيئة الضعيفة فأحسنوا استخدامه ونشره في الجملة. والأزهر، في أكثر عصوره، كان يخرج أئمة للجوامع ووعاظًا للقرى، أما النوابغ الممتازون فالقرن الواحد قل أن يجود برجلين أو ثلاثة. وغاية علم العالم يومئذ أن يُجيد حفظ ما روي عن القدماء لا يزيد عليه ولا ينقص.
وبعد أن دثرت المدرستات النظامية والمستنصرية في بغداد، ومدارس الري ونيسابور وأصفهان وشيراز وغيرها من فارس، وتعطلت دروس الحكمة والفلسفة ضعف التفكير الإسلامي، وكان هذا الانحطاط مما لا يؤبه له في العصور الوسطى، أيام كان الغرب في غفلة، فلما أفاق من كبوته تبين الفرق بين ابن الشرق وابن الغرب، وبين العالم الديني عندهم وصنوه عندنا، والعالم المدني في بلاهم ومثله في جماعتنا.
ولولا أن قضت القدرة الإلهية ألا يخلو أكثر الأقطار من أفذاذ يقومون بالدعوة إلى الإصلاح في العصر بعد العصر بقدر ما تساعدهم وسائطهم، لرأيت معظم الأقطار العربية كبوادي جزيرة العرب اليوم لا علم ولا عمل. وكثيرًا ما كان المصلحون يستهدفون لغضب الحكومات بتأثير الزعانف من رجال الدين، وكأن هؤلاء أقسموا أن يقاوموا المجددين بضروب من المقاومة، ويخالفوهم حتى في المُجمع عليه من الأفكار الصحيحة، وثبت أرباب الإصلاح مستعذبين ما لقوا من العذاب في سبيل دعوتهم، واحتالوا على حكوماتهم بنَفَذ ما يمكن إنفاذه من تعاليم، وأنشئوا المدارس والجمعيات، وعلموا الصغار كيف يستعدون للجهاد في معترك الحياة، يبثون العلم النافع في أقطار أظلمت بالجهل أحقابًا طوالًا. وكلما أخذ المتأخر عن المتقدم زادت النهضة العربية الحديثة انتشارًا.
وفي الحق إنا مدينون بكثير من أسباب نهضتنا للغرب، وما زلنا عالة عليه نقتبس منه ونتمثل ولما يتم دور الأخذ والاحتذاء. أخذنا ما أخذنا منه وأدمجناه في أوضاعنا فصارت فيها كأنها أصيلة غير دخيلة. وكلما قويت الرغبات في قطر على الاقتباس من غيره، برزت فيه المدنية في حلة أجمل مما هي في الأقطار الجامدة. فمدنية مصر أرقى من مدنية الشام، ومدنية الشام أرقى من مدنية العراق، ومدنية العراق أرقى من مدنية الحجاز واليمن وما إليهما، ومدنية تونس أرقى من مدنية طرابلس وبرقة، ومدنية الجزائر ومَرَّاكُش أرقى من مدنية بلاد السودان.
ويدعونا الإنصاف إلى الاعتراف بأن أكثر ما تم في الممالك العربية السائرة نحو الرقي إنما يرجع إلى الحكومات القابضة على زمام الحكم. ونهضة كل بلد موقوفةٌ في الغالب على ما خُصَّ به رجال سياسته من حسن نية، وبُعد هِمم وثقوب أذهان، وبديهي أن رجال الإصلاح مهما بلغ من علمهم ومضائهم لا تتحقق آمالهم إذا لم يعاضدهم ولاة الأمر، لِمَا جُبل عليه الشرق من توقُّع الخير أبدًا من الحاكمين، خُلُق رسخ في النفوس لطول ما أتى على العرب من حكومات قل فيها الإخلاص وفُقد منها النظر في مقومات الملك. وكان المُلك في كل زمان أشبه بإقطاع يتصرف المتغلب بمقدراته على هواه، والرعية تستفيد من الاستقرار، والاستقرار على كل حال أجدى من الفوضى.
تعلمت مصر من بين سائر الأقطار العربية بنفسها، وبما قام فيها من مدارس يقصد منها التبشير أولًا وبالذات، وكان للأجانب سلطان عظيم على التعليم في بعض الأصقاع، فأخذ بعض أبنائها من مبادئ العلم الحديث ما نفعهم. وغلَّ الدينيون أيدي رجال الدنيا عن العمل يوم كان لهم شيء من السلطان على الحكومات، وجوَّزوا لأنفسهم أن يكونوا أبواقًا تنادي بنصرة الحكام كيف كان لونهم، وكانوا إذا اتُّهموا بأنهم خرجوا عن مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قالوا: إنا نعاضد هذه الدولة لأنها مسلمة وتقوم بدعوى الخلافة، وكانوا لَمَّا عَمَّ الضعف، حتى في العلوم التي يدعيها العلماء الرسميون، إذا رأوا ما حَلَّ بالناشئة من الانحلال ترتروا وبربروا، وبلغ بهم العجز أن كانوا لا يملكون لردِّ عادية المدارس الجديدة غير الدعاء على من كانوا السبب في إنشائها، والقذف فيمن يقول بقولها ويأخذ عنها، ومنهم من كان يتذرَّع بذرائع الانتقام ممن عَدُّوه خارجًا على الشريعة، ولكن هذه الطرق الملتوية لم تأت أصحابها بخير؛ لأن سلاح الخصم ماض وسلاحهم مثلوم، سلاحه منطِق ومعرفة، وسلاحهم ثرثرة وهراء. ومن عدم السلاح المرهَفَ الحد لا يكافح ولا ينافح.
ولقد ظهرت بالاختبار صعوبة التوفيق بين أرباب المنازع المختلفة في التربية. ورأينا خريجي المدارس الرسمية ما صهرتهم حرارة القومية للقيام بما يناسب ماضيهم وينفع أُمتهم في الحاضر والمستقبل. وكان غرام بعض من تخرجوا من مدارس الغرب الاستهانة ببعض ما هو وطني، واحتقروا في الأكثر لغة آبائهم وعَدُّوها ثقيلة وصعبة. وشعب لا يتشبع بحب لغته يُفلت من يده مفتاح سعادته. والتربية الأجنبية على ما فيها من نواقص بالنظر إلى العرب كانت أرقى من مدنية الدولة الحاكمة يومئذ، وهي لا يتخرج بها إلا شخوص تتحرك بحسب الوجهة التي توجهها إليه السياسة. ومن تعلموا في مدارس الغربيين في الشام ومصر كان لهم إلمام — ولو قَلَّ — بلغتهم، أما من تعلموا ليكونوا ضباطًا وعمالًا فلم يحسنوا اللغة التي تعلموها ونسوا لغتهم. وأيًّا كان فقد تأتَّى من مجموع هذه التربيات أساس نهضة خرج بها السكان من تيه القرون الغابرة إلى بحبوحة المدنية الجديدة، وأثرت هذه الثقافة الأولية تأثيرًا تناول معظم مظاهر الحياة. ومن رأى الأقطار العربية في أواخر القرن الماضي ورآها اليوم يدرك الفرق بين ذاك التدني وهذا الترقي، وبين هذا النور الساري وذاك الظلام الدامس.
أصبح الناس بفضل معاهد العلم يدركون قصورهم، وقد عمل في نفوسهم كل ما شاهدوه من آيات الحضارة الجديدة. واقتبسوا بأنفسهم، أو مما وصفه لهم العارفون، بعض حسنات المدنيات الراقية وانتفعوا بما قرءوه وسمعوا به من تأثيرات مدنية القرنين الأخيرين في الغرب، ولا ينقصهم الآن إلا أن يربطوا برباط واحد، وإلا إلى من يوجههم إلى غاية واحدة، وهذا يتوقف على جهود يشترك فيها الراعي والرعية اشتراكًا فعليًّا اختياريًّا لا صوريًّا إجباريًّا.
وبعد فإن هذه النهضة باكورة ثمرة غرست شجرتها متأخرة فاقتضت حالة الطبيعة في خلق الأشياء أن تأتي عليها أعوام أخرى حتى تتفرع فروعها، وتستوفي كمال نموها، ليجتني أصحابها الطيِّب من ثمرتها، وبضعة عقود أُخرى تجعل من هذه الشجرة دوحة أزلية، ويصبح عرب العراق والشام ومصر والغرب الأدنى والأقصى في مصاف الغربيين من أكثر الوجوه، وربما كان لهم من حضارتهم أُمور جوهرية قد تعوز الحضارة الغربية الحديثة، والمعول الأول في هذا الشأن على تأليف حكومات يقصد القائمون بها نفع الجماعة قبل نفع الأشخاص ويكون همها نشر التعليم بين جميع الطبقات توجهه وجهة عملية اقتصادية، فإن النظريات التي يتقنها اليوم صاحب الشهادة العالية في أزيد من اثنتي عشرة سنة لا تؤهله لكسب قوته من طرق حرة، وغاية التعليم إذا لم تنصرف إلى ما يستطيع معه المتعلم أن يعلمه توشك أن تجعل من صاحبه عضوًا مئوفًا.
وجدير بالفرد أن يتذوق الحياة، ويسعى لها سعيها، ويعمل لراحته وهنائه. والعلم بثمرته، وطيب العيش ثمرة من ثمراته. وهناك شئون ما برحت ناقصة عندنا، وأهمها إشراب النفوس مَلَكة التجويد في الأعمال، وتقدير المسئوليات على أنواعها، ومراعاة القوانين وتطبيق المصطلحات المدنية في البيوت وخارجها، وأن يعمل العارفون على أن تسري بين الرَّحَّال وابن القرار، ويشارك فيها المدنيُّ القرويُّ مشاركة لا يفضل فيها الشريك شريكه في شيء.
وما برح الفلاح — وهو أكثر من ثلاثة أرباع السكان — يؤلمه ما يلقاه من معاملة بعض أبناء المدن وأرباب الدولة، لأخذهم من كلمة «الفلاح» معنًى من معاني الجهل والفظاظة. وما الذنب على القروي فيما آلت إليه حاله، بل الذنب كل الذنب على من أهملوا أمره. سألني رجلٌ من الفلاحين عن سبب احتقار ابنِ المدينة ابنَ القرية، فقلت: هذا جهل كانت تُنَمِّيه الحكومات لاعتقادها أن الوطنيين إذا تآلفوا يتألبون عليها ولا ينفِّذون رغائبها على العمياء، فكان شأنها شأن قائد يرى بوادر الثورة في عمله، ويريد أن يقضي عليها قبل أن تتوسع، فأول ما يأتيه قطع الصلات بين الثائرين عليه، والحكومات هي التي ألقت التنافر بين الأُسرة الواحدة فصعب بعدها جمع جماعة على مقصد واحد. قد يكون بيننا أفراد على استعداد للعمل الجماعي، فإذا دعوتهم اختلفوا وضعف مستوى تفكيرهم، هم فرادى كبعض أفراد الأُمم النابهة، فإذا تألَّفوا جماعة كانوا كأحط الناس.
وكان من التربية الناقصة أن خرج منا بعض الشبان بالثرثرة وعريض الدعوى وكان عليهم تجويد العمل وحُسن الاستماع. فالشبان يعوزهم من يتخرجون بهم بعد إتقان دروسهم، والكتاب وحده لا يكفيهم، وهم في حاجة إلى من يهذب من حواشيهم. وأن بعض ما يطلب من المتعلمين استظهاره في الثانوي والعالي قد لا يجديهم كبير أمر في مستقبلهم، وحفظ أشياء لا تبقى في الذهن إلا ريثما يؤدَّى الامتحان، إذا لم يشفعها ما يؤهل صاحبها للبعد به عن أن يكون عالة على غيره لا ترفع من خمول، ولا تنشل من انحطاط، والاعتماد على الحافظة كل حين يمرضها فلا تقوى إذا حُمِّلت فوق طاقتها على حفظ ما يفيد الدارس بعد حين، ثم إنا لسنا على ثبات في إقدامنا وإحجامنا، ولم نعين أوضاعنا تعيينًا دقيقًا، وما انصرفنا، كل الانصراف، إلى ما يستدعي عنايتنا قبل غيره من الشئون. أخذنا ما اتفق وتركنا أمورًا كانت ضرورتنا إليها أمسَّ، أخذنا البسائط السهلة وأغفلنا ما رأينا في تمثُّله صعوبة، وفي تحصيله بعض العناء والمشقة.
قال لي مطلع: إن إيران انتدبت، قبل هذه الحرب، بضع مئات من شبانها للإخصاء في جامعات الغرب، وكلهم يدرسون العلوم المادية الصرفة، ويكاد لا يوجد أثر في دراساتهم للعلوم الأدبية، فقلت إن فارس عقلت الآن وسيكون لدولتها شأن ربما تستعيد به ما كان لها من مكانة على عهد الأكاسرة وفي القرون الأولى للإسلام، ونحن في وسعنا أن نوجه شباننا توجيهًا جديدًا وأن نحسن شئوننا المعاشية أكثر مما أحسناها على رغم معاكسات المعاكسين ومنافسات المنافسين.
لا تشكو بلادنا جدبًا في تربتها، ولا ضعفًا في ذكاء أبنائها، وإنما تشكو خللًا في التربية، وقلة إتقان في الأعمال، ونقصًا في استخدام القوى الضائعة، وأن يتعلم أبناؤنا الصدق في القول والعمل، وألا يحتقروا ما يبدو لأعينهم حقيرًا لأول وهلة، ولا يتكلموا قبل أن يتفكروا، وألا يغتروا بما تعلموا ودرسوا. ونحن إذ نطلب هذا لا نطلب المحال، ولا نتكلم من عالم الخيال. فقد رأينا كيف نهضت الديار الشامية مثلًا في إبانها، وأخذت المقام الأول بعد مصر دون سائر الأقطار العربية، لما توفرت على إحياء قديم لا بأس به، واعتمدت على سواعد أبنائها أكثر من اعتمادها على الغريب، وما استطاع المهيمنون أن يزحزحوها عن حياض العلم لما صحت نية أبنائها على المضي فيه، وما وفق المسيطرون بعد أن اختاروا طبقة من المتعلمين للإخصاء في الجامعات ليكونوا دعاة لهم، ورجع أكثر من ذهبوا متشبعين بحب قوميتهم لا يتخذون عن خدمة أُمتهم بديلًا، ولا يفكرون في أن يهجروا أرضهم إلى غيرها حتى قال أحد علمائهم: ما أدري كيف تم ذلك، فنشأ من تخرجوا في جامعاتنا نشأة لا تتفق مع مصلحتنا، وعادوا من أكثر الوجوه بأفكار كنا نود أن يحملوا غيرها مما ينفعنا، ولعلنا أخطأنا في تركنا المجال حرًّا لهم فاختاروا الأصلح لأنفسهم لا لسياستنا.
وفي جيل واحد بدأ سنة ١٩٠٨ بنشر الدستور العثماني وقوي بعد سنة ١٩١٨، وقد غادر الترك الشام، وُضعت أُسس التعليم الابتدائي والثانوي والعالي والصناعي والتجاري، وأُنشئت دور الآثار والكتب في الحواضر وخزائن الأسفار في المعاهد العلمية، وتخرج مئات من الأطباء والحقوقيين والمهندسين والماليين والزراعيين والمعلمين والمتأدبين، ومنهم من أتموا علمهم العالي في جامعات الغرب، وأتقنوا بعض لغات العلم وأحكموا النقل عنها، وأتوا قومهم بما لم يعهدوه من معارف غيرت في كيانهم.
ودخل النظام الحديث على البيوت المالية التجارية والصناعية وعرف أهل المدن فائدة الشركات فألفوا من أصنافها ما ساعدتهم حالتهم عليه. وكان يندر في القرويين من يُحسن قيد حساباته، فغدا بعضهم يمسكون دفاتر بدخلهم وخرجهم، ويَزْكنون حوالة الأسواق وتصريف حاصلاتهم، وأصبحوا يستكثرون من غرس الأشجار يستجيدون لها أصنافًا لا عهد لأرضهم بها، ويختارون بذورًا وأسمدة وطرق حرث وكرث كلها جديدة، وبذلك كثرت الثروة كما كثر عدد السكان بانتشار المعارف ومراعاة مبادئ الصحة، وظهرت أمارات الغنى على بعض أهل القرى، فَاسْتَجَدُّوا البيوت وتأنقوا في فرشها على نحو ما فعل أهل الحواضر، وانقلبوا يتجمَّلون بالثياب النظيفة، وجَارَوْا أهل المدن بأزيائهم وهندامهم.
ومن أعظم مظاهر هذه النهضة ارتقاء أحاديث العامة، ودخول تحسين كثير على لهجاتهم، وكلامُهُم اليوم أرقى من كلام بعض الخواص في القرن الماضي، وكتابتهم أرقى من كتابتهم، وقد شاعت الكتابة بالعربية، وكان لا يحسنها غير أفراد قلائل في المدن، كما شاعت معرفة كثير من اللغات العربية، تعلموها في أسفارهم وأخذوها من المدارس، وما صدر بالعربية من التآليف خلال ربع قرن في الفنون المختلفة بُرْهَانٌ جليٌّ على أن الذكاء الذي كان مدفونًا انكشف لَمَّا صَقَلَتْهُ التربية الحديثة، ومن ذلك رغبة جميع الطبقات حتى البوادي في تعليم أبنائهم وبناتهم، وكانوا إلى عهد قريب يبعدون بهم عن التعلم لاعتقادهم بأنه يضر بمعتقداتهم ويعبث بآدابهم، وكان بعضهم في القرن الماضي يحتالون حتى لا يعلموا أبناءهم وغدوا في هذا القرن يلجئون إلى أنواع الحيل ليعلموا أولادهم على ما يُحبون وتقتضيه حالةُ العصر.
ألف الناس المطالعة بل اشتد غرام المتعلمين بها، وكثر اختلاف القوم إلى الأندية العامة لسماع المحاضرات والخطب مع ما يستمعون إليه كل يوم من أحاديث الإذاعات العربية المنوعة الموضوعات، وأُولعوا بشهود روايات السينما وسماع الموسيقى، وأُنشئت الجمعيات والشركات المختلفة المقاصد تعلم الفقير واليتيم، وأثبت الشامي كفاءة في أكثر الحِرَف والصناعات، وكلما صحت نيته على الجمع بين القديم والحديث تستقيم له أداة تمدُّن لا تنزع منه مشخصاته، وتقربه من كل ما في مدنية الغرب من حسنات.
مشت الشام على أثر مصر وأخذت العراق بأَخَرَة تحذو حذوهما في تلمُّس أسباب الترقِّي، وتخلفت الأقطار العربية الأخرى، حاشا تونس، عن اللحاق بالأقطار الناهضة، والرجاء مع هذا ألا تمضي أعوام قليلة حتى يشترك كل قطر عربي في الأخذ بمذاهب هذا التمدن، ويلحق اللاحق بما سبقه إليه السابق فيظهر النبوغ في أكمل مظاهره على ما كان في القرون الأولى للإسلام.
استفاد العالم العربي من كل قوة جاءتْه من الغرب؛ لأنه كان، وما برح، كالصلة والعائد بين المعروف من قارات الأرض القديمة، وأَثَّرَ ذلك في عمران هذه الأقطار تأثيرًا حسنًا. وكان على نسبة أخذ القطر الواحد بحظٍّ من هذه المقدمات تتبدل طرق حياته ومناهج تفكير بنيه. وما نراه من تنظيم طرق الري وطرق الحديد ورقيِّ الزراعة والقضاء في مصر، وما يظهر من جميل هندسة البناء وتجويد بعض الصناعات والأعمال الزراعية في الشام وتونس، كله من آثار العلم الذي لقفناه وتمثلناه.
إن زراعتنا اليوم غيرها بالأمس، وتجارتنا اليوم غير تجارتنا البارحة، وهكذا قُلْ في صناعتنا وأعمالنا الحرة والاتكاليَّة، ونحن ما زلنا نبحث للوصول إلى الكمال، لنستر مواطن النقص، والشعور بالنقص أول مراتب الكمال، والجهر بالقول أقرب مرحلة إلى بلوغ الأمل من العمل، وخير النهضات كخير الثروات ما قام بأيدي أصحابه، وسار بسير القانون الطبيعي، وكل ثورة اجتماعية أو فكرية هي محصول الكتاب والكتَّاب، والعقل العربي الذي شاد في القديم قصر غمدان وسد مأرب، وعمر في الإسلام أُمويَّ دمشق وأقصى البيت المقدس وقصور سَامَرَّا والفسطاط، وقصر الحمراء وجامع قرطبة وسدود بَلَنسية لا يستحيل عليه، يوم يتمثل المدنية الحديثة حق التمثُّل، أن يعمل أكثر مما عمل إن شاء الله.