القول في تهافت طباعنا
سأل سائلٌ: لماذا تُحبُّ فلانًا وفلانًا ولا يبدو منك ميل إلى فلان وفلان، وأربعتهم في الظاهر أبناء حرفة واحدة ونبعة واحدة، وأحوالهم متشابهة، فكان الجواب: أن ميزة الأولين عفة النفس والتفكير في خير الأمة، أما تِرْباهما الآخران فيعتقدان أن الأعمال العامة لا يقصد من توليها إلا ملء الجيوب من الطيب والخبيث، والحياة عندهما لا تتطلب من صاحبها إلا أن ينظر لنفسه فقط.
ولقد كنت، وما زلت، أعلل ما يبدو من أخلاق بعضهم بقانون الرجعة أو مماثلة الجدود، والرجعة ميل الأحياء الحية للرجوع إلى صورة الأجداد البعداء، وبتأثير هذا القانون يعود الإنسان على صورة أجداده الأولين. ومن شأن هذه الرجعة أن تُحَلِّيَ الأخلاق بالصفات التي تجلَّت في الأسلاف، صفات تنتقل أو تنمو بتأثير البيئة والعادة، والولد الذي يشبه جده ولا يشبه أباه أهونُ مثال في هذا الباب.
لا جرم أن قانون الرجعة ظاهر الظهور كله في الخلق، وكثيرًا ما رأينا التربية الصحيحة تتغلب على بعض الناشئة فيخرجون أحسن سيرة من أهلهم، ولو زادت العناية بالأبناء لجاء منهم رجالٌ أرقى من آبائهم، فارتقى العالَم بتكثير سواد النافعين فيه، وإن كان من الصعب أن يأتي من القاتل تَقِيٌّ، ومن اللص أَمِينٌ، ومن الفاجر بَرٌّ، إلا بمرور عدة أجيال، وتوالي بطون كثيرة، ولا عبرة بالشواذ. وما كان التعليم وحده ليَجْبُرَ هذا الوهن في الخلق، وما كان لدمٍ ملوَّث أن يطهر إلا بمعالجات طويلة.
عرفتُ اثنين من أُسرة غنية تعلما تعليمًا عاليًا، وظهر الذكاء على مخائلهما منذ أول نشأتهما ودارت الأيام فرُقِّيَ كلاهما إلى منصبٍ سامٍ كان يظن فيهما أن يجوِّدا عملهما، فإذا التعليم العالي لم يُفِدْهما إلا جرأتهما على الباطل، وإذا بقانون الرجعة يتجلى فيهما رغم الألقاب والشهادات، وإذا النفس هي نفس أولئك الأجداد الذين جمعوا أموالهم بالنهب وسفك الدماء. ونشأ هذان المتعلمان يستحلان كل ما يتوهمان فيه نفعًا معجَّلًا لهما، لا فرق بينهما وبين اللصوص إلا أنهما لصان اكتسبا الكسوة المدنية، وركبا السيارات، وجلسا إلى موائد حديثة، ونزلا الدور المنجدة.
تأمت تربية هذين الشخصين وتدبَّرتُ ما صدر عنهما، ومنه ما يَخجل منه أَسْقَطُ الناس مروءة، فما شهدتهما يخرجان عن تربية أجدادهما، وربما كان هؤلاء أقرب إلى السذاجة، وما خَلَوْا من صفات طيبة. وزاد المتعلمان من أبنائهم لُؤْمًا جديدًا إلى لؤم قديم، وجسرا على العبث بالقوانين، وما وصلت قريحتهما إلى أبعد من أغراضهما المادية.
وعهدت أديبًا نشر كثيرًا من الشعر والنثر ودعا إلى الفضائل، ينهب في شبابه كبير رؤساء دينه، ويسرق في كهولته أوراقًا لأحد كبار السياسيين وكان نزيله، أخرجت الورقة المسروقة من فمه وكان يريد أن يبتلعها، والله أعلم كم سرق مدة خدمته في الحكم، وقد خلف وَلَدَيْن سارا بالطبع سيرة أبيهما، يغتصبان كل ما طالتْ أيديهما إليه، وقد سقطا مرة في أيدي القضاء باتهمامهما بسرقات وسُجِنَا مدة ثم تخلصا. وعرفت رجلًا من رجال الإدارة كان فساده على نسبة ذكائه كان كله ضررًا على الناس خلف أولادًا أورثهم ذكاءه وفساده، وأبناء اللصوص لصوص ولا تلد الحية إلا حية، وفي قُطَّاع الطريق من هم أَعَفُّ نفسًا من كثير من المصلين الصائمين، لأن من السَّلَبَة مَنْ يدعوهم فقرهم إلى ارتكاب ما يرتكبون بعارض نفسي خبيث، قد يعرض مثله لمن كان في أرقى من طبقتهم، ولا يطلبون من عَرَض الدنيا أكثر مما يسد حاجتهم.
قصَّ عليَّ أحدُ قدماء الأشقياء قصة استغربتُها، قال ما فحواه: كنت في عنفوان الشباب، وأنا مغموس من فرقي إلى قدمي بالشقاوة، وبرح بي العَوَز ذات يوم، فانفتح لي باب رزق هدتني إليه الفاقة، وذلك أني علمت أن فلانًا — من كبار المزارعين — قد باع شيئًا من حاصلات مزرعته، وأن كيس الدراهم الكبير قد جعله في عربته تحت مقعد الحوذيِّ، فعرضت له في الطريق وهو آيب مساء إلى داره، وكان معي بعض رفاقي انتحوا ناحية عني، فلما مرت العربة أشرت إلى السائق بالوقوف فوقف، وأشرت إليه أن يبتعد عن مقعد السائق فابتعد، وفتحت الكيس وأخذت منه أربعة ريالات لِي، ومثلها لكل من رفاقي، فقال السيد: زد يا فلان، فقلت له يا سيدي هذا ما نحتاجه، فقال لي: تعال غدًا إليَّ فإن لي شيئًا معك، فجئته وأعطاني وأعطى كل واحد من رفاقي جُوالق حنطة، وقال لنا إذا احتجتم إلى شيء أخبروني لأُعطيكم ما تحتاجون إليه. أليس هذا الشقي أشرف من أولئك السادة المتعلمين؟ ومعاملة المزارع الكبير له ولرفاقه ما خلت من مروءة ومرونة.
قام في العهد الأخير شاب متعلم فوقع في مهاوي الشقاوة، على صورة لم يتبين الدافع لها، وأخذ يقطع الطريق، ويعتدي على الأغنياء ويُفْضِل على الفقراء، وقصوا من أحاديثه الصحيحة ما يعجب، قص عليَّ أحد الأدباء أنه كان في جملة قافلة السيارات يوم اعترضهم ذاك الشاب مع بعض أعوانه في بعض الأودية فسأله عن حاله، فلما علم أنه من بيت أدب أعفاه من أخذ شيء من ماله، وقال له: إن العلماء والمشايخ والقسس يجب ألا يضايقوا، بل ينبغي أن يُعطوا ولا يؤخذ منهم شيء؛ لأنهم وقفوا أنفسهم على خدمة الخلق، وكان من جملة المخدَّرات المسافرات في هذا الركب إحدى ذوي قرباي، فأخذ منها بواسطة زوجها أساورها فقط. ذكروا من جملة حكايات ذاك الشارد أنه اجتاز به شاب مع عروسه، فسألهما عن المكان الذي يقصدان إليه، فقالا: إنهما ينويان قضاء شهر العسل في القرية الفلانية، فسألهما عن المبلغ الذي أَعَدَّاه لذلك، فذكراه له، فطلب منهما أن يرياه ما في حقيبتهما من دراهم، ولما أيقن أن المبلغ ضئيل قال لهما: هذا لا يكفيكما، وأخرج من جيبه مبلغًا لا يستهان به وقال لهما: خذا هذا تستعينان به على نفقة الشهر على ما يجب، ودعا لهما بالهناء والرفاء. أليس هذا الشاب الذي وصفوه بالشقي، وما هو به في فطرته، أشرفُ من بعض من يتصدرون في المجالس ويتبجحون بالصيانة والدين وهم طبقة ما نديت أكفها بكرم، ولا هزت نفوسها أَريحة؟
حدثني العلامة طه الراوي العراقي قال: أخبرني شيخ قبيلة المناع من المنتفق أن شيخًا من شيوخهم يقال له: حُمُود غزا قبيلة من قبائل العرب فاستولى على أموالهم ومواشيهم، وانهزم رجال القبيلة ونساؤها من أمامه، واحتل الغازي بيت الشيخ، وبينا هو جالس إذ أقبل هَوْدج على جمل ولم يزل يقرب حتى أُنيخ الجمل أمام بيت الشيخ، فسأل الشيخ عمن في الهودج فإذا صوت امرأة تقول إنها جاءت لتلحق بخول الشيخ؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش بين نساء قبيلتها، والسبب في ذلك أنها عروس بُنِيَ بها بالأمس، ووقعت النكبة على قبيلتها صباح اليوم التالي أي: غداة، ليلة البناء، فأصبح النساء يتشاءمن بها فلم تجد بدًّا من الالتحاق بالشيخ حمود ليجعلها ضمن السبايا، ففكر الشيخ قليلًا ثم نادى في أعوانه أن ارتحلوا في الحال، ولا يأخذ أحدكم شيئًا من أموال القبيلة وأنه وهب جميع هذه الغنائم لهذه العروس، فعليها أن تطمئن مع زوجها فلا يتشاءم بها نساء القبيلة، ورحل تاركًا وراءه الغنائم كلها، والعروس لا تزال في هودجها، لم يهتك لها ستر.
ومن الأشقياء من كانوا يعفُّون عن ركوب الخنا، وتبدو منهم أخلاقٌ قد لا ينطوي على مثلها بعض أولئك الذين ندعوهم بالراقين، ورأينا كثيرين من الأشقياء تسمح نفوسهم للفقراء مما كانوا يسلبونه من الأغنياء، ومنهم رجل اشتهر في إحدى الولايات التركية كان مثال الأخلاق الفاضلة والسماحة العجيبة، وما كان هدفه غير الأغنياء، ثم هو ينصفهم إذ يسلبهم، وما تعدى على عِرض قط، ولا أراق دمًا بدون حق؛ ولذلك أعجز القبض عليه حكومة تلك الأيام، وكان الأهالي يعجبون بأخلاق ذاك الشارد ويخبئونه في بيوتهم.
وعرفت شابًّا سار على طريق نهب السابلة مدة، فاعترض في بعض غزواته راهبات كن يقصدن ديرهن، وكانت بينهن راهبة جميلة الطلعة، فأحب أحد رجال العصابة أن يعتدي على عفافها، فصرخ فيه صرخة دوى لها الجبل والوادي وقال له: يا فلان إنا نريد ما عليهن من الذهب فقط، فلما جيء به إلى المحكمة مع الراهبات سئلت الراهبة الجميلة عما إذا كان رئيس العصابة هذا الشاب هو الذي استلب منهن صلبانهن ودراهمهن، فتأملته باسمة وقالت: لا، ليس هذا، فبرأته المحكمة. فلما رأى ذاك الشارد من مروءة الراهبة ما قدم هو مثله معها يوم قطع طريقها، ذهب من الغد إلى المكان الذي كان دفن فيه الصلبان والذهب وردها برمتها إلى الراهبات المحترمات.
ولهذا الرجل قصة وقعت لي معه، ذلك أني كنت في جريدتي أكتب حوادث اعتداءاته على بعض أبناء السبيل، وأحث الحكومة على القبض عليه، وكان هو ممن يقرأ الجرائد، ويعرف ما يقال فيه، وساقتْه الأقدار إلى أن يختبئ في دار أحد أصدقائي في قريتي، ورآني أكثر من مرة وأنا ممتط فرسي وهو مختبئ في طريقي، وسط السياج في بعض الحقول البعيدة عن المزرعة، وبيده بندقية، وما أحب أن يطلق عليَّ عيارًا ناريًّا منها وقال إن هذا الرجل وإن كان يؤذيني في جريدته إلا أن القوم يحبونه وينتفعون بما يكتب. وهو من أُسرة ما كانت الشقاوة إلا عارضة في ابنهم هذا، وتاب بأَخَرَة وحسنت سيرته.
وإذا جئنا نحلل روح أولئك الذين يزعمون لك أنهم من أبناء بيوت نابهة، وقسناهم ببعض أُولئك الذين غلا الناس في الضرب على أيديهم، نجد فروقًا جوهرية بين الفئتين، فإن بين من كتب لهم ظهور ونجَوا من طائلة العقوبات، وهم يستحقونها، وبين من يعدون في العرف من الطبقات النازلة بونًا في الأحايين، وفي هؤلاء قد ترى مسحة من فضيلة عَرِيَتْ منها نفوس بعض أولئك العيون. إن المجتمع قد يُعلي من لا يستحق إلا الخفض، أو من هو حريٌّ بالصفع، وقد يُسقط من هو أهل أن يقام له بعض العذر فيما صار إليه.
لقانون الرجعة سلطان مبين على الرجال والنساء، لا تخفِّف وطأته إلا التربية الصالحة، ولا بد مع ذلك من توالي بطون حتى يسلم الدم، وتصفوَ الأمشاج، وتلطف الأخلاط. ذكروا أنه وقع لكافور الإخشيدي ملك مصر، وكان عبدًا زنجيًّا، ما أنكره منه خاصته وأنكره هو من نفسه، فتداركه بجربزته ودهائه، ذلك أنه عزفت الموسيقى يوم الحفل مرة فأخذ يهز كتفه كما يهز العبيد أكتافهم إذا طربوا وتواجدوا، فنظر إليه وزيره نظرة المستنكر، فأدرك كافور غلطه، وأن حركته لا يليق صدورها من ملك، فما كان منه إلا أن دام على هذه الهزة عند سماع الأنغام وعند انقطاعها، حتى اعتقدت رعيته أن الهزة في كتف ملكهم طبيعية لم يأتها يوم أتاها أول مرة من خفة تلحق بالعبيد.
قَلَّ أن تخلفت قاعدة الوراثة حتى بعد قرون طويلة. في إحدى قرى غوطة دمشق أُسرة تعرف ببيت السفياني نسبة لأبي سفيان بن حرب جدِّ بني أُمية، وكان جدهم السفياني قام بعد ذهاب مُلك أهله في القرن الثاني يدعو لدولتهم، ويجاذب العباسيين حبل السلطة. ولا تزال هذه الأُسرة تحافظ على آدابها العربية القديمة، ما عُهدت لهم أذية، وقَلَّما يجرؤُ أحد على إيذائهم، ولهم نمط خاص في خَلقهم وخُلقهم لا يشبهون فيه جيرانهم، ويبدو النُّبل في شمائلهم، فهم لا يشتمون ولا يسبون ولا يجدِّفون ولا يحلفون بالطلاق، ولا بالأَيمانات المغلظة عند كل حديث، هم مثال ظاهر من الوراثة والرجعة ومصداق المثل الإفرنجي «الدم الطاهر لا يكذب.»
ومن تأثيرات الرجعة أن تجد النساء على اختلاف طبقاتهن وأعمارهن وعصورهن مولعات بالزينة إلى حد الجنون، وقد تأصل حب الزينة فيهن منذ كانت الدنيا إلى أن يأذن الله بفنائها.
قانون الرجعة ماثل في الإنسان والحيوان في الخَلق والخُلق، وصحيح ما قالوه قديمًا إن العرق نَزَّاع، والعاقل لا ينظر من الناس إلى صورهم فقط، بل يتدبرهم في كل ما طرأ عليهم، ويُطيل النظر في أمورهم ويقيس حاضرهم بغابرهم، ولا عبرة بالثوب الظاهري فقد قيل في الأمثال الفرنسية: ليس الراهب بثوب يلبسه، ولا الحَساء الجيد بما كتب عنه من إعلان.