القول في المستهزئين
من عادة المستهزئين أن يستخفُّوا بصاحبهم وعدوهم، وبمن يعرفون وبمن لا يعرفون، واستخفافهم بالقرباء أكثر من استخفافهم بالبعداء، وبالأحياء أكثر من الأموات، وبالعالمين أكثر من الجاهلين، ويتناول استخفافهم كل صاحب فضيلة، ومن يقوم بما لا تحتمله حوصلتهم ولا تتصوره عقولهم. يستهزئون بالشيخ والعجوز وبمن به عاهة كفقد بعض جوارحه وحواسه، وهذا من أنذل أنواع الاستهزاء لهزئهم بمن ليس له يد في تشويه خلقته، وربما كان من الناقمين على هذا النقص الطبيعي فيه.
ولا يستحي المستهزئ أن يطلق على من يستخف به ألفاظًا جارحة يصغِّر بها من شأنه، فعل عدو لدود ضاقت به سبل الانتقام فلم ير إلا شقشقة لسانه يشفي بها ضغينته، والمستهزَأ به يكون، على الأغلب، أعلى منزلة وأوفر رزانة من المستهزئ فيتفنن هذا في وصفه بأشنع الأوصاف ليصرعه، بزعمه، صرعة لا يقوم بعدها.
السخرية كالهجاء لا تصدر على الأكثر إلا عن موتور مغرور، وقد يصرف المستهزئ وقتًا في هزئه ولا يصل منه إلى المستهزأ به إلا رشاشات قليلة، وبخاصة إذا كان هذا ممن لا يهتم لما يقال فيه، أو يعرف أن المستهزئ يزيد في عَبَثه إذا ما رأى أن قوله في المستهزأ به مما يؤلمه، والمستهزئ يظن عند نفسه أنه بلغ أُمنيته من ضرب المستهزأ به في الصميم، ويحسب أنه كلما أكثر من قذفه استحسن الناس ما صدر عنه ونال من المستهزأ به ما لا ينال منه السلاح الماضي والقذيفة المردية.
قالوا: الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم. وإن المرء ليشهد حيث انقلب اليوم أحقادًا لا تنطفئ جذوتها، وعداوات يتساجلها المتعادون بسبب وبلا سبب. ومنها ما ينتهي بإهلاك من حنق عليه الحانق، وإيذاء المستهزأ به في شرفه وصِيته وماله أقل ما يوجهه المستهزئ إلى من يريد الحط منه، والعقلاء يمرون بما يسمعون مر الكرام باللغو، وربما حفزت الحمية بعضهم فدافعوا عن المستهزأ به وصغروا سيئاته وجسَّموا حسناته؛ نكاية بمن يتعمد الكذب على الأبرياء، وربما زادوا في إعظام شأن من وقع التحامل عليه، على نسبة اشتداد المتحامل في تحامله، والأُمة مهما كثر فيها من يميل لسماع الشر لا تعدم فريقًا يحب الحق ويرتاح للخير.
داء الاستهزاء قديمٌ في العرب فقد حدَّثنا القرآن أن من ضروب الإيذاء الذي كانت قريش تؤذي به الرسول — عليه الصلاة والسلام — في مبدأ دعوته السخرية به. وسمى المؤرخون بضعة منهم. وقد كفاه الله شرهم وخذلهم بما جَنَت أيديهم وقذفته ألسنتهم، ورأينا أهل الشام — أي: العرب الذين نزلوها في الفتح منذ القرون الأول — يستخفون برجال الدولة ويلقبون الخلفاء فمن دونهم ألقابًا يقصدون بها السخرية منهم والولع بهم.
ومن جعلوا الاستهزاء ديدنهم وأغرقوا في استعماله لا ينتهون منه إلى حد متى بدأوا به، وقد يؤدي استهزاؤهم إلى الإضرار بالمستهزأ به في ماله وجسمه لا يبالون عاقبة ما يجنون إذا كان في سخريتهم ذريعة إلى الانتقام، أو باب لضحكهم وإضحاك رفاقهم. ومثال من هذه السخرية المؤذية ما ارتكبه ضِيفان الواساني من شعراء اليتيمة، وقد غلا في وصفهم في قصيدة له، سَجَّلَ بها ما اجترحوه من سخف قبل أكثر من ألف سنة، وما زال بعض ما أتوه مألوفًا إلى اليوم في بعض البيئات الشامية، والأخلاق تُتوارث وتتناقل.
رأيت وسمعت أن من المستهزئين من يشق معطف من يهزأ به أو صدرته أو قميصه أو قفطانه أو سراويله أو طربوشه أو عمامته أو قبعته أو حذاءه أو نعله. ومنهم من يقطع له قماشه أو رياشه أو لحافه أو فراشه أو طنفسته أو ستارته أو فوطته. ومنهم من يبلغ به حب الأذى إذا وجد صاحبه مستلقيًا أو نائمًا أن يشبك أحد أطرافه بخيط أو دبوس فتتأثر بعض أعضائه عندما يتحرك وينهض، ومنهم من يطعم المستهزأ منه لقمة مغموسة بشيء يضر بصحته، أو تَغْثَى منها نفسه، أو ينشقه مادة يكثر بها سعاله وعطاسه إِلى آخر حركاتهم السفيهة.
واعتاد بعض الخبثاء أن يستخفوا أيضًا بمن يعمل لمعاشه في حرفة يزعمون أنها دنيئة، وما كان في الصناعات الدنيء، وإنما الدنيء ما ثلم الشرف وعبث بالكرامة، وهم يسخرون بمن يقضون حوائجهم بأنفسهم، فينقلون طعامهم وحاجات أهلهم، ويحملون أولادهم بأيديهم، وإذا كان من يستجيز لنفسه ذلك من أهل الدولة والصولة عَظُم عيبه في أعينهم وراحوا يستفظعون ما أتاه ويُجَرِّحونه ويثلمونه. سخافة لا تدانيها سخافة، فإن هذه الأمور مهما قال فيها ضعاف المدارك لا تقدح بمروءة من يعانيها، وهي، على العكس، توجب احترامه.
ومن أشق ضروب الاستهزاء ما تدرج إلى المعنويات وصدر عن جماعة، وكل ما يمليه الباطل من هذا القبيل يعود بالضرر الشديد على مرتكبيه، فقد رأينا من ديدن عامة أهل الحواضر الهزؤ بأهل القرى يُدِلُّون عليهم بجميل أذواقهم، وسلاسة لهجاتهم، وحسن هندامهم وأزيائهم، وظريف أَحاديثهم وسمرهم، ويتوفرون على السخرية بكل غريب، ويعجبون من كل طارئ، ثم هم يتحاشون السخرية بمن وَقَرَ في نفوسهم أنهم من الشعوب الراقية. ولا يقدِّر غُباة المدن أنهم بسخريتهم بأهل الريف يعلنون حربًا دائمة على أَجْزل أجزاء الأمة نفعًا، وأن الفلَّاح بكسر المدني قَلْبَه كل حين ليكيل له الصاع صاعين متى أمكنتْه الفرصة. يهزأ المدنيون من الفلاحين، وكان أعظم رجل في الملة قديمًا لا يستنكف من معالجة زراعته بيده، يحرثها ويبذرها ويسقيها وينقيها، ولا يعد ذلك منافيًا لوقاره ولا ذاهبًا بمكانته.
وقع اختلاف مرة بين روسيا واليابان، وكانت اليابان في أول نهضتها مغمورة غير مشهورة في الغرب، فوقف روس القياصرة من خصومهم موقف الساخر، وأخذوا يعيرون اليابانيين بقصر قاماتهم ونحول أجسامهم وضيق عيونهم، وتعدَّوا ذلك إلى الاستخفاف بعدتهم وعديدهم، وما إن نشبت الحرب بين الدولتين حتى مزق الأقزام شمل العماليق، وقضى العدد القليل المنظم على العدد الكثير المختل، وكُتبت الغلبة لمن جَدُّوا، والهزيمة لمن استهزءوا، وأبان اليابان في تلك النازلة عن عبقرية في فنون القتال البري والبحري دهش لها العالم الغربي، وأقر الغرب للشرق لأول مرة في التاريخ الحديث ببلوغه درجة راقية من التمدُّن، وشهد الأوروبيون والأميركيون للآسياويين بالشجاعة والإقدام على العظائم والرسوخ في الحضارة، وكل هذا لا يَثْبُت لدولة في نظر الغرب إلا إذا أرهفت الحد وأهرقت الدم. جَرَّ هذا البلاءَ على روسيا استهزاؤها باليابان يومئذ، وكان مما جرى عبرة لكل فرد ولكل أمة في الأرض.
قد يقول المستهزئ، فيمن يحرص على أن يقصر به: ومن هذا فلان حتى تشيد الأمة بذكره! أنا على يقين أن كل ما يُعزى إليه أو يقوله لا يَدَ له فيه، وهل بلغ من قدره أن ينظم قصيدة، أو يكتب مقالة، أو يؤلف كتابًا، أو يحبر خطابًا، أنا لا أعتقد أنه يحسن شيئًا من هذا، على أن ما ينتجه ليس بشيء؛ فإني عرفته وهو في المدرسة الابتدائية، فكيف له أن يدعي الآن ما يدعي؟ ولا يكون المدى بين عهد المدرسة وقول المستخف أقل من عشرين عامًا، كأن عقدين من السنين لا يكفيان ليتم الذكي خلالهما تعليمه ويتقن صنعته.
وربما نفع المستهزئون من يهزئون بهم فيكون مما يختلقون مهمازٌ يدفع من استهدفوا لسخريتهم إلى التصلب في آرائهم فتحقق بالثبات أمانيُّهم، وشهدنا من صبر على مرارة الاستهزاء كيف أفلح وخاب المستهزئ، وربما أَثَّرَ تهكمُ المتهكمين ببعض ضعاف النفوس فصدهم عن مقاصدهم. وقد تفرغ هذه الفرقة الساخرة استهزاءها في قالب النصح والشفقة، أو تسوقه في معرض التخويف والتحذير، والقصد مما تتحيل له أبدًا وضع العقبات في طريق من يعز عليها مشاركتهم في مزاياهم. وكم من قريحة كُبتت بفعل المستهزئين فما انبعثت إلى الحد الذي كان مقدرًا لها.
أدركتُ عهدًا كانوا يعدون فيه الفنانين وأرباب الحرف الحرة من أرباب الصناعات الدنيئة، لا يتمالكون من إعلان سخريتهم بهم. رأيتهم يتهكمون بالموسيقار والمغني والشاعر كما يسخرون من الممثل والصحافي والمحامي، ومن لم يتقلقل بما أسمعوه من عبارات السخرية لم يمض عليه زمن طويل حتى شهد أولئك المستهزئين يقرون جهرة بشرف هذه الصناعات، ويزعمون أنه لا بأس بتعاطيها لمن آنس من نفسه استعدادًا لها. وما بهرهم في الحقيقة منها غير ما رأوا من الأرباح التي كان يجنيها أربابها.
وكنت أتساءل — وأنا أشاهد قِحَة المستهزئين بالموسيقاريين والمغنين والشاعرين، ثم من الممثلين والصحافيين والمحاميين — لم لا يهزءون يا ترى بالمزورين والمرتشين والمتجسسين، كأنهم ما وصل إلى سمعهم حديث الموسيقى والغناء والشعر، وما كان لها من رفيع المنزلة في الدول العربية الأولى، وكأنهم لم يبلغهم أن التمثيل والصحافة والمحاماة نوع جديد من الأدب والقضاء والتربية يعد أهلها من أعلياء القوم، وكأن الأديان ما حظرت التزوير والرشوة والتجسس. ولكن كتب للشرقي أن يستريح إلى هزله أكثر من جده، وللغشَشَة من أهله أن يهينوا من لا يستحق إلا الإكرام والإعظام.
لَمَّا شرع أبو خليل أحمد القباني في إقامة بنيان التمثيل العربي في دمشق، وأنشأ يضع رواياتٍ مسرحيةً من تأليفه ونظمه وتلحينه، يمثِّلها أحسن تمثيل، كان المستهزئون من حُسَّاد فضله يصفونه بأوصاف يضمنونها معنى التحقير، وما زال أرباب الغباء إلبًا عليه حتى استصدروا إرادة سلطانية بإقفال مسرحه فرحل إلى القاهرة وفيها ظهر نبوغه. وقد وقعت لأبي خليل هذا حادثةٌ تبين منزلته عند المدركين، ذلك أن أحد الأعيان احتفل لتلاوة قصة المولد النبوي في ولاية الوالي مدحت باشا، وكان هذا الوزير العظيم من المعجبين بأدب السيد القباني، ولما حان وقت تلاوة المولد قال الوالي لصاحب الدار: قل لأبي خليل القباني — وكان في آخر صفوف المدعوِّين — أن يقرأ هو المولد، فدهش صاحب الدعوة من هذا الاقتراح، ورأى فيه افتئاتًا على الفقهاء، وقد جرت عادتهم أن يتولوا هم تلاوة هذه القصة الشريفة، يقرءونها في نسخة مطبوعة مشكولة أُلفت في عهد ضعف التأليف. ثم عاد الوالي التركي فأكد مقترحه مرة ثانية على صاحب البيت فما وسعه إلا امتثال أمره مستغربًا تقديم الممثل على الفقهاء، فارتجل أبو خليل قصة من نمط لم يألفوا مثله، أخذ يعدِّد بصوته الرخيم أثر الرسول في هداية البشر، ولم يذكر ما سبق الولادة من العجائب التي اعتادوا إيرادها؛ ذلك لأن عظمة الرسول تجلت في نبوته لا في طفولته. وكان الوالي يبكي ويشهق طوال ساعة المولد، وقد قصد باختصاص القباني بقراءة السيرة الشريفة أن يشير لمشايخ الرسم أن هذا الممثل الذي تسخرون منه لا تلحقون غباره في كثير من الصفات، وإذا عددتموه صاحب بدعة، تعصبًا وتزمتًا، فهو فرد في صناعته.
يستهزئ المستهزئون بمن يتوهمونه أهلًا للاستهزاء، في نظرهم، فإذا لم يظفروا بما يسيئه ويجعلون منه موضوعًا لهزئهم اختلقوا ما لا أثر له في غير مخيلتهم. ومن رعونة بعض المستهزئين أن السيد محمد عابدين، أكبر فقهاء القرن الماضي — وكان من أبناء التجار تفقه في الدين لا ليتولى القضاء ولا الإفتاء، ولا لينال الحُظوة من الرؤساء والأمراء، تفقه ليخدم الشريعة وينفع المسلمين بعلمه — لما بدأ يؤلف وهو دون العشرين لجأ بعض المثبطين إلى طريقتهم في الاستهزاء فكان يبسم لهزئهم، ويتجاهل ما يُبَيِّتون لدفعه عما عقد العزم على المضي فيه. وما زال يَصُمُّ أُذنه عن مهازلهم حتى اشتهرت تآليفه وفتاواه في حياته، وكتب له الخلود وللساخرين الخزي. ولو عبأ ابن عابدين بالمستهزئين لضاع على الأمة عالم عظيم نظم لها فقهها كما انقطع عن العلم عشرات من العلماء قبله بخبث المستهزئين.
ولا أزال أذكر ما كان يلقى مؤسس بنك مصر من استهزاء بعض معاصريه عندما كان يفاوضهم في إنشاء مصرف يحفظ للمصريين بعض ثروتهم، ويطلعهم على مسائل اقتصادية ومالية كانت وقفًا على الأجانب يستأثرون وحدهم بثمراتها، وكان كلما سخر منه الساخرون زاد اعتقادًا في نجاح دعوته، حتى وُفِّقَ إلى إنشاء مصرفه ورفع عن أمته عار الجهل بسياسة المال، وكل مشروع نافع استقبله المستهزئون، لأول إنشائه، بأسلوبهم الماكر، وغض القائمون الطرف عما يقال فيهم خاب فيه المستهزئ ونجح المستهزأ به.
الاستهزاء داء من أدواء الشرق وما أكثر أدواء هذا المسكين.