القول في الهمازين اللمازين
كلما تأملت حال اللمازين في عصرنا — واللُّمزة من يَعيبك في وجهك، والهُمَزَة من يعيبك بالغيب، أذكر ما وقع لأحمد بن يوسف الكاتب وهو يقرأ الرسائل في حضرة المأمون، وقول الخليفة له — وقد مَرَّتْ قصة أصحاب الصدقات: انظر في أمرهم قد كثر ضجيجهم. فقال: قد نظرت في أمرهم وفررته، وكلهم أهل تعدٍّ وظلم، وبالباب منهم جماعة، فقال المأمون: أدخلوهم. فدخلوا فناظرهم، فاتجهت الحجة عليهم، فقال أحمد: هؤلاء ظلَّموا رسول الله كيف يرضون بعده، قال الله — عَزَّ وجل: وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ.
اللمَّازون جيل عجيب من أجيال الخلق، لا تراهم إلا متأفِّفين متبرِّمين، غاضبين على الأيام، حربًا على البشرية، كأنهم يطالبونها بطوائل لهم وثارات، ويتربصون الدوائر بمن صفا لهم الزمان، وأفلحوا بعض الشيء في تحصيل أرزاقهم وتحسين مظاهرهم، اللمازون يشاركون الممسوسين والمهووسين في كثير من الأوصاف، يُنحون عند كل سانحة على من ألقى في رَوعهم أنهم حائلون دون تقدمهم، ويتوهمون أن في إزالتهم من طريقهم فرجًا لهم ومخرجًا، يضمرون في قرارة أنفسهم أنه لا حياة لهم إلا إذا عابوا واغتابوا، وأنهم لا يصلون إلى حقهم المهضوم إلا إذا أكثروا الغمز واللمز، ويتأصل هذا العيب فيهم حتى لو أرادوا التخلي عنه ساعة ما استطاعوا، وكلما زاد إخفاقهم وسُدَّتْ في وجوههم أبواب الرزق، وحالت بينهم وبين الظهور حوائلُ، اسودتْ الدنيا في أعينهم.
اللمازون ما رضوا عن أحد ولا رضي عنهم أحد، تشهدهم في وجوم وحسرة، سُلبوا راحة النفس، ورضى القلب، ومطامعهم عظيمة حتى لو نالوا عامة أمانيهم لنشأت لهم من الغد أمانٍ أخرى، يخرجون من ضيق إلى ضيق، ويدافعون القلق بعد القلق، وحياتهم عليهم وعلى غيرهم لا تخلو من مصيبة، يعيشون كارهين مكروهين، مُعابين عَيَّابين، يظلمون غيرهم، ويعتقدون أنهم مظلومون، يعترضون على المولى في أحكامه، وعلى السلطان في تصريف أُموره، وعلى الناس وما تواطئوا على استحسانه واستهجانه، يمارون في كل ما يسمعون ويرون، لا يُخْلُون من ثلبهم أحدًا، ويعتقدون التفوُّق على كل إنسان في كل شيء.
اللَّمَّازون تنم سَحَنات وجوههم عما تُكِنُّه أنفسهم، وتبدو لعينك نزغاتهم من حركات شفاههم، وخَلَجات أطرافهم، وهواهم أن يستكثروا من الباكين والشاكين حولهم، ويتطلبون منك أن تتألم لألمهم، وتشاركهم في نكبتهم، وتشايعهم على أفكارهم، وتعترف بفضائلهم وغَنائهم، وهم إلى هذا يوهمونك أنهم أغنياء عنك وعن غيرك.
وقاعدة «خالف تُعرف» ماثلة في الهَمَّاز اللماز المثول كله، يبدو بمظاهر غريبة أمام من يحاول إقناعه بصدق حديثه، وسواء جاز المضحك والمبكي من كلامه على أهل البصيرة أم لم يَجُزْ فهو يفرِّج عن صدره بالانتقاص من قدر مَنْ تقدمه، أو حال، بزعمه، دون تقدمه. وقاعدته التي لا يحيد عنها أن يبغض كل الناس ويتنقَّص كل الناس.
اللَّماز لا يرى لأحد مزية، ولو كان هذا، بالإجماع، أعلى منه قدرًا وأحكم أمرًا، ومن طبعه أن يلمز الأحياء والأموات ويخص الأحياء بالمقدار الوافي من لمزه؛ ذلك لأن من أصول اللمز ألا تثبت لأحد مزية، ومن خصائص المبتلى بهذا الخُلُق أن يقنع من حوله أنه منقطع القرين، وما هو إلا نقمة على كل صاحب نعمة، لا يتعمد إلا الكبراء بلمزه، على الأكثر، يشير إلى أنه من قوة الشكيمة بحيث لا يبالي بعظمة أصحاب المقامات، ويجسر عليهم لأنهم في حكم بعض أقرانه أو في درجة بعض مريديه، وما قدمهم عليه إلا سبقهم في الميلاد، فشهرتهم ابنة الأيام فقط، ولو عقل الزمن لجعل له الصدارة في كل شيء، ولقَصَرَ عليه التوفيقَ دون سائر لِدَاته ومن كان قبل لداته.
ويالله كيف تفيض بالغيظ نفس اللماز إذا تجاوزه بعض أترابه إلى منصب راقٍ، أو إلى الوقوع على رزق أجدته عليه العناية، وهو المعتقد بأن كل سعادة يجب أن تكون موقوفةً عليه دون غيره، ولا يدري أن أرباب العبقريات كثيرًا ما تَخَطَّوْا أقرانهم، وأن مقاييس السعادة قَلَّمَا تطَّرد، وأن للتوفيق أسبابًا أخطأها فتَخَطَّتْهُ إلى غيره.
ويُصاب بهذه العاهة أنصاف المتعلمين، على الأكثر، ومن أَوْرَثَتْهم شهاداتهم المدرسية شمخًا في أنوفهم، فراحوا يعتقدون أن من تعلم صفَّ جملتين، وحلَّ مسألة أو مسألتين، حقيقٌ أن يتولى لأول ظهوره أرقى المراتب، وأن يُصبح من أرباب الجاه، ويُجعل ناظورة كل مجلس، وموضع كل إجلال، ومثابة كل نوال.
رأيت من هؤلاء اللمازين من يهون عليه انتحال كل مذهب، والاندماج في كل حزب، ومنهم من بَدَّل لقبه ونحلته غير مرة، وبينا كنت تراه مع المجددين، إذا هو في جملة الحشويين، وبينا هو ملحد يجهر بإِلحاده لا يبالي، إذا هو من الغد في زاوية مع أهل الطريق يتواله ويتواجد، وبينا هو يتقبل كل ما في المدنية الجديدة بقبول حسن، إذا هو رجعي ينبذها نبذ النواة. وبعض من كانوا على هذه الأخلاق اعتبطوا قبل الكهولة، وما حملوا إلى قبورهم إلا الحسرات والتأوهات، ومن طالت أعمارهم انقضت في سلسلة من الآلام.
شاهدت طوائف منهم كانوا يظنون أن ما لقفوا من معلومات، وحملوا من شهادات وإجازات، شيءٌ نادر لا يصل إليه أحد بعدهم وما وصل إليه أَحد قبلهم، وإذا سألتهم وأنتم ماذا عملتم؟ جمجموا واعتذروا بأن الزمان ما صفا لهم، ولو سالمهم لتَمَّتْ على أيديهم العجائب، أما هم فلا يرون في باب الاعتذار عن قصورهم أحسن تسلية لهم من الطعن في العاملين، وهم ما عملوا ولن يعملوا وما علموا ولن يعلموا.
رأيت لمازًا من هؤلاء المفتونين جمع إلى قلة العقل قلة الأدب، دخل عليَّ في وزارة المعارف وهو مستخدَم في بعض مدارسها، ولم أكن أعرفه من قبل، حتى إذا أخذ المقعد الأول أمامي بدأ يكلمني كلام المغيظ المحنق، ثم أخرج من جيبه مرآة يتراءى بها ومشطًا يمشط به جُمَّته، وأبرز زجاجة يدهن منها شعره المسترسل ووجهه المحفف، كأنه في غرفة نومه، أو في حانوت مزين. فأَقبح بهذه الحرية التي تذكرني بما كان يأتيه أحد الرؤساء من التهتك في عاصمة دولة أخرى، وقد كان يشرب علنًا في إحدى الحانات، ويجمع إليه بنات الهوى يداعبهن أمام الماجنين أمثاله، ولما قلت له: إن هذا لا يليق بمن كان في مثل منصبه أجاب إنها حريته يتمتع بها. فقلت له: إنه ليس حرًّا ما إن تقلد زمام الأمر والنهي، ومما يطلب منه أن يراعي شعور أُمته، وقلت له: هل رأيت أحدًا قط من كبراء الدولة التي تنزل في أرضها يفعل مثلك، أما هو الأَحزم أن تستتر في دارك إذا كان لا بد لك من هذا الاستهتار؟
أطلعني أحد أصدقائي من وزراء المعارف على إضبارة برقيات، وردت عليه من فريق من الطلبة والمعلمين، يحتجون على نقل معلِّم اقتضت المصلحة نقله إلى بلد قريب، فقرأت في هذه الاحتجاجات صورة من صور اللمازين، وأيقنت أن أدب الدرس إذا لم يقرن بأدب النفس لا ينتفع بالطالب أهله ولا وطنه ولا ينتفع هو بنفسه، فمنهم من قال: إن الرجل المنقول وقع عليه هذا الحيف؛ لأنه قاوم النازية والفاشستية، ومنهم من قال: إنه ينطق في هذا الاحتجاج بلسان الشيوعية، يوهم الوزير أن صاحبه شيوعي، ومنهم معلم صعلوك خاطب وزيره بقوله: (أخوك، ويَا أخي) كأن الوزير بعض أقرانه! وكان معظم المحتجين من اللمازين ومن الأغبياء أنصاف المتعلمين.
وقد يَكثر اللَّمَّازون في أصحاب التعليم العالي، والمفروض فيهم أنهم علَت مداركهم عن مستوى العامة، وهم ما امتازوا عن العوام إلا بالثرثرة وإطالة اللسان، وربما كان في هؤلاء من الصفات ما يُستحب، والعامي إذا ظلَّ على فطرته أخف شرًّا من الذي أخذ تافهات العلم، وقعد مقعدًا ظن نفسه معه أنه صار، حتمًا، إلى السمو والبسوق.
يقول «سانت بوف» إن كثيرًا من أمور المجتمع والحياة والعالم الحديث يُعَلَّم في الهواء، وفي الجو الطلق، ويقوى بالاتصال الذي يحدث للمرء كل يوم مع مواطنيه، فالاعتمادُ على الفحوص المدرسية فقط للحكم على الرجال غيرُ صحيح، وهنالك إلى جانب المعرفة معرفة حسن السلوك مع الناس، فالمدارس لا تُعَلِّم الطالب ثقوب الذهن ولا توحي إليه الكياسة والذكاء.
عرفت رجلين، بلغ الأول أكبر مقامات السياسة، ووثب الثاني إلى مرتبة علمية عالية، وما شهدتهما إلا نمطًا واحدًا في الفتوة والكهولة والشيخوخة، قَضَيَا العمر الطويل وما أقرا حياتَهما لأحد بفضيلة، وما حسدا إلا صاحب فضل، يختلقان المساوئ علنًا ويغمطان الحسنات صراحة. ما سمعتُهما أَثْنَيَا على إنسان، ولا فَرِحَا بسعادة إنسان، يعترضان على كل شيء، ويسخران من كل من فاقوهما بالمطبوع والمكسوب من الصفات. ومدحهما وقدحهما عن هوًى في النفس، فهُما مثالُ التناقض في عامة أحوالهما، بلغا سن الشيخوخة وما أقصرا عن الغضب على المدركين المتميزين في بلدهما وغير بلدهما، يتحسران أبدًا؛ لأن الأعمال العظام ما وُسِّدت إليهما ليُسعدا هذه الأمة، وشأنهما شأن مستخرجي الكنوز وأصحاب الكيمياء لو صدقوا في دعواهم لكانوا أَغْنَوْا أنفسهم أولًا قبل أن يحاولوا نَفْعَ غيرهم.
لم يعمل اللُّمَزَة الأول عملًا يذكر به، وأخطأه التوفيق في كل ما حاول من مشاريع للظهور بمظهر أرباب المدارك، ورأيته يلمز أصحاب المكانة ويصانع الصعاليك ويتحبب إلى المارة في الطرق، يسلِّم على من لا يعرف، يتودد إلى الأداني والسِّفْلة، ويلمز الفضلاء والعِلْيَة، ولطالما شُوهد يستزير العامة ويزورهم في الأفراح والأتراح، يشيع جنائز من ليس له بهم صلة، ويحضر الولائم والأعراس، وهو لا يميز بين صاحب الدار ومدعويه، ولا يعرف اسمه ولا اسم أحد من أهله.
والثاني كتب أشياء في صباه، وكان يرجى منه إذا اطرد عمله أن يكون له شأن في صناعته، ولكن طغت الشهوات عليه مقرونةً إلى المبالغة في الظهور بمظهر لم يظهر به أحد معاصريه، فسكت نصف حياته الأَخير لا يكتب إلا ما فيه منفعة خسيسة، وعاهد ربه أَن يطعن في كل آن بالعرب ويمدح أعداءهم، بل يسعى لبسط سلطان هؤلاء على قومه، ولو تأملته حق التأمل لما رأيته يخرج عن طور رجل استخدم ما تم له من الأدوات في حرب أُمته، وأتعب قلبه ولسانه طوال حياته في الغض ممن جوَّدوا أعمالهم.
كنت إذا ذكرت أمام هذين اللمازين حسنة لرجل يُرجى أن يتم على يده بعض الخير يحملقان حملقة المنكر الساخط، ويُحَدِّقان النظر فيَّ كأن أتيت أمرًا إدًّا، وكان يلوح على سيماهما أنهما قد يغفران كل هفوة على أن يسمعا مثل هذه الإشادة بمن لا يستحقون مدحًا، ما كنت أنجو من سلاطتهما إلا إذا رجعت في الحال عن قولي واعتذرت عما اجترحت!
وبعد، فإن من أبشع ضروب اللَّمز ما صدر عن رجال الدين، يلمزون من لا يرضون عنهم باسم الإرشاد والهداية، والتصنعُ بادٍ عليهم لقلة علمهم وفرط بلاهتهم، ومن الرجال من يداوون جهلهم بالغمز واللمز لا تتعدى عقولهم ما ينيلهم شهواتهم، وإن محادثة الحراثين والباعة لأشهى إلى القلب من سماع هؤلاء المتعلمين، ففي هؤلاء الغرور وفي أولئك التواضع، ولشدَّ ما تأنف العقلاء من أمثالهم، حتى قال بعضهم: لأن أُزاول أحمق أحب إليَّ من أن أُزاول نصف أحمق، يعني: الأحمق المتعاقل.
وصفنا بعض النواحي من أخلاق اللمازين حتى كاد يدخل هذا الفصل في باب الأهاجي، وما هو به، وإنما مَثَّلْنَا بأمثلة مدركة ليستقر في الأذهان ما نقرر، والمثل يدعم القاعدة. وما أجمل ما قال أحد الظرفاء: «لقد عَييت باعتراض المعترضين، إذا ذكرت لرجل مساوئه في وجهه قالوا: إنها وقاحة، وإن عددتها في غيبته قالوا: هذه غيبة، وإن أوردتها بعد وفاته قالوا: ألسنا قد أُمرنا بأن نذكر محاسن موتانا، فمتى يا ترى يجوز في شرع هؤلاء المتزمتين نقد أخلاق الساقطين؟»
وبعد فاللمز مرض قتال، واللماز مجنون مصغر، وأنجع دواء في مداواته الإعراضُ عنه، والابتعاد عن سماع كلامه، والامتناع من مناقشته، فإن عشرته سجن الروح وعذاب القلب. واللماز قد يكون مصابًا بإحدى العاهات الطبيعية كفقر الدم وضعف الأعصاب أو فقد إحدى جوارحه، أو جاء من أبٍ مدمن أو من بيت تغلب البلاهة على أهله، فكان ابنه مجموعة غضب ونقمة لا يهنؤه إلا النيل ممن كانوا أفضل منه. ورد في الأثر: «الجاهل يظلم مَنْ خالفه، ويعتدي على من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه، ويتكلم بغير تمييز.»