القول في ثروتنا
تنتقل الثروة على الدوام بطريقة مطردة بين العاملين، ولا تدوم لصاحبها إلا إذا أحسن تنميتها بالمعقول، وأخذ منها وأدخل فيها بالأساليب الطبيعية، وفي العادة أن يطول بقاؤها في أيدي الزارع والصانع والتاجر خاصة؛ لمعرفتهم حساب دخلهم وخرجهم، ولأنهم ينفقون غالبًا بالمعروف لا يسرفون ولا يَقْتُرون، فإذا كان منهم من تطيشهم المكاسب الفاحشة، وخرجوا عن القصد والاقتصاد، أضاعوا ما جمعوا وما جُمع لهم. وهذا هو المشاهد في بعض الوارثين فإنهم قد يبددون ما ورثوا لجهلهم قيمة ما دخل إليهم، وعدم مرانهم على الكسب والجمع. ولا يشغف بالحرص على المال إلا من تعب في جَنْيه، وكلُّ ما أتى عفوًا صفوًا استُهين به، على الأكثر.
ومعلومٌ أن التجارة تحتاج إلى شيء من المغامرة، والمغامرةُ قليلة في الصغير من الزراعات والصناعات، وقد يربح مغامرٌ واحد من عشرات من المغامرين فيشتهر ويُغري غيره بانتهاج خطته. والإفلاسُ أبدًا مصير معظم من لجئوا إلى المضاربات والتجارات غير المحللة ليغتنوا بسرعة، وكذلك مَنْ تداينوا بالربا؛ لأن فائدته تربو عادة على ما تغله التجارة أو الزراعة أو الأملاك، ولذلك كان محرمًا في الشرائع؛ لما يحمل من مضارَّ ظاهرة.
أنعمت النظر في طبقات الناس الثلاث، فرأيت الغنيَّ يزيد دخله على خرجه زيادةً عظيمة، والمتوسط يتعادل معه الربح والنفقة وزيادة ريعه قليلة، والفقير لا يعرف له موازنة بين ما يجني وينفق، وضيقه أكثر من سعته. وأسعدُ الطبقاتِ الطبقةُ المتوسطة؛ لأنها لا تحتاج إلى غيرها، وليس من مواردها فضل يخرجها عن اتزانها. والمال مهما قيل في احتفاظ صاحبه به لا يتلكأ عن إنفاقه في غير وجوه صرفه يوم تتسلط الشهوات عليه، ويخدعه حب الظهور والتمجد، على أن في إسراف هذه الفئات حكمةٌ ظاهرة، وذلك أن الغنيَّ إذا جمع كل ما يُجبى إليه تَبطل الحركة الاقتصادية، فمِن الخير أن يتوسع في بذخه فإن في إمساكه جمودًا يعود ضرره على الطبقات الأخرى.
وَهِم بعضهم أن الثروة عبارة عن الناضِّ من الذهب والفضة، وما الثروة إلا العملُ المتواصلُ المنتج. وإن بيتًا يعمل رجالُهُ ونساؤهُ وأولاده لَبَيْتٌ مكتوبٌ أهلُهُ في عداد الأغنياء، وإن لم يملك رَبُّهُ أوراقًا نقدية ودنانير ذهبية. وبيتٌ لا يعمل فيه غير صاحبه ويجمع لبنيه وَرَقًا ووَرِقًا ليس بذاك. وصعب على مستحصل واحد أن يوسع على عدة مستهلكين، والفرد ما عمل ولن يعمل عمل عشرة.
ومن جمع مالًا ووظفه في أرضين وعقارات وأسهم وسندات يعد صاحب ثروة، إلا أن ثروته يَتَحَيَّنُها الخطر كل حين أكثر مما يتهدد صاحب رأس المال المتوسط الذي ينميه بتعقل. وكثيرًا ما ضاعت ثرواتٌ اعتمد أصحابها في تنميتها على المضاربات ونحوها. وصغار اللصوص إذا قنعوا بسرقة الألوف فإن كبارهم، وهم المضاربون، وأرباب الشركات المجهولة لا يقنعهم إلا أن يلتهموا كل ما تصل إليه أيديهم الأثيمة، ومن هذا الضرب أغنياء الحروب الذين يغتنون خاصة من أقوات الناس وكسوتهم.
لو أحسنت الطبقات الثلاث الانتفاع بالثروة، ويكون الانتفاع بها بعدم حيف الكبير على الصغير، لصلحت حال العالم. فالغنيُّ إذا ارتفق ببعض ما يَفيض عن حاجته ونزل عن الفضل من ريعه يكفيه ما يبقى له يُرَفِّه به عن نفسه. وتدور على المتوسط كل حركة وتقع معظم التكاليف، وهو أدنى إلى الاضطلاع بحقوق غيره من ذلك الذي جعل غرامه بالجمع فقط، والذي وقع في نفسه أن نعمته لا تبقى إلا إذا بالغ في الإمساك ومنع الخير، ولو قُدِّر زوالُ الطبقة الوسطى لانحل أمرُ الجماعات، ومتى كثر في الأرض من يفكر في إعطاء حق الفقير، وأيقن الغنيُّ أنه هو والفقير لازمٌ وملزوم يدخل البشرُ في طور الإنسانية.
لم يُعهد أن وُزعت الثروة توزيعًا عادلًا في ديارنا. وهذه مصر، وهي أعظم الأقطار العربية انتظامًا، مثالٌ ظاهر في هذا الباب. فقد ثبت «أن ثلاثة أرباع المصريين، أي: اثني عشر مليونًا من الفلاحين والعمال وصغار الزراع يعيشون في فقر مدقع، يَفتك بهم الجوع والمرض. والثروة الزراعية في مصر موزَّعة توزيعًا عجيبًا. فبينا تجد مُلَّاك الأراضي يقرب عددهم من مليونين ونصف مليون نجد من هذا نحو مليونين لا يزيد متوسط ما يملك الواحد منهم على عشرة قراريط، في حين أن أصحاب الملكيات الكبيرة لا يزيد عددهم على اثني عشر ألفًا يبلغ متوسط ما يملكه كل منهم مائة وسبعين فدانًا أو يزيد» وفي إحصاء آخر أنه بلغ عدد الملاك المصريين ٢٤٧٣١٣٦ مالكًا وتبلغ جملة ما يملكونه ٤٧٦٩٦٢٨ فدانًا وعدد ملاك الأجانب ٧٢٧١ مالكًا، يملكون من الأراضي ٤٠٨٦٨٣ فدانًا، وهناك ١٨١٣٩ وقفًا تبلغ الأطيان المحبوسة لها ٦٦٢٧٠٠ ويملك اثنا عشر ألف مالك أكثر من مليوني فدان.
ويشبه العراقُ في تقسيم أراضيه حالةَ مصر؛ فهو قطر الزراعات الكبير، وما يتبعها: فقر متناهٍ، وغِنًى مفرط. والخطبُ أيسر من هذا في الديار الشامية؛ ذلك لأن ستين في المائة من الأراضي يملكها صغار الفلاحين، ومن هؤلاء في بعض الأقاليم من يعيش عيشًا رغدًا أرقى من عيش الفلاح المصري حتى ولو كان ممن يعمل في أراضي الغَنِيِّ بالأجرة أو المرابعة. فالأرض في الشام مقسمة في الجملة، ولا سيما في الأقاليم القريبة من الحواضر. والثروات على كل حال لم تتضخم كما تضخمتْ في مصر، فنَعِمَ بها مئات وشقي مئات الألوف. وإذ كان الشاميون بمأمن من غزو تجار الإفرنج حفظت لهم بعض ثروتهم لا كما هو الحال في مصر.
وتمتلك الحكومات في شمالي إفريقية معظم الأراضي. وجزء منه من الأرض ملك أربابه. وقسم للأهلين حق الاستثمار فقط والعين ملك الحكومة، ومنها ما هو ملك صرف للحكومة وهبت أكثره للمستعمرين، كما فعلت الدولة المستعمرة في الجزائر، فلم تكتف بإعطاء المستعمرين ما تملك من الأرضين، بل أعطتهم ما كان ملكًا للسكان، نزعتْه منهم بحق الفتح أو حق التغلب أو المصادرة، حتى خرج جزءٌ عظيم من أيدي مالكيه ولم يرجع إليهم بعضُهُ إلا بالشراء من المستعمر الذي ما أحسن الاستعمار. ثم نزعت الأحباس واستصفتها لنفسها وملَّكتها للمستعمرين من أبنائها. وحالة الريف في مراكش الإسبانية، من حيث توزيع الأرض على أهلها، أحسنُ من حالة عامة الأقطار التي ارتفع عليها عَلَمُ فرنسا وإيطاليا، أي: مراكش والجزائر وتونس من جهة، وطرابلس وبرقة من جهة أخرى.
يقول جسل ومارسيل وايفر في كتابهم تاريخ الجزائر: إنه يبلغ مجموعُ مساحة الأرض المستعمرة فيها ١٦٠٠٠٠٠ هكتار، أي: اثنين من خمسة من الأرض القابلة للفلاحة، ومن فساد الرأي، بل من قلة الإنسانية تقليلُ مساحة الأرض التي يملكها الوطنيون لتُجعل ملكًا للمستعمرين، ويقول هاردي: إن مجموع الأرض القابلة للزراعة في الجزائر هو ٣٨٥٤٠٠٠ هكتار، ويستثمر الأوربيون منها ٢٤٠٠٠٠٠ هكتار، وللأهالي ١٤٥٠٠٠٠ هكتار فقط.
نعم كان الجماعات منذ عرف للبشر جامعة بين غني وفقير، ولكن أليس من الإنصاف أن ينعم الفقير أيضًا ببعض ما يتمتع به الغني، ولقد كان عمال الصدقات في بعض أيام بني أُمية في الشرق يجمعون الأموال فتأمرهم الدولة بإنفاقها في فقراء الأقاليم التي أُخذت منها، فلا يجدون فقيرًا يُسِفُّ إلى تناولها. ذلك أن الناس كلهم كانوا يعملون ويعيشون من كسبهم، ويندر فيهم المعوز مستحق الصدقة أو من يجوِّز لنفسه أَخْذها. وهذا عهد صعب تَكَرُّرُه في عصورٍ ما عرفت غير التكالب على الدنيا تستحل لها كل طرق الأخذ. وفي العهد الأُموي أيضًا كانت جباية القاصية تُحمل إلى الخليفة، ويصحبها أربعون قسامة يقسمون بالله أن هذا المال فضل ما جمع من الرعية بعد أداء أُعطيات الجند وإنفاق ما يجب إنفاقه في مرافق البلد، وهذا من غرائب تاريخنا، ما حدث مثله في شرق ولا غرب، فيما نظن.
ولو فكر أربابُ الأموال فيما يجب عليهم للفقير لخَفَّ الشقاء، فإذن بالضرورة وبالواجب ينبغي للموسَّع عليه أن يتفقد المقتر عليه، ويدرك أن من الظلم أن يملك رجل واحدٌ مئات أو ألوفًا من الأفدنة، أو قرية أو قُرًى يعجز عن إدارتها إدارة حسنة، ويعمل له فيها الفقيرُ المحرومُ ويتمتع هو وحده بثمراتها، ولا تسمح نفسه لمن هو محتاج إلى جهوده بأكثر من طعامه، وكثيرًا ما يكون من الجنس الرديء، ورُبَّ غني اهتمَّ لعلف ماشيته أكثر من اهتمامه بطعام أجيره.
نعم إن تقسيم الثروة بالعدل مما يَتَعَذَّرُ تحقيقُه، ومحال أن يغنى الخلق كلهم، ولا يتيسر هذا إلا إذا تساوت العقول، وزالت الفروق بين القرائح، فكان ذكاء ولا غباء، وكان علم ولا جهل، وكان عمل ولا كسل. ولو تيسر العيش الطيب لكل إنسان لانقطعت الرغبات في العمل. ولو تهيأ الغِنَى لكل من يريده لقَلَّ السعي له، والفضائل تزيد قيمتها باعتبار ما يناقضها، وما عزَّ وجوده يُطمع في الحصول عليه.
وما دام صغار الفلاحين والعملة يرون الألوف منهم لا يملكون شبرًا من الأرض، ويستأثرُ عشراتٌ بالثروات العظيمة، وما دام أرباب الأموال يَنْعَمون بما يزيد عن حاجتهم كثيرًا، وأرباب الفاقة ليس لهم إلا ما يَتَبَلَّغون به، يوشك أن يصاب مال الغنيِّ بما لا يخطر ببال، ومن الإنصاف أيضًا الاعترافُ بأن بعض هذه الأراضي الواسعة ما كانت إلا مَوَاتًا وبورًا لو لم يتداركها أربابُ الأموال بعنايتهم، ولكن كثرت المزارع التي يملكها الأفراد فعجزوا عن تَعَهُّدها على ما يجب في بعض الأرجاء، وقستْ قلوب الأغنياء فلا تسمح نفوسهم حتى بإعطاء الزكاة الشرعية.
سيقولون: وكيف السبيل إلى مداواة هذه المعضلة، أننزع الملك من مالكه الشرعي لنعطيه إلى من لم يتعب في تحصيله، أو تستصفي الدولة الأرض كلها لنفسها وتستثمرها لحسابها؟ كلا؛ هذا من مذاهب الشيوعية والاشتراكية التي لا تصلح عليها أرجاؤنا. ونحن نقول بتخفيف الشرِّ ودَفْع الضر بالتدريج، فندعو إلى أن تنزل الحكومات للفلاحين عن جميع ما تملك من الأرضين بثمن طفيف أو بلا ثمن، بعد أن تعمرها العمران الذي تكون به صالحة للانتفاع بها من أول ساعة، وتعاون أصحابها الجُدُد على استثمارها. وإيجاد عمل دائم للمتبطلين أنفع من التصدق عليهم.
وتعالج الزراعات الكبيرة بتحديد المقدار الذي يحق للفرد أن يملكه، كما فعلت رومانيا فحددت الملكية الكبيرة، وكما فعلت فلسطين فقضت بأن يكون ربع كل قرية ملكًا للأهلين من الفلاحين والثلاثة الأرباع الباقية يتصرف فيها مالكها، وكما فعلت تركيا وقضت ألا يملك الفرد أكثر من مائة فدان والمالكون فيها خمسة آلاف، والذين لا يملكون شيئًا خمسة ملايين، فقررت أن تعطي المالك الأصلي ما يحق له أن يتملكه، وتأخذ الفضل توزعه على من لم يكونوا في عداد المالكين وتنجِّم عليهم ثمنه على أعوام.
وتفاديًا من حصر الثروة في أناس بعينهم يجب أن تُستوفى ضريبة الدخل من التجار والمحتكرين والمضاربين والماليين. وهذه ضريبةٌ لا تنكرها القوانين الاقتصادية الحديثة المسلَّم بها وبها يقضي العدل. وللحكومات أن تضرب أيضًا ضريبة «حركة العمل» تجبى مع ضريبة الدخل، وبذلك يمكن تخفيف المغارم عن المكلف، والإقلال من الضرائب غير المباشرة، فينتعش الفلاح والصانع. وبهذا الترتيب يخرج مالك الأرض العظيمة، أو صاحب الوفر الكبير عن بعض الزوائد التي لا يضيره إعطاءُ جزء منها، وينتفع بأموال من كثرت في أيديهم وفاضت عن حاجتهم الحقيقية.
لما انتشر المذهب الشيوعي في روسيا سَرَى إلى البلقان، فلم تر بلغاريا لاتقاء الخطر المداهم أَحْسَنَ من ابتياع مزارع الأغنياء وتوزيعها على الفلاحين، تستوفي ثمنها مع ضريبة الأرض في خمسين سنة. وانقلب أرباب الزراعات العظيمة بالأموال التي صارت إليهم ينشئون الشركات والمعامل وبنيات في المدن. وبهذا دَفعت بلغاريا عنها غائلة الشيوعية، وعمرت مدنها وأرباضها، وما أتاه البلغار ليس بالميسور لكل حكومة، فإن فلاحنا جاهل، على الأكثر، قليل البصيرة يوشك، لأقل ضائقة تصيبه، أن يقع بين براثن المرابين فيسلخون جلده ويعرقون لحمه. ومتى نفض الغنيُّ عندنا يده من الفقير، أو نفض هذا يده من الغني، وأظهر كلٌّ منهما الاستغناء عن صاحبه تنقلب الحالة من سيئ إلى أسوأ، وما جاز في بلد لا يجوز في آخر.
ولما كثر المتبطلون في ألمانيا بعد الحرب العالمية، فزاد عددهم على ستة ملايين، واضطرت الحكومة إلى أن تعولهم لم تر، بعد أن ضاقت سنين بإطعام جزء عظيم من رعيتها، أفضل من أن تنقل المعامل من المدن إلى القرى البعيدة، وأن تمنح كل عامل قطعة من الأرض تقوم زوجته وأولاده باستغلالها وتغلُّ لهم بعض حاجاتهم، وبذلك دفعت عن المدن الخطر الذي يصيبها بتكاثُر نفوسها إلى ما لا تتحمله. ثم ضربت على الأغنياء ضريبة تُوازي نصف دخلهم الصافي فوَقَتْ بعملها الفقراءَ من البؤس، وظل الأغنياء على غِنًى معقول.
والذي ينفع في مصر والشام والعراق وسائر الأقطار، تحديد ملك المالك، وأخذ الفضل من أرباب الأَملاك الواسعة، ومن أَرباب التجارة العظيمة، وبذلك نسلم من الغوائل في الحاضر والمستقبل، فتضمن القوانين للطبقة العاملة، وهي معظمُ الأُمة، مستوًى من العيش يقضي به العقلُ والعدل.