القول في تاريخنا
التاريخُ علم حوادث المجتمعات البشرية، فما كان في أخبار الحروب والثورات والدول والحكومات والملوك يُدعى: التاريخ السياسي، وما كان خاصًّا بالترجمة للأشخاص فهو: تاريخ الرجال. وإن كان البحث في أُمة أو جزء من أُمة فهو: التاريخ الوطني العام، وإذا تناول الكلام عامة المجتمعات في الأزمان كافة، فهو: التاريخ العالمي، وإذا درست فيه النواميس التي يكون لمجرى الحوادث تأثير فيها يسمى: فلسفة التاريخ، وإذا بحث في زمان معين أو كان خاصًّا بمجموعة سياسية أو اجتماعية فذلك: التاريخ الإقليمي أو المحلي. ومن ضروب التاريخ ما يُطلق عليه تاريخ الأوضاع والأنظمة، أو التاريخ الحربي أو التاريخ المدني أو التاريخ الأدبي، إلى غير ذلك من الأسماء التي يسمى بها نوع من التاريخ يُعنى بعلم خاص أو فن خاص.
وضع العرب التاريخ وهم يعتقدون أن عمر العالم سبعة أو ثمانية آلاف سنة، وكان الأقرب إلى الصواب لو قالوا: عمر الحضارات التي عرفها البشر، كحضارة بابل وأشور ومصر، ثم اليونان والرومان والعرب. وقدَّر العلم الحديث عمر الأرض بما لا يقل عن سبعمائة مليون سنة، وقالوا: إنه أتى على الإنسان خمسون ألف سنة حتى خَلُصَ من الحيوانية الأصلية، وهذا ما يُسمونه عصر ما قبل التاريخ.
كتبَ العرب تاريخهم بالتزام الصدق وذكر المصدر، وكانوا في وضعه مبتدعين لا مقلدين، على الأرجح. هذا، وهم ما عرفوا العلوم التي تُعاون على التجويد فيه، كعلم الأحياء وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم المصادر والوثائق والمراسلات والمفكرات والمذكرات، فإن هذه العلوم حديثة النشأة كعلم المخطوطات القديمة وعلم الكتابات والرُّقم وعلم النقود وعلم الأَختام وعلم السياسة الدولية، علوم انقلب بها علم التاريخ رأسًا على عقب، ووجب على المؤرخ بعد اليوم أن يكون له نصيب منها، وأن يشارك فيها المشاركة الكافية. لا جرم أن العلم كان بطيء الحركة وظلَّ على حالة ابتدائية إلى أوائل القرن الماضي. ونعني بالعلم هنا: ما يبعث النهضات ويوسع العقول وينهض بالصناعات والفنون. والعلم الذي عرفه اليونان في أرقى عصورهم هو العلم الذي ما عرف العربُ غيره طوال أيام سلطانهم.
ولما أصبح التاريخ علمًا برأسه تخلَّص من خيالات الشعراء، ومبالغات الخطباء، ولما تعينت مراتب الأخصاء في التاريخ رأوا أن مما يوجبه التحقيق أن يصغروا دائرة عملهم، فحصروا وَكْدَهم في حدود معينة حتى يكتب لهم التبريز فيه، جودوا الطريقة لكنهم لم يستطيعوا أن يتجردوا عن التعصبات الدينية والسياسية والجنسية، ودام بعضهم يعبث بالنصوص على ما يحقق الأهواء ولا يحقق أمانة العلم، ومن هنا كان تخالف المؤرخين في حكاية الحادثة الواحدة، ومردُّ ذلك إلى التخالُف في الدار والمنشأ والجنس والنحلة. وغرام كل أمة من الأُمم الحديثة اليوم أن تكتب تاريخها بما يوليها شرفًا ومجدًا.
يقول غستاف لبون: لقد أُحصيت على المؤرخين آراءٌ خاطئة في تقدير المدنية الإسلامية، وقَسَوا في الحكم على العالم الإسلامي القديم، فاقتضى النظر في تاريخ القرون الوسطى بجميع أجزائه التي لها علاقة بانتقال المدنية القديمة إلى العصور الحديثة. واستشهد بكلام المؤرخ غيزو حيث قال: إن من تصفَّح التاريخ من القرن الخامس إلى القرن الثامن عشر يرى اللاهوت مستوليًا على الفكر الإنساني يُصَرِّفه على ما يريد، ويتراءى له أن عامة الآراء مصبوغة بصبغة لاهوتية، لا ينظر إلى المسائل الفلسفية والسياسية والتاريخية إلا بنظرٍ مذهبيٍّ، فالفكر اللاهوتي هو الذي سَرَى في عروق العالم الأوروبي إلى أن قام باكون وديكارت.
ونحن، ألا يصدق علينا قول غيزو في بعض عصورنا، ولا سيما في عصور الانحطاط؟ أما كان يُصبغ التاريخ بالصبغة التي يميل إليها المؤرخ، وتتفق مع مصلحته الخاصة؟ أما كانوا لدواع دينية أو خوفًا من أرباب السلطان يحسنون ظنهم بالخلافات المزيفة، والحكومات الطاغية، وتُنطقهم السياسةُ في أعدائهم وأوليائهم بما ليس فيهم. ولقد استحال تاريخنا في بعض الأدوار تاريخًا رسميًّا صرفًا: يكتبه الوزيرُ، وينقِّحه النديم، ويُقره الملك. وبلغ من الضعف أن يصانع القابض على القلم لكتب الحوادث بغمزة تصدر له من صاحب الشأن، أما إذا كان هنالك مغنم فالمؤرخ ينسى نفسه ويستهويه تهافته، وهذا ما يدعو إلى أن نتساءل: هل كان المؤرخون أرقى في أخلاقهم من الشعراء؟ وقد عرفنا هؤلاء وما صدر عنهم من الإغراق في الكذب وإضلال العقول.
وسواء صح فينا رأي غيزو أم لم يصح، فقد آن لنا أن ننظر في القديم والحديث من تاريخنا بنظر التجديد. والعلماءُ اليوم يَدْعُون إلى إعادة النظر في التاريخ كل خمسين سنة، وها قد مضى على تاريخنا المدوَّن قرونٌ تبدلت خلالها طرق البحث، وغدا العالم غير العالم، والدول غير الدول، والعرب غير أولئك العرب، والإسلام غير ذاك الإسلام. بدَّل الزمان كلَّ شيء فوجب تبديل طريقة عرض التاريخ على نحو ما فعل بعض رجال العصر فدرسوا موضوعات منه دراسة حديثة فأفادوا، كما أفاد العرب يوم كانوا أعلم أهل الأرض لما سردوا التاريخ بعُجَرِه وبُجَرِه.
وكان من أشد العوامل في تجويد العرب كتابة التاريخ بالقياس إلى عصرهم، حِرْصُهُم الحرص كله على الأخذ بما صح من الأحاديث النبوية، فوضعوا لذلك عِلْم الجرح والتعديل، يعدِّلون الرواة ويجرحونهم، وكما جوزوا الجرح في الشهود وشهاداتهم جوزوه في الرواة ورواياتهم، لقول الرسول: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكل ما يسمع.» وكما وضع العرب علم الجرح والتعديل وضعوا أساس فلسفة التاريخ والاجتماع، وغَلَوا في تصحيح السند غُلُوًّا لم يعهد في أُمة، وقالوا: الإسناد قيد الحديث، وإن الحديث من غير إسناد كالجمل بلا زمام وخطام، وقالوا: إن المراد بقوله تعالى: أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ الإسناد.
من صفات المؤرخ أن يكون أمينًا في النقل، صُلبًا في الحق، متشددًا فيه، جَلْدًا حازمًا، هادئ الأعصاب، لا يتحامل ولا يجامل، وإلا كان ما يكتبه قطعة شعرية أو خطبة حماسية، ورسالة أخوية. وليس التاريخ بشعر حتى تُغتفر فيه المبالغات ولا أُفكوهة حتى لا يضرَّ به التزيُّد، ولا أُسطورة أَمتع ما فيها الإغراب. وإن تاريخًا تُمليه الأهواء لا يعدو أن يكون صحيفة تدليس، وليس أفسد للتاريخ من التدليس فيه.
ومن يحرف نصًّا لاستخراج ما يلائم غرضه منه عُدَّ في زمرة من اختلط صوابهم بخطئهم. وحاجة كل جماعة إلى من يدربهم على سماع الحق، أكثر من حاجتهم إلى من يكذب عليهم. ومثل من يكتم عن أُمته حقائق تاريخها كمثل طبيب يُصانع مريضه وهو في أشد ساعات البُحران من مرضه، فيسمح له بتناول كل ما تشتهي نفسه.
كانوا أكثر ما يؤرخون للدول ينقلون أخبار حروبها وشرورها، واعتداءاتها ومهادناتها ومصاولاتها، يجسِّمون حسناتهم ويَغُضُّون عن سيئاتها، ويخصون الملوك من ذلك بأكبر حصة، ولو كانوا من السخف على جانب عظيم. ومن نظر في تاريخ بعض العهود نظرًا سطحيًّا يتراءى له أن القوم كانوا في جنة نعيم، عدلًا وراحةً وهناء، وكذلك يقال في أكثر من ترجموا لهم من الرجال، فقد كانوا يصورون من يترجمون لهم صورة لو حذف من بعضها اسم صاحبها ومولده ووفاته، لأمكن وَضْعُها على عشرات من الرجال.
وإن مؤرخًا لا يبسط لأُمته حقائق ماضيها وحاضرها، ولا يَقِفها على جلية أَمر المحسن والمسيء، ولا يروض قلبها على قبول الحق، حريٌّ أن يُحسب في زمرة المجابهين للأنصاف المتجهمين للصواب. والمرء لا يكون كَيِّسًا حساسًا إذا أغمض عينيه عن ماضيه وعن مستقبله، فالواجب أن يبحث للوصول إلى ما يَقِفه على الصلات التي تربطه بأجداده وذريته وبالإنسانية أمس وبالإنسانية غدًا؛ فالماضي يفسر الحاضر، وهذا يشرح الغابر، كما قال العارفون.
كان ما كتبه المؤرخون السياسيون عند العرب، أمثال الطبري والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون، ومَنْ ترجموا للرجال أمثال ابن سعد وابن خَلِّكان وأبي حيان ولسان الدين وغيرهم موضع عَجَب العارفين، حتى قال العلامة براون: إن العرب ألفوا كتبًا في الجغرافيا وتخطيط البلدان على طريقة لم يؤلَّف مثلها، وكتبهم في التاريخ أوسع الكتب وأدقها بل إن بعض التواريخ العربية لم يكتب على نسقها في أوربا إلى اليوم. وقال العلامة نيكلسون في كتابه «تاريخ آداب اللغة العربية»: إني أوافق السير ويليام جونس على رأيه القائل إن كتبا وَفَيَات الأعيان لابن خلكان أحسن كتاب كتب في التراجم العامة.
أمثال هذه الطبقة الرشيدة في مؤرخينا كتبت ما أملاه الحق على أقلامها ولم تبال الجَوَرة والظلمة، فلما كانت عصور التدلي أصبح المؤرخون يحاذرون الملوك والأمراء، ويخشون من شر المشايخ والأعيان والعامة، فلا يسعهم إلا أن يكتبوا عن بعض الأمور الجوهرية ويكتبوا في التافهات؛ لأن من كان يجهر بما اعتقد في ذكره فائدة لا يلقى إلا عنتًا، وأقل ما يتعرض له تسلطهم على دفاتره، وإن لم يكن في حياته فبعد مماته، ولهذا ضاع تاريخ كثير في الأرض العربية. والحق مُرُّ المذاق، والنفاق أكثر ذيوعًا في كل العصور. على أن من كانت لهم صلاتٌ بأرباب الدولة، واختلاطٌ بطبقات الشعب، كانوا أقرب إلى التقاط صحيح الأخبار ممن كانوا بمعزل يكتفون بتلقُّفها من الأفواه.
ومما يؤلم أن العرب استعاضوا في بعض أدوارهم عن دراسة التاريخ بتخريفات سَمَّوْها علومًا، كعلم الجفر والسحر والطِّلَّسْمات والسيمياء والكيمياء، وزهدوا في علم لا تُعرف بغيره حقائقُ دولهم وملوكهم وشعوبهم، ولا روح كِتابهم وسنة نبيهم وهدي أصحابه، زهدوا في تاريخهم بعد أن أتت عليهم عصورٌ وهم يدرسونه في الجوامع كما يدرسون الفقه والحديث.
ليس أضر على التاريخ من التقية، ولا أنفع فيه من الصراحة. وقول بعض الفقهاء من أهل السنة — وهو ما كانوا يدرسوننا إياه في المدرسة الأولى على أنه من العقائد: «ونسكت عَمَّا شَجَرَ بينهم» أي: بين الصحابة، كلامُ من لا أَرب له في غير العافية. ولو شايعناهم على هذا الرأي لأضللنا طريق الهدى في قيام أمرنا، وهل يوجب العقل أن يدعونا حب الخلفاء الراشدين — رضوان الله عليهم — إلى الإغضاء عما بدا من ضعف عثمان في آخر عهده؟ وهل من المنطق السليم أن نغض الطرف عن حرص عليٍّ على الخلافة، ويدعونا إعظامُنا لمكانته، إلى أن نطوي البحث في مسائل يستحيل علينا، بدون التعمق فيها، أن نتفهم ما دخل الإسلام من خلل، وما حملت التفرقة بين أهل القبلة من الخطوب، وما جرَّت من ويلات. شيعة عليٍّ تغلو في الحط من بعض الصحابة الكرام، من الفريق الذي لم يشايع صاحبهم، وأهل السنة يفرضون السكوت عما شجر بين الصحابة تأدبًا أو تزمتًا. والتاريخ لا يخلي عثمان ولا عليًّا ولا معاوية من ملامةٍ، ويرى المنصف أن عليًّا ومعاوية والسيدة عائشة مسئولون عما جرى في وقعة الجمل وصِفِّين. هذه أُمور يؤلم ذكرها، ولا بد من درسها وبسطها لمصلحة التاريخ والحقيقة.
ما رضي بعض مَنْ يختلفون إلى المجمع العلمي العربي خلال خمس وعشرين سنة لاستماع محاضراتي عن صورة عرضي للتاريخ الإسلامي، ولا عن بعض ما نشرت منه في كتب ومجلات، وإن كانت الشواهد تَدْعُمُه، والوثائق تؤيده، والأرقام تجليه. وما دمنا نكتب لإرضاء الحق، ولا نكتب تاريخًا رسميًّا فلا يضيرُنا أن نكتب ما تجلى بعد البحث، ونتمتع بحرية هذا القرن، فلسنا من المؤرخين الرسميين، ولا يُطلب من هؤلاء إلا محاباة الملوك لا يدونون لهم إلا ما يروقهم. وشأن مؤرخ الملك كشأن شاعر الملك في إخراج صور تُرضي ولا تُغضب، أما نحن فنحاول أن نعلم التاريخ.
صدر كثيرٌ من المؤرخين عن تصورات لهم، أَلبسوها ثوبًا من نسيج خيالهم كالذين رَمَوْا بعض خلفاء الأُمويين بما ليس فيهم، ليذهبوا من ذلك إلى أنهم لا شيء بالقياس إلى أعدائهم المطالبين بالخلافة، فقد وضعوا على ألسنتهم أشعارًا وحكايات لا يصدر مثلها إلا عن السفهاء، وجسموا ما وقع لهم من الحوادث مع من عصوا عليهم، وما خلا أعاظم خلفاء بني العباس من مثل هذه التهم الشنعاء أُلصقت بهم وهم أبرياء، فقد وصف صاحب الأغاني أمير المؤمنين الرشيد مستهترًا بالشراب والنساء، مجنونًا في مجونه، وما كان الرشيد بصدد هذا كله، وهو الخليفة الذي كان يحج سنة ويغزو سنة، وما كان له مأْرب في غير حفظ دولته، ومن المتعذر أن يخلو عصر من جماعة يكتبون الحوادث بحسب أغراضهم السياسية والمذهبية، بيد أن الحقائق مهما أُريد طمسها يبقى منها جانب يبرز منه نورها، رغم مَنْ كَابَرَ وراوغ.
ومن جسروا على قلب الحقائق ولقنوا أُمتهم الكذب، لم يفيدوا عند المحققين ولا عند أنفسهم شيئًا، كفعل بعض مؤرخي القرون الوسطى من الإفرنج في حكمهم على الإسلام والعرب، فقد اطرد تمويههم حتى كشف الستر عنه علماء المشرقيات منهم، فقاموا يؤلفون متوخين الصدق في الجملة، فصححوا أفكار من أضلهم التعصب الديني دهرًا طويلًا، شرب المؤرخون في الغرب من كأس رجال الدين أولًا، ولما عافته نفوسهم ألقوه من أيديهم واستقوا من مصادر أخرى أكثر صفاء، فظهر الفرق بين الأحفاد والأجداد، وتبين الكونُ بين باحث بعقله وآخر بعقل غيره.
قال أناطول فرانس: أنا أعرف أن التاريخ مُلفق مكذوب فيه، وأن جميع المؤرخين من عهد هيرودتس إلى ميشله هم قُصاص حكايات ورُواة روايات، فلقد خُصَّ التاريخ حتى يومنا هذا بذكر سير العظماء وغرائب الحوادث، فالواجب أن يُجعل بعد الآن خاصًّا بالبحث في حياة الشعوب فيُعنى مثلًا بأَسعار الحديد وسعر القطع، فإن في بحث هذه المسائل من الفوائد ما ليس في نقل حوادث واقعة حربية، أو ذكر حديث دار بين عاهلين. يريد المؤلف أن يعرف أن ملايين من البشر المجهولين كان من نشاطهم المتواصل نهضة شعب، يروم أن يحلل هذا النشاط العظيم، وأن يدرسه قطعة قطعة، بأسلوب محكم، وأن يسطر ما يعرف، فإن هذا هو التاريخ الذي يجب وضعه بعد اليوم، وللحكومات الفتيَّة كأوستراليا وزيلاندة الجديدة وكندا ولابلاتا؛ بل وللمجتمعات القديمة في أوربا التي تطمح في أن تنظم شئونها على أرقى مثال من النظام والعمل والسلام والحرية، أن تتبع هذه الطريقة الجديدة. أما الحالة التي وصل إليها التاريخ بصورته الحاضرة فدراسته غير سليمة، فالواجب الشروع في إصلاحه، فقد انقضى عهد التدوين الأدبي، وبدأ عهد التاريخ العلمي الذي سيكون منه وصف حياة شعب على ما يحمل فائدة وتعليمًا وعظمة. ويرى بعضهم أن التاريخ لا يفيده بعد الآن بغير الوثائق من مثل إحصائيات الشعوب، وتعريفات الجمارك، وحالات التجارة، ونتائج حسابات المصارف، وتقارير السكك الحديدية، فإن من نُقَّاد التاريخ من قالوا: إن هذه الأمور أدنى إلى الثقة من الشهادات التي يوردها المؤرخون. قال أناطول: وقد يكون صاحب هذا الرأي على صواب في قوله، وإن كان الإحصاء في ذاته محل ريبة كثيرة أيضًا.
عرفتُ تسعة مشايخ، حاول ثمانية منهم أن يكتبوا في التاريخ السياسي ويترجموا للرجال، كان اثنان منهم من العامة، ليس بينهما وبين الأُمية سوى درجة، وبينهما وبين العلم درجات، وكان أحدهما ممن يحسن النسخ ويجيد الخط. ادعى الأول أنه كتب تراجم من عاصرهم، وهدد من أحب تهديدهم زمنًا بما سيكتب فيمن كان غير راضٍ عنهم، ولما هلك لم يعرف عما كتب شيء. وكان الثاني يتمجد بما يكتب وهو جاهل، فما ظهرت له ورقة بعد موته مما نسخ ومسخ وسلخ. وجاء شيخان آخران لا يقلان عن الأولين في العامية والأُمية، فساعدهما الزمن على طبع ما جمعا وجُمع لهما، ونَشْر ما كتبا وكُتب لهما، فكان ما أزعجا العالم بنشره دليلًا على جهل مُرَكَّبٍ ودعوى فارغة.
أما الأربعة الباقون فكانوا على شيء من فقه وأدب، وما عُرفوا بالتاريخ، إلا أنهم جسروا على الكتابة فيه، وترجموا لمن أهمهم أن يترجموا لهم فما جَوَّدوا التجويد المتوَقَّع منهم. واستسهلوا علمًا يحتاج معانيه إلى دراسات كثيرة، قبل أن يخط فيه صفحة. وكأن لسان حال الفقيه والأديب يقول: لا بد أن أُعَدَّ من المؤرخين، كما أنا من المتفقهين والمتأدبين، على نحو ما كان بعض رجال الدين يرون من الواجب أن يكتب كل واحد منهم تفسيرًا له، كما يتحتم على كل إنسان يمت إلى المعرفة بأدنى سبب أن يثبت نفسه في قائمة الشعراء، ولو بنظم أبيات قليلة ضئيلة.
وأَقْدم الاثنان على طبع ما دَوَّنَا وما كان عُرف كلاهما مِنْ قبلُ بغير الأدب. فكتب الأول في تاريخ بلده، وأجاد فيه النقل والاقتباس، ولم يُجِدْ فيما أتى به من عنده، والمصانعة ظاهرة في بعض صفحاته. وكتب الثاني كتابًا يدور أكثره على تراجم أهل مدينته، فجود في الترجمة لبعض من أدركهم، ووقع فيما وقع فيه معاصره من الإكثار من النقل، والتبسُّط في الحادثة الواحدة، والاختصار في أماكن كان الواجب بسطها. ولو درس موضوعه حق دراسته واقتصر على اللباب دون النقل المستفيض، وذلك بطرح الزوائد والاقتصار في المقتبس من كلام المؤلفين القدماء على الضروري؛ لوفر بهذا الصنيع على القارئ وقته وماله.
وسقط هذا المؤلف فيما سقط فيه مَنْ عانوا الترجمة للمشهورين في عصور الظلمات، فامتدح من أفراد أُسرته، وأمثالهم كثار في بلده وغير بلده، وكان الإنصاف يقضي عليه أن يترجم لغيرهم من أبناء حرفتهم، وعدَّ مَنْ يعرف أحكام البيع والشراء في العلماء، وما أكثر تساهله بتسويد من كان راضيًا عنه، وضنانته بتلقيب من لم يظهر له علمه، وعدَّ في العلماء من يطالع كتب القوم؛ أي: المتصوفة، ويضيع حياته في تأويل المنامات ونقل الكرامات، وترجم للمجانين والممرورين، وأطال في ترجمة أحد المجاذيب، ولما عُوتب على ذلك قال: إن أهله اشتركوا ببضع نسخ من كتابه، فلم يسعه إلا إرضاء خواطرهم وذلك بخلع الصفات الحسنة على جدهم!
أما الرجلان الآخران فكان يغلب عليهما الفقه مع مشاركة في الأدب، فكتب الأول في تراجم من عاصرهم على نسق تاريخ ابن شاشة والمرادي، حشاه بهنات لم تكن متوقعة منه، فترجم لأحد كبار الدجالين ترجمة صوَّره بها من أعاظم الأولياء والعلماء والأدباء. وكان بين كلامه وبين حقيقة الرجل بَوْن شاسع جدًّا، وترجم لصعاليكَ بعلمهم وأخلاقهم، وأغفل ترجمة الأعلام الذين عرفهم.
وكتب الشيخُ الآخر تاريخ تراجم أيضًا، فتوسع في ترجمة بعض ذوي قرباه، واختصر في ترجمة إمام الفقهاء والمؤلفين في عصره السيد محمد عابدين، وتوسع توسعًا عظيمًا في ترجمة جده، واختصر في ترجمة عالم عظيم كان بالإجماع من أكابر العلماء. وليس من التاريخ في شيء ترجمة أُناس ليسوا من العلماء والأدباء تقع أنظارنا عليهم في الشوارع كل ساعة. وفي طبقة التجار والزراع والصناع اليوم أرقى منهم، وليس من الأمانة إغراق المؤرخ في ترجمة أُسرته، وإلباس أعضائها ثوبًا هو في ذاته ليس لهم، ولو كانوا على ما زعم لهم من صفات وعلم لظهرت في عصرهم علومُهم، وتناقل العارفون تراجمهم قبل أن يتفضل قريبهم فيترجم لهم بهذه المبالغات، وكأنه بما يترجم لأقربائه ومغالاته في نَعْتِهِم، ينادي ضمنًا: أنا من بيت علم قديم أيضًا. وكان من أزياء القرن الماضي والذي قبله أن يدعي الشرف كل من يحاول التمجد، فينتسب إلى الرسول أو إلى أحد أصحابه على الأقل، أما صاحبنا هذا فاخترع لأُناس من أهله صفات ليست لهم، جعلهم سلالة علماء وهم على بَرَكة الله.
وبعد، فأين هذه التآليف من تآليف أرباب الطرابيش الذين يضن أرباب العمائم عليهم بلقب عالم، كأن العلم مقصور على المعممين وحدهم، وكأن من لا يعرف حِيَل الفقهاء المتأخرين وعسلطاتهم، ولا يضع على رأسه بضعة أمتار من الشاش الأبيض ليس من العلم على عرق.
خذ مثالًا لذلك العلامة أحمد تيمور باشا من علماء مصر، فإنه كتب أشياء كلها تنبئ عن تحقيق. لا تجد له سجعة نابية عن محلها، ولا معنى مبتذلًا، ولا لفظًا جيء به للزينة، ولا فكرًا سخيفًا مرجوحًا، وإذا قرأ المرء ما نشر في حياته ونشر له بعد مماته، وقابل بينه وبين تآليف هؤلاء المشايخ يدرك الفرق بين علم رجل أتعب نفسه في تحصيله، ورجل يحاول التهجم على التأليف بدون إجهاد فكر ولا سهر ليالٍ، والفرق ظاهر بين من يؤلف فيما يعرف، وبين من يصنف قبل أن يستعد الاستعداد الكافي، وبين من لا يكتب قبل الدرس ومن يكتب كيف اتفق، لا ينقح ولا يصحح، ولا يبحث ولا يطيل النظر، ويبتعد عمن ينقده ويناقشه. وكذلك يقال في تآليف العلامة أحمد زكي باشا، قريع تيمور ومواطنه وصديقه، وفيما خطته يمينه من التحقيقات الممتعة الطريفة. وهذا أيضًا من المطربشين الذين يتجاهل المعممون ما عندهم من علم. ومِنْ هؤلاء مَنْ لا يستطيع أن يقرأ فصلًا واحدًا مما كتب الأحمدان زكي وتيمور على وجه الصحة، فضلًا عن أن يفهموه حق الفهم، أو يكتبوا، لا قدر الله، مثله. والدعوى ما لم تقم عليها البينات ساقطةٌ باطلة.
اقترح أوسكار الثاني ملك أسوج ونروج، وكان عالمًا ومؤرخًا ومحبًّا للآداب، وضع تاريخ العرب قبل الإسلام فأَقدم على التأليف فيه من أبناء الشام بعض من لا عهد لهم بهذه الأبحاث، وما أدركوا خطورة التأليف فيها، ومن جملتهم شيخ كتب رسالة، لو جرت العادة أن توضع علامات للتأليف كعلامات صبيان المدارس لأخذ علامة قريبة من الصفر لرداءة ما كتب. وكتب أيضًا أحد الأدباء تأليفًا من هذا الطراز وكان أرقى من تأليف زميله بقليل، فما وقع ما كتبه موقع القبول من لجنة المحكمين، ولاحظتُ على كتابه أنه حرف آيات القرآن الكريم، وقلت: إن القرآن يحفظه، على وجه الصحة، صغارُ الأولاد في بلاد الإسلام، فإذا كان المؤلف خان أمانة النقل في القرآن، فكيف يجوز أن يؤتمن على تاريخ العرب؟
قلت لصديق من الفقهاء يوم كنت أُؤلف كتاب «الإسلام والحضارة العربية» أقسم المشايخ — حفظهم الله — ألا يهتموا لغير فائدتهم المادية على حين أن إجلالنا كله لهم، نجلسهم في صدور مجالسنا، ونطلب بركاتهم ودعواتهم، ونعطيهم من الرواتب والهدايا ما ينعمون به لو أنفقوه وما ادخروه، وننزل على أحكامهم وآرائهم ونحن نعتقد ضعفها، حتى إذا جاء الوقت الذي أعددناهم له وطالبناهم بخدمة دينهم يسارعون إلى التواري عن الأنظار، ويقولون لأرباب الطرابيش بلسان الحال: أنتم رُدُّوا على أعدائنا، وقوموا بما عهد فيكم من البراعة بنصرة ديننا، بارك الله بكم وعليكم. قلت له هذا وزدت عليه: لقد اضطررت هذه المرة إلى مراجعة الأمهات في الدين، بعد أن طال عهدي بها لأرد على أعداء الإسلام والعرب. وأهلُ العلم — كما يدعو أرباب العمائم أنفسهم — ساهون لاهون لا يقومون بواجباتهم نحو دينهم وأُمتهم، وفي مقدمتهم شيوخ الأزهر الأجلاء. فضحك صاحبي من قولي، وما وجد له جوابًا ولو ضعيفًا يجبيني به في معرض الدفاع عن العلماء الرسميين، ممن حُسبوا علينا رجالًا تمحضوا لنفع الأمة، وما هم نافعوها بدرهم ولا دانق.