القول في بغضنا للأجانب
يتهم بعضُ أرباب الأغراض من الغربيين سكانَ بلاد العرب ببغض الغرباء وكراهة الأجانب، من الإفرنج خاصة. تهمةٌ كثر تردادها وتعددت ضروبها وقويتْ مصادرها وما ردَّ رادٌّ عن المتهمين ما عُزِيَ إليهم، وهم ما فكروا أن يدفعوا عن أنفسهم تلك الأباطيل التي لا يحققها الواقع وتنكرها البديهة.
والمأثور عن العرب أنهم أكثر الأجناس تحببًا إلى الغريب ومن أعرق الشعوب في التسامح وأنهم في سخائهم آية، لا تماثلهم فيه أمة، حتى كاد أن يُعد كرمُهم إسرافًا، وهم، إلى هذا العهد، لا يفرقون في قِرَاهم بين عدوهم وصديقهم، وبين من يعتقد عقيدتهم ومن لا يعتقد، وعندهم أن العدو إذا تحرم بطعام عدوه كان له بذلك مخرج من ذنب اقترفه معه، فيضطر إلى أن يصفح عن جرمه مهما كان عظيمًا، وكما أنهم ما عرفوا للكرم حدًّا ما منع دينهم من إعطاء المسلم وغير المسلم من الصدقات.
من القديم اختلط الإفرنج بالعرب، وكان أكثر هذا الاختلاط والعرب في أوج عظمتهم في الأندلس وصقلية، ثم التقَوا بهم في الحروب الصليبية في الشام ومصر، فدوَّن بعضُ مؤرخي الفرنجة بعض ما شاهدوه في ديار المسلمين، وأشار بعضهم إلى أن هؤلاء كانوا على صفات ممتازة لا يختلف في التحلي بها عامتهم عن ملوكهم، وذكروا من سماحتهم ووفائهم ما ناقض ما كان يختلقه بعض رجال الدين عندهم من وصف المسلمين بالتوحُّش وضعف العهد، واتهامهم بأمور مستغربة لم تُعهد عند غيرهم من أبناء آدم وحواء.
وكلما كَرَّت الأيام كان التهريج في العرب يتزايد بما يخترعه القسيسون من أساطير وترهات، ولما تسلطت بعض الدول على الشرق، كان من مصلحتهن إلصاق هذه التهم في العرب تصغيرًا لأمرهم، وصرفًا للنفوس عنهم، وتبريرًا لموقفهن منهم، وإيهامًا بأنهن ما فتحوا ممالك الإسلام إلا ليحملوا المدنية إلى مَنْ هُمْ في هذه الدركة من التقهقر.
حالت صعوبة المواصلات في الأعصر الماضية دون تعارف العرب والإفرنج، فوَلَّدَ البعد جفاء وأورث الإفرنج تعصبًا على من لم يتعارفوا إليهم، وكان من أشد الأُمم الإفرنجية بغضًا للعرب خلفاءُ الرومان من العنصر اللاتيني، نشأ هذا البغض من استيلاء العرب على ديارهم في الدهر السالف، وما عُهِدَ مغلوبٌ يحب غالبَه. ثم إن تلك الشعوب لم تكن يومئذ من الثقافة بحيث تدرك ما امتاز به العرب من مكارم الأخلاق، وما صَفَتْ نفوس جاهلية القرون الوسطى من لوثات التعصب الذميم حتى تنصف مخالفيها في الطباع والجنس والدين، وحرية الأديان وحرية النظر في العلم ما عُهدت في الغرب قبل أن يحملها العرب إليه، أضف إلى ذلك أن أوربا كانت في سلطان الدين قرونًا طويلة، وكانت رُومِيَّةُ المصنعَ الأول لصوغ ما يوجه من التهم إلى أهل الإسلام.
كان الإفرنج كلما جاء أحدُهم الشرقَ العربي في سفارة أو تجارة لا يعود منها إلى أهله، قبل أن يملي من مخيلته غرائب مما رأى، وفي جملة ما يذكر نُفرة العرب من الغربيين، ولعله كان يطمع في أن يقف الأهلون على أقدامهم صفوفًا على الجانبين يسلمون عليه وهو يجتاز الشارع، ومنهم من قال: إنه شاهد الأطفال يهربون منه لما وقعت أعينهم على عينه، واستغربوا هندامه، وإن بعض الأحداث في الطرق أسمعوه كلامًا ربما كانوا يداعبونه به فوهم أنهم يشتمونه، وما أكثر ما يرى السائح الشرقي اليوم في صميم أوربا مثل هؤلاء الأحداث يتجمعون عليه ويصرخون في وجهه. يوردون من هذا القبيل حكايات سرت إلى أرباب السذاجة منهم، وهي لا تتألف منها مادة للبغض ولا للحب، وقد صُور فيها العربي صورة كلها بهتان وتضليل.
ومما يستدلون به على نفرة العربي من الإفرنج أنه قُتل في العصرين الأخيرين بعضُ أرباب الرحلات من الغربيين في ديار العرب ولم يُعرف القاتل. ومثل هذه الحوادث طبيعيةُ الوقوع؛ لأن هؤلاء السائحين تسللوا خفية إلى البوادي في زيٍّ منكَر، وهم لا يعرفون العربية في الأغلب فكانوا موضع شبهة، وربما كان السبب في هلاكهم مرضٌ أصيبوا به في تلك المفازات. وإذا وقع أن هلك أفرادٌ فكثيرون نجَوا، وكتبوا في الأرجاء التي استقروها أمورًا مهمة، وأتوا منها بعاديات وآثار خدموا بها العلم. وعجيب أن يذكروا من قضوا في حوادث أفرادية تقع للولي والعدو في كل بلد، ولا يذكرون عشرات ممن عادوا إلى أهلهم سالمين غانمين.
ولما سهُل الارتحال على أهل الغرب وعلينا كان سائحهم يأتي مدينة من مدننا فيقص في العودة من عجائبها وغرائب سكانها ما رأى وما لم ير، قاصدًا الإغراب أو خدمة غاية معينة لا تتحقق بزعمة إلا بالكذب. أما هو فما رأى العرب إلا في الطريق ذاهبين جائين، وما وصل إلى علمه عنهم شيء نقله ثقة، اللهم إلا إذا صح عنده ما تلقفه من أفواه التراجمة وغلمان الفنادق والحوذيين والسواقين ومساحي الأحذية، وبعض أصحاب هذه الحرف يصورونا عن قصد صورًا مضحكة ليجلبوا بها السرور إلى قلوب السائحين فتنبسط أيديهم بالعطاء.
ولو كنا في مقام التنظير بين معاملتنا للغريب ومعاملته لنا في القرون الغابرة لقلنا للغرب إن ديارنا كانت تَقبل كل من يَفِدُ عليها إن لم يكن ممن ثبتت جاسوسيته. وأنتم يوم كنتم تفترون علينا هذه الافتراءات كنتم لا تسمحون لمن يخالفكم في معتقدكم، وهو من جنسكم، أن يساكنكم في بلد واحد، فتطردونه طرد الوحوش الكواسر. فكان من يخالف مذهبُه مذهب السواد الأعظم عندكم في بلاء ليس بعده بلاء. فهل سَجل لنا مَنْ طالما كذبوا علينا مسألةً واحدة تشبه عملكم هذا خلال تاريخنا الطويل، أو أنَّا أسأنا لمخالفينا في الدين، بدون موجب، في عهد ارتقائنا أو في عهد انحطاطنا؟ ويوم كنتم تقتلون في المسجد الأقصى العُبَّاد والزهاد وتمرقون بحرابكم أحشاء الأطفال، وتقطعون أثداء النساء كنا نُحسن معاملتكم بما يأمرنا به ديننا، ولم نترك بابًا نتألَّف به قلوبكم إلا وَلَجْناه، كنا في مقام الظافر فأحسنا ولم نسئ، أما أنتم فأسأتم كل الإساءة يوم كنتم الغالبين.
وبعد، فإن العرب لعهدنا في حيرة مع كثير من الإفرنج، إن تقربوا منهم قالوا: يصانعوننا خوفًا منا، وإن أكرموهم لبوا ضيافتهم ثم وصفوهم بالإسراف وضحكوا من عاداتهم، وإن هادَوْهم قبلوا هداياهم وهزءُوا بذوقهم وكرمهم، وإن أعرضوا عنهم قالوا: إنهم متوحشون لا يعرفون معنًى للعشرة ولا يحبون التمازج معنا، وإن ناقشوهم في بعض أغلاطهم احمرت أعينهم ووصموهم ببغض الأجانب. وهكذا حار العرب في استرضاء هؤلاء الغربيين الذين يدَّعون التفوق علينا في كل شيء.
كان مدير المعهد الفرنسي بدمشق يجمع بعض الرعاع ويُلبسهم ثياب المساخر، ويعلِّمهم ألعابًا له ابتدعها، ويدربهم على مخرقات وشعوذات كان يظنها جميلة مغرية، ويغوي بعض الأوباش بالمال ليمثلوا له مشهدًا من مشاهد مشايخ الطرق، وهم يلحسون الحديد المُحْمَى بالنار، ويبلعون الحيات والثعابين، وكان يأتي بمومسات يجردهن من ثيابهن يرقصن ويتخالعن زاعمًا أن هذا مشهد من مشاهد ألف ليلة وليلة. ثم يدعو لحضور مهازله المنظور إليهم من قومه وغيرهم، ويصور هؤلاء الممثلين والممثلات على أوضاع مختلفة ويخرج منها ما شاء من الصور يرسلها إلى من يلزم في الغرب، ويعطي منها من يزور مكتبه من السائحين مدعيًا أن هذه هي عادات الشاميين وأجمل ما يجب أن يشهد عندهم.
وهو لا يقصد من كل ذلك إلا أن يصور العرب بأبشع صورة، ويقول لمن يطير فرحًا إذا سمع سبة: ها هم العرب وهذا تمدُّنهم، هم همج كما ترون وفي أحط دركات الهمجية. وقضى أعوامًا طويلة بمثل هذه المخزيات ولما ينته من إعداد مجموعاته، وما نجت دمشق من عبثه إلا لما ثبت عليه أنه سرق دولته.
لم يترك هذا الساقط المروءة فرية إلا افتراها علينا، وما رأى إلا استحسانًا ممن كانوا على شاكلته، يتعمد الحط من كرامة أُمة، إذا كان فيها شيء من العيوب فللأُمم الأخرى مثلُها وربما أكثر منها. ولا نعرف كيف يصح له أن يحكم على أُمة لا يعرف لغتها، وما اختلط بالطبقة المنورة من بنيها. وقديمًا كان من يَعِنُّ له افتراء شيء علينا يكتفي بنكات قليلة يسجلها في رحلته أو جريدته. أما هذا المأفون، فكان دأبه إيجاد ألاعيب يمثلها بمال حكومته.
لا جرم أن بمثل هذا العياب وما ينقل عنا من سوء القالة تسود صحيفتنا في الغرب، وصحيفتنا بما اخترع المضللون ليست بيضاء كثيرًا، فقد قال لي أحد رجال الطليان: إنه ما برح يعتقد أن المسلمين يأكلون لحم الآدميين حتى زار أقطارهم في شبابه، وأيقن ببطلان هذه الدعوى عليهم، قال: إنه قرأ هذه الأكذوبة في كتاب مطبوع وهو طفل. ولطالما سمعت في رحلاتي من أفواه بعض الطبقات الراقية في أوربا غرائب عن بلادنا ما كانت إلا من مختلقات أمثال ذاك الدجال ومن اعتادوا تصنيع القصص الملفقة وَوَضْع الأحاديث المنكرة علينا.
يقولون إننا نكره الغرباء، صحيح أننا نكرههم، ونحن على حق بهذه الكراهة، بيد أننا نكره أمثال ذاك الوقح الذي باع من بضاعته المزيفة مقادير عظيمة حاول أن يحظى بها ويَغنى على حسابنا. ونقل عنها صورًا مزورة مزرية، ولم يكتف بتمثيلها في عقر دارنا بل توسع في أذاه، وعرضها في بعض معارض الغرب، يحاول بها إسقاطنا عند العالم المتمدن جميعًا.
أما فضلاء أهل الغرب فقد كنا، ولا نزال، نكرمهم ونحترمهم، بل نبالغ في إكرامهم واحترامهم، نخلطهم بأنفسنا، ونُطلعهم على ما يهمهم الاطلاع عليه من حقائقنا، وننزلهم على الرحب والسعة بين أظهرنا، ولكن منهم فئات لا تحب الاختلاط بنا ولا بغيرنا، ولا تسمح لها حكوماتها بمعاشرتنا. ولطالما وددنا لو عاشرنا أهل الطبقات الصالحة منهم لما نتوقعه من تخفيف تلك التهم عنا، وإفادتنا من أدبهم، فبالاحتكاك بهم نعرفهم في صورهم الواضحة ويعرفوننا كذلك، وهذا يفعل فينا وفيهم ما لا تفعله القوة الغاشمة ولا الدعاية الواسعة.
زاد في العصر الأخير اختلاطنا بالغربيين، ووافانا منهم رعيلٌ صالح من علماء ومفتنين وساسة وغيرهم، ونشأت بينهم وبين بعض أدبائنا وعمالنا وتجارنا صداقات، وعُقدت بينهم صلات وأصبحوا إذا تغيبوا يتراسلون ويتهادَون، يضيف الصاحب صاحبه، ويقصده في بلده وتتجلى الصداقة بين الشرقي والغربي إذا كانت صداقة الند للند، لا ينظر أحد الصديقين لصديقه نظرة غالب ومغلوب، فتغيرت بذلك الصور التي كان صَوَّرَنَا بها أرباب الأهواء، وكانت طبقة الخواص منهم أول من عرف هذا، وحبذا لو تفضلوا ونفوا ما أُلصق بنا ظلمًا، ودونوا مشاهداتهم على حقيقتها يُزيلون بصنعهم ما علق في أذهان شعوبهم عن العرب، ويعرفونهم أننا لسنا سود البشرة كالزنوج، كما يتوهم الجهلاء منهم، ولسنا بادية تعيش عيش سكان الوبر، نأوي إلى الخيام ونرعى الأغنام والأنعام، وأَنَّا لا نأكل لحوم الآدميين، ولا نضمر عداء للغربيين.
لما انهزم الجيش الفرنسي أمام الجيش الإنكليزي في سورية ولبنان سنة ١٩٤١ أبدى السوريون من العطف على المنهزمين ما أدهش القريب والغريب. كانوا يُئوون الضباط والجنود من فلول الجيش المدحور ويلاطفونهم ويطعمونهم ويحملونهم زادًا إذا كانت الشقة بعيدة، ويأتونهم بثياب جُدُد ليغيروا قيانتهم العسكرية، ويوصلونهم إلى مأمنهم بالاحترام والإكرام. عاملوا بذلك من استجار بهم ومن لم يستجر من الهائمين على وجوههم في البراري والجبال وهم مئات، حتى لقد أثنى المفوض السامي الفرنسي الأخير علنًا على ما بدا من شهامة أهل دمشق وعمالتها. ألا تعد هذه المروءة من بعض الأدلة على أن العربي لا يكره الغريب وأنه يعامل بالحسنى حتى من أساء إليه! أما الذين أحسنا إليهم هذا الإحسان فأقبلوا علينا بعد حين ينسفون مدينة مثل مدينة دمشق بقنابلهم وقذائفهم، ويقتلون الأبرياء، ويقضون على الثروة، ولولا تدخل البريطانيين لدمروا القسم الأعظم من مدن سورية.
وبعد فإن الغربي يعرف لعهدنا عن العرب صورة ما كان له مثلها في القرن الماضي، فغدا من الواجب على أهل الرأي في الغرب أن يدونوا الحق مما علموا، فبالحق ينفعون قومهم وغير قومهم، وينصرون الحقيقة بتكذيب من افترَوا ما أضر باسمنا وشهرتنا وشوهت به صورتنا وزيفت أعمالنا وتأخر استقلالنا. نريد أن ينقلوا عنا أننا نكره كل من يُملي علينا إرادته بالباطل، وينازعنا في سلطاننا في عقر دارنا، ويبرئ نفسه من كل عيب ويلصق عيوبه بنا. نحب الغريب على ألا يؤذينا بقلمه ولسانه، ولا يسمم الأفكار من ناحيتنا في دياره، وأننا نكره من يفتات علينا فيما لم نفعل، ويخترع لنا عيوبًا ليست فينا. نود أن يروى عنا أننا حقًّا نحب الغرباء ولا نبغضهم، وأن قرآننا أمرنا بأن نحسن إليهم فقال: لَّا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.