القول في وطنيتنا
الوطن هو البلد الذي يولَد فيه الإنسان، أو موطن الإنسان ومحله. وقسَّموا الأوطان إلى ثلاثة أقسام: الوطن الأصلي وهو مولد الرجل في البلد، وقيل ما يكون بالتوطن والبلد، وموطن الإقامة، وهو: موضعٌ ينوي المرء أن يستقر فيه خمسة عشر يومًا أو أكثر من غير أن يتخذه مسكنًا، ووطن السكنى وهو الموضع الذي ينوي الإقامة فيه أقل من خمسة عشر يومًا.
والوطنية هي الحب الذي يشعر به من يساكن جماعة في أرض يعيش فيها جمهرة من الخلق مجتمعين، وهي تستلزم رغبة في المعاونة على جلب الخير للبلد، ليُكتب له السؤدد في الحاضر والمستقبل، وتكون هذه الرغبة نتيجة عواطفَ كثيرة منها: حب من عاش المرء معهم، وارتباط قلبه بالأماكن التي وُلِدَ فيها، وقضى جزءًا من حياته في رباعها، يضاف إلى ذلك إخلاصٌ لجنسه ولغته ومنازعه وعاداته وقوانينه وأوضاعه، وللمجتمع الذي وُلِدَ فيه وانتسب إليه.
كانت كلمة الوطن ضيقة النطاق لا تَعْدو منزل المرء وبلده، فلما جاء الإسلام كان الوطن دار الإسلام عامة وما عداه دار حرب، وكان للدين الأثر الأول في الوطن العربي ثم للغة الواحدة، وقَلَّما كان الوطن — كما هو الشأن في الدولة الغربية الكبرى إلى اليوم — موحدًا في الجملة بأجناس سكانه ولغاتهم؛ لأن من قواعد الإسلام أن لا يُكره أحد على انتحاله إذا عمل بما يأمر به، فيبقى أهل كل دين على دينهم إن لم يحبوا برضاهم الدخول في الإسلام. وكانت هناك رابطتان: رابطة الجنس وهي طبيعية في الخَلْق، لا يستخدمها صاحبها في أغراض عامة، ورابطة الدين واللغة يدين بها المواطنون كافة.
نعم دعا الإسلام إلى جامعته فهي الوطن وهي القومية، وما دعا إلى الجنسية والقبلية، فقد كتب الرسول إلى عامله على اليمن أن يَنهى — إذا كان بين الناس هَيْج — عن الدعاء إلى القبائل والعشائر، وليكن دعواهم إلى الله وحده لا شريك له، فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليُقْطَعُوا بالسيف حتى تكون دعواهم إلى الله. ثم عاد العرب يتفاخرون بالقبيلة والعشيرة لَمَّا قامت المنازعات على الملك.
وقصد رسول الله بألا يكون في جزيرة العرب دينان أن تتألف من العرب وحدة سياسية، فتعذر قيام هذه الوحدة؛ لأن سائر العناصر والأديان أطلقت لها حريتها، فشاركت في الوطنية إلى حد محدود، ولولا أن أكل الربا نصارى نجران ويهود خيبر وتيماء، وكان شرط عليهم في العهد الذي مُنحوه ألا يتعاملوا به ما أجلاهم عمر عن جزيرة العرب إلى العراق والشام، ومع هذا أوصى بهم وما اضطهدهم أحدٌ من عماله ولا رعاياه، كما لم يُضطهد النصارى ولا اليهود ولا المجوس ولا الصابئة لما انتحلوه من دين، إذا أَدَّوُا الجزية، ورَعَوْا حقوق الوطنية الإسلامية.
وكانت تختلف درجة امتزاج الأعاجم بالعرب في الوطن الجديد، بحسب بُعدهم وقربهم من الأرض العربية، واختلاطهم بالفاتحين وأبناء الفاتحين، وما كان يسمح — على ما يظهر — أن تنعزل الجاليات عن سكان البلاد الأصليين، كأن تَقتطع لها منطقةً خاصة لا تتعداها إلى غيرها، أو إقليمًا بعينه لا تخرج منه. وربما آثر بعض أهل الأديان أن يسكنوا في حي خاص ليكونوا على مقربة من معابدهم، ويأنسوا باجتماع بعضهم إلى بعض، ويجمع بين الأصيل والدخيل في كل ولاية. ومزج معاوية في الشام القبائل والأديان المختلفة في الساحل والداخل حتى لا يكون النصارى أكثرية، ولئلا تتخذ منهم دولةٌ بيزنطية آلاتٍ لأغراضها السياسية. أما في الأندلس وشمالي إفريقية فقد أُنزل من جُلبوا من القبائل العربية في مقاطعات خاصة، ثم اختلطوا كلهم عربهم وبربرهم مع السكان الأصليين، وبتمازج المواطنين تتألف منهم، على الأيام، كتلةٌ واحدة، وينسى الأعاجم أصولهم.
وما كان لغير العربي أن يتطالَّ لأن يكون للغته شأْنٌ مع اللغة العربية، وما حاول أحد أن يتحلل من هذه الرابطة التي أحكمها الإسلام؛ وقدس لغة كتابه تقديسًا؛ وكان من أثر ذلك تعريب كل قطر بسط الفاتحون سلطانهم عليه بسطًا محكمًا، فأصبحت العربية لغة الدين والسياسة والعلم. وقد حاول أحد شعراء الفرس — والدولة العباسية في إِبَّان مجدها — أن يتلو قصيدة له في حفل فأبى عليه أمير الولاية سماعها. ولما ضَعُفَ أمر العباسيين أصبحوا إذا جاءهم شاعر فارسيٌّ بقصيدة يتلونها في مجالسهم كما يتلون الشعر العربي.
ولم تَقْوَ الجامعة الوطنية — أي: جامعة أرض معينة الحدود والمعالم، جمعت بين أهلها المصلحة المشركة — بقدر ما قويت الجامعة الدينية. وما خرج خليفة ولا سلطان ولا أمير عن حكم هذه الجامعة، ثم امتزجت العناصر بعد الفتح بقليل، وما انتهى القرن الأول حتى أصبح أهل المملكة الأموية يتكلمون باللغة العربية على اختلاف عناصرهم، وأمسى كل مواطن يشعر بأن مصلحته ومصلحة مواطنيه متحدة.
شهدنا العباسيين يَهون عليهم التساهل بحقوق الجنسية، للسياسة التي اضطروا لانتهاجها مع أبناء خراسان الذين قام ملكهم على أيديهم، ولم يفادوا بذرة من حقوق الوطن الإسلامي؛ أي: أنه كان همهم حفظ حقوق الوطن الأكبر، ويغضون الطرف عن بعض العناصر كالفرس، وقد أخذوا في القرن الثالث يحيون لغتهم بظهور شعراء فيها، وما تعربت الجبال والقاصية من فارس قط، وظلَّت في الإسلام محتفظة بفارسيتها.
ومن الصعب حصر الوطنية في أقطار واسعة متنائية الأطراف على نحو ما يتيسر ذلك في بلد ضيق معروف الحدود متماسك الأجزاء. وفي أصقاع يتعذر حكمها على غير قاعدة الحكم الذاتي كالأقاليم الإسلامية، لا يسهل أن يُربط سكانها إلا برباط واحد، وهو رابطة الدين أولًا واللغة ثانيًا، وكيف يرتبط ابن فاس ومكناس، مثلًا، بابن مَسقط وعُمَان بغير هذا الرباط؟
بسط العثمانيون الأتراك سلطانهم على ديار العرب، وكانوا إلى آخر أيامهم يؤْثرون أبناء جنسهم بالمناصب الكبرى، ولا يشركون أبناء العرب في سياستهم، وما جاهر العرب بمباينتهم للفاتحين، بل رحبوا بهم لما سمعوا عن عدل ملوكهم الأولين وما نازعوهم في سلطانهم، جاءوا باسم الإسلام، والإسلام هو الجامعة الوطنية الكبرى، واستنام العرب وغيرهم للدولة العثمانية، فحَكَمَتْهم قرونًا باسم الوطنية الإسلامية، ولَمَّا قويتْ في العثمانيين الدعوة إلى القومية التركية، وحاول دعاتها بآخِرة أن ينزعوا العرب من قوميتهم أخفقت دعوتهم، وما استطاعت الدول العربية تحقيقه من تعريب الأعاجم تعذر على الترك إنفاذ مثله؛ لأن العرب دعاة دين ومدنية وقد نجحوا في الدعوتين، أما الدولة العثمانية فما خرجتْ عن كونها دولة فَتْحٍ وتَغَلُّب، ليس إلا.
لما قَتَل سليمان بن قَتَلْمُش التركيُّ مسلمَ بن قريش العربيَّ صاحِب الموصل وما إليها، انتقل ملك الشام (٤٧٨) من العرب إلى الترك، ولم يحكم الشام بعدها إلا أتراك أو جراكسة أو أكراد، فتأثرتْ بذلك القومية العربية، ولم يقع حيف على الوطنية الإسلامية؛ لأن ذاك التركي الغالب جاء يحمل أيضًا تعاليم الإسلام، يكلم القوم بالعربية، ويكاتبهم بالعربية، فمحال أن يخرج العرب عليه، وإن فَضَّلُوا حكم العربي.
ولقد رأينا المصريين في القرن الرابع يستدعون الفاطميين من شمالي إفريقية ليسلموا إليهم ملك مصر، غير آبهين لما بينهم وبين الفاطميين من اختلاف في المذهب، بل نظروا إليهم فقط أنهم أصحاب دولة عربية قوية. ومع أن مصر كانت دار تشيع، كما يقول ابن زولاق، منذ أيام محمد بن أبي بكر، وكانوا يكاتبون بمسائلهم جعفر الصادق ولا يعدلون عن فُتْيَاه، ومع أن الفاطميين نشروا مذهبهم الإسماعيلي فيها أكثر من قرنين ونصف قرن، لا نجد لمذهبهم أثرًا في مصر، ونجد ميلًا إليهم؛ لأنهم عرب مسلمون أنشئوا مدنية عربية بمظاهرها، والقوم إلى اليوم يذكرونهم بالخير كما يذكرون الأتراك والچراكسة أبناء مذهبهم.
كان أرباب الدولة إذا اقتضت الحال إجلاء فريق من السكان عن قُطْر أو عن إقليم، وإنزاله في قطر آخر أو إقليم آخر، لا يخطر للمهاجر ببال إن كان عربيًّا أو غير عربي أنه نزح عن أرضه، بل يعتقد أنه انتقل فيها من بقعة إلى بقعة، ويحتاج فقط إلى زمن قصير حتى يتعرف إلى من نزل عليهم، ويألف طبيعة الأرض التي حَلَّ فيها. كان هذا شأنهم منذ الفتح، أنزلوا قبائل عربية عظيمة في الشام والعراق ومصر وشمالي إفريقية والأندلس، فعربوا من نزلوا عليهم حتى بدأ نقص محسوس في سكان جزيرة العرب بعد القرن الثاني بهجرة مئات الألوف من أهلها ومنهم حملة الدين وقُوَّاد الجيوش، فكان شأنُ الجزيرة في إقفارها من الرجال شأنَ شبه جزيرة إسبانيا والبرتغال عقيب فتح أميركا، هاجر منها معظم أهل الذكاء والشجاعة من رهبان وجنود، فأثرت هجرتهم في أوطانهم الأولى وانتفعت بهم الأقطار التي نزلوها.
وقد يرى السلطان نقصًا في سكان البلدان التي دانت لحكمه فيدعو من القاصية كل من يختار السكنى في مملكته، ويهيئ لهم وسائل العيش فيها، كما فعل الملك العاقل المنصور قلاوون سنة ٦٨٧ فكتب إلى أكابر السند والهند واليمن والحجاز والعراق والعجم، أن يحضر من يحب التكسُّب أو السكنى إلى الديار المصرية والبلاد الشامية، وبيَّن لهم ما في مملكته من خيرات، وفي هذا دليلٌ على أن الوطن الإسلامي، وإن تعددت حكوماته، لا يحتاج المهاجِر إلى شهادة بجنسيته، ولا لجواز يمكِّنه من التنقل في الأرجاء.
بلى، كان العالم أو التاجر يتنقل في البلدان الإسلامية على ما يهوى، وهو يعد كل بلد ينزله بمثابة بلده، لا يجد فيه أدنى عائق يحول دون استمتاعه بحقوقه ورغائبه، حتى ليتزوج ليلة وصوله إلى البلد الجديد، ولا يُسأل إلا عن دينه، أما الجنسية فقَلَّما يعرض لها. وشهدنا الملوك والخلفاء يأتون برجال غرباء عن مملكتهم، بحسب عرفنا اليوم، ويولونهم وزاراتهم، ويفوضون إليهم سياسة ملكهم، وعلى هذا النحو يفعلون في جيشهم، فقد يختارون لقيادته البعيدين عن مراكزهم وربما اختاروهم من غير أهل الإسلام.
أما القضاء والتدريس وغير ذلك من المراتب الدينية الكبرى فقد تُوَسَّدُ في ديار الشرق لمن نشئوا في الغرب، فيقضي العالم ويُفتي ويدرِّس ويَعِظ ويخطب، ويتناول من الأوقاف أو من بيت المال راتبًا مقررًا كأنه في مسقط رأسه، وبهذا تمازجت الشعوب الإسلامية تمازجًا غريبًا، وكيف لا تتمازج والمحورُ الذي تدور عليه الوطنيةُ هو الإسلام، الذي ساوى بين الأبيض والأسود، والعربيِّ والأعجميِّ، والسيد والمولى.
لما أخذ الفرس بمُخَنَّق الدولة العباسية لأول أمرها، وكاثروا العرب في الحكم، ثم تسلل الأتراك إلى مملكة العباسيين وقبضوا على زمام الأمر لم يُصَب الوطن الإسلاميُّ بما يخالف أصوله؛ لأن جميع هؤلاء المتغلبين كانوا من المسلمين، وسواء حكم العربي أو الفارسي أو التركي أو الديلمي أو البربري، فالإسلام كَمَّ الأفواهَ عن التفوُّه بمسائل الجنس، وأصبح الدينُ جامعتَهم والوطنُ وطنَهم، والقوم قَلَّما تعنيهم جنسيةُ مَنْ يحكمهم ولا نحلته إذا حكم بالعدل، ولما سأل هولاكو علماء بغداد: هل الحاكم المسلم الظالم أفضل أم الحاكم الكافر العادل؟ أجمعوا في فتواهم على أن الكافر العادل أفضل من الحاكم المسلم الظالم.
وما حدث من مسائل الشعوبية والتفاضل بين العرب والعجم، ما كان مما يقره الإسلام، وما خرج في الواقع عن حَدِّ مناقشاتٍ كان الداعي إليها منافساتٌ ومطامعُ شخصية طبيعية الحدوث في كل بلد كان أهله أخلاطًا وأمشاجًا، ومع هذا لم يطرأ على الوطن الأعظم أدنى خلل لمكان الدولة من القوة، والعقلاء من جميع العناصر ما كانوا راضين عن هذه المهاترات.
أما أبناء الذمة في الملك الإسلامي فكان شعورهم شعورَ وطنيٍّ يحب خير أمته؛ لأنهم هم أيضًا ينعمون فيه كالمسلم، وقد تساوَوْا في الحقوق والواجبات مع مواطنيهم المسلمين. وكان الصالح منهم يرى من عطف حكومته ومن عطف السواد الأعظم ما لا يكاد يرى مثله من ابن دينه، وما عقدتْ حكومةٌ إسلامية معاهدة مع دولة غير إسلامية إلا ذكرت فيها المعاهدين وحفظ حقوق الذميين. وكانوا إذا أُسِرَ النصراني أو اليهودي أو المجوسي أو الصابئ يفادونهم كما يفادون المسلمين، وإذا كانت لهم حقوق تجارية وراثية في دار الحرب تطالب لهم حكوماتهم بها كما تطالب بحقوقهم لو كانوا من المسلمين، وإذا قتل مسلم ذميًّا يقتل به، أو يُودَى ديةً كدية المسلم إذا رضي أهل القتيل، وتكون الدية من أعظم أصناف الدية. وما كنت تشهد الحكومات الإسلاميةَ إلا حريصة على إعطاء أهل الذمة حقوقهم، والمبالغة بحمايتهم من السِّفْلة والغوغاء، حتى إن مسلمًا إذا قال لمواطنه: يا نصرانيُّ، وأراد بقوله تحقير مخاطبه يعاقبه السلطان على كلمته، فكان المسيحيون في ديار المسلمين أسعد من أبناء دينهم تحت حكم النصارى في الغرب.
يقول بارتولد في تاريخ الحضارة الإسلامية: إن الشعوب التي عاشت في حكم المسلمين استفادت من العلاقات التي اتسعت بقيام الدولة الإسلامية الممتدة على قسم كبير من العالم أكثر من المسلمين أنفسهم، كما أن انتشار النصرانية والمانوية في بلاد غاليا، واليهودية والنصرانية في القوقاز وشواطئ الفولجا يعود إلى العصر الإسلامي، أي: إلى عصر التسامح والحرية الدينية.
ولو نجا الملوك من ضغط المتعصبين من رجال الدين لأعفوا أبناء الذمة من الكسوة الخاصة التي كان الذميون، في بعض العصور، يُلزمون بالاكتساء بها؛ تمييزًا لهم عن المسلمين، ولأبطلوا أخذ الجزية منهم حتى لا يشعروا بشيء من الذل في أوطانهم، وعلى عهد العباسيين الأول امتنعوا من أدائها وأغضت الحكومة عنهم. قال القَرَافِيُّ: «إن من واجب المسلم للذميين الرفق بضعفائهم، وسَدَّ خَلَّة فقرائهم، وإطعام جائعهم، وإلباس عاريهم، ومخاطبتهم بلين القول، واحتمال أذى الجار منهم، مع القدرة على الدفع؛ رفقًا بهم لا خوفًا ولا تعظيمًا، وإخلاص النصح لهم في جميع أمورهم، ودفع مَنْ تعرض لإيذائهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يفعل معهم كل ما يَحْسُنُ بكريم الأخلاق أن يفعله.»
كان من مصلحة أهل الذمة أن يمتزجوا بأبناء وطنهم تحت سلطان الرابطة الوطنية، كما كانت مصلحتهم منذ الفتح أن يتعلموا العربية، فاستعرب السواد الأعظم منهم، ونسي السريان في الشام والأنباط في العراق والأقباط في مصر لسانهم الأصلي وتعرَّبوا بتوالي الأجيال، لكثرة اختلاطهم بالعرب، وتشابك مصالحهم بمصالحهم. وفي كل جيل كان الوطن العام وطنهم، وسماحة الإسلام سياجهم وموئلهم، ورأى معظم المجوس والصابئة أن يُسْلموا، فأسلموا، ومنهم من خدم الدولة الإسلامية خدمة صادقة قبل إسلامهم وبعده، وكانت الحكومات كثيرًا ما تعتمد عليهم وعلى النصارى واليهود في إدارة المُلْك، وربما كانت الثقة بهم أكثر من الثقة بالعريقين في الإسلام من العرب، وهذا من جملة ما حبب إلى غير المسلمين الدخول في الإسلام كما وقع للقبط في مصر، فكان للذكي منهم، ولو ظل على قبطيته، صوتٌ مسموع في سياسة مصر وإدارتها، على ما يفوق فيه العربي المسلم والتركي المسلم في بعض العهود.
وصاحب الشأن ينظر إلى مصلحة دولته، ومصلحته في اصطفاء من يعتقد فيه الغناء في خدمتها، لا فيمن تقلُّ الصفات المطلوبة فيه، ويكون حبيبًا إلى قلبه كلُّ من يخلص في خدمة الوطن مهما كانت نحلته، والمُلْك مصلحةٌ لا عاطفة.
ذكر آدم ميتز في كتابه الحضارة الإسلامية في القرن الرابع: أن من الأمور التي تعجب لها كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية، فكان النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في ديار الإسلام، والشكوى من تحكُّم أهل الذمة في أبشار المسلمين وأموالهم شكوى قديمة … وقد قُلِّد ديوان جيش المسلمين رجلٌ نصراني مرتين خلال القرن الثالث فوُجِّه اللوم للوزير؛ لأنه «جعل أنصار الدين وحماة البيضة يُقَبِّلون يده ويمتثلون أمره.»
•••
خَفَتَ صوت الوطنية والقومية أجيالًا طويلة على عهد الدول الأعجمية، وفي الأدوار التي استغرقت في الفتن والاضطرابات. وربما كان لانتباه الفكرة الوطنية والقومية في الغرب خلال القرن الماضي تأثيرٌ في عقول النابهين من العثمانيين ولا سيما العنصر الحاكم منهم — أي: الترك — ثم سَرَتْ هذه الفكرة إلى العرب باختلاط رجالهم برجال الغرب وبرجال الترك أنفسهم، وبدا انبعاث الدعوة الوطنية من مصر بغزو نابليون وادي النيل، وكانت حملته أول عهد باحتكاك الغربي بالشرقي في عهد ارتقاء الغربيين. ومع أن المصريين كانوا يومئذ قلائل بعددهم وعلمهم تألفوا برباط الوطنية الدينية يردون، ما استطاعوا، هجماتِ الفاتح، مستندين إلى قوتهم وتدبيرهم أكثر من استنادهم إلى العثمانيين وبقايا المماليك.
أخذت الرابطة القومية تنمو وتستحكم في مصر على نسبة انتشار المعارف، وزادت شدة في ثورة عرابي، وكانت ثورة أثارها المصريون الأقحاح على العناصر غير العربية لاستئثارهم بالأمر وحدهم، وكانت ثورتهم الحجر الأساسي في قيام الوطنية المصرية، وسبق المصريون سائر الشعوب العربية إلى إدراك معنى الوطنية والقومية؛ لسبقهم بالأخذ من علوم الغرب واختلاطهم بأهله.
كانت الدعوة إلى الوطنية والقومية تَقِلُّ وتكثر في الولايات العربية العثمانية بمقدار نَشْرِ العلم في أرجائها، وربما كانت في الديار الشامية أقوى منها في سائر الولايات، كالعراق والحجاز واليمن؛ لأن الشام تَعَلَّمَ قبل غيره، وهو أقرب إلى عاصمة المُلْك العثماني وإلى أوربا ومصر، وكانت تشتد نغمة ترك وعرب كلما كثر عدد طلابنا الذين يأخذون العلم من مدارس الترك العالمية، وهذا ما أراد حكام المملكة من الترك أن يقضوا عليه، فقتلوا في الحرب العامة فئةً من رجال الشام حاولوا نَزْعَ قُطْرهم من رِبْقَة الحكم التركي، أو إعطاءه حقوقه التي تحفظ عليه قوميته؛ لما كان يخشى من فناء العرب في غيرهم.
أتى الدور الحديث في الأقطار العربية على النظم القديمة، وأخذ الناس يسمعون نغمات جديدة ما كانت تُعْرَفُ، ويتغنَّوْن بالقومية ويتناغون بالوطنية، وأخذ كل عنصر من العناصر الإسلامية يُدِلُّ بعنصريته على ما هو الحال في شعوب أوربا، ولا يعلم إلا الله ما ينشأ في المستقبل من دعوات جديدة.
ورأينا بعض دهاة السياسة يستغلون الوطنية لمنافعهم الشخصية وللصعود إلى منصات الحكم، فيعبثون بعقول العامة ويُلْقُونهم في مزالقَ تضيع بها أوقاتُهم وعروضهم، وكثيرًا ما تُودِي بهم وبمصالح الوطن الحقيقية، فإلى هؤلاء المُتَّجِرين بأرواح غيرهم وأموالهم وراحتهم كتب أحد علماء الأخلاق من الإنكليز «سمول سميلز» صفحةً بديعة وجهها إلى من يغشون الناس بادعاء الوطنية قال: ما كثير مما يقال له: الوطنية إلا ضعفٌ في العقل، وخرق في الرأي وتطرُّف لا معنى له، وتهور على غير جدوى، وطنيةٌ تظهر في التحامل والصلف والحقد، وطنيةٌ لا تعرف العمل، وطنيةٌ كلها تفاخُر وتظاهُر، لا ترى فيها غير «صخب ولَجَب، وضوضاء وجَلَبة، وهَيْعات مضطربة، وصياح وعويل، واستغاثة يأس، ودعاء قنوط» وطنيةٌ كل ما فيها رَفْع أعلام ونشيد أغان وألحان، وطنيةٌ لا يألو أربابها جهدًا في تحريك آلام سكنتْ وهفوات أُصلحت، ألا إن من أشد مصائب الأُمم أن تُمْنَى بوطنيةٍ هذه حالُها. وإذا كانت هذه وطنية كاذبة فإن من الوطنية ما هو صادق، الوطنية التي تنشط الأمة من عقالها، وتدعو أبناءها إلى الرقي بالعمل الصالح، الوطنية التي تدعو الأمة إلى القيام بالواجب بشهامة وكرامة، الوطنية التي تنادي في أهلها بالإخلاص والرزانة والاستقامة وتدعوهم إلى الانتفاع بما يعرض لهم من ضروب الإصلاح، الوطنية التي تعلِّم أبناءها كيف يذكرون ما فعل العظماء من الماضين الذين اكتسبوا عظمةً لا تُمْحَى بما عانَوْا من الصعاب في سبيل الدين والحرية، وأكسبوا أُمَمَهم حياةً طيبة وحكومات صالحة كانت حقًّا وميراثًا.» ا.ﻫ.
وبعد، فليس الوطن حدودًا محددة وبرورًا وبحورًا ممددة، وجبالًا ونجودًا وسهولًا معددة، ليس هذه المدن والقرى ولا هذه البيوت والمصانع ولا هذه الحدائق والحقول والغابات، الوطن أرضٌ درجنا عليها ورُبِّينا في حجرها وغُذِّينا بخيراتها ولبانها وأَلِفْنا أهلها وأَلِفُونا، وتعاطفنا وتراحمنا، سواء في ذلك قاصينا ودانينا وحاضرنا وبادينا، والوطنية روح وعقيدة يُستسهل في سبيلها بذلُ كل عزيز وتُغذى بالحياة؛ لأن بها تحفظ الحياة شريفةً سعيدة.