القول في الغربي والشرقي
ليس في هواء الغرب ولا تربته ما يدعو إلى أن يمتاز عن الشرق، وإذا زعم زاعم أن البرودة تسبب نشاط الغربي، والحرارة داعية كسل الشرقي، فالعرب في القديم لم يَحُلْ هواء بلادهم ولا تربتها دون إنشاء مدنية، إن لم تَفُقْ مدنية الرومان بقوتها فقد فاقتْها برحمتها، وسر النهوض متوقف على مسائل أخرى لا دخل للحرارة والبرودة فيه. سر مدنية الغرب دءوب دام أحقابًا مطرد الأول بالآخر، ونظام نافذ لا يُبقي على جاهل ولا ضعيف، وعناية بالدقيق والجليل من ضروب المعارف البشرية.
رأينا الغربي يحتفظ بالقديم ويتهالك على اقتباس الحديث، والشرقي يجمد على قديمه، وقَلَّما تحدثه نفسه بأن يأخذ الحديث إلا بحيطة شديدة وبطء مستطيل. وإذا جئت تنظر في الهمم والمضاء بين الشرقي والغربي فهناك يتفاوت البون بين الخلقين والجيلين. الغربي يعمل عمل من يعيش أبدًا والشرقي يعمل عمل من يموت غدًا.
وإنا لنشهد الغربيَّ على كثرة ارتقائه في نُظُمه النيابية لا يزال مستكينًا لعظمائه، يصدر عن آرائهم وينصاع إلى مشورتهم، وقد يقيم لهم المعاذير إذا غلطوا، ويعفو عن هفواتهم إذا هَفَوا. أما في الشرق فالكل يكادون يعدون أنفسهم في مستوًى واحد، لا يرون الخضوع للكبير إلا إذا كان ذا سلطان وبطش، يتأففون من القانون جائرًا كان أم عادلًا؛ ولذلك ضاع ملكهم وقضت عليهم دعواهم العريضة.
ومن أسباب تفوق الحضارة الغربية على الحضارة الشرقية أنه قام في الغرب طبقةٌ من الخواص ليس للشرق مثلها، وخواص كل أُمة سَدَنة علومها وحماة صناعاتها، أما طبقة العامة فمتشاكلة عندنا وعندهم، ولا يفوق عوامُّ الغرب عوامَّ الشرق إلا بأخذ العامة هناك بسائط المدنية. وقد يكون في عوام الشرق من هم أقرب إلى الفضائل من بعض عوام الغرب الذين أهلكتْهم المسكرات والمخدرات، وظلوا على شيء من همجيتهم القديمة.
العبرة بالخواص في قيام المدنيات، ولا نعني بالخواص هنا رجال الدين، فهؤلاء يدعون إلى الآخرة، والمدنية ابنة الدنيا، ووليدة أمور لا تدخل منهاج الديانين. ومن الخواص نشأ الاختصاص في المدنيات الحديثة، وكلما كثر عددهم تنوع هذا الإخصاء حتى لتجد العلم الواحد أو الصناعة الواحدة اليوم تنقسم إلى عشرة أو عشرين نوعًا.
في الغرب يفنى الفرد في المجموع، وفي الشرق يعبث الفرد بالمجموع. وبحق ما قال بعضهم: «الغرب هو التسلط على الطبيعة بالعمل، والشرق هو استثمار الإنسان للإنسان.» وما وقع في الأدوار التي مرت بالإنسانية أن تسلط الإنسان على الطبيعة، كما هو متسلط اليوم في الغرب، وما عُهد أن قبض ابن الغرب على قياد ابن الشرق كما هي الحال في العصرين الأخيرين، تسلطَ الغربيُّ لَمَّا تفوق على الشرقي بعلمه وعمله.
وفي الواقع إن الممالك كانت تقوم عندنا بالأفراد النابهين إذا ذهبوا انقطعت أعمالهم، وممالكُ الغرب تقوم بالجماعات إذا هلك الفرد لا يكاد يُشعر به، ويأتي بعده من يتناول ما بدأ به فيتمه، ولا يخطر بالبال أنه هضم حق نفسه؛ لأنه سار على سنن مَنْ تقدَّمه، فالغرب أقرب إلى تسلسل الفكر، أو قُلْ، أقرب إلى القانون.
وإذا قيل إن مدنية الغرب مادية صرفة لا شأن فيها للمعنويات كثيرًا فمدنية الشرق كثيرة المعنويات، وشأن الماديات فيها قليل، أو هو فيها أمر ثانوي. والماديات هي السلم الموصل إلى بلوغ القوة. وأيُّ معنويات لمن تجرد من المادة؟ وهل من غَناء للضئيل في الجماعات كالقوي؟
دُهشت من كل ما وقع بصري عليه من أعمال الإنسان في أول رحلة رَحَلْتُها إلى الغرب، فأعلنت أني أُصبت بداء الاستحسان، لا تقع عيني على شيء إلا استحسنتُه، وظلت هذه الدهشة يَدْخلها التعديل الحين بعد الآخر كلما زادت المعرفة بالغرب، وتحدثت النفس بسر هذه العظمة التي يشاهدها المرء في كل جيل من أجيال الإفرنج، وفي كل صقع من أصقاعهم، ولقد لامني بعض أصحابي لأنني دوَّنت من مدنية الغربيين في كتابي «غرائب الغرب» كل جميل وسكتُّ عن غيره. قال: كان الأولى أن تذكر الحسنات والسيئات. وعذري إليه وإلى من قال بقوله: إني كنت أريد أن أُعرِّف قومي بالحسنات ينسجون على منوالها، وما كنت لأطمع في أن أشغل الأذهان بأمور لا يخلو منها بلد، انحط أو ارتقى. وعندنا مما يماثلها ما لا ينفع تدوينه ونحمرُّ خجلًا من ذكره. ومن العدل أن يقال: إننا بقدر ما نرى في المدنية الحديثة من فضائل نرى فيها ما يقابلها من رذائل، والفضائل تربو على غيرها كثيرًا. فالأمثلُ بقومنا أن يقتبسوا الخير ويغضوا الطرف عن الشر.
أتت أوربا بهذه المدنية الساحرة فانتفعتْ بما أنشأته الإنسانية جمعاء، ويُغتفر النقص القليل فيها في جنب ذاك الكمال. ولا نقول الكمال المطلق؛ لأنه لا يُرجى أن يكون هذا في البشر ولا وقع في عصر من العصور التي انتهى إلينا خبرها.
اخترعت أوربا وأميركا أُمورًا خففت بها أمراض الإنسان، واخترعت ما يُعجل في إزهاق روح الإنسان، اخترعت أدوية قلَّلت من عدد الوفيات، كعلاج الجُدَري والحميات والأَوبئة والأمراض الزهرية والكُزاز والخناق والنِّقرس الحاد. وكثرت بالمدنية أمراض السرطان والسل وأوجاع القلب والكُلى والأمراض العصبية والعقلية. وكان معظم انتشار هذه الأمراض من ازدحام السكان في بقعة واحدة، ومن رغبة الفلاحين في مغادرة القرى إلى المدن واتخاذها سكنًا. فالمدن في الغرب يزيد كل سنة سكانها بمن يهاجر إليها من أهل القرى؛ لأنهم يذهبون إلى أن العيش في المدن أربح وأرفه، والشرق يسير على هذه السنة، تُضخَّم مدنه بإغرائها سكانَ القرى على ترك مزارعهم.
رأى القرن التاسع عشر البخار والكهرباء، ومنها نشأت أكثر أدوات هذه المدنية الحديثة، فكان من أَبْرَكِ العصور على الإنسانية، واخترع أشياء في الطب والجراحة خففت من ويلات الطواعين والأَوبئة والأَمراض الوافدة والأَوجاع المؤلمة، ولكن بدأ فيه استعمال المورفين ثم تبعه الكوكايين والهيرويين، وكثرت السمومُ من المشروبات الروحية، فأضرت بالعقول والأجسام. ورأى هذا القرن أنواعًا من الاختراعات، فعرف الراديوم والراديو، واختُرعت الطيارات والسيارات والغواصات، إلى غير ذلك.
يقول رجال الطب والصحة: إن هذه الحياة الشديدة، والنشاط المتواصل، والحرص الذي استولى على النفوس سيؤدي بالمدنية الحاضرة إلى البوار؛ ذلك لأن أَهْوِيَةَ المدن مشبَّعة بالغبار والغازات الضارة وقليلٌ أُوكسيجينُها. وفيها تكثر الأمراض، وتنتقل من السقيم إلى السليم بسرعة، وتكثر المسكرات والموبقات. ومعظم هذه العيوب خاصة بالممالك الصناعية، وللصناعة أدواءٌ كما للزراعة أدواءٌ. وكيف تجود الصحة مثلًا في مدن لم يكتف أهل الغرب أن يبنوا على سطحها وأخذوا يبنون بيوتهم في جَوِّها. وفي مدينة نيويورك بيوت ذات مائة طبقة، وقد قدروا عدد السكان في كل كيلو متر واحد من هذه العاصمة العظيمة بمائتي ألف ساكن. أما البنايات ذات الطبقات العشر في أوربا فهي من البناء العادي الذي لا يوجب دهشة ولا استغرابًا.
قللت الصناعة في الغرب من رغبة الناس في الزواج؛ لأن العاملة لا تستطيع أن تكون ربة بيت وهي تكد طول نهارها وجزءًا من ليلها في المعمل، وأَدَّت الرغبة عن تأليف البيوت والأُسر والتمازج بين النساء والرجال إلى انتشار العهر، فقلت المواليد في فرنسا أولًا ثم أصيبت بهذا النقص أيضًا بريطانيا العظمى وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة، ثم أوستراليا وسويسرا.
وأصبح بعض أهل المدن لا يفكرون في الزواج، وإذا تزوجوا تحيلوا لإفساد طرق التناسل، مُؤْثِرين العقم على كثرة النسل. أعرف عشرات من الرجال المذكورين في الغرب وقد بلغ بعضهم سن اليأس، أي: بلغ الشيخوخة، ولم يتزوج، ونحو العشر أولد أولادًا وتسعة الأعشار الثانية عاش أربابها عقماء. وربما أدى نقص عدد الرجال، لكثرة ما أفنت الحرب في الغرب، إلى اضطراره أن يقضي بزواج اثنتين في المستقبل؛ لأن الحروب الأخيرة قضتْ بأن يزيد النساء على الرجال في أكثر المماليك بضعة ملايين.
لا جرم أن للإقليم تأثيرًا في أخلاق الشبان والشابات، فإن تأخُّر سن البلوغ في شمالي أوربا نشأت منه فوائد. ومن طبع سكان الأقاليم الباردة الصمت والانكماش وأهل الأصقاع الحارة أو المعتدلة يهيمون ويثرثرون، وسكان الشمال يتماسكون فيتغلبون على أعصابهم بعض الشيء ويغلب عليهم العبوس والتقطيب. سكان الجنوب يطربون ويهزلون ويضحكون، والشماليون يداوون جفاء الهواء برياضات جسمية عنيفة يقومون بها كل يوم، أما الجنوبيون فهم في غنية عن كل ذلك؛ لحرارة أرضهم؛ ولأن فصولهم معتدلة في الجملة.
والسرُّ الأعظم في غنى الغرب وفقرنا أن عامة الغربيين وخاصتهم، أغنياءهم وفقراءهم، رجالهم ونساءهم، يكدون للكسب فلا تكاد تجد مَنْ لا يعمل أو لا يفكر في فائدة تعود عليه وعلى أُمته بالخير. أما في الشرق فالعامل من يحتاج إلى رزقه ورزق عياله اليومي، وتجد في أهل اليسار من الشرقيين الشابَّ القوي العضلات والشابة الذكية الفؤاد، وكلاهما عالةٌ على أهله. وهذا لا تكاد تجده في الغرب.
تأملوا حال أُسرة مؤلفة من والدين وأربعة أولاد، الوالدُ يشتغل في حرفته، والوالدة تقوم على تربية أولادها وإدارة منزلها، فإذا فرغتْ شغلتْ أوقات فراغها في تطريز أو خياطة أو نسج، أو تصوير أو موسيقى، أو مطالعة، أو غير ذلك، والولد بعد المدرسة الابتدائية يشتغل في حقل أو دكان أو مصنع وأخته كذلك، تأملوا هذا وقدِّروا ما يدخل تلك الدار من المادة بصنع ربتها وأولادها، لا شك أنه ضعف ما يربح رب البيت وحده عندنا على أقل تعديل، فكل إنسان هناك، مهما كانت منزلته، إذا بلغ سن الرشد أو قَرُبَ منه يعيش لنفسه بنفسه، رجلًا كان أو امرأة. أما الشرقي على الغالب فيعلق أموره على الأقدار، وهو كالحلمة الطفيلية لا تعيش إلا بامتصاص دم غيرها. ولو كان قانون المواريث عندنا كقانون الإنكليز لا يرث الثروة المخلفة إلا بكر الأولاد وغيره يحرم مال أبيه لمات رُبْعُنَا جوعًا. إذا عرفت هذا فلك أن تقول: إن جميع قوى الغرب من جماد وحيوان وإنسان مستثمَرةٌ منتفَع بها، وبعض قوى الشرق، بحيوانه وجماده وإنسانه، ضائعة مبعثرة.
في اليوم الذي نرى فيه المتعلمين في هذا الشرق القريب، في المعامل والمصارف والمخازن والحوانيت يسوغ أن نَدَّعي أن الشرقي ارتقى وأصبح أهلًا لأن يجاري الغربي في معظم مظاهر الحياة، في اليوم الذي يجدُّ فيه الإنسان عندنا من المهد إلى اللحد بدون انقطاع يصحُّ أن ندعي أَنَّا أُمة ناهضة ولا من ينازعنا هذا اللقب. في اليوم الذي نرى العالم والعامل فينا يشتغل ١٤ ساعة لا يبالي التعب، ويمتنع عن أكثر اللذائذ إذا كان في ذلك فائدة أُمته، يُرجى أن يتم لنا عمران وحضارة. في اليوم الذي لا ننسل أولادًا إلا بقدر ما نستطيع أن نربي منهم، ولا نتركهم للطبيعة يموت من يموت منهم، ويعيش من يعيش مهمَلين غيرَ مَعْنيٍّ بصحتهم وتنشئتهم، في اليوم الذي يصلح به حال المرأة، فتدرك أنها قسيمةُ الرجل في حياته وشريكتُه في بيته لا يفرق بينهما إلا الموت، ويعرف الرجل لها حقها الطبيعي لا يعتدي على شيء منه، في اليوم الذي يقوم كل منا بواجبه متكاتفًا مع أخيه تكاتُفَ الثقة، في ذاك اليوم نعد شيئًا مذكورًا في مجموعة أُمم العالم، ونستعيد بعض مجدنا السالف.
كتب إليَّ صديقي العلامة جويدي، شيخ علماء المشرقيات بإيطاليا في عصره، يقول: وإن كان شاعركم العربي قال:
فأنا قد ذرفت على الثمانين، ولا أزال أعمل في صحة ونشاط. ولما كتب ذلك كان في الرابعة والثمانين من عمره، وهو كأنه ابن أربعين في حركته. وسعدت بأن عرفت عشرات في الغرب من غرار هذا الرجل العظيم في الدُّءُوبِ وهم في سن عالية، وقلَّت لهم الأمثال بين العلماء في هذا الشرق العربي. والنابهون منهم في أرضنا ينتظرون عطف الحكومات، وقلَّ من يعمل في كهولته وشيخوخته في العمل الذي استعد له في فتوته، لذلك تراهم لا ينتجون.
الغربي يحاذر أن يموت بدون عمل، ومَنْ لا يشتغل يُعد في حكم الأموات. والشرقي إذا أُكره على العمل يدأب في أوقات معينة من حياته، فإذا ما أحرز مظهرًا صغيرًا أو شدا شيئًا من أدب وعلم أو جمع قليلًا من المال اغتبط به، وعَدَّ نفسه بلغ أقصى الغايات، وربما بطر وأسرف وأتلف. ومن الشرقيين من يحبون أن يَشحذوا ولا يُتعبون أنفسهم في تحصيل رزقهم.
والعلة في الشرقي أنه لا يتعلم صناعة فيتقنها؛ بل يقف عند حد السهل منها، لا تحدِّثه نفسه بأن يخصي فيها إخصاء الغربي، وليس التلفيق كالتحقيق ولو طليته بطلاء ظاهر، وحلَّيْتَه بما تراه جميلًا من حلل، والشيء ما لم يأخذ من نفسك لا تبرز فيه، وما نجح إنسانٌ بغير الإتقان.
وعلى الجملة فإن حسنات الغرب في عملياته أدعى إلى الإعجاب من حسنات الشرق، فإنها هنا تجمد عند حد الأنظار أو النظريات. ولا يفوتنا القول، والحديث أمانة، والإنصاف بالعاقل أحجى، أن الشرق ينسج على منوال الغرب، إذا ضاعف جهوده، وبِيَدِهِ ذلك، لا يمضي جيلٌ أو جيلان حتى يتشابه الشرق والغرب في أساليب عمرانهما وطرق تعليمهما وموارد عيشهما، ولكن هل تكون ذهنية الشرقي كذهنية الغربي؟ هذا فيما يظهر يحتاج إلى زمن طويل، وربما يبقى في ناحية من نواحي الذهنيتين بعضُ فروق.
لقد تتشابه عقليات الغربيين على تخالُف درجات رقيِّهم في المدنية. والعقليات ابنة العلم والدرس وكلهم يدرسون، يأخذ كل امرئ من العلم بحسب طبقته وطاقته، وهذا من أهم أسرار حضارتهم، ويليه الغرام بالاختصاص في العلوم والصناعات، وعدِّهم كل حرفة شريفةً.
ومما أخَّر الشرقَ كونُ بعض أهله يدَّعون معرفة كل شيء فكانوا لا شيء. إن دعوى التفوق دعوى باطلة. فحري بالعاقل أن لا يحكم قبل أن يعلم وينظر بنفسه، وألا يحكم بما تخيل له وهو لم ير أكثر من بيته وبلده.
رأينا الغربيَّ يفكر، وهو صغير السن، في موضوع يقع من قلبه موقعًا لذيذًا، ويتصور منه فائدة له ولأُمته، وهو لا يزال على الأيام يتوسع فيه ويستكمله من جميع أطرافه. أما الشرقي الذي في سِنِّه فإنه إذا فكر في شيء من ذلك، لا يلبث أن يرجع عن فكرته الأولى، وقد يستعيض عنها غيرها أو لا يستعيض، ويدخل في عالم آخر. وكثرة الذكاء قد تضر بالشرقي، والذكاء المحدود المنظم نَفَعَ الغربي.
قلَّ أن رأينا في الشرقيين أناسًا يحبون العلم للعلم، ويبحثون في المطالب العقلية والأدبية حبًّا بها أو رجاء أن تأتيهم بجديد، وتعود عليهم وعلى أُمتهم بمنفعة، أما الغربي فيبحث ويدرس ويتعمق ويغامر للوصول إلى شيء من المجهولات يورثه الذكرى الحسنة في عاجل أيامه وآجلها. وليس عند الغربي وقت معين للتعلم، يتعلم ما حسنت به الحياة، ولا يمنعه مقامه ولا ماله من النظر فيما لا يعلم. يدقق فيما يهمه ويدوِّن ويسجل مخافة أن تضيع أتعابه سدًى أو يعرض لتحقيقاته ما ينسيه إياها، أو لا يَنتفع بها مَنْ بعده. ولا يخلو الغربي من مذكرة يكتب بها ما يهمه لحاضره ومستقبله، وما عرفه وما جهله، وما عمله وما يحاول أن يعمله. أما الشرقي، فهذه مسائل يعدها غير حرية بالعناية إذا احتاجها بحث عنها، وإذا لم يجدها فالخطب أهون مما يتصور الغربي. ووضع الجرازات والمفكرات والفهرستات من أَعْوَن الأمور على التذكر والتفكر، وهي عند الغربيين مألوفة كثيرة.
ولكم رأينا أناسًا من الغربيين درسوا لغات جديدة أو علومًا لا عهد لهم بها وهم في سن متأخرة؛ أي: بعد الستين وما منعتهم سنهم، ولا ضعف من أجلها نشاطهم، وظلوا مثابرين على ما بدءوا به حتى تمت لهم أُمنيتُهُم ووصلوا إلى مقصودهم، وقد يكون منهم الأثرياء والعظماء الذين شبعوا من كل مظهر في الحياة، وكلهم يدركون أن الغِنَى والجاه والسلطان لا تُغني صاحبَها، وغناه بما يعلم ويفيد منه.
ما دخلتُ في الغرب محلًّا عامًّا في أوقات الفراغ إلا رأيت الكتب والصحف والمجلات في الأيدي ينظر فيها أصحابها نظر تَدَبُّر، وقلَّ أنْ دخلت محلًّا في الشرق جمع أصنافًا من الناس إلا رأيتهم يحدق أحدهم بالآخر، ويصرف الوقت في العبث غالبًا، كأنه يريد أن يقطعه بأي حال كان، أما الغربي فيقطعه في الاستزادة من المعرفة ويأسف على ذهابه جزافًا.
زرتُ كثيرًا من قرى الاصطياف في الديار الشامية وكان زُبُنها من أهل البلاد والأقطار المجاورة، كمصر والعراق، ومنهم غربيون من أُمم مختلفة، فندر أن رأيت عربيًّا يحمل كتابًا ينظر فيه، وهو يتبرم بقضاء الوقت وينتظر بفارغ الصبر وقت اللعب أو الطعام أو الرياضة والتنقل، أما الغربيون في هذه المصايف فرأيت أكثرهم يحملون بأيديهم كتبهم ومجلاتهم وجرائدهم ويتبحرون فيها ساعات متلذذين مغتبطين لا يَمَلُّون ولا يَكِلُّون، أليس هذا دليلًا آخر على ما عندنا من نقص ظاهر وما عندهم من تطلُّع إلى الكمال؟ ولو تعلم واحدهم كل يوم مسألة لكان خليقًا بأن يبلغ به درسه بعد عشرين أو ثلاثين سنة من حياته مبالغ العلماء، والفريق المرجوُّ منه الخير عندنا دائبٌ على التلهي بالمحال وصرف العمر في الثرثرة وإضاعة الوقت. ذكر بعض أرباب السياحات من المشارقة أن بعض بيوت الفقراء في إنكلترا كانوا يصورون على الجدران في غرف الاستقبال صور كتب مجلدة تجليدًا نفيسًا موضوعة في خزانة تنادي الداخل أن لصاحب الدار مشاركة في المعارف، فإن فاته الكتاب فعنده صورته ومثاله، وهو يفاخر بالكتب كما يفاخر أهل السعة باقتناء العاديات والأعلاق النفيسة أو كأن لسان حال صاحب البيت: إن كانت حالي لا تسمح لي أن أقتني أعيان الكتب وأجعلها في خزانة فأنا أصورها وأتمتع بمنظرها الجميل. أما في الشرق فقَلَّما رأينا بيتًا يقتني الأسفار ويصفُّها على رف أو يحفظها في خزانة، يفزع إليها هو وأولاده وأهله للاستفادة.
ووقع لي أنْ كنت أُزين لبعض من أعتقد فيهم استعدادًا للمطالعة أن يقتنوا الكتب في جملة ما يقتنون من الأواني والطنافس، وكنت من جملة ما أعمد إليه لبلوغ هذا الغرض تشجيعهم على ذلك بإهدائهم كتبًا وأحتال عليهم أن يطالعوها لأجيئهم بغيرها، ولطالما حببت لبعض أرباب السعة أن يجمعوا الكتب بالتدريج فما نجحت دعوتي كثيرًا؛ لأن الشرقي ابن الجمود، لا تحدثه نفسه أن يخرج عنه. ولقد شهدت أن كثيرًا من المعلمين والقضاة والإداريين والأطباء ليس في بيوتهم كتب، ثبت لي أن بعض هذه الفئات ودعوا كتبهم في المدرسة وما فكروا أن يقتنوا ما ينير أبصارهم ويساعدهم على إتقان صناعاتهم، وهذا من جملة الفروق بين العربيِّ والغربيِّ.
وحب الاستطلاع حدا الصحف الإفرنجية على أن تنشر كل يوم بسائط من العلوم والمعارف في قوالبَ مقبولة؛ لأن قراءها يطلبون منها هذا ليتعلموا منه. فالجرائدُ الكبرى عندهم مدارسُ يوميةٌ تلقي على قرائها ما يروقهم ويأخذون منها ما ينير أفكارهم. تحمل في صفحاتها جميعَ رغبات الناس؛ ولذلك كان مستوى عقول من تعلموا منهم التعليم الابتدائي أرقى ممن تعلموا هذا النوع من التعليم عندنا. ومن أجل هذا كانت جرائدُهُم غير جرائدنا في هذا الباب. وفي الصحف الإفرنجية التي تصدر في مصر نموذج من صحف الغرب الكبرى، يسقط القارئ فيها على ما لا يجد مثيلًا له في الصحف العربية من مقالات وفصول طريفة، تسلِّي وتعلم.