القول في الجامعة الإسلامية
انتشر الإسلام في العصور الغابرة في أقطار بعيدة عن مَبْعثه على أيدي جماعة من التجار. ونما عدد المهتدين على مر السنين، فأصبحت كل مجموعة منهم تعادل نفوس أمة من الأُمم الكبرى اليوم. ولم تستول الدول الإسلامية على الصين ولا على جاوة، ولا على أقاصي بلاد السودان في إفريقية، حتى يقال: إن الإسلام هناك شاع بفضلها، كما شاع في الهند منذ الفتح، وانتشر في البلقان أيام العثمانيين. وكان لطبيعة الدين ويُسْره أعظمُ الأثر في الوثنيين والمانويين والبوذيين، تَمَثَّلُوه ورسخ بينهم رُسُوخَه في أرض العرب. وهكذا انتشر الإسلام في إفريقية، وأمسى أهله فيها عشرات الملايين، والمسلمون يزيدون في جاوة على ستين مليونًا، وكذلك عددهم في الصين، وبلغوا في الهند تسعين مليونًا.
نأت ديار مئات الألوف من المسلمين عن جمهرة أبناء دينهم في جزيرة العرب وفارس والأفغان والترك والقوقاز، وكان منذ القديم يتعذر الاتصال بين عامة الشعوب الإسلامية، وما كان لهم اجتماع إلا بمكة في الموسم. ومن الصعب أيضًا أن يمتزجوا الامتزاج اللازم في أيام الحج القليلة. وفي الغالب يحج الشيوخ، وفي الشيوخ تضعف الحركة، والميل إلى الأخذ بالجديد.
كان الحج في الزمن الأخير من طبقات العامة، وقلَّ أن يحج المتعلمون. وقد حج في السنين الأخيرة نَفَرٌ من رجال تونس ومراكش المثقفين، وطائفة من أساتذة الجامعة المصرية وطلبتها، فكانوا حلية مَنْ حجوا، ومثلًا صالحًا لمن كان في طبقتهم ووَدَّ أربابُ البصيرة لو اقتدى بهم أمثالهم من الشعوب الإسلامية الأخرى، ليعود إلى اجتماع مكة بعض رُوائه، وتتحقق مقاصد الشارع من الحج.
إن في حج الآخذين بمذاهب التربية الحديثة أعظمَ الفوائد لشعوبهم، فهُمْ في الحج غير فريق العامة من المسلمين فيه، يستفيدون من حجهم معارف جديدة، ويهتدون إلى منافع ومقاصد، ويبث بعضهم في روع الجاهلين أفكارًا تبعث فيهم روح النهوض، ويرجع المسلمون من حجهم يفكِّرون في حاضرهم ومستقبلهم.
لا رجاء الآن بتعارف المسلمين في غير الأرض المقدسة، واجتماعهم هنا، على ضعفه، لا يخلو من فوائد. وحبذا لو تيسر للفئات المستنيرة في العالم الإسلامي أن يُعِدُّوا كل عام رحلات إلى القاصية، يشترك فيها أهل الطبقات الراقية، فيتعارفوا إلى الشعوب النائية من إخوانهم، ولكن قومي إلى تخاذل، أقوياء فُرادى ضعفاء جماعات، ولطالما رجوت أن تفرض الجامعتان المصريتان على بعض طلبتهما أطروحات عن الممالك الإسلامية، فيقضي الطالب سنتين أو ثلاثًا في البلد الذي يُرام البحث فيه والإلمام بكل ما له علاقة به.
من أهم أركان الإسلام توالي الاجتماع، وما قامت اجتماعات أهله في الصلوات الخمس كل يوم، وفي صلاة الجمعة كل أسبوع، وفي الأعياد والمواسم كل عام إلا على غاية سامية، يقصد بها الشارع دوام أُلفتهم؛ ذلك لأن البُعد جفاء، والنفوس تتناكر إذا لم تتعارف.
وتقول: إن تواتر اجتماع المسلمين في الحج مما لا ترضى عنه بعض دول الإفرنج؛ لأنها تنظر إلى هذه الصلات بين أهل الإسلام غير نظرنا إليها، فتقيم العقبات في سبيل الحاج، كما وقع من إحداها في بعض السنين الغابرة أن حظرت الحج على أهل أقطار عظيمة، فماذا يكون منها لو رأت جماهير من أهل الأقطار التي وضعت أيديها عليها تجتمع في الحج؟ وخصوصًا إذا كانت من طوائف تفهم وتعلم، وتعرف كيف تعمل.
لا جرم أن المسلمين في حكم الدول الغربية إذا طلبوا بالطرق القانونية الإذن بالحج، لا يسع دولة تهتم لغضب رعاياها ورضاهم إلا إجابة طلبهم المعقول. والزمن اختلف، واختلفت السياسة والشدة ما أتت ولن تأتي بخير، وقد غدا لزامًا على الدول إذا جنحت إلى أن تعيش بسلام أن تصانع بعد اليوم في أمور كثيرة، وتعامل الناس بالحسنى أبدًا، وتخرج عن القوانين الجائرة إلى أنظمة عادلة.
ولقد قوي حب القومية في بعض الشعوب الإسلامية كالتُّرك والعجم، فمنعت حكومتاهم الحج على المسلمين من رعاياهم؛ خشية من تسرب أموال الدولتين إلى الخارج لإطعام فقراء الحرمين، ونَفْع شركات النقل في البواخر. وهذا عمل غريب لم تجرؤ أي حكومة على إتيان مثله في غابر العصور، وقد حدث أن انقطعت بعض الأقطار عن الموسم بضع سنين بداعٍ طبيعي من فتن وأوبئة ومجاعات.
•••
إلى عهد قريب كان بعض المتحمسين يدعون إلى الجامعة الإسلامية بدون أن يُعدُّوا لها عدتها، ويعلقون على تأليفها أعظم الآمال. ولقد كنت كلما سمعت هذه النغمة أستبعد تحقيق الأمنية. ولذا لم أكتب في هذه الجامعة سطرًا واحدًا بالتعديل ولا بالتجريح. وكيف، لَعَمْري، تتحقق الجامعة الإسلامية، والمسلمون تحت سلطان دول متنوعة، مشتتون في ثلاث قارات، تتباعد أصقاعهم ألوفًا من الأميال، ولا يكادون يتفاهمون إذا اجتمعوا؛ لأنه ندر من يحسن العربية لغة المسلمين الرسمية من الأعاجم، وقد يعرف أحدنا عن الشعوب الأوربية ما لا يعرف بعضَه عن مسلمي جاوة والصين والهند، وهم أكثر من نصف المسلمين في الأرض. وأنى يتعارف الهندي المسلم إلى المراكشي، وبينهما من الاختلاف في المنازع واللغة والثقافة وجميع ما يجمع الأُمم، أكثر مما بين الأوروبي والآسياوي. نشأ هذا من الفردية التي خُصَّ بها المسلمون، ومن عُزْلَة كل شعب عن الآخر عزلة منقطعة. الفردية باعدتْ بين أبناء نحلة واحدة، كان من أكبر مصلحتهم أن يجتمعوا، ويتفاهموا ويتعاطفوا، وتباعُد الأقطار الإسلامية بعضها عن بعض زاد في التبايُن تباينًا جعل كل شعب من عالم آخر غير الذي نحن عائشون فيه. وساعد على هذا أن ملوك الدول الإسلامية في الأيام الأخيرة ما كانوا يفكرون إلا في دوام نعيمهم، والاحتفاظ بسلطانهم، وما كانت عقولُهُم تصل إلى أبعد من شهواتهم وأغراضهم، وما ظهرت لهم قوة إلا بالاعتداء على الضعاف من جيرانهم. وقَلَّ جدًّا الصالح فيهم المتقن صناعة الملك، وهي صناعة تتوقف على صفاتٍ خلا منها أكثرُ مَنْ ساسوا الشعوب في ديار الإسلام.
نعم فُقدت أكثر عناصر الجامعة الإسلامية؛ لأن بعض الحكومات تقاومها، ولو كانت تحكم أوفى عدد من أهل الإسلام لأُمور تتوهمها، ومنها: الخوف على سلطانها وانقطاع منافع النفعيين ومطامع الطامعين. ومَنْ يَستبعدون قيامَ هذه الجامعة، وصعب حملهم على الدعوة بما لا يؤمنون به إيمانًا راسخًا. أما رجال الدين، والرجاءُ معقودٌ فيهم في هذا الباب، فلا يرجى منهم أن يخلصوا القصد في تأليف جامعة الإسلام ما داموا يدهنون لكل صاحب سلطان. وقد كان الإمام المصلح السيد جمال الدين الأفغاني رأى التعويل في قيام هذه الجامعة على رجال الدين، فأحسن ظنه بهم، وتناسى أنهم منذ أجيال ما حققوا بعض ما كان يُرجى منهم، قصاراهم الترامي على أبواب الحكام والخنوع لأرباب القوة.
على المسلمين، في المشارق والمغارب، أن يتعارفوا ويتآلفوا، بهذا يأمرهم دينهم، وعلى هذا يتوقف دوامُ سلطانهم في دنياهم، وذلك من طريق الحج، ومن طريق الرحلات، ومن طريق التجارة، ومن طريق المصاهرة، وعليهم أن يقيموا في كل حاضرة من حواضرهم دار ضيافة تئوي الراحلين من أهل القاصية، وتوفِّر لهم أسباب راحتهم مدة، على نحو ما كان من مدارس المسلمين في العصور الوسطى أيام كانت تضيف العلماء الوافدين من الأقطار.
وإذا تعذر تَوالي رحلة ابن الشرق إلى الغرب وابن الغرب إلى الشرق فلا أقلَّ من أن تكون المراسلات بينهم دائمة، ووقوف النابهين من أهل كل قطر على ما عند إخوانهم في القاصية من أفكار ومنازع يتضمن من الفوائد المعنوية ما يكون الدعامة الأولى في هذه الجامعة؛ بل يحمل فوائدَ ماديةً يستفيد منها الساكن والراحل.
ومما يساعد على قيام هذه الجامعة إنشاءُ مجلة باللغة العربية في مصر تبحث حال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولا ينشر فيها شيء تُشْتَمُّ منه ريحُ التعصب الديني، فينقل الصيني والجاوي والهندي والتركي بعض فصولها إلى جرائده الوطنية، وستكون هذه النشرة أداةً عظيمة من أدوات هذه الجامعة.
وعلى ذلك يتأتى أن يتعارف أهل الإسلام تعارفًا مقبولًا، وعندها تُعقد أواخي الجامعة بطبيعتها على غاية الإحكام. ويومئذ يفرح المسلم الآسياوي بلقاء أخيه الإفريقي، ويستفيد أحدُهما من الآخر استفادةً لا يستفيدها اليوم أبناء صقع واحد من هذه الأقطار الإسلامية الكبرى بعضهم من الآخر.
الجامعة الإسلامية لا تقوم بالجهل، وما سبق لأُمة أن اجتمع شملها بغير العلم.