القول في تآليفنا
بدأ التدوين عند العرب أول الإسلام، ثم أعقبه التأليف والتصنيف، ثم النقل والاحتذاء. والتدوين الجمعُ، والتأليف وَصْلُكَ الشيءَ بعضه ببعض، والتصنيفُ جَعْلُكَ الشيءَ أصنافًا وتمييز الأشياء بعضها عن بعض، والنقل التعريبُ أو الترجمة، والاحتذاء النسجُ على منوال الغير. وقد كان التأليف بالعربية لأول أمره ساذجًا لا تعقيد فيه ولا فلسفة، مدارُهُ على جودة الرواية وتصحيح السند. وأكثر ما دُون في الصدر الأول كان في الأحكام والسنة والشعر واللغة والتاريخ. وكَثُر المؤلفون والرواة والناقلون في القرنين الثاني والثالث بقيام المذاهب والأَخْذ عن الأُمم السالفة وبتشعُّب الأغراض والمطالب. فخرج التأليف بالضرورة عن الإيجاز إلى التبسُّط، ورُوعيت فيه مدارك الخاصة ومن بعد طبقتهم من العامة، وانضم إلى علوم القرآن والسنة بعضُ ما له مساس بالدين. وكثرت بين العرب علومُ الدنيا أو المعروف من أنواعها يومئذ. وأجمل ما وقع التأليف فيه من الموضوعات ما كتبه مؤلِّفُوه بين القرنين الثاني والسادس.
بعد المائة السادسة أخذ الضعف يسري إلى التأليف، وكانت سرايتُهُ خفيفة بادئ بدء. والإجادة هي القاعدة العامة في العصور الأولى، وغدا التجويد في العصور التالية من النادر. وكأن التأليف في الإسلام كان قرين السياسة، لما تراجعت هذه ضعف التأليف ونامت الأفكار. ذلك لأن التأليف عاش في ظل الخلفاء والأمراء والأغنياء، ونشط بعطفهم وسخائهم. وكان العظيم يرى من الغضاضة عليه وعلى سلطانه ألا يقرب العلماء والأدباء، وألا يصرف معهم ساعات يحاورهم ويساجلهم ويعتقد أن من واجبه أن يأخذ بأيديهم وينعشهم. ومن العظماء من كانوا صادقين في برهم العلماء، ومنهم من كانوا يحاولون أن يتخذوا منهم آلاتٍ يستخدمونها في أغراضهم. وما خلا باب كبير من الكبراء من فقهاء ورواة وحكماء متحققين بعلوم القدماء، ومن ندماء ومؤدبين ومن أدباء وشعراء. وكان يزيد عدد المؤلفين كلما كثرت الممالك المستقلة عن الخلافة استقلالًا ذاتيًّا، وتعددت الحواضر، واشتدت حاجتها إلى من يزينها من الرجال، ويقوم على سياستها وحكمها من العالمين.
واستولى التتر والترك على بلاد العرب، وضرب هولاكو بغداد وكان جنكيز، من قبل، قضى على عواصم في آسيا وخرَّب بلاد ما وراء النهر وخوارزم وخراسان وقندهار وملتان، ونعق الغراب في بخارى وسمرقند وبلخ وهرات ونيسابور وشيراز والري وأصفهان وطوس وقزوين ومراغة ومَرْو، وكانت كل هذه القواعد مراكز العلم الإسلامي، ومنها كانت تصدر التآليف الممتعة، كما كانت تنتشر من الأندلس وإفريقية ومصر والشام واليمن والعراق. وبعد تلك النكبات أخذ كل جيل ينحطُّ عن سابقه، وكان القرن الماضي آخر تلك الأدوار المظلمة، وعم الجهل الأقطار العربية، وخلت من الطبيب والمهندس والفيلسوف، فتراجعت الفنون والصناعات وضعُفت مادة التفكير السليم، وتحققت رغبات الترك بما حاولوه من القضاء على العرب.
•••
وبعد سُبات طالت لياليه السُّودُ. تعلق القدر أن ينبعث عز العرب من مصر، وكانت بغداد مصدر كل جديد لهم، ومصر لم ينبغ في عصورها الإسلامية عظماء في الفقه والحديث والكلام والأدب والشعر والطب والحكمة على مثل ما نبغ في بغداد، ومع ذلك ما خلت في كل عصر من المتوسطين، بمعنى: أن العلم ما انقطع منها ولو على شيء من الضعف. وكان الممتازون فيها، الذين اشتهروا شهرة خالدة قلائلُ جدًّا، وللسلطان كما للبلدان دَخْلٌ غير قليل في شهرة العلماء، وعظمة علماء مصر وأدبائها على نسبة قوة دولتها.
نعم لم يظهر في مصر في الزمن الغابر أمثالُ: الجاحظ والرازي والبيروني والكندي وابن سينا وابن رشد وابن زهر في العلم والحكمة، وأمثال: مالك وأبي حنيفة ومسلم والبخاري والطبري وابن حزم وابن تيمية في الفقه والحديث. ولا مثل: ابن المقفع وسهل بن هارون وعمر بن أبي ربيعة وأبي تمام والبحتري والمتنبي في الكتابة والشعر. وما خلت في كل عصر من نفر ممتاز لم يجد من السلطان عضدًا قويًّا، وباعد نظام الطبقات بين الأغنياء والفقراء — وينشأُ العلماء والأدباء من بيوت الفقراء غالبًا — وفي العادة ألا يهتم أرباب الثروة لغير مظاهرهم وشهواتهم، وشهرة الأديب والعالم تستفيض بحسب بُعْدِهِ وقربه من أصحاب الدولة.
وكيف السبيل إلى إنعاش التأليف العربي، ومصر خارجة من حكم استبدادي مميت رزحت تحته دهرًا، والأداة التي يؤلف بها وهي العربية ضعفت واختلت؟ وجامعُها الأزهرُ كان في حقيقته شبحًا بلا روح. وأتى القرن الماضي وليس فيه، من بين مئات من مدرِّسيه وألوف من دارسيه، سوى أفرادٌ قلائلُ يُحسنون كتابة أسطر صحيحة من حيث الإعراب، سقيمة من حيث التركيب، ضعيفة من حيث الفكر، والبارع منهم من يحشر نفسه في زمرة المؤلفين وهو لا يحسن إلا إيراد الإشكالات، ومناقشة خصومه ومماحكتهم. والماهر الباقعة من يدعي أنه يؤلف في المبحث الفلاني، وبالطبع يكون موضوعه مما أكل الدهر عليه وشرب، فلا يلبث أن تنهال عليه التقاريظ من زملائه ومُصانِعِيه، وهناك، كفيتم البلاء، صَوْب عقولهم، ومعرض سخفهم. وقد يكتفي ذاك المؤلفُ الدجال بما ورد عليه من التقاريظ، ويبقي نشر كتابه إلى يوم الحشر والنشر. وفي تلك المقاريظ يتجلى الهجوم على الحق، والمبالغة السمجة التي ما عُهدت للعرب ولا للعجم.
وما برحت الحال على هذا الشكل المؤلم حتى قام الإمام محمد عبده، وعالج التأليف بعلاجين اثنين، كان لهما أبلغ الأثر في حياة اللغة، فأتى على أبشع مظهر من مظاهر الكلام، وأخرج الكتابة من الركاكة والتكلف إلى السهولة والطبع، وخلَّص اللغة من السجع البشع والمحسِّنات البديعية، وبعمله خَفَّ اللفظ الدخيل الثقيل، وحَيِيَتْ فصح وشوارد كانت من قبل منسية.
وكان العلاج الثاني عنايته بإصلاح الأزهر إصلاحًا أخرجه عن بعض جموده، توفر على إبدال منهاج بالٍ ركيك، بمنهاج جديد أنيق. وقد رأى الزمنَ يتطلب من رجال الدين عقولًا عامرة بالعلم، ناضجة بالفكر والتدبر. وأن العصر يتقاضاهم أن يفكروا تفكيرًا صحيحًا، ويثبتوا ما يفكرون فيه على الورق بعبارة سليمة مفهومة. فكان، وهو أزهري مثلهم يعرف ما يصلحهم، واضعَ الحجر الأساسي في بناء الإصلاح في الأزهر، وكان لدار العلوم أعظم الأثر في نهضة اللغة العربية فاقت فيه الأزهر وما أنشئ فيه بعدُ من كليات التخصص.
دخل التأليف في طور جميل، وبدأ التبويب والترتيب في الكتب، وشرعوا في تقطيع الجمل، ووَضْع إشارات الترقيم، وعنوا بالترجمة لكل باب، والإشارة لكل فصل، وصم شتات كل مبحث إلى شكله. وكانت المؤلفات في عصور الانحطاط محشوة بالنقول كيفما اتفق، مملوءة بالاستطرادات والمسائل التافهة يكتبها كتابها من أولها إلى آخرها جملةً واحدة لا فصل فيها ولا تفريق، ولا أثر فيها لفكر ولا رأي، لا تلمح في تضاعيفها من نور البصيرة بصيصًا. والمؤلف الحديث يدرس موضوعه ويتمثَّله ويمحصه، ويشير إلى المصادر التي أخذ منها، ويجهد أن تأتي عبارات المتن مضمومة في سلك واحد لا يشعر القارئ أنها مأخوذة من مراجع عديدة. وهذه طريقة جاءتنا من الإفرنج فاقتبسناها في جملة ما اقتبسناه عنهم، ومنها وضع الفهارس المنوَّعة في آخر الكتاب ليسهل على الباحث الكشف عما فيه من الفوائد. وجرينا على طرق الإفرنج في تصوير كتبنا العلمية والأدبية، وكنا عشنا زمنًا تحت سلطان من كانوا يخوِّفوننا من التصوير ويحرِّمونه علينا. وكان أجدادنا أيام الارتقاء يصورون الكتب وغيرها دون حرج.
وبقدر ما كان أرباب الأقلام يدفعون عن لغة التأليف ما أضناها، كانت اللغة تقرب من الرشاقة والفصاحة، وتستوي لغةً مَرِنة تقبل ضروب الأفكار. ومِنْ أَهَمِّ ما أعان على إجادة التأليف ما وقع إحياؤه من أمهات كتب القدماء من العرب، فأخذ الأساتذة والتلامذة من أساليب بلاغتها ما طاب لهم وتمثلوه واستعملوه في كتاباتهم ومن هذه الدراسات نشأت طريقة عصرية جديدة في الشعر، وطريقة جديدة في النثر، وسلمت اللغة من ركاكتها، وأظهرها المؤلفون والصحافيون في مظهرٍ زادت به قوتها في التصوير والتعبير، ونشروا بين العامة ألفاظًا ومصطلحات أَلِفُوها بكثرة التكرار. فكانت الصحافة مدرسة الخواص والعوام ومدخل المستعدين من المؤلفين إلى تجديد مؤلفاتهم، وبرزخًا للجمهور انتقل منه إلى مطالعة الكتب.
وصفحة تقرءُونها من مؤلفي القرن الماضي والقرون الثلاثة التي قبله تعارَض بأخرى لمؤلف ثقة من أهل هذا القرن، أو لكاتب في جريدة أو في ديوان تتبينون بها مقدار الدرجات التي قطعها الأدب وقطعها تأليف الكتب والرسائل والمقالات. ونظرة عجلى في تآليف القرون الأخيرة وتآليف هذا القرن تنبئكم بما حدث من رُقِيِّ في الأفكار بتجديد طريقة عرضها على المُطالعين. وكانت كتب عصور الانحطاط نقولًا من كتب، منها ما هو غير معتمد عند الثقات، أو احتذاء خفيف من أسفار لاكت الألسن ما فيها كثيرًا، وتبرمت بها النفوس لِمَا شُفِعَت به من حواشٍ وهوامشَ تربك الذهن وتعقد العلم.
أنتم الآن إذا تلوتم كتابًا في الزراعة أو الطبيعة أو الجغرافيا من منقولات أوائل النهضة، وقارنتموه بما نُقل من نوعه مؤخرًا، ظهر لكم أن ذاك الدور في التأليف كان دور الاستعداد للدخول في هذا الدور السعيد. وأن من ترضيكم اليوم مكتوباتهم من حيث سلامة اللغة وسلامة الفكر هم ممن درسوا في مدارس مَعنيَّة باللغة العربية، وبهم ارتقت لغة القضاء والسياسة والطب والزراعة والاقتصاد، وسائر ما لقفه المصريون من العلوم العقلية.
ونظرة أُولى إلى ما تصدره المدارس المصرية العالية من كتب ومجلات، وما تنشره النظارات والجمعيات من مختلف النشرات، تقفكم على ما بلغتْه لغة التأليف من جمال ورشاقة. ونظرة ثانية إلى الصحف المصرية اليوم ومعارضتها بأحسن الجرائد التي كانت تصدر من سبعين سنة تناديكم بما تم في العربية من انقلاب في الأسلوب والنقل. ونظرة ثالثة إلى لغة الدواوين ومقابلتها بما كان يُكتب من نوعها في القرن الماضي وما يكتب فيها اليوم تَهديكم إلى أَنَّ العربية عاد إليها عِزُّها الأول، أو كاد. ونظرة رابعة في خطب خطباء السياسة وخطباء القضاء وخطباء الجوامع والمعابد، تؤذنكم بارتقاء لغة التخاطب أيضًا، وأن ملكة البلاغة استحكمت في الدارسين، وكانت من سنين ألفاظُهُم عامية، وتراكيبهم عامية، وتصوراتهم عامية.
يتذوق أكثر المتعلمين اليوم البلاغة، ولذلك لا يرضيهم من المؤلف أن يكتب موضوعه كيفما اتفق، بل يرغبون إليه أن يصوغه في قالب مقبول، ويعرض عليهم زبدة مما محص وحقق، مثال ذلك كتب الشيخ محمد بخيت وكتب الشيخ أحمد إبراهيم في الفقه، فإن الأول، على جلالة قدره في هذا الفن، لم يُكتب لمصنَّفاته القبول كما كُتب لمصنفات الشيخ الثاني؛ ذلك لأن الشيخ بخيتًا لم يُرزق من نعمة البيان ما يؤهل كتبه للاستحسان عند العارفين، ونالت مصنفات الآخر موقعًا من النفوس لِمَا كتبت به من طراز جميل. وخصلة أخرى وهي أن الشيخ أحمد لم يَجْمَدْ على مذهب معين، ونظر في الشريعة إلى أبعد من نظر الفقيه الحنفي. والشيخ بخيت، وهو من قدماء الأزهريين، وقف عند أقوال أهل مذهبه ولم يأخذ بنصيب من علوم القدماء، ولا من علوم المحدثين، واتسع أُفُق الشيخ أحمد بما لقفه من بعض فروع العلوم الحديثة، وبينا كان الشيخ بخيت يحرِّم وبعضُ أقرانه الأزهريين تدريسَ هذه العلوم، ويثورون على الشيخ محمد عبده لرغبته الصادقة في إصلاح الأزهر، كان أحمد إبراهيم يقرأ مبادئ هذه المعارف في دار العلوم والشيوخ يحرمونها، وقد أسقطوا رسالة التوحيد لمحمد عبده بدعوى أن فيها كفرًا وهي اليوم داخلة في برنامج دروس الأزهر، ولما يمض ربع قرن بين التحريم والتحليل! وما يقال في كتب الشيخ أحمد إبراهيم يقال في مصنفات الشيخ عبد الوهاب النجار فإنها أخذت من تاريخ الملة بأصح الأقوال. فما راق صنيعه بعض الأزهريين، وأثاروا عليه حربًا وهو لا عيب له إلا أنه تحرر من تخريفات الأزهريين.
بقي أن نقول: إن مَنْ يؤلِّفون في مصر، على الأغلب، هم من المضطرين إلى التأليف بحكم أعمالهم، أي: أنهم من عمال الحكومة، ومن الموظفين في جامعتِها ومدارسها. ويندر أن نرى تصنيفًا لرجل صرف جهودًا في ناحية من نواحي العلم الكثيرة مستقلًا فانقلب ينشر تجاربه وأبحاثه ويعرض على قومه ما أداه إليه اجتهادُه في مخبره ومكتبه. ولو أقدم بعض العارفين على نفع الناس بمحصول تجاربهم لغنيت العربية بأسفارها الممتعة. ولو كان كل مؤلف يكتب بعد التفكير كتيبًا أو رسالة لرجحت كفة تآليفنا في الميزان، ولَوقع المثقفون في خزائننا العربية على ما هو مَتَّاع للنفس، ووَفَّاء بحاجة الرجل المتحضر المستفيد.
•••
في الوقت الذي أخذت مصر تسير في طريقها إلى إحياء اللغة العربية، وتحيى بإحيائها صناعة التأليف، كانت الشام، وهي أَعْلَقُ بمصر من جميع الأقطار، تفنى في دولة الترك، وليست بالعربية ولا بالتركية — في تلك الحقبة قام في الشام أحمد فارس، مؤلف الكتب اللغوية والأدبية. وأصدر في الأستانة جريدة الجوائب، ونشر عشرات من كتب الأدب القديم، وسعى إلى تعرية اللغة من السجع والسخافات البديعية ما أمكن، ومزج الجد في الهزل في بعض ما كتب، وأحدث تأثيرًا في مَلَكات المتأدبين في الولايات العربية. وبعمله وعمل مدارس المبشرين الكبرى وبعض مدارس لبنان، سَرَتْ الحركةُ الأدبية إلى الأقطار المجاورة وكان يقدر سيرها في كل قطر بقدر ما سبق له أن أنشأ من مدارس، وما رَسَخَ في ربوعه من تعاليمَ قامت على شيء من علم وأدب.
ولنا أن نقول إن الشاميين والتونسيين، وإن تأثروا بنهضة مصر، فقد كان لهم قديمٌ يرجعون إليه ويسيرون على أثره؛ لأن العلم الديني، وما كانوا يسمونه علم الآلات، أي: النحو والصرف والبيان، كان مُتَأَصِّلًا في تونس بعض تَأَصُّل بفضل جامع الزيتونة، وفي الشام بفضل بقايا المدارس القديمة، وكان بعضُ العلماء يدرسون في الجوامع والمدارس وفي بيوتهم حبًّا بالعلم، أو تفاديًا من أن يزول عنهم الطابع الذي كان لهم، وبه كانوا ينعمون، وبه كانت مظاهرهم، ومنه كانت إدراراتهم وأوقافهم ووظائفهم الدينية.
أما التآليف التي صدرت في تلك الفترة فكانت في قاعدة الشام الداخلية محصورةً ببعض الكتب المدرسية وبعض كتب القدماء، لم يُحسن ناشروها تصحيحَها، ومِنْ أَجَلِّها كتبٌ مدرسية منوعة وضعها أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري، وفي الساحل كانت التآليف أشكالًا، ومنها ما كان ينم عن علم كبعض تآليف المبشرين الأمريكان المستعربين، ومنها ما كان فيه نقل عن اللغات الغربية أو كتب منتحلة بروح البلد الذي تصدر فيه، وترضى الطائفة التي يريد دُعاتها تصريف كتبهم على أبنائها. واستفادت اللغة على كل حال من المنافسة بين الطوائف، وكان المسلمون آخر من انتبهوا الانتباهَ المطلوب؛ ولذلك قَلَّ فيهم المؤلفون يومئذ وقَلَّ فيهم الصحافيون.
وما برحت العربيةُ ضعيفة المنة في الشام والعراق واليمن والحجاز وما إلى ذلك من الأقطار، حتى وضعت الحرب العالمية أوزارها، وأخذ كل قطر يفكر فيما يصلحه فدبت النهضة وبدأت العراق تُخرج مصنفاتٍ مصبوغة، في الجملة، بالصبغة العربية رافلة في حلل جديدة من التنسيق، وتحيي إلى ذلك شيئًا من تراث الأقدمين. وكانت مصنَّفات العراقيين من قبل كناية عن شعر سخيف، ومناقشات مذهبية لا تزيد العقول إلا ظلمة. كأن العراق ما كان مقيل العلم والأدب أكثر من خمسمائة سنة. وكأنه لم يُخرج للأُمة أعظم المؤلفين في كل فن ومطلب، وكأن مصنفاتهم ما برحت مداخلنا إلى ساحات العلم. ومصابيح نستضيء بها في هدايتنا، وخزانتنا الثمينة التي نفزع إليها يوم افتقارنا إلى مَنْ نتعلم منه. وهي موضع إعجابنا وإعجاب الأُمم على الدهر.
والفضل في ذلك للمدارس التي قضت على الطُرُق القديمة في التعليم، وأصبحت تعلم العلوم الابتدائية والوُسْطى والعليا باللغة العربية، فأخرجتْ أقلامُ المتخرجين فيها كتبًا جيدة، وضعُف التعليم الديني في الشام وقوي التعليم المدني، فصار النابهون يؤلفون في العلوم والآداب، ولا تكاد تجد مؤلفًا يؤلف في موضوع ديني إلا إذا كان في شيء من الردود والمناقشات. ولولا الدرس الحديث ما قام في الشام والعراق أولئك المؤلفون الذين كتبوا على الطرق الحديثة. ومثل هذا يُقال في تونس، بَيْدَ أن العربية بقيت ملكًا لأفراد من الشيوخ في طرابلس وبرقة وتونس والجزائر ومراكش، وبها تصدر بعض الكتب على الطريقة القديمة. والعربية ضئيلة في المدارس النظامية، ولولا جامع الزيتونة وجامع القرويين لماتت العربية جملة من شمالي إفريقية، ومات بموتها التأليفُ العربي والتفكير العربي. ومؤلفات مصر تداوي النقص في تلك الأقطار فيقبل الناس على قراءتها شأنهم في كل قطر عربي.
يكاد يكون البلد الذي منه ظهر الخير للأمة العربية — ونعني به الحجاز — مقفرًا من كل شيء اسمه تأليف بالعربية، ولم نر لبنيه شيئًا يُذكر في باب التأليف، والشعرُ منحط والنثر منحط، ولا صحف ولا مدارس، وكذلك يُقال عن اليمن وضعف التأليف فيها، وكانت اليمنُ أيضًا مباءة علم ومثابة آداب في الإسلام، وكان من بنيها خيرة العلماء كما نبغ منها أفضل القواد والجنود. وما وصلنا من كتب اليمانيين والحجازين والنجديين صورة من صور القرن الثاني عشر والثالث عشر. لا جرم أن الانتفاع بالمؤلف يزيد على قدر أخذه من المدنية الغربية وتأثره بأساليبها سواء كان بلغاتها أو بما تُرجم منها إلى لغتنا، وعلى قدر إحكام المؤلف مَلَكَةَ البيان تحوز كتبه القبول، وجماع المؤلفين في هذا العصر هم ممن درس مبادئ في المدارس النظامية، وكان لهم ملكة في لغتهم وأنسة بآدابها. وكم من كتاب فقد أحد الشرطين في جماله: لغة المؤلف، وإتقان الموضوع، فجاء مسخًا عاريًا من كل ما يحببه إلى العين والفكر.
كثر عدد من درسوا العلوم العصرية عندنا، ولدى مصر والشام نموذجات من المدارس العليا، على نحو ما عند أُمم الإفرنج منها، ولكن كم كان عدد من زينوا علمهم بعملهم؟ إن هذا البطء الذي يسير فيه التأليف بالعربية لا يرضاه لها أنصارُها. قد يجيد التأليف أناس هم في غير حاجة إلى أن يعيشوا منه أكثر ممن تقضي عليهم مناصبهم أن يصنفوا، أو يحملهم حب الظهور أن يدسوا أنفسهم في غمار المؤلفين. والبلد في غير حاجة إلى تأليفهم، وأكثر ما يؤلف على هذه الصورة قد يموت في سنته. وقد يعيش المرء خمسين سنة، مؤلفًا، ولا ينتج إلا قليلًا، والإبداع نقرؤه في هذا الشيء القليل. وليست مكانة التآليف بعدد مجلداتها بل بالزبدة التي حوتْها، والفائدة التي ضمتْها، ورُب كتاب لا تصل إلى آخر سطوره حتى تلقس نفسك منه. ورب سِفْر تعاود قراءته مرات، وكلما طرحته من يدك وددت لو يتاح لك تصفحه مرة أخرى.
ليست الأقطار العربية في التأليف على مستوًى واحد. فالشام تجيء بعد مصر، والعراق وتونس بعد الشام، ثم إن بلاد العرب ومنها الإمارات العربية الواقعة على المحيط الهندي والخليج الفارسي تغلب البداوة عليها، ولا علم ولا تأليف مع بداوة وليس في تلك الأرجاء علماء وأدباء بالمعنى الذي نفهمه من العلم والأدب، وهي ضعيفة في مظاهر حياتها على ما في بنيها من ذكاء نادر، وكيف يتأتى الانتفاع بهذا الذكاء وليس هناك أسباب حافزة لانبعاثه؟ لا أمراء تعطف عليه ولا أغنياء تجود له، ولا جامعات ترسم له خطط سيره. والعلم ما أزهر ونضج في كل العصور إلا في ظل دولة قائمة أو جماعة من أهل الخير يَقِظَة، كانت العرب، في القرون الوسطى وقبلها، سادة هذا الشأن، ولم تخرج أُمة من العلماء بقدر ما أخرجوا، ولم تُنتج أُمة في مدة قصيرة مثلما أنتجوا، وهي اليوم بالقياس إلى الأُمم التي تماثلها بعددها دون الوسط بعلمها وعملها وتأليفها وحركتها.
•••
تتطلب حاجة الشعوب العربية إلى من يؤلف لها في كل فن ومطلب، فيتناول من الموضوعات القريبة من الأذهان ما يستفيد منه تاليها وسامعها فائدة عملية، تسلِّيهم وتعلِّمهم وتُنير طريقهم وتزيد في ثقافتهم، نريد مؤلفين هضموا وتمثَّلوا ما تعلموا ودرسوا، وأبرزوا ما لديهم في قوالب جميلة ممتعة. نريد مؤلفين يُتحفوننا سنةً فسنةً بأجمل محصول من قرائحهم وأبحاثهم. لا مؤلفين يكتبون رسالة أو كُتيبًا يقدمونه أطروحة لنيل شهادة العالمية ثم يسكتون طول العمر، على حين نجد المؤلف الغربي لا يفتأ منذ عهد المدرسة الوسطى إلى أن يدفن في التراب يبحث ويدرس وينشر ما اهتدى إليه. نريد مؤلفين لا تكون تآليفهم كبيضة العقر لا يرجى لها خلف. نريدها أن تبرز بشيء جديد يستهوي عقول الكبار والصغار، وتصنع بحسب مدارك الفلاحين والبلديين والتجار والصناع، لتقربهم من الخواص فيزول ما بين الطبقات من فوارق طالما كانت العائقَ الأكبر عن التقدم. حاجتنا إلى مؤلفين يُحبِّبون المطالعة إلى قومهم.
الكتب مقصورٌ تأليفها عندنا على فئة صغيرة جدًّا، ويقوم رواجها على أُناس مخصوصين، والمؤلفُ لا يعيش من تأليفه ولا يرتفق بقلمه، وجمهورُ الأمة بمعزل عما يُكتب. وليس لنا مؤلفون أَلَّفُوا أحرارًا وكتبوا أحرارًا. نريد مفنِّنِين يعيشون من فنهم وريشتهم، وأربابَ عقول ينعمون بفضل عقولهم.
نريد كتبًا حية تصبر على حرارة النقد، ومؤلفين أجلادًا، لا يوقفهم شيء عن نقد الكتب نقدًا صحيحًا ينفع العلم والمتعلمين من الفئة التي لا تصانع الطابعين، ولا تخاف صغار المؤلفين، ونريد صحفًا تجهر بالحقائق تقررها، والمحاسن تنشرها، والمقابح لا تسترها.
نريد مجلات لا تخلع على صعاليك الكتاب والمؤلفين خلعًا من الثناء لا يستحقونها فيُضلونهم بالتمليق ويُضلون من يعتقد الصدقَ في تلك الأماديح من القراء؛ لأن من المجلات ما ألبست حلة بيوت تجارة الربح غايتها وضالتها وعلى الناقدين أن يعرفوا واجبهم في النقد، وأن يوقن المنتقَدُ عليهم أن الناقدين أحسنوا إليهم بما نقدوه من كلامهم، وأن خير الكتب ما انتُقد، وأَخَسَّها ما أُغفل نقده وأن بعض أسفارنا القديمة التي طُبعت مؤخرًا هي من تأليف عصور الانحطاط حشاها مؤلفوها بتخريفات وتحريفات لا تُطاق، ولو طبعت الأُمهات فقط التي أُلفت أيام جودة التأليف لتَوَفَّر على بنينا عناءٌ كبير.
دثرت كتب القدماء وبقيت كتب المتأخرين؛ لاستيلاء الفناء على الكتب القديمة بتقادُم العهد، وجريان حُكم الزمان عليها بالمحو والإفساد، كما قال العلامة ريتر، ومن ذلك ضياعها وتلفها عند استيلاء الأعداء على البلاد، وجنايتهم على الكتب بالإحراق والإغراق، ومنها اعتداء بعض أهل المذاهب على كتب مخالفيهم، ومنها أنه كان جُلُّ هَمِّ المعلمين والمدرسين أن يضبطوا قواعد كل علم بأقصر لفظ، فعمدوا إلى تهذيب مؤلفات من سبقهم، وتنسيق المباحث وترتيبها، ووَصْلِ كل بحث بما يُجانسه، وضم كل فرع إلى أصله، واختصروها؛ إيثارًا للإيضاح والتقريب وتسهيلًا للتعليم والتعلُّم، فآثر المحصلون كتبهم على الكتب القديمة من أجل ذلك، فصارت المؤلَّفات السابقة كأنها منسوخة باللاحقة فتُركت وأُهملت، ونُسيت حتى تصرَّف الدهرُ بنسخها تصرُّفه.
وعَلَّل ابن الجوزي دثور أكثر تصانيف القدماء بضعف هِمَم الطلاب، فصاروا يطلبون المختصرات ولا ينشطون للمطولات، ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها فدثرت الكتب ولم تنسخ.
نريد كتبًا تكون فتنة لقارئها، لا يتركها إلا وقد استوفاها من الدفة إلى الدفة، ثم يكررها ويُعيد النظر فيها. كتبًا للحياة الحاضرة تحفزنا للعمل فيها من علم الحال لا من علم الخيال. كتبًا تخلِّقنا بأجمل أخلاق العصر لا كتبا تذكرنا بالماضي فقط. من الطراز الذي نفتحه باحترام، ونتصفحه باحترام، ونُطبِّقه باحترام، ونحفظه في خزائننا باحترام، نريد كتبًا نُرَبِّي بها بناتنا وبنينا، ونتطلب شيئًا نقدسه يستحق التقديس، وهل أجدر بالتقديس من زبدة عصارات العقول موضوعة على ورق؟ نبني بها عزتنا القومية على أساس متين من الآداب، وتُوصِل أهل جيلنا بالجيل الذي يليه لاستغلال هذا الذكاء المبدَّد في أرضنا، والتلذُّذ بثمراته الغضة اليانعة. نتطلب كتبًا تضم دَفَّاتُها أَثْمَنَ الدرياقات الناجعة في مداواة جهلنا.
التأليف في أمة مشعل نورها، ومقياس تفكيرها، ومعيار نهوضها، ورمز جهادها، وعنوان حضارتها، وآية مجدها، فعلينا أن نفكر بما يورثنا هذا المجد، ويعيد إلينا هذه السعادة.