القول في مطبوعاتنا
بدأت الأستانة بطبع الحرف سنة ١١٣٩ﻫ بعد أن طبعت الكتب العربية في الغرب بزمن طويل، والطبع بالحروف لم يُعهد في مصر إلا في سنة ١٢١٢ﻫ/١٧٩٧م) وكان الطبع على ضعف حتى سنة ١٨٢٢م وهي السنة التي أُسست فيها مطبعة بولاق الأميرية وشرعت تطبع الأمهات القديمة وكتب العلوم الحديثة.
وأُنشئت في بيروت مطبعة المرسلين الأميركان البرتستانت سنة ١٨٣٤م ثم مطبعة المرسلين اليسوعيين الكاثوليك في سنة ١٨٤٨م، وفي نحو ذلك الزمن دخلت الطباعة بالحروف إلى تونس، وأنشأت الحكومات مطابع لها في بعض أنحاء الشرق. وما بدأ الأفراد بتأسيس المطابع إلا بعد مرور زمن على المطابع الحكومية، وكانت عنايتهم بما يطبعون قليلة، وإن معظم من عانوا الطباعة لا شأن لهم في العلم والأدب، فأساء بعضهم الطبع بالطبع، وأخذت الشناعة ببعض ما طبعوا: لا دقة في التصحيح، ولا ذوق في وضع الصفحات والحواشي، وقد يخلطون في الكتاب كتابًا آخر لا علاقة له بالكتاب الأصلي، فتستغرق الصفحات بالأُصول والزوائد، ويختارون للطبع أَسْقَمَ الحروف ويتخيرون أدنى الورق، ويتطلبون الرُّخص في كل شيء، وبذلك خلت مطبوعاتهم من كل بهجة وروعة.
ولم يهتم الطابعون بغير كتب الخرافات والغراميات، على الأَغلب؛ لأنها أَروج من كتب العلم، وما تَعَفَّفَ بعض الوراقين عن طبع كتب المنامات والتخريفات وأشياء سموا كتبها الروحانيات، وأشياء هي من الإسرائيليات، وكتب أسرار الحرف والجفر، وكتب الكيمياء وعمل الذهب، وكتب السخف والمجون، وطبعوا وأكثروا من طبع كتب أبي معشر والديربي وأضرابهما.
•••
وما قَوِيَت العزيمة على الاستكثار من طبع كتب العلم إلا لما عج العارفون بالشكوى من الكتب المضرَّة، وزاد عدد المتعلمين على الطرق الحديثة، فأدركوا قصورهم عن إحياء آثار السلف، فطبعوا في مصر أسفار مالك والشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة، والغزالي وابن حزم وابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي وابن قتيبة، والجاحظ وثابت بن قرة وحنين بن إسحاق، والآمدي والشاطبي والقرافي وابن رشد، والباقلاني وابن عبد البر والسرخسي، وإخوان الصفا وابن جني وابن منظور وابن سيده، إلى عشرات أمثالهم، من علماء الأمة وحكمائها وأدبائها ومؤرِّخيها ولغوييها.
واختصت الهند بطبع كتب الحديث ورجاله، وما شاكل ذلك من علم الكلام واللغة والسير، كما تفردت إيران بطبع كتب الإمامية بالعربية وغيرها، وزنجبار بطبع كتب الخوارج والإباضية، ودمشق وبيروت بطبع الكتب المنوعة، وخُصَّت أوربا بطبع كتب العلوم كالطب والكيمياء والأقرباذين وجر الأثقال والزيجات، والأرصاد والفلك والرياضيات والطبيعيات والنبات، والتاريخ والجغرافيا والرحلات، واللغة والأدب والشرع، وغير ذلك من العلوم التي نقلتْها العرب عن أهل الحضارات القديمة وزادت فيها، أو كانت وقفًا عليهم كعلوم القرآن والسنة واللغة والشعر.
شرعت أوربا من نحو أربعة قرون بطبع ما عثرت عليه من كتب الرازي والبيروني والبتاني والكندي (الفيلسوف والمؤرخ) وحنين بن إسحق والخوارزمي، ونصير الدين الطوسي وعبد الرحمن الصوفي وابن النديم، والفارابي وابن سينا ويوحنا ابن ماسويه، والطبري واليعقوبي والدِّينَوَري والمسعودي، وابن خَلِّكان وابن الأثير وأبي الفدا والقزويني، وحمزة الأصفهاني والشريف الإدريسي والمقدسي والإصطخري، وابن حوقل وابن خرداذبة والهمداني والبلاذري والبكري وابن عَذَاري، وابن سعد وابن سعيد ومِسكوَيه وابن جُبير، وابن هشام والبيضاوي، وعشرات من أضرابهم، وكلها كتب مختارة بذلوا الوسع في معارضتها على نسخ متعددة ووشحوها باختلاف الروايات وحلِّ عويص مشكلاتها، وزينوها بالفهارس، وقربوا منال الانتفاع بها على المطالعين، عملوا كل ذلك بأمانة وتدقيق وتحقيق، والغاية من طبعها وإحيائها خدمة العلم.
طلع القرن الرابع عشر من الهجرة وأَهَمُّ مواطن طبع الكتب العربية في الشرق القاهرةُ وبيروت ودمشق وتونس والأستانة وحيدر آباد الدكن وطهران وفاس، وقَلَّ من الكتب ما تولى تصحيحه العارفون، ومنها ما نَشَرَتْه الحكومة المصرية وبعض الجمعيات العلمية والدينية. وكان المؤلفون في بلاء من أكثر الوراقين يتحكمون فيهم، ويستثمرون جهودهم، وإذا أرادوهم على عمل فهارس للكتب تسهِّل على المطالعين تجهموا لهم، وإذا اقترحوا عليهم أن يختاروا الجيد من أصناف الورق والحروف هزءوا بهم.
وهذا ما دعا إلى تأليف عدة جمعيات من الغُيُر على العلم، فلم يوفقوا في عملهم لما كان ينقصهم من المشاكلة في الثقافة، والتجرد عن التعصب في اختيار ما يطبعون، ومن هذه الجمعيات ما طبع بضعة كتب وانهزم من الميدان، ومنها ما قصد طبع كتاب بعينه فلما أتمه لم يحاول طبع غيره. وقد انحلَّت هذه الجمعيات؛ لأنها لم تَسِرْ على نظام ثابت يضمن لها البقاء.
وأنشأ بعضُ النابهين من المتعلمين على الأسلوب الحديث لجنة في القاهرة في سنة ١٩١٢ سموها «لجنة التأليف والترجمة والنشر» وما زالت تزيد رقيًّا سنة عن أخرى، تطبع الكتب الجديدة والقديمة، وتُعنى بألا تخرج مطبوعاتها قبل عرضها على جماعة من الاختصاصيين من أعضاء هذه اللجنة أو من غيرهم، وقد طبعوا إلى الآن أكثر من مائتي كتاب في الطبيعة والرياضة، والفلسفة والتاريخ، والأدب والاجتماع، وغيرها، ومن كتبهم ما نقلوه عن اللغات الأجنبية ومنها ما أَلَّفَه الأعضاء أو غيرهم.
يتنافس الناس اليوم في اقتناء المطبوعات الجيدة، وكان المأمول أن يُكتب لها الرواجُ أكثر مما قُدِّرَ لكتب المجون، ومن هذه ما يُطبع عشرات الألوف، كالقصص والروايات، ومنها ما لا يشبع الجمهور منه لأول نشره بأقل من عشرة آلاف نسخة، وما يُقال في الكتب يُقال في المجلات — والمجلاتُ أيضًا كُتُبٌ دورية — فإن أرقى المجلات العلمية الأدبية باللغة العربية تطبع بضعة أُلوف، ومجلات العامة تطبع العشرين والثلاثين ألفًا، ومنها ما يطبع سبعين ألفًا، وما يروق الخاصة لا يروق العامة. وكان لارتقاء فن الطباعة في الغرب دخلٌ كبير في رُقِيِّ المجلات العربية، وما صارت إليه من التفنُّن في الطبع والتصوير. والكتب تُخلد وتورَّث وتتناقلها الأيدي، والمجلات والصحف ما خرجت عن كونها ابنة يومها.
•••
تقسم الكتب في مصر إلى قسمين صفراء وبيضاء، فالكتب الصفراء هي ما طبع على ورق أصفر من الجنس الرديء، وهذه يسمونها الكتب الأزهرية، والبيضاء هي التي تطبع على ورق أبيض، وهي كتب الجمهور على أنواعها وكتب المدارس النظامية. والكتب الصفراء رديئة الطبع رديئة الوضع، تُشَوِّش القارئ وتُبَغِّض إليه المطالعة، بما تحمل من هوامش وهنات ينبو عنها النظر، والعكس في الكتب البيضاء المشرقة، فإنه تستجاد لها الحروف والورق، وهي خالية من الهوامش إلا ما كان منها داخلًا في الموضوع، وقد تُبذل العناية بتصحيحها أكثر من الكتب الصفراء.
دَبَّ الكسادُ في الكتب الصفراء قليلًا، وكُتب الرواج مع الزمن للكتب البيضاء، وما برح مع هذا بعض الطابعين بمصر يجوِّزون لأنفسهم الطبع الأصفر كما يطبعون كتب التضليل والتدجيل، يصدرونها إلى بلاد الزنوج والمالايو، يطبعون منها مقادير برسم التصدير إلى الخارج غالبًا، وتباع على أنها كتب دين، والدين لا يعرفها.
لا جرم أن من يبيع من الجهلاء كتبًا تزيدهم جهلًا كمن يحمل المخدِّرات إلى السذَّج ويُزيِّن لهم استعمالها، أو كساقٍ يسقي السم الزُّعاف لمن يُطلب إليه أن يسقيه ماءً قراحًا، وليست كتبُ الجهالات في تخريب العقول بأقلَّ من تخريب المخدرات والمسكرات في الأجسام. الحكومات تخاف من كتب فيها ما لا ترضاه سياساتها، ولا ترى واجبًا عليها أيضًا أن تحظر على الطابعين طبع المُضرِّ من الكتب، لئلا يحملو إلى القراء كتبًا غير محررة.
ربما يقول بعضهم إن هذا مما يفتح للحكومة باب التدخل في حرية النشر، وسلب حق الرعية في الحرية. ونحن نرى الخير أن يُرجع في النشر إلى قاعدة من أن تطغى هذه الفوضى على ما يطبع.
•••
إن ما يطبع في مصر من الجيد تروِّجه شهرتها في الأقطار، وتزيد الكتب رواجًا بين مختلف الطبقات بقدر ما يتقن الطابعون طبع ما يطبعون من الكتب، ويبذلون العناية بالتصحيح والتهذيب. وقد رأينا بأَخَرَة بعض الطابعين تنصرف هممهم إلى الخروج عن الطريق القديمة بعض الشيء، يقلِّدون الطابعين في ديار الغرب بعنايتهم وإتقانهم، ويجعلون فهارس للكتب، ويَتَوَقَّون الأغلاط المطبعية في الجملة، فزادت بذلك كتبهم حرمةً وقبولًا.
جمال الكتاب وطبعه مما يزيد الرغبة فيه ويزينه في الأعين، وفي العادة أن كل بضاعة تبرز في قالب مقبول، صنعًا ووضعًا، تحتل من النفوس أحسن موقع، فما الحال بالكتب التي هي أكثر البضائع اعتبارًا وخلودًا. الكتب العربية تحتاج إلى أن تأخذ حظًّا من الإتقان اللازم، وتُهيأُ لها من طرق الدعاية والنشر مثلُ ما يهيئه الطابعون والوراقون في البلاد المتمدنة لنشر مطبوعاتهم.
•••
في يوم واحد ينشر الورَّاق الإنكليزي الكتاب الجديد في كل بلد تُقرأ فيه اللغة الإنكليزية من أصقاع الغرب والشرق، وفي يوم واحد تكتب الصحف والمجلات نقد الكتاب وتقريظه وتلفت الأنظار إليه، وفي يوم واحد يَقرأ هذا الكتاب ابن بريطانيا العظمى وابن اليابان، وابن كندا وابن أستراليا، وابن زيلاندة الجديدة وابن الولايات المتحدة، وابن الهند ونزيل جنوبي إفريقية ومصر والسودان. والوراق الإنكليزي لا يضن لترويج كتبه بين القراء بكل ما في وسعه، ينشرها بكل حيلة، وكذلك سائر الوراقين من جميع الأُمم الممدنة، فعلينا أن ندرس طرائقهم، وعلى الوراقين عندنا ألا يضنوا بخمسة أو عشرة في المائة، يضمونها على نفقات الطبع للإعلان عن مطبوعاتهم، فيخدمون بذلك أنفسهم ويخدمون المؤلف ويخدمون المدنية والمعارف.
وربما طبع الكتاب الجيد عندنا وما عَرَفَ به من يهمهم اقتناءُه إلا عرضًا وبعد سنين، فهل يحق، بعد هذا، لوراق أن يشكو من قلة الرواج؟ وهو لو بذل القليل لربح الكثير. ولو صرفت العناية بالإعلان عن الكتب وترغيب الناس فيها وعرضها في المدن والقرى وتحبيب اقتنائها لزاد عدد المطبوع والمبيع. بِيَدِ الطابع وبيد المؤلف نشرُ حضارة أمة، فليتدبر الوراقون أمرهم.
نحن في أشد الحاجة إلى التجدد في مطبوعاتنا، وأن نجدد في مظاهر الطبع من حروف وأشكال وصور، وقطع ووضع وورق وتجليد، ونجدد في المبالغة بتصحيح الكتب والتعليق القليل بما يبين غامضها، فليس كل الناس يفهمون ما يقرءون، فعلينا أن نسهل عليهم فهمها، كأن نشكل دائمًا محالَّ الإشكال من الألفاظ ولا نترك غامضًا ولا مبهمًا، حتى لا نغش المطالع ونستميله إلى الإكثار من المطالعة. وإذا صُنَّا كتبنا عن تلقين المبتدئين أغلاطًا تتأصل في عقولهم فتؤذيها نصون الدين والآداب والمدنية.
•••
نحتاج إلى التجديد في طرق النشر، ولا يتم ذلك إلا بإنشاء نقابة أو نقابات تفكر في أقرب السبل إلى الإتقان، وتُصدر مجلة توزعها على دور العلم ورجاله وطلابه، تفيض في الكلام على ما صدر ويصدر من الكتب، وعلى ما في القديم منها من الحسنات، وغيرها فتكون خير مرشد لمن أراد أن يقتني الأطايبَ من الأسفار، ولا يُنفق فيها أكثر مما تُمَكِّنُه حالته من إنفاقه، ويُعان على أن يكون له منها مع الزمن خزانة خاصة يستفيد منها هو وأولاده وأحفاده.
العصر عصر الشركات، وقد رأينا الطابعين أو الورَّاقين الذين ضعفت رُءُوس أموالهم لا يأتون شيئًا يعتدُّ به في هذه التجارة، ورأينا المطابع الكبرى أو الشركات الممولة المنظمة في عملها تربح كثيرًا وتفيد أكثر من غيرها. فإذا اجتمع الوراقون في مصر، مثلًا، وألفوا شركةً أو شركات تَخِفُّ شكوى المتجرين بالكتب من قلة الرواج، وشكوى المؤلفين والمترجمين والمصححين، وشكوى القراء من سخافة المطبوع والمنشور، وشكوى الكتب من الكساد، وتدخل في طور إتقان وعناية على النحو الذي نراها عليه عند أصغر أُمم الحضارة لعهدنا.
يتوهم بعض الوراقين عندنا أن الاشتطاط في الربح يوصل إلى الغرض من هذه التجارة، ونسوا أن الربح القليل من شيء كثير أَعْوَدُ عليهم من ربح كثير من شيء قليل، ولو أدركوا ذلك ما توقفوا عن تغيير أساليبهم في الطبع والنشر وتقدير الربح، ولَأَيْقَنُوا أن من مصلحتهم المهاودة في الأسعار والعناية بتجويد بضاعتهم. ولَكتاب يطبعه طابعه ويبيعه في مدة قصيرة بربح قليل أَنْفَعُ له من كتاب يبيعه في المدد الطويلة ليربح منه ما يقدره لنفسه من الأرباح، وهذا من أيسر قواعد التجارة التي يعرفها الأطفال في الغرب، فعلى الرجال أن يتعلموها عندنا.
من جملة طرق الرواج في الكتب جودةُ طبعها وحسن خدمتها، ونقصد بخدمتها المبالغة بتصحيح أصولها وتجاربها، وحل المشكلات من متونها وشروحها، فقد كان الطابعون فيما مضى يتوهمون أن كل مخطوط صحيح صالح للطبع لا يحتاج إلى أكثر من أن يدفع إلى المنضد لتنضيد حروفه وترتيب صفحاته، ويجعل على الآلة الطابعة تخرجه ملازم ملازم. والكتب التي تطبع لأول مرة والتي يتكرر طبعها تُدفع إلى رجل أزهري إذا كان على شيء من العلم، فيكون من الطبقة التي تعرف الإعراب فقط، وليس النحو والصرف كل شيء في عالم العلم.
•••
رأينا كتبًا طبعها أعاجم من علماء الغربيين فخرجت صحيحة سالمة من الشوائب على ضعف ناشريها أحيانًا في القواعد، ورأينا أسفارًا طبعت في أَتْقَنِ المطابع بعناية أقدر المصححين تفيض بالأغلاط، مثال ذلك تاريخ ابن خلدون المطبوع في المطبعة الأميرية، لو تصفحته لتعوذت بالله مما فيه من تحريف الأعلام، وسقطاته كثيرة، قد تكون كلمة أو أَسْطُرًا أو صفحات، ولا تخلو صفحةٌ منه من بضع غلطات شائنة تحرف النص وتُحيل المعنى. وإلى اليوم تقع لأعظم المطابع خطرًا أغلاطٌ من هذا القبيل.
تصحيح الكتب المطبوعة مسألةُ المسائل في فن الكتب، وكم من كتاب قديم طبع على نسخة واحدة وزاده جهل الطابع والمصحح أغلاطًا إلى أغلاطه؛ ذلك لأنه قلَّ أنه يُعنى أرباب المطابع باختيار مصححيهم، يختارون أكثرهم من الصنف الذي يصحح الملزمة ببضعة قروش، ولو أعطى الطابع المئات لمصحح يكون على شيء من العلم لما كان مغبونًا، ولَهان على من يتناولون الكتاب أن يقتنوا ما أُتقن طبعه وعُني بتصحيحه بإضافة مبلغ زهيد على كل كتاب.
كان تحريف جَهَلَة الناسخين للكتب وتحريفها بصُنْع جهلة الطابعين مما أضاع على طلاب العلم أوقاتهم ليتوفروا على إصلاح ما كان واجبًا على غيرهم أن يصححه. أَيُّ كتاب لأَجدادنا طبعته مطبعةٌ من مطابعنا، التي نعدها راقية، قبل هذا العهد الجديد ولم تُحص عليه الأَغلاط الكثيرة، حتى الأمهات من كتب الشرع واللسان؟
ولو كانت حكوماتنا تفكر لَمَا سمحت لرجل أن يطبع كتابًا وينشره إلا إذا كان حاملًا شهادة من المدارس الوسطى على الأقل، فضرر الكتبي الجاهل لا يقل عن الضرر الذي يأتي على يد الصيدلي الجاهل.
•••
حبذا يومٌ نرى فيه كلَّ مطبعة كبيرة تعهد إلى لجنة من الخبراء والعلماء النظرَ في كل ما تَطبع، وتراقب الكتاب من وَضْعه وتأليفه إلى صَفِّ حروفه، إلى وضع صفحاته إلى تصحيح ملازمه، إلى طبعها إلى طَيِّهَا إلى جمعها وضمها كتابًا برأسه.
وطبع الكتب يحتاج إلى مراقبة شديدة، أهونُها ألا يُطبع شيء قبل أن تَنظر فيه جماعة تقر نفعه؛ فإن المكررات من الكتب التي لدينا من نوعها الأمهات المعتبرة، وكتب التخريف والتافهات، وكتب المجون والغراميات وغير ذلك، لا ينجينا من آفاتها إلا المراقبة الشديدة.
لو عرض طابِعَا كتاب «حلية الأولياء» للحافظ أبي نعيم الأصفهاني المتوفى سنة ٤٣٠ على عالم بالكتب والمؤلفين قبل أن يَتَكَلَّفَا طبع كتاب عظيم مثل هذا يقع في عشرة مجلدات وتبلغ صفحاته أربعة آلاف صفحة؛ لَقالَ لهما إن هذا الأصل الذي طبعتما عنه وقع في الغالب إلى يد أحد الجهلة، فأضاف إلى كل ترجمة من عنده سخافات ما أنزل الله بها من سلطان، وما كانت من كلام المؤلف، وكتابه قد شهد له الثقات بالجودة، وهاكم مثالًا من مئات الأمثلة من هذه الزيادات التي شوَّهت الأصل، وجعلت الكتاب، على ما فيه من الفوائد، جَعْبَةَ رقاعات. من ذلك: «وهم (أي: المتصوفة) المصونون عن مرامقة حقارة الدنيا بعين الاغترار، المبصرون صنع محبوبهم بالفكر والاعتبار.» «بدأْنا بذكر من اشتهر من الصحابة بحال من الأحوال، وحفظ عنه حميد الأفعال، وعصم من الفتور والإكسال، وفضل الله له العهود والحبال، ولم يقطعه سآمة ولا ملال.» «وقد قيل إن التصوف السكون إلى اللهيب في الحنين إلى الحبيب.» «إن التصوف استنفاذ الطوق، في معاناة الشوق، وتزجية الأمور، على تصفية الصدور.» «وما عُهد منه (سيدنا عمر) في ملازمته للتفريد، ومحاماته على معارضة التوحيد، وأن لا ينهنهه عن مصاولتهم العدة والعديد». وكان (عمر) عن فناء الملاذ منتهيًا، ولباقي المعاد منتفيًا، يلازم المشقات ويفارق الشهوات، وقد قيل إن التصوف حمل النفس على الشدائد الذي هو أشرف الموارد.» «التصوف مرامقة المودود ومصارمة المحدود.» «التصوف إسلام الغيوب إلى مقلب القلوب.» «التصوف الارتقاء في الأسباب إلى المقدرات من الأبواب.» «التصوف البروز من الحجاب إلى رفع الحجاب.» «التصوف النزوح بالأحوال والتخفف من الأثقال.» «التصوف الوفاء والثبات والتسامح بالمال والجدات.» «ورغب عن التتريف والتسويف، وغلب عليه الحنين والتخويف، وقد قيل إن التصوف طلب التأنيس في رياض التقديس.» «التصوف المفرق البينونة إلى مقر الكينونة.» «التصوف إقامة الدنف المعذب على حفاظ الكلف.» «التصوف الوطء على جمر الغضا إلى منازل الأنس والرضا.» «التصوف استنشاق النسيم والاشتياق إلى التسنيم.» «التصوف مشاهدة المشهود ومراعاة العهود ومحاماة الصدود.» «تصحيح المعاملة لتصحيح المنازلة.» «التصوف تسوُّر السور إلى التحلل بالخور!» «التصوف قطع العلائق، والأخذ بالوثائق.» «التصوف التألُّه والتدله من غلبات التولُّه.»
وفي الكتاب من هذه السخافات مئات، دَسَّهَا الداسون في سفر حاول مؤلفه أن يترجم لنُسَّاك الأمة فاختلط سمينه بغَثِّ ذاك العابث. وهو كلام لا يصدر من قلم مؤلف عربي مشهور، وربما تساءل القارئ: وكيف لم يهتد الطابعان إلى ما شَانَ الكتاب؟ فالجواب: هذا من عمل العلماء لا من عمل الطابعين، ولو وقع الأصل لِعَارفٍ ما تَلَكَّأَ لحظة عن القول بما قلناه في هذه النقول، وأنت لو فتحت أَيَّ ترجمة لَمَا رأيتها، على الأغلب، تخلو في مقدمتها من مثل هذا الهذيان. وبالله بعد أن عرفت درجة الحافظ أبي نعيم في العلم هل تُجَوِّزُ عليه أن يقول: ومنهم الذاكر الفكري، خليد بن عبد الله العصري، كان لمحبوبه ذاكرًا، وإلى مشاهدته ساهرًا. وأن تقول إن هذا تصوف. ووالله لا يقول هذا إلا من اختل ذهنه. ولَعَمري ألا يستحق أن يجعل في مستشفى المجاذيب مَنْ يقول: «التصوف عويل حتى الرحيل وحويل إلا المقيل.» «التصوف التمتع بالحضور والتبتع للخطور» «التصوف الصفو للزيق والرتو للفيق؟»
وهناك كتاب آخرُ ارتُكبت في طبعه مثلُ هذه السخافات، عنيتُ به «البداية والنهاية» لابن كثير. فقد طبع منه ستة عشر مجلدًا بالقطع الكبير، ووقع، على ما يظهر، في أيدي مصحح لا يعرف التاريخ ولا يعرف الأدب، حتى لَيُخيَّل إلينا أن مصححه منضد حروف أو فرَّاش في المطبعة. هناك أسماء الأعلام محرفة تحريفًا مخجلًا، وإنك لتقرأ اسم العَلَم على صورة في صفحة من الصفحات، فإذا قطعت صفحتين أو ثلاثًا تقرؤه على شكل آخر وهُوَ هُوَ، وكذلك الأبيات الشعرية، أجارك الله من تحريفها فإنك إذا تَلَوْتَهَا تعاف الشعر وتنكر الأدب، فإن كثيرًا منها لا يُفهم، وبعضها لا وزن له. ألا يجدر بمثل هذا الكتاب الذي يكلف طبعه المئات من الجنيهات أن يُصرف على تصحيحه عشراتٌ من الدنانير، ويُعهد بتصحيحه إلى أناس يُحسنون فن الأدب وفن التاريخ، طَبْعُ هذا الكتاب على هذا النحو يُعَدُّ جناية على الأدب وتَجَنِّيًا على العلم والمعارف.
ولقد رأينا بعض النفوس تزهد في الكتب وتستغني، بعض الاستغناء، عن القراءة، ومن ارتقى عقله يستحيل عليك أن تضطره إلى قراءة مثل «حلية الأولياء» بهذه الزيادات عليه، والبداية والنهاية بهذا التصحيح السخيف.