القول في الجمع بين ثقافتين
لَمَّا خرج العرب في الإسلام من جزيرتهم، ورأوا بلادًا غير بلادهم، وشعوبًا غير شعوبهم، ومطالب محدثة لا عهد لهم بها، وقيودًا لا مناص من مراعاتها؛ أدركوا أنهم مقصرون في مضمار الحضارة، وأن عيش البداوة لا تقوم به دولة. فانهالوا يتلقفون كل ما لا يعرفون من أنواع العلوم والصناعات، ويقلِّدون الدول السالفة فيما خَلَتْ منه أرضهم.
وما انقضى القرن الأول من الهجرة حتى قام بنيان المدنية العربية الجديدة، واتجهت وجهة بعض الأذكياء إلى التناغي بعلوم القدماء؛ فكان من العلماء من يدرسون منذ عهد بني أُمية، في جملة ما يدرسون، الحسابَ والنجوم والكيمياء وحكمة القدماء، وغيرها. ويعدون من النقص ألا يلم العالم والكاتب بشيء من هذه العلوم تضاف إلى الحديث والفقه والأدب.
واشتدت حاجة المتكلمين — أي: علماء التوحيد أو رجال الدين في القرن الثاني — إلى إتقان علوم الأوائل والتعرُّف إلى ما أصاب الأديان الأخرى من أساليب الجدل ليقاتلوا أعداء الإسلام بالسلاح الذي كانوا يقاتلونهم به. وكان المعتزلة من أول من انتبه من أحبار الأمة إلى الاستعانة بعلوم القدماء للدفاع عن العقيدة فبَرَّزوا أكثر ممن قَصَروا علمهم على علوم النقل فقط.
شعرت العرب بعد أن استتب أمر دولة بني أُمية في الشام، ونظمت شئون المملكة الإسلامية وامتدت الفتوح في الشرق والغرب؛ بمسيس الحاجة إلى النقل عن القدماء، فبدأ النقل على يد خالد بن يزيد وعمر بن عبد العزيز. ولما جاء المنصور والرشيد والمأمون انبعثت الهمم انبعاثًا جديدًا، لترجمة كل ما خلت منه اللغة العربية من المعارف، وكان النقل من اليونانية والسريانية والفارسية والهندية، وما قصرت دولة الأندلس وإمارة صقلية في سلوك هذا المضمار: نَقَلَتا منذ القرن الثالث كتبًا كثيرة في العلوم، وأضافتا إلى تراث العباسيين ثروة جديدة من المعارف.
وبهذه العلوم الطارئة على الملة تطورت ذهنية العرب، واتسع أُفق نظرهم، فقام الأساس الذي بنوا عليه مدنيتهم بعلوم جديدة ما كانت مما يعرفون، وتمثلوا ما اقتبسوا عمن سبقهم من أصحاب المدنيات، ولا سيما فارس والروم والهند، وزادوا فيما نقلوا، وصححوا ما اقتبسوا، وتوسعوا ما ساعدهم الزمن في معرفة أسرار الكائنات، وكشف غوامض ما كان لأَجدادهم معرفةٌ بها، يوم كانوا على عُزلتهم في جزيرتهم.
ومن يقرأ سِيَرَ رجال الإسلام، في قرون ازدهار العلم يُلاحظ أن من أَثروا أثرًا نافعًا في العرب، كانوا من الذين عُرفت لهم مشاركة حسنة في هذه العلوم التي نسميها اليوم بالعصرية، وما هي إلا علوم القدماء؛ لأنها نتيجة عصور طويلة، انتقلت من أُمة إلى أُمة، ومن قطر إلى قطر حتى وصلت إلى العرب، وكانوا آخر من ورثها قبل العصور الوسطى. ثم أخذت أكثر أُمم الغرب عن العرب فكانت هذه المدنية الحديثة الغربية.
ومن تدبر فقط كتاب طبقات الحكماء للقِفْطي، وطبقات الأطباء لابن أبي أُصيبعة، وطبقات الأُمم لصاعد، والفهرس لابن النديم، وتاريخ حكماء الإسلام للبيهقي؛ يقف على عناية الخلفاء والملوك والأمراء من العرب بهذه العلوم، ويدرك أن عطفهم على من عاناها معاناة كبيرة من أبناء ذمتهم، من النساطرة واليعاقبة والصابئة والمجوس واليهود، لا يقل عن عطفهم على علماء الدين واللغة والأدب، وكم من وزير أو كبير كان ينفق على استخراج علوم الحكمة ونقلها إلى العربية، ما لا يقلُّ مقدارُهُ اليوم عن موازنة المعارف في إحدى الدول الصغرى، هذا ما كان يُعطيه أفرادٌ من أموالهم الخاصة أمثال بني موسى بن شاكر ومحمد بن عبد الملك الزيات، فما قولك بما يعطيه المنصور والرشيد والمأمون في المشرق، وعبد الرحمن الثالث والحكم الأموي في المغرب؟ لا جرم أن مجموعه يوازي ما تنفقه دولة من دول الحضارة لعهدنا على معاهد العلم والصناعات.
وإذا شئتم أن تمثِّلوا لأذهانكم ما كان يبذله العرب أيام عزهم على العلم والعلماء، ألقوا نظرة على دولة من الدول الراقية اليوم، وعلى ما تُعنى به من بث المعارف في أُمتها؛ تستخرجوا صورة من صور العناية بالعلوم في الدولة الإسلامية السالفة. وأَيقنوا مع هذا أن العواصم القديمة كدمشق وبغداد والبصرة، والري وأصفهان ونيسابور، وغزنة وسمرقند والفُسطاط، وإفريقية وصِقِلِّيَّة وقرطبة؛ ما كانت أقل عناية في هذا الشأن من باريز وأكسفورد وكمبريدج، وليبسيك وبولون ورومية، وصلمنقة وقَلَمُرُية من مدن العلم في العهد الحديث. وما كان مقام الكندي وحنين بن إسحق وأولاد بُختيشوع وابن سينا والفارابي والرازي وابن رشد دون منزلة أئمة الدين ورجال السنة والفقه والأَدب.
ولفَرْط غرام العرب بالعلوم كان علماؤهم يَقرءونها في حلق المساجد والجوامع منذ القرن الثاني إلى القرن الخامس، ثم أُنشئت المدارس في المشرق والمغرب، فكانت علومُ الأوائل تدرس مع علوم الدين واللغة في كثير من تلك المعاهد، وكانت دُور الحكمة في بغداد والقاهرة وإفريقية وغيرها أَشْبَهَ بجامعاتٍ تُلقى فيها محاضرات في ضروب المعارف البشرية وتضم كتب العلم والأدب. وعند القوم أن كل علم نافعٌ، ومن احتقر شيئًا من فنونه استضعفوا عقله وبهرجوا علمه.
كان تعلُّم اللغات غير العربية خاصًّا بفئة من الباحثين والحكماء، والأطباء والمهندسين، والمنجمين والسياسيين، وذلك في العصور التي كان اللسان العربي لسانَ العلم والسياسة في العالم. فلما زاد اختلاط الشعوب الإسلامية بالأُمم المجاورة لها كثر العارفون من العرب بلغات أخرى، ولا سيما في فارس في الشرق والأندلس في الغرب. ومن علماء المسلمين من ألَّفوا معاجم لغوية في هذه اللغات الغريبة مترجمة إلى العربية، ومن علماء الأندلس أيضًا من كانوا يقرءون العلوم بلسان الطلاب النصارى الذين يحضرون دروسهم، ليأْخذوا عنهم ما يجهلون من أصناف العلم. ومن علماء الإسلام من كانوا يدرِّسون التوراة والإنجيل لأبناء ذمتهم ويفسرونها لهم، ومنهم من كانوا يحفظون مع القرآنِ التوراةَ والإنجيل والزبور؛ إتمامًا لثقافتهم الدينية، وللمقابلة بين الأديان السماوية. ومنهم من كان يبحث في الأديان والنِّحَل بحثًا علميًّا مجردًا عن كل عاطفة مذهبية وقومية كالبيروني، أعظَم رياضي في الإسلام.
وما برحت العرب تحسُّ الحاجة إلى الأخذ عن غيرها، حتى قام كثيرٌ من أبناء الأُمة يتقنون لغات الشرق، ولا سيما الفارسية والتركية والهندية، أو لغات الغرب الإفرنجية وما تفرع عنها من اللغات كالفرنسية والإيطالية، والإسبانية والبرتقالية.
ومما ساعد دولة البرتقال في مطلع العصور الحديثة على تلقُّف العلوم التي أصبحت بفضلها أول دولة بحرية في العالم، وفتحت طريق الهند، واستأثرت بالتجارة العالمية زمنًا طويلًا؛ كَوْنُ من هاجروا إليها من علماء الأندلس، ومن كان في أرضها من العرب الذين لم ينزحوا عند استرجاع البرتقاليين لها يحسنون لغة تلك الديار ويتفاهمون ومن أرادوا تعليمهم من أبنائها بلغتهم لا باللغة العربية فقط، على نحو ما كانت جامعات الغرب أيام تدريسها قانون ابن سينا وتصانيف الرازي وابن زهر وغيرهم باللاتينية أولًا ثم تشرح باللغة المحلية. وكان الأستاذ عندهم يعرف العربية ليُحسن شَرْحَ العلم الذي يدرسه.
والحاصل أن العلم الذي كان منذ عرف التاريخ مشاعًا بين الأُمم، كان الراغبون فيه لا يستنكفون عن الأخذ عن غيرهم، ولا يَحُولُ بينهم وبين رغائبهم دِينٌ ولا جنس ولا لسان. ويعرف المدركون من الخاصة أن ثقافتهم لا تنفع النفع المطلوب إن لم يَمُدُّوا أبصارهم إلى أقصى حدود النظر، ويعرفوا ما عند غيرهم كما يعرفون ما عندهم. كانت في ذلك نشأتهم ولذتهم وعزتهم، وبقيت نغمة أخذ المتأَخِّر عن المتقدم تُردَّد في جميع الأعصار.
نعم، ما كان العلماء يهملون درس علوم الحكمة ولا سيما الفلك والرياضيات، وكثير منهم كان يحسن الطب والكيمياء والحيوان والنبات، كالجاحظ؛ فإنه جمع في صدره علوم الأولين والآخرين، أو علوم الدين وما عرف لعهده من علوم الدنيا. وهذا من نوادر الرجال بل يكاد يكون منقطع النظير في معناه. وكذلك كان أبو حيان التوحيدي الذي نسج في عصره على منوال الجاحظ، كان يعرف معظم العلوم وبرَّز في الفلسفة كما برز في علم الكلام والفقه والأدب والتاريخ.
وما خلا عصر من جماعة جمعوا بين الفضيلتين فضيلة القديم وفضيلة الحديث، وندر بين من اشتهروا من لا يحسن الرياضيات والنجوم والأزياج، وعمل الاصطرلاب والتاريخ والأنساب. وما استطاع الغزالي أن يجادل مِثْلَ ابن رشد إلا لأنه كان متمكنًا من الفلسفة وعلوم الطبيعة والرياضة. وابن حزم الأندلسي ما أَلقم خصومه حجرًا إلا لأنه كان إمامًا في الحكمة والتاريخ وعلوم القدماء، يحسنها كما يحسن علوم الشريعة. وكذلك قُلْ في ابن تيمية وجَمْعِه بين ثقافة الإسلام وثقافة القدماء، يتجلى ذلك من رده على الفلاسفة. وعمر الخيام ما كانت شهرته في الشرق بشعره فقط؛ بل بما كان يُحسن من علوم الدين والأدب وحكمة القدماء والبحث في العلم بَحْثَ عالم مجرد عن الهوى. واشتهر ابن سينا بإبداعه في فلسفته، ولكنه كان عالمًا دينيًّا وأَديبًا لغويًّا قبل أن يخوض عباب أبحاثه العجيبة، فهو من أجمل الأمثلة في الجمع بين ثقافة العرب وثقافة القدماء. وكان ابن حيَّان البُسْتي رياضيًّا وطبيبًا وفيلسوفًا قبل أن يمتاز في علوم الدين حين لُزَّ في قَرَن واحد مع كبار الأئمة. وكذلك أبو زيد البَلْخي وأبو حنيفة الدِّينَوَري والفخر الرازي وكمال الدين بن يونس، وغيرهم كثيرون.
وما كان الرجل يُعَدُّ عالمًا حقًّا إلا إذا أَلَمَّ إلمامًا كافيًا بالعلوم التي نسميها العلوم الإنسيكلوبيذية، أي: المعارف البشرية العامة، ثم يختص بما يغلب عليه من فروع علوم الشريعة أو غيرها. والقاعدة عندهم أنه لا تخصيص قبل التعميم. فكما أنه لا يكون المحدِّث محدثًا، حقيقة، إلا إذا أَتْقَنَ علوم اللغة والتاريخ والأنساب كذلك قَلَّما كان يُنتفع بعلم العالم الديني حق النفع إلا إذا ذاق شيئًا من العلوم التي تقوِّي ملكة العقل وتطرد منه الفضول والحشو.
نُسِيَتْ كل هذه الاعتبارات في عهود الجمود والانحطاط، وأصبح يعد شيئًا مذكورًا مَنْ يحسن تلاوة أحاديثَ نبويةً، يستظهرها ليُلْقِيَها على العامة، أو مسائل قليلة من الفقه ينقلها عن غيره بدون نظر. ولما نهض العرب نهضتهم الأخيرة كان من جمعوا إلى علوم الشرع شيئًا من العلوم المادية في مقدمة من حملوا عَلَم التمدن إلى أُمتهم وأخرجوها، بدروسهم وتآليفهم، من جهلها. ولا نمثل لذلك إلا بأشخاص اشتهروا أمثال الإمام محمد عبده فإنه لم يُرزق هذه الخطوة من أُمته إلا لأنه لم يقف عند حد ما قرأه في الأزهر من العلوم؛ ولو لم يلقِّنه شيخه السيد جمال الأفغاني علم الحكمة، ويفتح للعلوم قلبَه لكان مثل مئات غيره من شيوخ الأزهر لم يسمع بهم غيرُ طلبتهم في حياتهم، وما عملوا إلا أنهم كرروا ما لاكَهُ غيرُهم قرونًا.
وصقل الشيخ محمد عبده علمه بتعلُّمه لغة أجنبية في سن الكهولة، فأصبح ممن يسهل عليهم الاستقاء من المصادر العلمية الأصلية، وهكذا جرى شيخه السيد جمال الدين، فتعلَّم الفرنسية في الكهولة وأَتْقَنَها. وكذلك يقال في مصلح الشام الشيخ طاهر الجزائري، فإن تأثيره كان بما لقفه من علوم القدماء وثقفه من لغاتٍ شرقية وغربية مضافًا إلى إتقان علوم الإسلام وآداب العرب. ومثل ذلك يُقال في العلامة الشيخ محمد بن أبي شنب الجزائري، فقد أتقن علوم الدين والأدب وعدة لغات حية فنشر بها عِلْمَ الإسلام في أوربا، وكان برهانًا قاطعًا على أنه ليس في العلم ما يُرغب عنه. وما كان العالِمان الكبيران أحمد تيمور باشا وأحمد زكي باشا من أفذاذ الرجال في البحث العلمي لو لم يَجْمَعَا بين الثقافتين العربية والغربية.
وبعد، فإن من أفلحوا كثيرًا من العلماء، وكان فلاحهم بتأثيراتهم العظيمة في الأمة العربية في حياتهم وبعد موتهم؛ هم الذين جمعوا بين ثقافتهم، وأتقنوا مع العربية لغة أو لغتين، أي: مَنْ وَسَّعُوا دائرة النظر ولم يجمدوا. ولقد غيرت اللغات الأجنبية التي تلقفها أبناؤنا منذ فجر النهضة الحديثة وجه العلم في ديارنا، وكذلك تلك الثقافة الشاملة التي اشترك في الأخذ منها جميع من درسوا الدروس النظامية، ثم سَرَتْ إلى المعاهد الدينية. وبعد أن كنت تتقزز من خريج الأزهر أصبحتَ بعد مشاركته طلاب العلم المدني في علومهم تشتهي أن تناقشه ويناقشك؛ لأنه تأَدَّب بأدب العصر وأَلَمَّ بعلومه ومعارفه. ومتى تثقَّف جميع طلبة العلوم الدينية على هذا النمط من التعليم تنتظم لهم دعوتهم الدينية انتظامًا باهرًا، ومتى أخذ طلبة العلوم المدنية بقسط من علوم الإسلام يعرفون أنه لا يستغني عِلْمٌ عن علم، ولا يليق بالإنسان أن يكون بعيدًا عما يُنير قلبه وعقله.