خاتمة
أطلنا الكلام فيما حاولنا الخوض فيه من مشاكلنا، وها نحن أُولاء نختم كتابنا بقولٍ في الرجال وفي حُسْنِ استعمالهم والانتفاع بمواهبهم. وفي الحكومات الصالحة يسود الصالحون من الرجال. والدولة سوق يُحمل إليها ما يروج فيها.
وبعد، فإن الناس مفطورون على تقليد كبرائهم، ومن اعتقدوا فيهم فضل التقدم عليهم، يتشبه مغلوبُهم بغالبهم وصغيرهم بكبيرهم، فإن كان الزمن مما يغلب فيه التقوى والصلاح كعهد الظاهر جتمق في مصر تكثر الجوامع والمساجد، ويظهر القوم بمظهر أهل التُّقى، وقدوتهم سلطانهم، وإذا كان الدور دور لهو ولعب كعهد الظاهر الفاطمي راجت الملاهي وانتشر الإسراف، حتى لَيُمقت كل من دعا إلى الفضائل، ويُسخر منه ولا يُؤْبه له.
اشتهر في دولة المماليك الملك الناصر، كالوليد بن عبد الملك الأُموي، بحب التعمير فصار كل واحد في زمانه يحذو حذوه، ويتقرب إلى خاطره بهذا الشأن وصار للمصريين غرامٌ بالبناء، وكان مليكهم إذا سمع بأحد قد أنشأ عمارة بمكان شكره في الملأ، وأَمَدَّهُ في الباطن بالمال والآلات وغيرها، فعمرت مصر في أيامه وصارت أضعاف ما كانت.
نعم ما برح الصغير يقتدي بالكبير، وكلام العظيم قانونٌ، وفعله يُحتذى، وحديثه يُتناقل ويُئَوَّل ويستظهر، ولن يتم إصلاح في جماعة إلا على أيدٍ طاهرة يَعمل أربابها أحرارًا لا وازع لهم إلا ضمائرهم، وتُطلق لهم حريتهم في اختيار من يؤازرهم، يُصَرِّفون الأمور على ما تقتضيه المصلحةُ والعقل قبل التقيُّد بالقوانين، وتُراقَب أعمالُهم مراقبةً سرية وجهرية، ويُعلن للملأ إحسان المحسن وإساءة المسيء، ليعتبر من ينزع إلى إماتة الحق وإحياء الباطل. أما من ثبت إجرامهم فيعاقبون بحبس طويل، وإهانة علنية متكررة، ثم تُحذف أسماؤهم من سجل الاستخدام كما يُطرد من الخدمة كلُّ من ثبت أنه فسيق يقامر ويتاجر. وصلاح العالم بالترهيب والترغيب.
من البلاء كثرةُ القوانين وقلة تنفيذها، وقانون لا ينفذ حسرة على من وُضع لهم. ومصلحة الأمة في أن لا يضيع الحق بين أظهُرها، تبتاعه بالثمن الذي تقدر على أدائه، تعطي من يخدمونها ما يعيشون به ويفضل عنهم، ولا تتطلب منهم إلا بذل الجهد في مرضاتها، وتجويد أعمالهم على ما تقضي به الذمة الطاهرة، أما إذا ضَنَّت عليهم بما يقيمهم كما هو الحال الآن في رجال الأمن مثلًا يتناولون أجرًا زهيدًا، ويستبيحون لأنفسهم مد الأيدي لتناول الحلاوين والرشوات، فإذا لم يصلوا إليها بالتهديد عادوا يَسْتَجْدُون أرباب المصالح بعرض بؤسهم عليهم، يستدرُّون رحمتهم ليرضخوا لهم بشيء من المال، فهذا نقص عظيم يجب تلافيه.
ومسألةٌ أُخرى وهي أن يجري انتخاب العمال من دون نظر إلى أحزابهم، ويُمنع كل موظف من العمل في الأحزاب والجمعيات السرية، لا يشتركون في ذلك اشتراكًا فعليًّا ولا اسميًّا. والجمع بين الوظيفة وعمل آخر لا يخلو من تناقض كالجمع بين السياسة والإدارة، أو الجمع بين الضب والنون، وقد ثبت ضرر اشتراك العمال في الجمعيات والأحزاب؛ لأن أهلها يتوخون إرضاء الإخوان والأنصار قبل كل شيء، وهم، على الأغلب، لا يتحرجون من مخالفة القوانين إذا كان فيها إرضاء من أنالوهم مغانم ليس لهم في إحرازها شيء من الكفاية وحموهم ممن يهيمنون عليهم، وقُصارى هذه الطبقة خدمةُ صاحب القوة لا يهمهم إغضابُ الحق بقدر ما يهتمون لإرضاء الباطل.
ربما ذهب بعضهم إلى أن تحقيق مثل هذا الإصلاح سهلٌ في القول صعبٌ في العمل، وهي مزاعمُ طالما رَدَّدَتْها ألسن المثبطين الكسالى، ولو سار المصلحون على مثل هذا السخف ما قام في الأرض إصلاحٌ ولا خَطَتْ المدنيةُ خطوة تذكر، ولقد رأينا الفرد برأسه يعمل كل عظيم إذا كان رائده العقل، وهِجِّيراه العمل، فكيف بالدول وهي لا تخطئها قوة إذا أرادت إنفاذ أَمر في رعيتها، ويكفي بضع سنين حتى يبدو صلاح ثمرة غُرست فَسِيلتُها بحذق ومهارة.
وُفِّقَتْ بعض الأقطار إلى إتمام الشيء الكثير من إصلاح الإدارة، وينقصها الآن أن تصلح عامة من يُديرون دفتها وتجتزئ بالقدر اللازم منهم وتوسع عليهم وتحميهم. ومن أهم ما تجب مراعاته ألا يغتر بشهادات طلاب التوظف، وينظر أولًا في سيرتهم وفي ماضي بيوتهم، فقد رأينا بعض من يحملون أعظم الشهادات أَسْوَأَ مَثَلٍ في قُبح السيرة، أخذوا الفساد عن أهلهم، وكان لهم من العلم أداة شر استخدموه في أهوائهم.
إذا عرفنا هذا فالأَوْلى أن يرجح في التوظف أبناء الفقراء على من نشئوا في بيوت معروفة بالفساد على أنواعه. وليس من شك بأن توظيف الصالحين يقلل في كل بلد من عدد المزورين والمحتالين، ومن دأبوا على التقرب من كل حكومة لتغضي عن سوء أحوالهم. ومتى قَلَّ المبطلون تستغني الحكوماتُ عن هذه الجيوش من العمال، وعن إنفاق هذه النفقات تجمعها بالقروش وتفرقها بالألوف على ترفيه طبقة خاصة.
هذا رأي في اختيار العمال وطريقة يُرجى منها أن تؤدي إلى إنشاء خير رُعاة يرعون أسعد رعية. أما الخلق فما زالوا يشكون زمانهم، يبالغون بالإعجاب بالغابر ويغلون في نقد الحاضر، وأهلُ كل عصر يقولون بصلاح الزمن السالف وفساد الزمن الخالف.
في القرن الرابع أرقى عصور الإسلام في العلم سامر الحكيم العظيم أبو حيان التوحيدي في مدينة السلام الوزير ابن العارض، وكان من علماء الوزراء، فأورد على مسامعه في أربعين ليلة ما أدهش السامعين من أمور الدنيا والدين، ومما ذكر له قول أحد العقلاء قبل عصره في وصف طبقات الناس وما آلوا إليه من انحلال الأخلاق: «والله لئن لم يعمنا الله برحمته إنها لَلْفضيحة.» فقال الوزير: «إن الأمر كما قال، فإذا كان هذا قوله في عصره وشجرةُ الدين على نضارةِ أغصانها وخضرة أوراقها، ويَنْع ثمارها، فما قوله تُرى فينا لو لحقنا وأدرك زماننا؟» ولما روى أبو حيان للوزير ما قاله أحد البلغاء في وصف أخلاق التجار وما هم عليه من الاحتيال والتلاعب قال الوزير: «إن كان هذا الواصف عَنَى العامة بهذا القول فقد دخل في وصفه الخاصة أيضًا، فوالله ما أسمع ولا أرى هذه الأخلاق إلا شائعة في أصناف الناس من الجُنْد والكتاب والتُّنَّاء والصالحين وأهل العلم، لقد حال الزمان إلى أمر لا يأتي عليه النعت ولا تستوعبه الأخبار، وما عجبي إلا من الزيادة على مر الساعات.»
وفي القرن السادس دهش ابن الجوزي لما اطَّلَعَ على سِيَرِ الخلق من الملوك والوزراء والعلماء والأدباء والفقهاء والمحدِّثين والزُّهَّاد وغيرهم، فرأى الدنيا قد تلاعبت بالأكثرين تلاعُبًا أَذْهَبَ أَديانهم، قال وهذا لأن الدنيا فخ والناس كعصافير والعصفور يريد الحبة وينسى الخنق. وقد نسي أكثر الخلق مآلهم ميلًا إلى عاجل لَذَّاتهم، فأقبلوا يسامرون الهوى، ولا يلتفتون إلى مشاورة العقل.
نعم هكذا كان الناس، وهكذا هم اليوم، وسيكونون على ذلك غدًا، وليس غير السلطان العادل يروِّض قُلوبَهم على الحق، يُطَأْمن من جماحهم بالقانون النافذ الحكم على الكبير والصغير. وقد قال أناتول فرانس ما معناه: لا يتأتى أن يكون البشر على غير هذه الصورة من الغش والطمع والحسد والشر ما دام تركيبهم على ما نرى، ولا سبيل إلى إصلاحهم إلا إذا تعلقت إرادته تعالى فخلقهم خلقًا جديدًا على مثال آخر. وقال ابن المقفع: وقد علمنا، علمًا لا يخالطه شك، أن عَامَّةً قَطُّ لم تَصلح من قِبَلِ نفسها، ولم يأتها الصلاح إلا من قبل خاصتها، وأن خاصة قط لم تصلح من قبل نفسها، وأنها لم يأتها الصلاح إلا من قبل إمامها، وحاجةُ الخواص إلى الإمام الذي يُصلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم، وأعظم من ذلك.