القول في نظامنا
إذا وقعتْ أعينكم على شخص يتخطى في المسجد صفوف المصلين ليقف في الصف الأول، وإذا شهدتم رجلًا في بِيعَة يتنقل من مقعد إلى مقعد ليفوز بالجلوس على الدكة التي يتخيلها لائقة به، وإذا سمعتم أن إنسانًا يشوش على الناس اجتماعاتهم ولا يرعاهم ولو كانوا في أقدس قرباتهم وأجمل ساعاتهم، وإذا رأيتم تلاميذ مدرسة يعلو أبدًا ضجيجهم حتى يقلق أهل الجوار، لا يُحسن معلِّمهم أو مديرهم ضَبْطَهم في الفرقة أو النزهة.
وإذا زرتم ثكنة عسكرية أو مخيمًا كشفيًّا ولحظتم أبناءها يقعدون على هواهم يَلغطون إذا تكلموا، ويتدافعون إذا اجتمعوا، ولا يسيرون على تساوق واطراد إذا مشوا ووقفوا، وإذا طَعموا أو ناموا، وإذا عملوا واستراحوا، وإذ بَصُرتم بسائرٍ في الطريق يحاول أن يسبق المارة يدفعهم في ظهورهم أو في وجوههم، أو يضغط على أيمانهم أو على شمائلهم، وآخر يسارع إلى اختراق مواضع المجتمعين على باب متجر أو مشغل أو مصرف أو ديوان أو ملعب أو ملهًى، ولا يراعي في طلوعه إلى الترام أو القطار ونزوله منه النظام المتبع، وإذا شهدتم جماعة يجيئون في غير وقت لا يحفلون مراعاة موعد الاجتماع، وإذا وضح عندكم أن امرأ مرتبكًا في عمله، مخلطًا في حساباته، رسائله مشوشة غير مصنفة، وبضائعه مركومة كيفما اتفق، لا يعرف دخله من خرجه ولا ربحه من خسارته.
وإذا قيل لكم إن مرءوسًا لا يخضع لرئيسه فلا يحضر في الساعة التي يعينها له للحضور والانصراف، وإذا نظرتم فردًا تحدثه نفسه أن يفتح دكانه أو مخزنه أو مكتبه أو معمله في يوم عطلة أجمع السواد الأعظم من أهل بلده على تقديسه، ودخل الاعتقاد بذلك في جملة مقدساتهم، وإذا حدثوكم عن إنسان لا يخضع في عمله ولا في أكله ولا في منامه ولا في نزهته لقانون، ولا يدرك فوائد التوقيت يعمل يومًا ويتبطَّل أيامًا، يفكر في أمر وقبل أن يبرمه يشرع في آخر، وإذا نُقل إليكم أن ربة بيت تلقي متاعها كيف اتفق، ولا تهتم لوضع الملبوس والمأكول والمشروب في مواضعها. إذا رأيتم كل هذا فاحكموا على من ابتُلوا بذلك أنهم أعداء النظام وعشاق الفوضى.
عرَّفوا النظام بأنه مجموع قواعد مقررة أو أنظمة مكتوبة من شأنها حفظ الترتيب في جماعة أو مجلس، والنظام ضُروبٌ يتناول شئونًا كثيرة، والأمة التي لا يخضع أبناؤها للنظام كالجيش غير المنظم محكومٌ عليه بالهلاك. قالوا إن النظام مراعاةُ أمور ما برح البشر يراعيها منذ العصور الواغلة في القدم، أي: من العصر الحجري، أيام كان الناس يعيشون قبائل رَحَّالة إلى زمن المدنيات الحديثة، والنظام هو الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات وهو من الضروري لبقائها.
ولقد بالغت القوانينُ في حماية الفرد حتى لم يعد يستطيع إدراك حسنات هذه الحماية، ولا يتمثل لناظره إلا ما فيها من قيود. وأبان شوبنهور عن رأيه في مصير العالم إذا لم يكرهوا على حرمة القوانين، فقال: ألقت الدولة بحقوق الفرد إلى سلطة تعلو كثيرًا عن سلطته، وأكرهتْه على احترام حق الغير، وبذلك بطل حكم الأثرة التي تفشو كثيرًا في نفوس الجماعة، وامتنعت الشقاوة، وقضي على الوحشية، فالزجر يفيد الخلائق، ومنه تنبعث فيهم ظاهرة تسوقهم وتجذبهم، وإذا أصاب السلطة الحلمية للدولة شيء من الوهن — كما يحدث أحيانًا — لا تلبث أن تبدو للأعين شهوات الناس التي لا تشبع، ويتجلى تزويرهم وخُبثهم وغدرهم.
يقول لبون: إن النظام يحدث ضربًا من التوازن بين الدوافع الطبيعية في الخُلُق الإنساني وبين الضروريات الاجتماعية، وتظهر مكانة النظام متى عُرف أن الشعوب لا تصل إلى الحضارة إلا به، إذا فقدتْه تعود سيرتها الأولى من التوحش. ولقد كان من فقد النظام بين الوطنيين في أثينة أن صاروا إلى العبودية. وعندما بطل احترام النظام في رومية دقت ساعة انحطاطها. ولَمَّا لم يبق إرادة غير إرادة الإنبراطرة الموقتين، ينتخبهم الجند ويخلعهم، كُتبت الغلبة للغزاة من البربر على الرومان، وما هلكت غالبًا الممالك المستقلة على نحو ما اضمحلت أثينة ورومية إلا بقلة من يراعون النظام فيها: فسد القضاء، واختلَّت الجباية وسرى الخَلَلُ إلى كل ما فيه ترتيب اجتماعي ففتحت لقيصر طرق الفتح.
قال لبون: وقد زاد عدد العاصين على النظام في العهد الأخير، وضعُفت كثيرًا سلطة الأب والمعلم والسيد في الأُسرة والمعمل، وبطلت الطاعة والخضوع، وكل يوم يظهر ضعف الرؤساء عن فرض إرادتهم، وتبدو النفرة من الزواجر والنواهي، ويعادَى كل ما هو سامٍ في ذاته، ويُبغض مَنْ سما بماله ومن سما بذكائه، وفُقد التضامن بين مختلف الطبقات فتناحرتْ وتدابرت، واستهين بالأهداف السامية القديمة، ولا تكبح جماح هذه الريح العاتية من الفوضى التي توشك أن تقلب المدنيات رأسًا على عقب إلا طبقة الأعلياء، وهؤلاء لن يوفقوا في مهمتهم إلا إذا ارتقت أخلاقهم إلى مستوى ذكائهم.
وبعدُ، فمن المحال أن يسعد شعب ويرتاح ويهنأ إلا بالنظام ولن ينتظم أمر، لجماعة تعيث الفوضى في حياتها الخاصة والعامة. وقد يتجلى العمل بالنظام فيمن رُبُّوا تربية جندية فيحافظون على الأوقات، ويسيرون سير من يحب وضع الشيء في محله، ومنهم من يخلع ربقة النظام بعد انتهاء خدمته، لا يعبأ بما كان أَلِفَ، كأن ما جرى عليه شطرًا من عمره كان صباغًا فَنَصَل فتاقت نفسه إلى الظهور بلونه الأصلي. ومن تخرجوا من مدرسة نظامية من الطلاب هم أقرب إلى النظام من أولادٍ ما لُقِّنُوا هذا المعنى منذ طفولتهم. النظام ابن المدنية والمدنية ابنة النظام وكلما رجحت كفة النظام في ميزان أمة عظمت حضارتها. وإذ كان ابن الغرب أَقْعَدَ في هذه المعاني من ابن الشرق جاء الغربيُّ، بالطبيعة، أكثر غناء وهناء.
رأينا الفلاحين وأرباب الحرف عندنا دائبين على نظام فطري من الصباح إلى المساء كأن هناك دافعًا يدفعهم وعاملًا يُحصي عليهم الدقائق والساعات. فهم يبدءون أعمالهم في ساعة معينة ويأكلون في وقت يختارونه لا يعدونه، ويحددون أوقات راحتهم، ولا يعملون أيام العطلة، ولا يتركون عملًا قبل إتمامه، بل رأينا راعي الغنم أو الماعز ينبهه الكُرَّاز بُكْرَةً فيسرح بماشيته فإذا كانت الظهيرة كفتْ عن الرعي وتطلَّبت الماء ثم تقيل وصاحبها منتح ناحية، وهكذا دواليك لا تُخِلُّ بذلك يومًا واحدًا، وهذا أعظم نظام.
وإذا شُوهد اثنان يتشاكلان بذكائهما ورأيتم أحدهما تخطى رفيقه إلى الغنى، وحظي بالقبول عند الناس، فاحكموا بأنه ما أفلح إلا لأنه كان على شيء من مراعاة النظام أكثر من صاحبه، ولولا التشديد في المحافظة على النظام ما استطاع أبو بكر أن يقضي على أهل الردة لَمَّا أزمعوا الخروج على الجماعة، طالبين أن يُعاملوا معاملة شاذة. ولولا صلابة عمر في الاحتفاظ بالنظام ما فتح ما فتح من الأقطار ولا نظم ما نظم بسياسته وإدارته، وجيوش العرب يوم اليرموك والقادسية وأثرها البالغ في الفتح ما كان إلا نتيجة من نتائج النظام الدقيق. كانت جيوشهم يوم اليرموك ويوم القادسية بضعًا وثلاثين ألفًا في كل معسكر، وكانت الروم والفرس أربعة أو خمسة أضعافهم، ولكن كان في جيوش العرب النظام وفي جيوش أعدائهم الفوضى. نعم ما كانت الغلبة لجيوش العرب في كل مكان اتجهت إليه هِمَمُهُمْ إلا لأنها كانت قوية بنظامها. ولكم أن تحكموا على كل دولة بالقوة ما شهدتم أهلها يتفانَوْن في حفظ نظامهم. لا جرم أن كل من تقرءون سيرتهم من العظماء الذين قدموا وأخروا في مقدرات أمتهم، كمعاوية وعبد الملك بن مروان وسليمان بن عبد الملك وزياد والحجاج وموسى بن نصير وطارق بن زياد والمنصور بن أبي عامر ومحمود بن سبكتكين وعشرات أمثالهم، كانوا على الغاية من مراعاة النظام يُجرون أحكامه على أنفسهم ثم على تابعيهم، فعملوا بالقليل المنظم ما لم يعمل مثله من كان عنده الكثير المُخْتَلُّ.
رأينا الرجال، على اختلاف العهود، يحرصون على نظام لهم تواطئُوا على استحسانه. كتب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر من كبار قُوَّاد بني العباس: «وافرغ من عمل يومك ولا تؤخرْه لغدك، وأكثرْ مباشرته بنفسك، فإن لغد أمورًا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أَخَّرْتَ، واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فيشغلك ذلك حين تعرض له فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك، وبذلك أحكمت أمور سلطانك.»
وفي الرسائل الصادرة عن عقلاء الملوك إلى عمالهم أشياء من هذا القبيل، أَتَوْا بها في معرض النصح وما هي إلا قوانين فرضوها وأوامر دعوا إلى الأخذ بها. وفي كل أولئكم تحبيب التوقيت ووضع خطط النظام. ولو لم يكن أكثر علماء الأمة على حظ جزيل من النظام ما خلف بعضهم مئات المجلدات، ومنهم من لو قسمت تآليفهم على أيام عاشوها أصاب كل يوم كراس أو كراسان، ومنهم من جمعوا بين السياسة والعلم، فأعطوا، بالنظام الذي اتبعوه، لكل عملٍ قِسْطَه من العناية، وخصوا كل ساعة بعمل فنجحوا في الخطتين، ولقد عجب المسعودي المؤرخ من معاوية بن أبي سفيان كيف كان يقسم أوقاته في المطالعة وسياسة الملك.
ولما فَتَرَ حُبُّ النظام في نفوس من ينتسبون للعلم تراجعت العلوم، وأصبح من يسمونهم بالعلماء كرهبان دير تورين يقضون حياتهم فيما يحبون ويختارون، يأكلون ويشربون متى شاءوا، ويعملون وينامون عندما يبدو لهم، لا يوقظهم أحد ولا يحاول إنسان أن يرغمهم على تناول طعامهم، أو على القيام بواجب، خلافًا لمعظم أهل الأديار التي كانت حياتها بالنظام في الحقيقة، وبه وُفِّقت للقيام بما تقوم به من أعمال البر وإغاثة الملهوف وإطعام الجائع وتمريض العليل.
يقول موروا في كتابه فن الحياة: الواجب أن يكون للعلم نظام، ولقد رأينا الكثيرين يشكون من قِصَرِ الأعمار وليت شعري ألا يعيشون كل يوم ثماني ساعات إن ما يعمله المرء كل صباح وهو جالس إلى منضدته أو مكتبه يأتي بالعجائب. مَثِّلْ لعينيك كاتبًا يكتب كل يوم صفحتين، أَلَا يكون له مما يخطُّ بعد حياة طويلة ما يوازي ما كتبه بلزاك وهوغو، بسعته لا بنفاسته؟ لا يكفي جلوس المرء إلى مكتبه بل الواجب عليه أن يتقي ما يصيبه من أذى قاصديه، وهذا ظاهر بالنظر للكاتب واحتياجه إلى وقت يعمل فيه حتى ينسى العالم الخارجي ولا يستمع لغير ما يجول في نفسه من أفكار، وفي العمل المُقَطَّع أثر الوناء والفتور أبدًا.
وعلى العامل أن يتجهم لمن لا خلاق لهم من أَكَلَة وقته؛ فإنه إذا لم يصمد لمقاومتهم يسلبون منه آخر دقيقة من ساعاته. قال: وكان شاعر الألمان جيته معلمًا صالحًا في هذا الباب، وهو القائل: إن الواجب أن يُقْلِعَ الناس عن اختلاف بعضهم إلى بعض بدون سابق إنذار، طالبين إلى المَزُور أن يُعْنَى بمسائلهم، وأن هذه الزيارات لتأتي بأفكار غريبة ليس من يزار في حاجة إلى سماعها، ولديه من أفكاره ما يكفيه. وكان جيته إذا طرق بابه طارق على الرغم منه لا يرى إلا إعراضًا وتجهمًا فيضع يده وراءه وهو ساكت لا يتكلم، وإذا كان من يغشاه صاحب مكانة يبدأ جيته بالسعال والتأوُّه، ولا يلبث أن يقطع حديثه معه، وكان يقول: آهٍ منكم أيها الشباب، إنكم لا تعرفون قيمة الوقت. وقد ذهب بعضهم إلى أن في عمل جيته شيئًا من عدم الإنسانية، ومخالفة الإنسانية — كما قال موروا — هي التي مكَّنت جيته من أن يكتب قصة فاوست وويلهلم ميستر. لا جرم أن من يستسلم للناس في هذا الباب يُبتلع ويموت ولا يتم شغله، والمغرم بعمله يتباعد عن الأحاديث التافهة، ويحيد عن حضور مجالس يسمع فيها ثرثرات وترهات.
ولقد كان ابن الجوزي — وهو من المؤلفين المكثرين من التأليف — يدافِع لقاء الناس جهدَه، فإذا غلبوه وهاجموه أوجز في كلامه ليحملهم على الانصراف، وهو أبدًا يُعِدُّ أعمالًا تمنع من إطالة المحاورة فيخص ساعة الاجتماع بقطع الكاغد وبري الأقلام وحزم الدفاتر.
طلب أحد رجال السياسة في العهد الأخير مقابلة أمير من أمراء العرب فأجابه إلى طلبه وبعث يقول له على سبيل النكتة: تنزل علينا على الرحب والسعة ولا نشترط عليك إلا شرطًا واحدًا وهو أن تضع ساعتك على الجسر الفلاني في الحدود. يريد أن يقول له: إننا هنا نعيش في الفوضى اللذيذة.
وفي هذا المعنى قال شاعر المتأخرين حافظ إبراهيم — عليه الرحمة — في التأفُّف من النظام؛ لما شهد تَشَدُّدَ الغرب فيه: