الفصل الحادي عشر
النقد الأدبي النِّسائي
يُعتبر النقد الأدبي النسائي من أشد مجالات النقد الأدبي
تعقيدًا؛ بسبب صعوبة ترجمة مصطلحاته ترجمةً كفيلة بتوصيل
المعاني المقصودة إلى القارئ العربي. وقد سبق لي أن عرَّفت
تعبير النِّسائي feminist
والمذهب النسوي feminism في
كتابي «الأدب والحياة» (١٩٩٣م) بأنه مذهب الانتصار للمرأة،
وحاولت التفريق بينه وبين تحرير المرأة
emancipation of women
الذي ترجع جذوره إلى أوائل القرن التاسع عشر في كتابات ماري
وولستونكرافت Mary
Wollstonecraft زوجة الفيلسوف وليام
جودوين William Godwin ووالدة
ماري شلي زوجة Shelley الشاعر
الإنجليزي المعروف (وماري شلي هي مبتدعة شخصية فرانكنشتاين
ومؤلفة الروايات القوطية الشهيرة؛ أي الروايات التي تتميَّز بجو
العصور الوسطى والرعب والغموض والغرابة
Gothic).
فتلك الحركة أصابها الانتكاس في العصر الفكتوري؛ أي من
أواسط الثلاثينيات في القرن الماضي وحتى حركة المناداة بحق
المرأة في التصويت في الانتخابات البرلمانية والتمثيل
النيابي، والتي يشار إليها باسم «مناظرة التصويت»
suffrage debate، والتي
بلغت أَوجها في أوائل هذا القرن بانتصار المرأة.
وحاولت التفريق بين ذلك المذهب كذلك ومذهب تحرُّر المرأة
woman’s lib (والاختصار
الإنجليزي يشير إلى كلمة
liberation)، وكان من أهم
دعائمه حق المرأة في حياة جنسية مستقلة عن اختيارات الرجل،
وكانت زعيمته هي جيرمين جرير Germaine
Greer التي عادت فعدَّلت بعض مواقفها إزاء
هذه القضية في الثمانينيات. وإن كنت لم أتعرَّض لكلمة
empowerment التي تعني
«منح السلطة للمرأة» بمعنى تمكينها من حق تقرير إنجاب الأطفال
أو الإجهاض أو الطلاق وما إلى ذلك من علاقات الأسرة؛ لسبب
بسيط وهو أن الكلمة لم تكن قد وُجدت بعد! وقد انتقلت هذه
الكلمة الأخيرة، مستعارةً من ميدان الكفاح التحريري للمرأة،
إلى مجال المطالبة بمنح السلطة إلى سائر الجماعات المستضعَفة
vulnerable groups
(ومعناها الحرفي: المعرَّضة للتأثير أو للمعاناة).
أقول حاولت التفريق بين هذه التيارات الثلاثة، وإن كانت في
جوهرها تمثِّل اتجاهًا واحدًا يرمي إلى تعديل أوضاع المرأة في
المجتمع وانعكاسات هذه الأوضاع في الأدب. وأول مشكلة تصادفنا
هي اسم المذهب نفسه وما يرتبط به من مصطلحات نقدية، فإذا
ترجمت تعبير feminist
criticism بالنقد النسائي فماذا عساك
تعني؟ هل تعني به النقد الأدبي الذي تكتبه النساء؟ أم تعني به
نقد الأدب الذي تكتبه المرأة؟ أم نقد الأدب من وجهة نظر
المذهب الذي يدعو إلى تحرير المرأة؟ هذه هي أول مشكلة. ولذلك
فأنا أخرج عمَّا التزمت به من تبني النسبة باعتبارها بديلًا
لصيغة الصفة الإنجليزية، وأُحاول أن أجد المعنى الدقيق لكل
حالة بأي بناء لغوي ممكن.
ولنبدأ من البداية — كما يقولون — فننظر إلى الأساس الفلسفي
لهذا المذهب، وسأعتمد على دراسة فيلسوف إنجليزي معاصر هو
سايمون بلاكبيرن Simon
Blackburn في أحدث ما كتبه (١٩٩٤م) عن
الأسس الأخلاقية ethical
والمعرفية epistemological
للفلسفة النسوية؛ فهو يعرِّف المذهب النسوي بأنه منهج دراسة
الحياة الاجتماعية والفلسفة وعلم الأخلاق
ethics، يلتزم أصحابه فيه
بتصحيح انحرافات التحيُّز
biases التي تؤدِّي إلى
إحلال المرأة في مكانة التابع
subordination (أي في
مكانة ثانوية) وإلى الغض من قيمة الخبرة الخاصة بالمرأة
واستصغار شأنها
disparagement. ومن ثم فإن
علم الأخلاق النسوي الحديث يركِّز على الانحياز للرجل مُسلِّطًا
عليه أضواءه، وكاشفًا عن خباياه في الدراسات والنظريات
الفلسفية التي توارثناها جيلًا بعد جيل (مثل الفضائل التي
عدَّدها الفلاسفة والتي يصوِّرونها من وجهة نظر الرجل، وكذلك في
الأبنية الاجتماعية والأنظمة القانونية والسياسية والثقافة
العامة).
وأول مصطلح من المصطلحات الشائعة هنا، والتي أصبحت تجري على
كل لسان في الغرب ولا يخلو منها كتاب أو صحيفة، هو مصطلح
gender. وقد ترجمته في
الفقرة السابقة عندما ورد في التركيب gender
bias بالانحياز للرجل، ولو أنه يعني
حرفيًّا الانحياز لأحد الجنسَين، وكذلك فنحن نُترجم
gender sensitive في
الكتب العلمية ووثائق الأمم المتحدة بتعبير «حسب النوع أو حسب
الجنس»؛ أي يأخذ في اعتباره كون الشخص رجلًا أو امرأة، ومن ثم
فلا بد من النظر في هذا المصطلح.
الكلمة مصطلح نحوي في الأصل؛ فهو يعني التمييز في الاسم
بين المذكَّر masculine والمؤنث
feminine وبين يديَّ كتاب
في علم اللغويات عنوانه Gender
فحسب، من تأليف جريفيل كوربيت Greville
Corbett صدر عام ١٩٩١م (كيمبريدج) يقتصر
على بحث وضع المؤنَّث والمذكَّر في لغات العالم ودلالات التذكير
والتأنيث على كل مستوًى (حتى علم دلالة الألفاظ). ولكن المعنى
الذي اكتسبه المصطلح في النقد النسائي مختلف، وترجع أصول
الاختلاف إلى كتاب قديم أصدرته مارجريت ميد
Margaret Mead عالمة
الأنثروبولوجيا الشهيرة عام ١٩٣٥م بعنوان «الجنس والطابع
النفسي في ثلاثة مجتمعات بدائية» Sex and Temperament in Three
Primitive Societies.
وتلت ذلك الكتاب كتب كثيرة، أهم ما انتهت إليه هو أن الجنس
sex هو «الفئة
البيولوجية»؛ أي الأساس الجسدي للتقسيم، ولكن النوع
gender هو التعبير
الثقافي عن الاختلاف الجنسي؛ أي أنماط السلوك الذكرية التي
يتبعها الرجال، وأنماط السلوك الأنثوية التي ينبغي أن تلتزم
بها المرأة.
وأهم ما يلاحَظ هنا فلسفيًّا هو الرأي الذي ذكرته سيمون دي
بوفوار Simone de Beauvoir في
كتابها الشهير «الجنس الثاني» (١٩٤٩م)
Le Deuxième
Sex الذي تُرجم إلى
الإنجليزية عام ١٩٥٣م بعنوان The Second
Sex، والذي يقول بأن التأكيد
ينصَب في هذا الباب على أن المرأة هي الآخر the
other بالمعنى الفلسفي (وليس بمعنى
«الغير» في المجالات الأخرى للعلوم الإنسانية)؛ أي الفرد الذي
تُحدَّد خصائصه الذهنية والنفسية والبدنية باعتبارها الخصائص
المضادة contrast أو المقابلة
للخصائص المعيارية للرجل the male
norm. وقد حاولت كاتبات كثيرات الكشف عن
ضروب الخلل القائمة في توزيع السلطة
power في المجتمع والتي
تختفي تحت قناع الاختلاف بين «الزوجَين الذكر والأنثى». ويُشار
إلى الخلل بتعبير عدم التناظر أو ألوان انعدام التناسب الصحيح
asymmetries (انظر
الحاشية (٢) [الفصل السابع: البنيوية في الغرب – المذهب
الفرنسي]).
وتتفاوت مناهج معالجة فكرة الاختلاف في الفكر الفلسفي
المعاصر، فنجد كتابًا من الكتب المهمة لا ينفيه بل يؤكِّده
ويستند إليه في محاولة ضبط الموازين ومعالجة جوانب الخلل، مثل
كتاب كارول جيليجان بعنوان «بصوت مختلف: النظرية النفسية
وتنمية المرأة» Carol Gilligan: With A Different Voice; Psychological
Theory and Women’s
Development — الذي صدر عام
١٩٨٢م — إذ تؤكِّد فيه أن المرأة لها وجهة نظرها التي تختلف عن
وجهة نظر الرجل فيما يتعلَّق بمنطق الحياة العملية
practical reasoning.
وتتضمَّن جوانب الاختلاف التأكيد على اهتمام المرأة بجوانب
المشاركة والرعاية والارتباط بالأفراد الآخرين، بدلًا من
الحياد المجرَّد abstract
impartiality. ويقول بلا كبيرن إنه من
غير المؤكَّد أن يكون هناك خلاف حقيقي في هذه الجوانب، فإذا وُجد
الخلاف فهل يرجع إلى اختلافات فطرية
innate بين نفسية الأنثى
ونفسية الذكر أم أن المجتمع ينشئ كُلًّا منهما نشأةً تجعله يضع
لنفسه طموحات ومُثُلًا عليا تختلف عن طموحات الآخر ومُثُله
العليا؟ ويضيف قائلًا إنه إذا كانت مبادئ علم الأخلاق
المذكورة كثيرًا ما تُستخدم في التصدي للمشكلات المحدَّدة التي
تُواجهها المرأة، فإن الأفكار التي تستند إليها هذه المبادئ
قد تكون مرتبطةً أو منفصلة عن المشكلات العملية الخاصة،
وعلاقات الخصومة adversarial
relationships مع الرجل، والنظرات
المتشائمة عن مزاولة الجنس
sex التي شاع ارتباطها
بالحركة النسائية في أذهان الناس.
ولنتأمَّل هذه الكلمة الجوهرية والعسيرة، وهي
sex، التي قد تعني «جنس
المولود أو الشخص» بمعنى نوعه إن ذكرًا أم أنثى، وقد تعني
مزاولة الجنس؛ أي الجِماع = to have sex = to
have sexual intercourse) والتي استعاض
عنها الناطقون بالإنجليزية بتعبير to make
love (يمارس الحب)، ودخلت إلى معظم اللغات
الأوربية الحديثة، وهو تعبير يُطلَق عليه الكناية المهذَّبة
euphemism (التهوين،
مجدي وهبة). وقد اشتُق من sex
صفة sexist؛ أي الشخص المتحيِّز
لجنسه (عادةً ما يكون رجلًا)، وصفة
sexy وهي صفة مطلقة من
حيث إنها نسبة إلى الجنس، وكان معناها مقصورًا في الماضي على
الشخص ذي الجاذبية الجنسية sex
appeal (عادةً من النساء) أو الشخص المولع
بالجنس الآخر (عادةً من الرجال)، ثم أصبحت تعني التحيُّز لنفس
الجنس أيضًا مثل sexist.
وترجمة هذه المصطلحات عسيرة ولا بد من إيضاحها في النص في كل
مرة، ويجدر بنا في إطار تأصيل هذه الفكرة في فلسفة الحركة
النسوية أن نذكر استناد بعض دعاتها المغالين إلى مقولة كانط
الشهيرة، والتي سوف نقتطفها بالكامل من كتابه «محاضرات في علم
الأخلاق» Lectures On
Ethics، إذ يقول كانط إن
الحب الجنسي يُعتبَر:
«في ذاته حطًّا للطبيعة البشرية
degradation؛
فحالما يصبح شخص ما موضع اشتهاء شخص آخر
appetite، فإن
جميع دوافع العلاقة الخُلُقية
moral تتوقَّف عن
العمل؛ لأن الشخص إذا أصبح موضع اشتهاء شخص آخر فإنه
يتحوَّل إلى شيء thing،
ويمكن أن يعامله كل فرد ويستخدمه بهذه الصفة.»
ولكن الحركة النسائية الحديثة نادرًا ما ترجع إلى هذا
الموقف من مواقف التراث الغربي؛ إذ إن كانط يقول إن المهرب
الوحيد — على عدم صلابته — من مصير «يُنبذ فيه المرء نبذ ثمرة
ليمون بعد مصِّها إلى آخر قطرة»، هو إنشاء علاقة تعاقُدية
contractual قائمة على
الزواج، رغم أنه هو نفسه لم يكتسب هذه الخبرة. ويُضيف بعض
شُراحه (مثل كرونر في كتابه الصغير عن كانط، بنجوين، ١٩٦٥م)
أنه كان يعاف ممارسة الجنس، ويرجِّح بلاكبيرن أنه لم يمارسه
مطلقًا؛ إذ إن الحركة النسوية الحديثة لا تُناصب الجنس العداء،
من حيث المبدأ، ولكنها تضع مجموعةً كبيرة من الشرائط والمحاذير
التي تُفصح عن رفضها لصورته التقليدية؛ أي لمفهوم اعتبار
المرأة مصدر متعة أو جمال أو فتنة، فذلك في رأي بعض زعيمات
الحركة مثل نعومي وولف، مؤلِّفة كتاب «أسطورة الجمال»
Beauty
myth، كان من ذرائع خداع
الرجل للمرأة واستغلالها على مدى العصور.
وقد ذكرت نعومي وولف عند إصدار آخر كتاب لها عام ١٩٩٤م،
وعنوانه «لا تتردَّدي!»
Just do it! أنها تولي
أكبر قيمة للعلاقة الجنسية، ولكن بشروطها، وهي تدعو كل النساء
إلى الأخذ بزمام المبادرة في علاقاتهن مع الرجال «بلا تردُّد».
وهي تسخر من تراث الفلسفة الغربية كله سواء منه ما بدأ على
أيدي أفلاطون الذي كان يرى في الرغبة الجنسية خيرًا (أي قيمة
الخير) بشرط أن تمثِّل أول درجة على سُلم الكمال، أو ما أشاعته
بعض جوانب التراث المسيحي (القديس بولس، القديس أوغسطينوس)
التي ربطت بين خطيئة آدم وحواء (الخطيئة الأولى
original sin؛ أي الأصيلة
والمتأصِّلة في النفس البشرية) وبين الجنس، أو ما وصلت إليه
الفلسفة البراجماطية الإنجليزية على أيدي هوبز
Hobbes؛ لأنها جميعًا
مُقدَّمة من وجهة نظر الرجل.
١
أمَّا نظرية المعرفة من وجهة نظر الحركة النسائية فقد طرحت
السؤال التالي: هل يؤدِّي اختلاف وسائل المعرفة، الذي يرجع
مثلًا إلى اختلاف معايير إثبات النتائج، واختلاف التأكيد على
المنطق والخيال، إلى اختلاف نظرة الرجل عن نظرة المرأة إلى
العالم؟ وقد تضمَّنت هذه القضايا قضيةً على جانب كبير من
الأهمية، وهي الوعي بصورة الذات الذكورية
masculine self-image،
وهي نفسها صورة تتفاوت من مجتمع إلى مجتمع وتتعرَّض لقدر كبير
من التحريف والتشويه فيما يتعلَّق بما ينبغي أن تكون عليه أنماط
الفكر والعمل.
وقد هاجمت كبار الباحثات في نظرية المعرفة من وجهة نظر
الحركة مفهوم العقلانية
rationality القائم على
أُسس فلسفة كانط أو فلسفة التنوير الأوربية، باعتباره وسيلة
يستخدمها الرجل لفرض سيطرته وتسلُّطه، ولرفض الاعتراف
بالمنظورات والعلاقات المختلفة مع الحياة والطبيعة. وقد غالت
بعضهن في هذا الباب فزعمت أن المنطق وسيلة ذكرية وأبوية
phallic and patriarchal
لقهر الآخرين، وإن لم يوضِّحن مدى تأثير الفروق الفردية بين
الطاقات والخبرات بغض النظر عن اختلاف الجنس، في اكتساب
المعرفة. والذي يهمنا هنا هو التطبيقات الحديثة لهذه الأفكار
على الواقع العملي؛ فالإطار لذلك كله هو أن تاريخ العلم الذي
اتسم بسيطرة بعض الأيديولوجيات حرم المرأة من التمتُّع بفرص
متكافِئة مع فرص الرجل؛ لتأكيد وجهات النظر النسائية واحتلال
مواقع في المجالات الفكرية والأدبية مساوية لمواقع
الرجال.
والواضح من هذه الأسس الفلسفية أو الفكرية العامة أن الحركة
النسائية في النقد الأدبي تستند إلى جوهر يمكن رصده وتحديد
أبعاده، رغم الاختلافات الفردية بل وتفاوت التيارات التي ظهرت
في الأعوام الأخيرة في مدى حدة نضالها
militancy؛ أي اختلافها
في الدرجة لا في النوع. وهذا الجوهر يقول إن المرأة قد لقيت
ظلمًا في الأدب العالمي على امتداد تاريخه الطويل، سواء في
المجال الإبداعي؛ أي كتابات المرأة نفسها، أو في مجال النقد؛
إذ لم تُتح لها الفرصة للتعبير عن آرائها النقدية التي قد تكون
مخالفةً لوجهة نظر الرجل، أو فيما أدَّى إليه الأدب والنقد من
ترسيخ الأوضاع القديمة للمرأة في المجتمع.
ولذلك فإن نقطة انطلاق المرأة نحو التحرُّر الحقيقي تبدأ
بالتشكيك في نظرية الأدب والنقد من حيث إنها نظرية. وتلخِّص ذلك
ماري إيجلتون في أحدث كتاب لها بعنوان «النقد الأدبي النسائي»
Feminist
Literary Criticism
(١٩٩٢م) قائلة: «لماذا نُنظِّر؟ وكيف نُنظِّر؟ إن الشك في جدوى
النظرية منتشر في طول الحركة وعرضها؛ فنحن نواجه تاريخًا
طويلًا من النظريات الأبوية
patriarchal (أي التي
وضعها الرجال) التي تزعم أنها قد أثبتت بصورة قاطعة أن النساء
أدنى من الرجال، وليس من المستغرب إذن أن نلتزم الحذر. وترى
كثيرات من زعيمات الحركة النسائية أن النظرية، حتى لو لم تكن
ذكريةً بالفطرة — إذ إن النساء قادرات على التنظير — فإنها
بالتأكيد يسيطر عليها الرجال عند التطبيق، وتتميَّز مناهجها
بالانحياز للرجال masculinist in its
methods.»
وهي تورد — تأييدًا لتشكيكها في النظرية والمنهج، من حيث
كونهما نظريةً ومنهجًا — مقتطفًا من كتاب ماري ديلي
Mary Daly الشهير،
وعنوانه:
Beyond
God the Father: Toward a Philosophy of Women’s
Liberation. Boston,
1973.
«يجب أن نشير إلى أن المنهج … هو في الحقيقة من
الأرباب الأتباع الذين يخدمون السلطات العليا؛ أي
المؤسسات الاجتماعية والثقافية التي تعتمد في بقائها
على تجاهل أي معلومات تعرقل عملها أو تسبِّب لها
إزعاجًا. وفي ظل النظام الأبوي تمكَّن المنهج من أن
يمحو مسائل المرأة محوًا تامًّا إلى الحد الذي أصبحت
فيه النساء أنفسهن عاجزات عن صياغة الأسئلة الخاصة
بنا واللازمة لتلبية مقتضيات خبراتنا. لقد أصبحت
النساء عاجزات حتى عن ممارسة خبراتنا الخاصة
بنا.»
وتورد تأييدًا لذلك جزءًا من مقابلة صحفية تقول فيه الكاتبة
المسرحية الذائعة الصيت مارجريت دورا
Marguerite Duras إن على
الرجال أن يتعلَّموا الصمت حتى يُفسحوا المجال للنساء كي يقدِّمن
تفسيراتهن الخاصة للأحداث، وإن الرجال «أعادوا بث الحياة في
اللغة القديمة، مستعينين بطرائق التنظير القديمة، كيما يفسِّرون
أحداث مايو ١٩٦٨م وفقًا لوجهة نظرهم.» وتنتهي ماري إيجلتون من
ذلك إلى القول بأن الابتعاد عن الميول الشخصية والتنزُّه عن
الهوى اللذَين يرتبطان بما يسمَّى بالنظرية يُعتبران خرافة،
وتستند في ذلك إلى دراسة كتبتها إحدى أعلام الحركة، وهي
الفرنسية سيكسو Cixous عام
١٩٨٦م تقول فيها: «إن النظرية غير شخصية، وعامة، وموضوعية،
وذكرية، أمَّا الخبرة فهي شخصية وخاصة، وذاتية، وأنثوية.»
وتنتهي من ذلك إلى أن وسيلة تقويض أولوية النظرية
primacy of theory هو
إعلاء شأن valorizing
التعبيرات التي كانت تحتل مكانةً ثانوية مثل الخبرة المباشرة،
والجسد، والفرحة jouissance
وقيمة الأم (وكلمة valorizing
أمريكية قُحَّة، ومعناها إمَّا تثبيت الأسعار أو إعلاء
القيمة).
ولكن هذا التشكيك في النظرية ليس عامًّا؛ فبعض دُعاة الحركة
النسوية ممن اشتبكن في حوارات مع أصحاب النظريات النقدية
الجديدة، أو انتفعن بهذه النظريات انتفاعًا مباشرًا، خصوصًا
بالماركسية، وما بعد البنيوية والتحليل النفسي، ما زلن يدافعن
عن ضرورة وجود نظريةٍ ما أيًّا كانت، وأقرب مثال بين أيدينا هو
كتاب «النقد القائم على التحليل النفسي: النظرية وتطبيقها» من
تأليف إليزابيث رايت:
Elizabeth Wright: Psychoanalytic Criticism: Theory In
Practice, London, Routledge,
1984.
والذي أُعيد طبعه عدة مرات في الثمانينيات (آخرها عام ١٩٨٩م)،
وفيه تؤكِّد المؤلفة ضرورة الالتزام بنظريةٍ ما حتى ولو كانت
تطبيقاتها تؤدِّي إلى نتائج تختلف من حالة إلى حالة، وهي تُقر في
البداية بأن موضوع دراستها هو «العلاقة» بين نظرية التحليل
النفسي ونظريات الأدب والفنون (ص١) من خلال التركيز على
استخدام اللغة، وكيف يكشف ذلك الاستخدام عن القوى الخفية في
النفس، وهي القوى المحرِّكة للإنسان، ومن ثم للمجتمع والثقافة
والأدب، ومن ثم تنتهي إلى القول بأنها تبدأ بفرويد، و«بنظريات
التحليل النفسي التي كانت من القوى الأساسية التي ساهمت في
نقد الأدب والفنون، إمَّا بصورة مباشرة أو غير مباشرة …» وبأن
كتابها «يتضمَّن أيضًا بعض أصحاب النظريات (دريدا وفوكوه) الذين
كان لهم تأثيرهم على النقد الأدبي القائم على التحليل
النفسي» (ص٥-٦).
وترجع أهمية هذا الكتاب إلى الفصل الذي أضافته في طبعة ١٩٨٧م
من الكتاب (على شكل تذييل
appendix) بعنوان «النقد
في إطار ما بعد الحركة النسائية» Post-Feminist
Criticism، وهي تعرض أهم
المواقف في «الكفاح النسائي» على النحو الذي حدَّدته توريل موي
Toril Moi في مجال
تقييمها للحركة، قائلةً إن موي تتبع جوليا كريستيفا في تحديد
ثلاثة مواقف رئيسية هي:
-
(١)
أن تطالب المرأة بفرصة مساوية للرجل في «النظام
الرمزي» symbolic
order (وتقصد بذلك الآداب
والفنون وشتى النُّظم التي وصفناها في الفصل السابق
بالشفرات أو مجموعات العلامات)؛ أي المعركة من
أجل المساواة في الحقوق.
-
(٢)
أن ترفض المرأة «النظام الرمزي للرجل باسم
الاختلاف»؛ أي أن تؤكِّد تفرُّد طبيعتها
الأنثوية.
-
(٣)
أن ترفض المرأة «الفصل بين الذكر والأنثى»،
بمعنى إقامة حاجز بينهما باعتباره ذا أساس
ميتافيزيقي؛ أي إنه صورة تفكيكية للمذهب النسوي
a deconstructed form of
feminism. وقول كريستيفا
إنها تعتبر أن ذلك هو موقفها الخاص، في دراستها
عن «النقد الأدبي النسوي» الواردة في كتاب
«النظرية الأدبية الحديثة: مقدمة مقارنة»:
Feminist
Literary Criticism in Modern Literary Theory: A
Comparative Introduction, 2nd ed.
London, 1986, pp. 204–221.
وتقول توريل موي إنها تود أن تتَّخذ الموقف الثالث كذلك،
ولكنها ترى أن اتخاذها إياه يعرِّضها لخطر إنهاء المعركة! وعلى
حد قولها: «إذا لم يكن لنا أعداء، فما حاجتنا إلى الأصدقاء؟»
(ص٢٢٠). وعلى أي حال فإن دفاع إليزابيث رايت عن التمسُّك بنظرية
ما، ولو كان واضعوها من الرجال، يمثِّل الوجه المقابل لِمَا تقول
به ماري إيجلتون. وهي تبني حجتها على أنها تعتبر النوع
gender، أو ما تسمِّيه هُوية
النوع gender indentity، بناءً
ثقافيًّا تكتنفه المشكلات النظرية للرجل والمرأة على حد سواء؛
ولذلك فإنها تضم صوتها إلى صوت جوليا كريستيفا.
وختامًا لهذا العرض لمواقف زعيمات الحركة من النظرية
والمنهج، والذي يتضمَّن معظم المصطلحات الخاصة بالمذهب النقدي،
نود أن نشير إلى أن مصطلحات الصراعات الفكرية داخل الحركة
نفسها تنتمي إلى السياسة وعلم الاجتماع أكثر ممَّا تنتمي إلى
الأدب والنقد، بل إن مجرَّد استعراض أسماء الكتب التي صدرت في
هذا الباب يؤكِّد أن الحركة النقدية أو الأدبية تُعتبر وسيلةً أو
أداة
tool للتوعية فحسب، وأن
الهدف الأسمى للحركة هو التغيُّر الاجتماعي الذي كان هدف
الحركات السابقة لتحرير المرأة؛ فعندما تتعرَّض إلين شووالتر
Elaine Showalter٢ لارتباط النظرية بوجود منزلة رفيعة أو مكانة
مرموقة للنخبة
the elite
(وكنا نُترجمها بالصفوة فيما مضى) في مؤسسة ما، مثل الجامعة أو
معهد البحوث، فإنها تتهم النساء اللائي ينتمين إلى هذه النخبة
بخيانة القضية
cause — وهذا
كلام
parlance سياسي — وعندما
تتساءل عن إمكانية مساهمة ذلك في تحسين أحوال جماهير
masses النساء؛ فإنها
تتحدَّث بلغة السياسة أيضًا. وعندما تقول ليليان روبنسون.
٣ «إن الصحافة الأدبية لن تستطيع إحداث الثورة»؛
فإنها تُفصح عن الاتجاه العام للمذهب.
أمامي ثلاثة كتب
٤ صدرت في السنوات الأخيرة؛ أي ما بين ١٩٨٥–١٩٩٠م،
وكلها تربط بين النقد الأدبي والعلوم الاجتماعية ربطًا لا يدع
مجالًا للشك في مسار هذه الحركة؛ فنحن لسنا بصدد منهج نقدي؛
أي خطوات نقدية تطبيقية قائمة على مفهومات أدبية محدَّدة في
إطار نظري كبير، وتخضع لمنطق علمي متماسك، ولكننا إزاء تيارات
فكرية تلتقي حول الانتصار للمرأة، بعد أن حُرمت من حقوقها
دهورًا؛ ولذلك فإن النقد النسائي — أيًّا كان تعريفنا له الذي
حدَّدناه في أوائل هذا الفصل — قد يواجه الاتهام بأنه نقد
عقائدي؛ أي أيديولوجي، سواء كانت الأيديولوجية في أقصى اليمين
أو أقصى اليسار. وعيب ذلك أنه يحمل في داخله دومًا «رسالة»
للقارئ إذا اتفق معها كان ما يقرؤه إمَّا غير ذي بال
redundant أو غير ذي
موضوع
irrelevant، أو باعثًا
على الاطمئنان
reassuring
(مثل المؤمن الذي يقرأ مقالًا عن معجزات قديس أو فضائل عبادة
من العبادات)، أمَّا إذا لم يتفق معها فقد تتولَّد لديه نزعة
محاورة، وقد تصل إلى المجادلة أو المقاومة، وقد يجد ما فيها
معاديًا له (مثل غير المؤمن الذي قد يتجنَّب كلَّ ما يقال عن
عجائب الجن).
فإذا أضفنا إلى ذلك أن كثيرًا من الكاتبات — وبعضهن لا
يستنكف ارتكاب أخطاء الرجال — قد ركبن موجة هذا النقد فنشرن
كُتبًا تعتمد على الإثارة، مثل الحديث عن مزايا مقاطعة
الرجال والانغماس في الميول الجنسية المثلية، وهُن يهدِّدن
القُراء بأنهم إن لم يتفقوا معهن أصبحوا «متخلِّفين» ومعادين
للمرأة، أدركنا بعض الأخطار التي تكتنف هذه الحركة في العالم
الغربي.
وختامًا لهذه العجالة، وهذه المقدمة، أود أن أكرِّر ما قلته
عن الطابع المتغيِّر للحركة، وعدم ثبات مصطلحاتها؛ فبعض
المصطلحات الأدبية التي استقتها من المدارس النقدية الجديدة
لا تعني أكثر ممَّا تعنيه في إطار تلك المدارس، وينبغي ألَّا
نتصوَّر أنها تغيَّرت لمجرَّد وقوعها في إطار النقد النسائي، وأنا
أقول ذلك، رغم حذري وحرصي الشديد على الموضوعية، مدركًا أن
كلامي سيكون مثار ريبة لدى بعضهن؛ فأنا أنتمي — تعريفًا — إلى
جنس الرجال الذي حدَّدت توريل موي دوره بأنه «العدو». وسوف
نتناول في المعجم معظم هذه المصطلحات مع شرحها شرحًا وافيًا
من وجهة النظر النسائية.