المعادل الموضوعي
وهكذا شهد مطلع الستينيات حشدًا من المصطلحات الأدبية
الجديدة التي لم تكن شائعةً قبل عقدَين أو ثلاثة، وازداد
الاهتمام بالأشكال الفنية الجديدة وعلى رأسها فن المسرح
الذي واجه صعوبات جمةً في الوقوف على قدمَيه باللغة
العربية؛ لقلة المراجع المتوافرة عنه — مؤلفةً أو مترجمة —
بالعربية؛ ولأنه بطبيعته من فنون الأداء
performance، التي لا
يكتمل النَّص فيها إلا حين يصعد على خشبة المسرح
stage ويشاهده
الجمهور ويستمع إليه؛ ويسبب الصراع الذي دار آنذاك بين
الفصحى والعامية Egyptian
Arabic (وليس
colloquial أو
dialect أو
vernacular؛ فالأولى
تعني المستوى الدارج على ألسنة الناس للُّغة المكتوبة،
والثانية تعني لهجة، والثالثة تعني اللغة المحلية التي قد
تبتعد كثيرًا عن اللغة المكتوبة نحوًا وصرفًا ودلالة).
وكانت جهود توفيق الحكيم في هذا الصدد لا بأس بها وإن لم
تُحرز نجاحًا كبيرًا؛ فدعوته إلى الكتابة المسرحية بلغة
وسطى أو لغة ثالثة (وهي وسط بين العامية والفصحى) كانت
تشبه الرقص على السلم (في المثل الدارج)؛ إذ هي تفتقر إلى
خصب العامية الحية بمستوياتها التي حدَّدها الدكتور السعيد
بدوي في كتابه «مستويات اللغة العربية في مصر»، وتفتقر
إلى جزالة الفصحى التي ألفناها في تراثنا الزاخر؛ ولذلك
لم تكتسب نظريته أنصارًا كثيرين.
وقبل أن نناقش مفهوم المسرح
theatre نفسه،
باعتباره مصطلحًا جديدًا، يجدر بنا أن نتعرَّض لمصطلح أحدث
بلبلةً كبيرة (وما زال) بسبب عدم دقة نقله، ألَا وهو
المعادل الموضوعي objective
correlative، الذي صاغه ت. س. إليوت
في معرض حديثه عن مسرحية «هاملت» لشكسبير؛ إذ اتهم
المسرحية بالغموض
vagueness بسبب رجحان
كفة المشاعر emotions
(الوجدان/الانفعالات) فيها على الأحداث المادية التي كان
يمكن أن تجسِّد تلك المشاعر وتوحي بها بحيث تؤدِّي إلى ما
يسمَّى في النقد الأوربي بالتحقيق
realization. وترجمة
الكلمة الأخيرة غير دقيقة ولا بد من شرحها؛ فالمقصود بها
اكتساب طابَع حسي ملموس palpable,
tangible؛ أي تُدركه الحواس وليس
مجرَّدًا abstract؛ أي
يخاطب العقل والوجدان، ومن ثم فهي تعني
concrete؛ أي المجسَّد
والمادي material، وكلمة
real في الإنجليزية
ليس لها مقابل دقيق في العربية؛ فهي صفة من شيء
res (اللاتينية) التي
اشتهرت بين الدارسين بسبب وجودها في عنوان قصيدة
لوكريشيوس Lucretius
بعنوان «طبيعة الأشياء» De Rerum
Natura،
وrerumهنا في حالة
المضاف إليه، ومن ثم فأقرب الترجمات الحرفية لها هي
التشيُّؤ (انظر reification
في المعجم)، وهي كلمة ثقيلة الوقع على الأذن، ولكنها على
أي حال تعني حرفيًّا ما يقصده إليوت، وفي الإنجليزية، كما
هو معروف، يطلق تعبير real
estate على العقارات؛ أي الممتلكات
من الأشياء المادية الثابتة، ومن ثم فإن إليوت كان يدعو —
مع أصحاب مدرسة التصويرية
imagism وهي من مدارس
الحداثة أيضًا modernism
— إلى تحويل المشاعر المجرَّدة إلى أشياء واقعية؛ إذ يقول
إن الطريقة الوحيدة للتعبير عن المشاعر فنيًّا هي إيجاد
موقف أو سلسلة من الأحداث والشخصيات التي تُعتَبر (المقابل)
المادي لتلك العاطفة، وقد تعمَّدت أن أستبدل ﺑ «المادي» ما
اصطلح الناس على تسميته بالموضوعي؛ لأن هذه الكلمة هي مربط
الفرس كما يقولون.
فكلمة objective صفة من
object بمعنى شيء،
وقد دخل الإنجليزية تعبير object
d’art من الفرنسية بمعنى تحفة فنية،
وهي تُستعمل بهذا المعنى في الفيزياء، كقولك العدسة
الشيئية objective lens
في مقابل العدسة العينية eye/subjective
lens؛ فالأولى هي عدسة التلسكوب
المواجهة للشيء المراد رؤيته بوضوح أكبر، والثانية هي
التي تنظر منها عين الرائي. ومن هنا اصطلح الكُتاب على
المقابلة بين الذاتية
subjectivity (انظر
subject في المعجم)
والموضوعية objectivity،
ولعل القارئ قد أدرك الآن سبب البلبلة الكامن في كلمة
«الموضوع» العربية؛ فهي أحيانًا تُستَخدم بمعنى مدار القول
أو مادة البحث subject
matter أو
subject وحسب،
وأحيانًا تُستخدم في حالة الصفة (موضوعًا أو موضوعيًّا)
بمعنى substance
ومشتقاتها، كالمقابلة في القانون بين الأدلة المرفوضة
شكلًا inadmissible
evidence أو المرفوضة موضوعًا
dismissed in
substance، ومنها «الموضوعي» الذي
اصطُلح على تسميته
substantive؛ فقولك
«المناقشة الموضوعية» substantive
discussion معناه تجاوز الإجراءات
procedures والشكليات
formalities والتركيز
على المادة المطروحة للنقاش. وهكذا تصوَّر البعض أن كلمة
«الموضوعي» تُشير إلى «موضوع» العمل الفني، وهو ما كان
رشاد رشدي (الذي نقل هذا المصطلح) يرفض الاعتراف بوجوده
استنادًا إلى مبدأ استحالة الفصل بين الشكل
form والمضمون
content.
أمَّا تعبير «المعادِل» فهو تصرُّف موفَّق؛ لأن إليوت يقول
إنه إذا زادت المشاعر المجرَّدة عن الأشياء المجسَّدة التي
تعبِّر عنها، أصبح العمل الفني غامضًا، وإذا زادت الأشياء
المجسَّدة عن المشاعر، نتج ما يسمِّيه بالإسراف الشعوري أو
التهافت العاطفي
sentimentality (وكان
العقَّاد يترجِم هذا المصطلح بالرقة المصطنعة). فالتعادل، أي
تساوي الكفَّتَين في العمل الفني، مطلوب، وهذا ما حدا برشدي
إلى اختيار كلمة «المعادل».
وختامًا لمناقشة هذا المصطلح أود أن أنبِّه إلى الفروق
الدقيقة بين تعبير الغموض
vagueness، الذي أصبح
بفضل إليوت مصطلحًا أدبيًّا، ونوعَين آخرَين من الغموض؛
الأول هو
ambiguity،
ومعناه عدم وضوح الدلالة بسبب احتمال إشارة اللفظ إلى
أكثر من معنًى واحد مع عدم تحديد ما يُشير إليه منها؛
والثاني هو
ambivalence،
وهو إشارة اللفظ إلى معنيَين متضادَّين، وقد يكونان مقصودَين
معًا، وقد يكون المقصود أحدهما فقط. فمن نماذج النوع
الأول قول المتنبي في مُستَهَل لاميته الشهيرة: أحيا وأيسر
ما قاسيتُ ما قتلا … «إذ يخرج لنا أبو العلاء في شرحه
للكلمة الأولى عدة معانٍ كلها مقبولة؛ فهي إمَّا أفعل تفضيل
من الحياة، أو فعل مضارع (وهو المعنى الذي كنت أتصوَّره)،
وإمَّا استفهام، وقد يكون الغموض هنا مقصورًا على «قراءة»
أبي العلاء للبيت، بل يمكن إضافة تقدير الفعل الماضي على غموضه.
١
ومن نماذج النوع الثاني قول شيكسبير:
Take, O take those lips
away,
That so sweetly were
foresworn!
And those eyes, the break of
day,
Lights that do mislead the
morn;
But my kisses bring
again,
Bring
again,
Seals of love, but sealed in
vain,
sealed in
vain!
وداعًا شفاه التي
أقسمت
ولم تَعْدُ أن حنثتْ
باليمين
وما أعذب الحِنث رغم الجراح!
وتلك العيون إذا ما
رنت
تجلَّى ضياء الشروق
المبين
ضياء يضل مسير الصباح!
أعيدوا إذن قبلات
الصفاء
وأختام عهد الهوى
والوفاء
فالشاعر هنا يدعو الشِّفاه إلى الرحيل أولًا ثم يطالب
برد القُبُلات إليه، وهو ما قد يُظن به طلب العودة لا طلب
الرحيل، ومن هنا كان التنازع بين المعنيَين؛ وهو — كما ترى
— ليس غموضًا بالمعنى المفهوم، وإنما هو تضاد دفين ناجم
عن التنازُع، ولولا شُيوع «التنازُع» باعتباره تعبيرًا
نحويًّا لفضَّلته على الغموض.
هذه المصطلحات الثلاثة لا تَزال، على أي حال، في انتظار
كلمات عربية أدقَّ من الغموض (واللبس والإبهام من البدائل
المطروحة)؛ فنحن نريد كلمات أقرب ما تكون إلى معنى كل
منها، كأن نقول إن التعبير «حمَّال أوجه» فيما يتعلَّق بكلمة
ambiguous، أو إن
التعبير يقبل التفسير بضد المعنى الظاهر فيما يتعلَّق بكلمة
ambivalent، ويبقى
الغموض مقصورًا على
vagueness
مثلًا.
وكان رشاد رشدي لا يُخفي أنه يعتبر الدراما (أي أدب
المسرح) أرقى الفنون الأدبية، وأن سائر تلك الفنون تطمح
إلى الوصول إلى طرائقه الفنية artistic
modes، رغم أنه كان متخصِّصًا في أدب
الرحلات travel
literature (الرواية
novel)، ولكن حب
المسرح هو الذي دفعه بلا شك إلى كتابة المسرح وإعلاء شأنه
في مصر في تلك الحقبة الحافلة. ولا بد أن نقف الآن قليلًا
عند المصطلحات التي دخلت اللغة العربية مع ازدهار هذا
الفن منذ أوائل الستينيات وحتى عام ١٩٦٧م تقريبًا.
من التمثيل إلى المسرح
ولنبدأ بمناقشة التحوُّل عن «التمثيل» و«الأدب التمثيلي»
و«القطعة التمثيلية» (ترجمة للفرنسية
théâtre
وpièce de théâtre)
إلى المسرح، والاعتماد هنا على أصحاب الدراسة الإنجليزية
بدلًا من أصحاب الدراسات الفرنسية (ممَّا يذكِّرنا بالجدل بين
اللاتينيين والسكسونيين في مطلع القرن بزعامة طه حسين
والعقَّاد على الترتيب). فنحن حين نتحدَّث عن المسرح
theatre نتحدَّث في
الحقيقة عن مؤسسة
institution؛ أي عن
ظاهرة phenomenon لها
أصولها وقواعدها التي يُراعيها الجميع. وهذا معنى جِد خاص
للكلمة الإنجليزية؛ فالمسرح لا بد أن يتضمَّن المكان
space أو
place، والممثِّلين
actors أو
players، وما يقولونه
their lines (وأصل
هذا التعبير الإنجليزي، وترجمته الحرفية «الأبيات»، هو أن
المسرح كان يكتب شعرًا حتى العصر الحديث)، والجمهور
audience (وأصل هذا
التعبير، ومعناه الحرفي «المستمعون»، أن الأصل في المسرح
كان الكلام) أو النظارة
spectators، وفنون
الصنعة techniques،
والأداء performance؛ ممَّا
يحيل مفهوم المسرح إلى حدث
event يتضمَّن استجابة
الجمهور response أو
مشاركته participation،
وتأثير هذه الاستجابة أو المشاركة في الممثِّلين والمخرج
director والمؤلف
playwright أو
dramatist، وكذلك في
ناقد المتابعة reviewer
والناقد العلمي (أو الأدبي المتخصِّص)
literary/drama
critic، وقد تتوافر الصفتان في ناقد
واحد مثل جون راسل تايلور أو كريستوفر بيجسبي في إنجلترا،
ومثل نهاد صليحة في مصر. ومعنى هذا اعتبار المسرح ظاهرةً
اجتماعية، يمكن تحليلها من شتى الجوانب
aspects أو المنظورات
perspectives أو
العناصر elements أو
المكوِّنات components أو
المقوِّمات basic
constituents.
وهذا المعنى يختلف عن معنى الدراما باعتبارها عملًا
أدبيًّا مكتوبًا أو مشفوهًا
oral، ولم يكن لدينا
هذا المفهوم الأدبي في مطلع القرن، وإن كان المسرح — دون
الاسم — قائمًا بعدة أشكال رصدها كثير من الدارسين، وكان
يُطلَق على الفرقة (الجَوقة) أحيانًا وعلى المسرحية «اللعبة»
أو «الرواية». وتعدَّدت أشكال الإشارة إلى الشكل الفني الذي
أصبح أدبيًّا بعد أن كتب أحمد شوقي مسرحياته الشعرية، دون
أن يشيع مصطلح «المسرح» اللغوي؛ فحافظ إبراهيم يكتب
«منظومةً تمثيلية» عن الحرب في لبنان،
٣ وطه حسين يترجم نماذج من الأدب التمثيلي اليوناني.
٤
وأكاد أجزم بأن تعبير المسرح باعتباره مصطلحًا حديثًا
لم يكتسب ثباته واحترامه إلا عندما أشاعه محمد مندور في
الصحف وفي محاضراته عقب عودته من فرنسا وبعد تركه
الجامعة. بل لقد أشاعت الصحافة تعبير المسرح في سياقات
جديدة دون أن تكون بالضرورة ترجمةً للكلمة الأجنبية؛ فنحن
نقول مسرح الجريمة scene of the
crime، أو على مسرح الأحداث
on the scene، أو ظهر
على المسرح to appear on the
stage، بمعنى بدا للعِيان بعد أن كان
خبيئًا أو برز بعد أن كان دوره
part أو
role؛ أي عمله، طي
الكتمان، وقد نقول «من وراء
الستار».backstage, n., adj.,
adv أو behind the
scenes، بمعنى «في الكواليس» العامية
والمعرَّبة مباشرةً عن الفرنسية la
coulisse (والملاحَظ أن التعبير
الفرنسي مطابق للتعبير العربي dans les
coulisses، ويجوز الإشارة إليها
بالمفرد، بل اشتُق منها مفرد بالعربية، مثلما اشتُق فعل من
رتوش retouches الفرنسية
— رتش ويرتش — لأن الصيغة المعرَّبة توحي بالجمع)، إشارةً إلى
أن الحياة مسرح وأن الناس تؤدِّي (أو تلعب) أدوارها، على
خشبة المسرح the stage،
واستمرارًا للاستعارة نسمع من يقول إن فلانًا لديه من
يلقِّنه كلامه to prompt،
أو يرسم له أفعاله
actions، أو يوجِّه
حركته stage directions،
ومعناها الإرشادات المسرحية، ومنها أخرج الصحفيون فعلًا
مركَّبًا هو to stagedirect
someone.
وقد استقلَّ تعبير «المسرح» في العربية، باعتباره مصطلحًا
مقبولًا، عن الأصل الذي تُرجم عنه، وهذا أكبر دليل على
انتمائه إلى جهاز التفكير العربي. وهذه ملاحظة ما فتئت
أكرِّرها لأهميتها، بمعنى أننا نستخدمه دون الرجوع إلى ما
تُرجِم عنه، على عكس كثير من المصطلحات التي ما زلنا نُرجعها
إلى صورها الأجنبية حتى نفهمها الفهم الصحيح؛ فنحن نقول
«المسرح العربي» لنعني عدة أشياء؛ إمَّا فنون المسرح من
حيث هو مؤسسة بالمعنى الذي أوضحناه أو بالمعنى الآخر؛ أي
نصوص الدراما العربية المكتوبة (وهي هنا تقابل
plays) في قولك مسرح
محمود دياب أو مسرح توم ستوبارد، أو بالمعنى الاستعاري
الذي يقابل ساحة الأحداث العامة — (المقابل لكلمة
scene أو
arena) — بل وقد
تُستعمل مرادفةً لمبنى المسرح، أو المكان الذي تقدَّم فيه
المسرحية، أو حتى العرض برمته
show.
ولقد بلغ من تأصُّل جذور هذه الكلمة أن أصبحت «تقلب» في
أفواه أهل المسرح (ولا أقول رجال المسرح؛ لأن رجل المسرح
homme de théâtre
أصبحت تُغضب النساء، بل لقد دعت إحداهن إلى الاستعاضة عن
هذه التسمية المنحازة بتعبير personne de
théâtre)، أقول تُقلب إلى «مرسح»،
وهذه كلمة متداولة إلى أقصى حد بين أهل المهنة، بل توسَّعنا
في ترجمة مصطلحات المسرح مثل الكوميديا
comedy والتراجيديا
tragedy، فأشاع
محمد مندور ترجمتها بالملهاة والمأساة على الترتيب، ولم
يعد بيننا من يناقش صحة الترجمة، ولم تعد كلمة «الفاجعة»
تُستخدم ترجمةً للتراجيديا إلا فيما ندر، وساهَم جيلنا في
هذا الجهد بإضافة الهزلية
farce الفرنسية
والإنجليزية، وتعريبها غير موفَّق بسبب احتمال الخطأ في
قراءتها إلا إذا قلبنا السين صادًا فقلنا فارص، وهنا قد
يعمِد القارئ إلى كسر الراء، ومن يدري؟ فقد تشيع ويُستخرج
منها فعل، وإن كان أهل الحِرفة قد اشتقوا من اللفظة
المعربة فعلًا بإضافة كافٍ وهو «يفرسك» (وربما تأثَّروا في
ذلك بالصفة منها في الإنجليزية
farcical) فيقولون
«فرسك الدور» مثلًا. كما أضفنا «الملهاة المأسوية» ترجمةً
للتراجيكوميديا
tragicomedy، وما إلى
ذلك.
أمَّا التمثيل فأصبح مقصورًا على الأداء التمثيلي
acting، وهو مصطلح
مُشْكِل؛ لأن الأداء لم يعد بالضرورة تمثيلًا؛ فالراقص في
المسرحية أو عازف الناي أو العود أو غيرهم ممن يشاركون في
العرض المسرحي الحديث لا يمثِّلون بالمعنى الاشتقاقي
للكلمة، بل يفعلون شيئًا مهمًّا في إطار العرض؛ ولذلك فإن
كلمة actor الإنجليزية،
ومقابلاتها باللغات الأوربية، لا تعني الممثِّل فقط، بل تعني
«الفاعل» أو «القوة المحرِّكة»، كقولك إن هذا الصراع وراءه
عدة قوًى محرِّكة أو مؤثِّرة فيه؛ فهي إمَّا تُسيِّر دفته أو
تشارك فيه.
In the present
conflict, there are actors … not least of
which is the state with the most interests
in the region, though not directly involved
in the ground
operations.
إن وراء الصراع الحالي عدة قوًى (مؤثِّرة)، ليس بأقلها
أهميةً تلك الدولة ذات المصالح الكبرى في المنطقة، وإن
كانت لا تشارك مباشرةً في العمليات البرية.
ومصدر الخلط هنا
٥ هو بروز المعنى الأصلي للفعل
act من خلال اسم
الفعل
action المشتق من
اللاتينية
actum، وهو اسم
الفعل للمصدر
agere الذي
تنبع منه كلمات أخرى مثل
agitate، بمعنى يُثير
أو يهيِّج أو يدفع إلى الفعل، ومثل
agent، بمعنى عميل أو
وكيل أو من يقوم بعمل شيء لحساب شخص آخر (انظر
act في المعجم)؛
فالفعل
act معناه خارج
المسرح «يفعل» أو يتخذ إجراءً ما؛ ولذلك يصعب على الدارس
أن يتجاهل وجود هذا الفعل، خصوصًا لأن كلمة «الدراما»
اليونانية نفسها تدل أصلًا على الفعل لا على التمثيل! وقِس
على ذلك كلمة
play التي
ترد في سياقات بنفس المعنى؛ فتعبير
at
play معناه «الفاعل» أو العامل أو
المحرِّك المؤثِّر، في قولك
the forces at
play were mainly social (القوى
المحرِّكة كانت قوًى اجتماعية بصفة رئيسية)، بحيث نجد أن
المعنى الدقيق للتمثيل
representation
يتوارى ولا يكاد يبين في السياقات الحديثة للغة النقد
المسرحي.
وليس من الصعب إدراك سر شغف أبناء العربية بكلمة
التمثيل اشتقاقًا واصطلاحًا؛ فهي عميقة الجذور في الأدب
العربي، مثلما هي عميقة الجذور في الفكر النقدي الغربي
منذ أرسطو حتى أورباخ
Auerbach، الذي جعل
Mimesis عنوانًا
لكتابه الرائع عن أساليب الكوميديا والتراجيديا. وقد
استقرَّ النقاد على ترجمة هذا المصطلح اليوناني الذي دخل
اللغات الأوربية بالتمثيل
representation، وإن
كان الخلط لا يزال شائعًا؛ فالتمثيل للشيء أو نشدان
مثيله عند العرب من الأسس التي تقوم عليها نظرية التشبيه
والاستعارة، والقرآن حافل بالأمثال؛
٦ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا
وَنَسِيَ خَلْقَهُ (يس: ٧٨)
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ (الرعد: ١٧)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا
الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ
(الكهف: ٥٤)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ
فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ
(الكهف: ٤٥). والشعر العربي القديم زاخر بهذه الفكرة، بل
إن أحمد شوقي وجد تبريرًا لتأليه المصريين القدماء بعض
آلهتهم في فكرة التمثيل (و«التمثيل يدني من لا له إدناء»، في «كبار الحوادث في وادي النيل»،
الشوقيات، ج١، ص٢٧).
٧ ولم يكن طه حسين، من ثم، خارجًا على التراث
حين اختار صفة «التمثيلي» للأدب، كيما يميِّز بينه وبين غيره
من الأنواع الأدبية، وإن كان التمثيل قد استُخدم في
الحقيقة صفةً لكل الأنواع لا للمسرح فقط.
لماذا إذن رسخ مصطلح التمثيل وشاع إلى الحد الذي أصبح
يهدِّد معه بطرد كلمة المسرح بمعانيها السابقة؟ السبب في
رأي الكثيرين، وعلى رأسهم رايموند وليامز
Raymond Williams، هو
أن عصرنا أصبح عصر الصورة
image لا عصر الكلمة؛
ففي المحاضرة التي ألقاها بمناسبة توليه كرسي الأستاذية
لمادة الدراما في جامعة كيمبريدج عام ١٩٧٣م،
٨ وكان أول أستاذ يشغل ذلك الكرسي الذي أنشئ
ذلك العام، أكَّد أننا أصبحنا نخضع لتأثير الصورة في كل
مجال من مجالات حياتنا؛ إذ إن أجهزة الإعلام أصبحت تُهيمن
بالصور على حواسنا، وأهمها حاسة البصر، من خلال
التليفزيون، وما ينقُله إلينا من الإنتاج السينمائي
والمسرحي، بحيث اختلطت الحقائق بالأخيلة، واضطُر المرء في
كثير من الأحيان إلى طلب التمثيل هربًا من الواقع، أو
افتراض أن الواقع المرئي تمثيل، وهو ما عاد إلى ذكره
الفيلسوف المعاصر جون باسمور
John
Passmore في تقديمه لطبعة عام ١٩٩٤م
من كتابه الأشهر «مائة عام من الفلسفة»
A
Hundred Years of Philosophy عندما
قال: «كان اهتمام الفلسفة الحديثة منصبًّا على المفاهيم
والألفاظ حتى فتجنشتاين … ثم وجد الفيلسوف المعاصر نفسه
محاصَرًا بتيارات من الصور المهيمنة التي تُجبره على أن
يعيد النظر في مفهوم الواقع ومبدأ التحقُّق من الصدق
verification … من
خلال التمثيل» (ص٣).
٩
وعندما كتب بريان ماجي
Bryan
Magee كتابه الرائع الذي سجَّل فيه
حوارات مع خمسة عشر فيلسوفًا معاصرًا عام ١٩٨٧م،
١٠ كان يضرب الأمثال في كل لقاء من دلالات الصور
التي تملأ حياتنا وتوجِّه أفكارنا، وكان يشير إلى الصعوبة
التي واجهها وهو يفصل بين عالم الفكر الخالص الذي حبس
نفسه فيه وعالم الصورة الذي ينقُل هذا الفكر إلى الناس.
ولا غرو فقد كان يذيع هذه المحاورات الفلسفية في صورتها
الأولى في حلقات تليفزيونية، وكان يحرص في كل لقاء على
الإشارة إلى ما يراه الجمهور، وما يمثِّله هذا الذي يرَونه،
والدَّلالة التمثيلية للصور المنقولة. وكذلك لم يفت أحد
المعلِّقين في صحيفة الصنداي تايمز أن يشير إلى الاختلاط
الذي أحدثه تيار «التمثيل» بالصورة؛ أي التعبير بها على
اختلاف دلالاتها وسياقاتها أيام حرب الخليج (١٩٩٠-١٩٩١م)،
استجابة الجمهور للأحداث المنقولة إليهم عبر شاشة
التليفزيون قائلًا:
«لقد أحسَّ بعض المشاهدين بالخيانة … لأنهم لم
يشاهدوا أفلامًا حربية … وكان مستوى الواقع أقل
بكثير ممَّا يتوقَّعونه تمثيلًا …»
كما كتب الدكتور سكوت لوكاس Scott
Lucas، المحاضر في جامعة بيرمنجهام
بإنجلترا مقالًا في نفس الصحيفة، يوم ١٣ أغسطس ١٩٩٥م، عن
الوسيلة التي اتبعتها وزارة الخارجية البريطانية، من خلال
قسم خاص للدعاية انتهى عمله عام ١٩٧٧م، في بث الدعاية
المناهضة للشيوعية من خلال تسريب «معلومات» زائفة أو
مبالغ فيها «وصور مجهَّزة خصوصًا … لتمثيل حالة الشيوعية
إلى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة؛ حتى تحدث أكبر
تأثير لها في الناس.» فالتمثيل بهذا المعنى ليس مجرَّد
محاكاة للواقع أو لجانب من الواقع، بل هو الإيحاء أو
الإيهام بواقع بديل
alternative مصطنع،
واقع يستمد من حقائق الحياة مادته ويستغلُّها لطرح المفاهيم
المحدَّدة المنشود نشرها؛ وهو لذلك لا يقتصر على المسرح بل
يشكِّل أساسًا للفكر والأدب بمفهوماتهما الجديدة، بل ولبعض
ظواهر حياتنا الجديدة نفسها.
فإذا عدنا إلى مصطلح المسرح في اللغة العربية، وجدنا
أنه يسمح بهذا المفهوم وبغيره من المفهومات، كما سبق أن
ذكرنا، بل إنه يجعل التمثيل عنصرًا من عناصره وحسب؛ ففن
المسرحية يتوسَّل بشكل للكتابة يميِّزه عن سائر ألوان الأدب،
ألَا وهو ما اصطلح على تسميته بالحوار
dialogue، تفريقًا له
عن السرد narration،
والحوار معناه تبادل الكلام بين شخصَين
duologue أو أكثر،
وقد يكون في صورة حوار داخلي يتخذ على المسرح شكل الحديث
المنفرد، الذي قبلنا ترجمته بالمونولوج
monologue، ونحن
نقسِّمه فنيًّا إلى أنواع عديدة تتطلَّب صفحات أكثر ممَّا
تحتمله هذه المقالة. وقد اجتهد زملاؤنا فأخرجوا معاجم
للمصطلحات المسرحية التي استقرَّت، أهمها معجم إبراهيم
حمادة، ومشروع قاموس المسرح لفاطمة موسى، الذي صدر منه
جزآن، وهو موسوعة لا معجم مصطلحات.