الفصل الرابع
الشكلية الروسية
كانت أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات (ما بين الحربَين
١٩٦٧–١٩٧٣م) فترة مساءلة للنفس
soul-scarching في مصر،
وتساؤلات في الحياة العامة أحدثت آثارها في الحياة الأدبية.
وكان من بين الجهود التي دلَّت على أن الفترة كانت حيةً وخصبة
اتجاه صلاح عبد الصبور إلى المسرح الشعري وإخراجه ثلاث
مسرحيات في عام واحد ١٩٦٩م، احتفل بها لويس عوض أيما احتفال في
«الأهرام»، وصدور ترجمات ثروت عكاشة، وأخيرًا صدور معجم مجدي
وهبة للمصطلحات الأدبية ١٩٧٤م.١ ومعجم وهبة ليس مستودعًا لِمَا اتفق عليه الناس
فحسب، بل هو أيضًا محاولة منه، وممن أقر بفضلهم في المقدمة،
وعلى رأسهم كامل المهندس ولفيف من المتخصِّصين في اللغة العربية
والأدب العربي، لتقريب معاني المصطلحات الأدبية الإنجليزية
والفرنسية إلى القارئ العربي. وإزاء ذلك الجهد الرائع لا
يسعنا إلا تحيته والإعراب عن أعمق آيات الإعجاب به، ونحن، حتى
حين نختلف معه في ترجمة مصطلح ما، لا بد أن نُقر له بفضل
السَّبق.
كان الاتجاه في الدراسات الأدبية حتى السبعينيات يكاد
يتجاهل إنتاج أوربا الشرقية، ولا شك في أن جهل معظمنا بلغات
تلك البلدان العريقة قد قعد بنا عن متابعة حركاتها الأدبية،
إلا ما كان يصلنا — على قلته — مترجَمًا إلى الإنجليزية أو
الفرنسية. والواقع أن الحركات الأدبية والنقدية التي كُنا
ندرسها في أقسام اللغات الأجنبية الغربية في الجامعات كانت
متزامنةً مع حركات مشابهة في أوربا الشرقية ولم نسمع عنها إلا
عندما انتقل تأثيرها إلى الغرب؛ فسمعنا أول ما سمعنا عن
البنيوية مثلًا عندما احتدم الجدل حولها في فرنسا في أواخر
الستينيات، خصوصًا عندما قام من يسمَّون بدعاة «ما بعد
البنيوية»
post-structuralists
بمراجعة ما يسمَّى بنماذج المقابلات
oppositions؛ أي
التعارضات بين مجموعات من الملامح الصوتية
phonic أو الدلالية
semantic أو النحوية
grammatical. وقد وسعت
علوم اللغة مفهوم النحو بحيث أصبحت هذه التعارُضات تركيبيةً
syntactic (كما سوف نرى)، بل إنهم سخروا منها وصوَّروها في صور مضحكة، بحيث كان من يسمع
آنذاك عنها في أوربا الغربية يتصوَّر أنها حركة ساذجة وأنها لم
تأتِ بجديد، ومن ثم تجاوزتها مناهج الدراسة الأكاديمية، خصوصًا
بسبب النشاط العارم الذي دبَّ في جسد علوم اللغة أو علم الألسنة
الحديث، وانصباب البحوث النقدية عليه، تحاول الانتفاع
بمكتشفاته (وما تفرَّع عنه من علوم ومباحث تطبيقية) في تحليل
النصوص، في إطار ما يسمَّى بالأسلوبية
stylistics أو علم دراسة
الأساليب وتحليلها.
والواقع أن الهجوم كان يتسم بقدر كبير من التجني؛ لأن حركة
«ما بعد البنيوية» كانت تتضمن عناصر مهمةً من البنيوية نفسها،
وكان بعض أعلامها من أنصار البنيوية الذين عدَّلوا من مواقفهم
أو استفادوا من علوم اللغة، أو انساقوا وراء دعاوى جاك دريدا
Jacques Derrida الذي رفض
كل ما سبقه تقريبًا، وإن كان هو نفسه قد استفاد من سوسير
Saussure، عالم اللغة
السويسري الذي كان قد أرسى قواعد جديدةً لفهم النص، قبل عشرات
السنين.
ولذلك فيجدر بنا في هذه المقدمة التاريخية أن نبدأ من
البداية، ألَا وهي مدرسة الشكليين الروس
Russian formalists، التي
تتفق كثيرًا مع ما وصلنا عن مدرسة النقد الجديد
The New Criticism
الأنجلو أمريكية. وسوف نلاحظ أن المصطلحات الأدبية الخاصة
بهذه المدرسة لم تكن تختلف كثيرًا عن المصطلحات الأدبية
الغربية، بل والعربية التراثية، على عكس المصطلحات التي
وردتنا مترجمةً عن الفرنسية من خارج مصر، وهي التي سنقف
عندها.
الشكلية formalism هي
الاهتمام بالشكل؛ أي بالمظاهر التركيبية للعمل الأدبي، وهي
كلمة لا بأس بها، وقد استخدمها الدكتور محمد مندور عندما تحدَّث
عن المدارس النقدية العربية في كتابه «النقد المنهجي عند
العرب». ونلاحظ أن كلمة الشكل
form التي اشتققنا منها
المصدر الصناعي، تولَّدت منها النسبة
formal
وformalist (أي أنصار
الشكلية)، ونحن نترجم كلًّا منهما بالشكلي، ولا ضير في ذلك؛
فالسياق كفيل بإيضاح الفرق دون حاجة إلى «الشكلاني» التي لا
نعرف مصدرها؛ فهي نسبة إلى الشكلان، وهي كلمة لا توردها
المعاجم الحديثة، وتتضمَّن خطر الإيحاء بمعنى الاختلاف أو
المماثلة! وربما كانت قد اشتُقَّت قياسًا على العقلانية
rationality دون مبرِّر قوي
لوجودها. ونحن نعرف أن أهل الفلسفة والمنطق يُترجمون
formal logic بالمنطق
الصوري نسبةً إلى الصورة form،
لكننا لم نتفق بعدُ على ترجمةٍ لاستعمال الكلمة في نطاق علوم
اللغة، وخصوصًا الأسلوب الذي قد يوصف بأنه
formal — وعادةً ما يشار
إليه باسم formal language —
وهي كلمة عسيرة الترجمة. أمَّا معناها فهو اللغة التي تُراعى
فيها قواعد النحو والإملاء (عنصر الصحة المعيارية
normative correctness)
واكتمال المعاني واتساقها، والثراء والتنوُّع اللفظي الذي ينم
على الثقافة، وأقرب مثيل لها لدينا هي الفصحى المعْرَبة التي
يستعملها المثقَّفون، وقد يكون في وصف عبد الحميد يونس للأدب
المكتوب بها بالأدب الرسمي عون لنا في وصفها باللغة الرسمية،
تفريقًا لها من العامية أو لغة الحوار التي لا تلتزم، حتى وإن
كُتبت بالفصحى المعربة، بتلك المعايير. ويجب ألَّا ننسى أن الأدب
الرسمي يُشار إليه بلفظ آخر هو polite
literature؛ ترجمةً عن الألمانية
Kunstpoesie، وتفريقًا له
عن الأدب الشعبي folk
literature أو
Volkspoesie.
كان الشكليون الروس٢ يعتبرون أن الأدب مجال متميِّز بشكله، وأنه مجال
منفصل بسبب هذا الشكل عن سائر مجالات السلوك الإنساني
human behaviour، ومن ثم
كانوا ينظرون إليه باعتباره فنًّا لغويًّا في المقام الأول لا
باعتباره مرآةً للمجتمع أو ميدانًا للتصارع بين الأفكار، ومن
ثم صبوا اهتمامهم على الشعر لا على الشاعر؛ أي على الأعمال
الأدبية نفسها، لا على جذورها أو آثارها. ولمَّا كانوا يحدبون
على وضع الحدود والضوابط التي تميِّز الدراسة الأدبية عن
التخصُّصات المجاورة والمتشابهة لها في العلوم الإنسانية مثل
علم النفس، وعلم الاجتماع، وتاريخ الفكر؛ فقد ركَّزوا في
نظرياتهم على «الملامح المميزة» distinctive
features للأدب؛ أي على الوسائل الفنية
وحيل الصنعة التي يختص بها الأدب، خصوصًا الأدب الخيالي
imaginative، وعن هذا
يقول جاكوبسون إن موضوع الدراسة الأدبية «ليس الأدب ككل، ولكن
خصائصه الأدبية؛ أي أدبيته
literariness، ومعناها
تلك السمات التي إذا توافرت في عمل ما أصبح أدبًا.»
ويقول الشكليون إن الأدب الخيالي ضرب فريد
unique من الكلام؛ إذ
يتميَّز «بالتركيز على الأداة؛ أي على الوسيط
medium (جاكوبسون) أو على
«مدى إبراز perceptibility
طريقة mode التعبير». وقالوا
إن اللغة لا تصبح في الأدب، وخصوصًا في الشعر، مجرَّد وعاء أو
وسيلة vehicle لتوصيل المعنى
إلى القارئ؛ أي للتواصل
communication، ولا تقف
عن حدود ما ترمز له من أشياء، لكنها تصبح هي نفسها شيئًا له
وجوده المستقل، بل تُصبح مصدرًا مستقلًّا
autonomous للمتعة بسبب
تضافر أو «تلاقي»
convergence الوسائل
المتعدِّدة المتاحة للشاعر، مثل الإيقاع
rhythm والبحر
metre والتناغم الصوتي
euphony والصور الشعرية
images لتحيل تلك العلامة
اللفظية verbal sign — أي ذلك
الرمز symbol اللفظي — إلى
كيان entity ذي قوًى متوافقة
harmonious ومتنافرة
discordant معًا، كأنما
هي عمل درامي drama أو فعل
action أو حركة
dynamism لا مجرد رمز
خامد inert.
وفي معرض تعريفهم لمكمن «الأدبية»
literariness أو «الطابَع
الأدبي» للأدب، هاجم الشكليون (وخصوصًا شكلوفسكي) النظرية
العريقة التي تزعم أن استعمال الصور الاستعارية هو أهم سمات
الأدب الخيالي، قائلين إن العبرة ليست بالصور بل بالطريقة
التي تُستخدم بها الصور. فإذا كان الهدف من الاستعارة في النثر
العلمي informative أو
التعليمي didactic، هو تقريب
الفكرة أو الشيء إلى أذهان القُراء، فإن هدفها في الفنون
الأدبية هو عكس ذلك opposite؛
إذ إنها لا تُترجم الغريب
unfamiliar إلى المألوف؛
أي لا تقدِّم غير المألوف في صور مألوفة، بل تقدِّم المألوف في
سياق جديد وغير متوقَّع فتجعله يبدو غريبًا أو غير مألوف، وقد
أخضع الشكليون هذه الافتراضات المنهجية
methodological
assumptions للاختبارات التطبيقية،
فأجرَوا دراسات عميقةً للإيقاع والأسلوب
style والبناء السردي
narrative
structure.
وربما كان أهم مجال آتت فيه جهودُهم أُكُلَها هو نظرية
النَّظم versification؛ إذ
قالوا إنه ليس مجرَّد مجموعة من القوالب
moulds، أو القواعد
الخارجية external rules، ولا
حتى زخرفة خارجية
embellishment/trappings
تُفرَض على الحديث العادي ordinary
speech، أو يُصبُّ فيها
superimposed on it، بل
إن النَّظم ضرب من الكلام الذي يتسم بتكامله الداخلي
integrated speech ويختلف
نوعيًّا qualitatively عن
النثر، ويتميَّز بالترتيب الهرمي
hierarchy لعناصره
وقواعده الداخلية الخاصة به؛ أي إنه، كما قال أحد الشكليين،
«كلام يخضع لنظام معيَّن مِن ألفه إلى يائه في نسيجه الصوتي.»
وكانت فكرة الإيقاع باعتبارها
Gestaltqualitat؛ أي
خصيصة بنائية كلية تعمل على جميع مستويات اللغة الشعرية، من
العوامل التي ساعدت في توضيح إحدى المشكلات الجوهرية في فن
الشعر، ألَا وهي مشكلة العلاقة بين الصوت والمعنى في
الشِّعر.
وكان مدخل الشكليين إلى دِراسة الأدب أبعد ما يكون عن
التركيز على مذهب «الدلالة الاجتماعية social
significance» وفكرة «الرسالة»
message (أي الهدف الذي
يرمي الكاتب إلى تحقيقه)، وهو المذهب الذي ساد كثيرًا من
النقد الأدبي الروسي في القرن التاسع عشر. ولذلك أدَّى المدخل
الجديد إلى إعادة النظر في كثير من الآثار الأدبية الروسية،
مثل قصة «المعطف» The
Overcoat لجوجول التي كان معاصروه
يحتفلون بها ويهلِّلون لها أيما تهليل باعتبارها صرخة نداء حارَّةً
للأخذ بيد البؤساء أو الفقراء والمستضعفين؛ إذ كتب أيخنباوم
دراسةً مستفيضة لأسلوبها وبنائها، وانتهى فيها إلى أنها ذات
أسلوب تقليدي نمطي stylized،
وأنها شائهة المبنى grotesque
متناقضة المعنى inconguous
إلى درجة تثير الضحك
ludicrous.
كما تعرَّض غيره لشعر بوشكين فأنزله أعلى منزلةً ممكنة في
تاريخ الشعر الروسي، لا استنادًا إلى رؤيته للعالم
Weltanschauung التي
استند إليها من اعتبروه أبًا للرومانسية، بل استنادًا إلى
تحليل أسلوبه الشعري والنوع الأدبي
genre الذي أرسى
قواعده.
وكذلك وضعوا تفسيرًا جديدًا للأزمة النفسية التي مرَّ بها
تولستوي في شبابه، قائلين إنها كانت تمثِّل نزوعًا مكتومًا
لاستحداث أسلوب فني جديد؛ أي أعادوا تحليلها باعتبارها ظاهرةً
ذات أبعاد جمالية aesthetic
في المقام الأول. وكانت حجة الشكليين في ذلك هي أن ما كتبه
تولستوي، بعد أن تغلَّب على تلك الأزمة التي نفسِّرها نحن بأنها
كانت أزمة ضمير؛ أي أزمة «مبادئ خلقية»
moral، يدل على رفضه
للأسلوب الرومانسي الذي كان قد تحوَّل إلى قوالب لفظية ثابتة
clichés، ومن ثم فقد
الحيوية والقدرة على الإثارة.
وهكذا كان الشكليون يدعون إلى الابتكار والابتداع
inventiveness وتكسير
القوالب الفنية العامة واللفظية التي غدت لكثرة ترديدها باردةً
لا طعم لها stale، ويحتفلون
بالبراعة الصياغية والمهارة في التشكيل والبناء (الذي يصل إلى
حد التعقيد الراقي
sophistication)، والبحث
الدائم عن طرائق فنية جديدة؛ ولذلك رحَّبوا بمذهب «التركيبية»
constructivism؛ أي تركيب
الأعمال الفنية من مواد البناء المتاحة كافة، وخصوصًا منجزات
العلم والتكنولوجيا. وكان أول الرسامين الذين ذاع صيتهم
(وأثَّروا فيما بعدُ في المسرح) هما: فلاديمير تاتلين
Vladimir Tatlin، ونعوم
جابو Naum Gabu. وقد تركَّز
تأثيرهم بهذه المنجزات في لوحات كانت ثوريةً في زمانهم، وإن
كانت تبدو اليوم مألوفة.
واستمرَّ ذلك المذهب قائمًا منذ بدايته في عام ١٩١٣م حتى انتقل إلى الغرب في بداية العشرينيات، ثم أثَّر في الشِّعر (وكان دعاة المذهب يريدونه أن يكتب على غرار اللوحات، بحيث تقصر القصيدة وتتضمَّن معطيات العلم والتكنولوجيا).
كما رحَّب الشكليون بمذهب التكعيبية
cubism الذي كان يتكئ على
الأشكال الهندسية الكامنة في جميع ما تراه العين، ويطالب
الرسام أن «ينفُذ» penetrate
إلى أعماق المرئيات بدلًا من أن يقف عند السطح فيذيب الخطوط
التي تحدِّد الصور من الخارج
contours، ويحتفل
بالمساحات اللونية التي يذوب بعضها في بعض كما كان
الانطباعيون أو التأثُّريون يفعلون. وكان رائد هذه المدرسة في
الفترة المذكورة (١٩١٣–١٩٢٥م) هو بابلو بيكاسو
Pablo Picasso كما هو
معروف، والغريب أن اسم المدرسة يرجع إلى ما أعرب عنه فنان آخر
هو هنري ماتيس Henri Matisse
من كرهه الراسخ «للمكعَّبات الصغيرة» les
petites cubes.
وربما كان هذا الاتجاه المبالغ فيه إلى الاحتفال بالشكل
الفني، وبالشكل من حيث هو مظهر منفصل عن المخبر، هو السبب في
هجوم النظام السياسي في العشرينيات على دعاته. ورغم أن اثنَين
من كبارهما، وهما جاكوبسون وشكلوفسكي تحوَّلا بعض الشيء عن
مذهبهما المبالغ فيه (من إنكار وجود أي جوانب جديرة بالدراسة
خارج الإطار الجمالي للعمل extra-aesthetic)، وحاولا الجمع بين المذهب
الجمالي والمدخل الاجتماعي لدراسة الأدب، فإن محاولتهما باءت
بالفشل، أو يبدو أنها تأخَّرت طويلًا؛ لأن ستالين تدخَّل فأوقف
النقاش الذي كان قد بلغ أوجه في عامَي ١٩٢٩ و١٩٣٠م؛ ومن ثم
أصبحت الشكلية في روسيا صنوًا للعزوف عن قضايا الإنسان
ومشكلات المجتمع والاهتمام «بمجرَّد» الشكل، ونوعًا من الهروبية
escapism المرتبطة بقيم
المجتمع البرجوازي
bourgeois.
والواضح من هذا العرض السريع للشكلية الروسية أنها لم تكن
بمعزل عن حركة الحداثة أو المودرنية
modernism التي كانت على
وشك بلوغ ذروتها في أوربا منذ أن نشأت في العقد الأخير من
القرن التاسع عشر.٣ وسوف نرى عندما نعرض لنشأة البنيوية ومصطلحاتها
التي تهمنا، كيف انتقلت هذه البذور التي غرسها الشكليون إلى
«مدرسة براغ» وخصوصًا «حلقة براغ اللغوية» The
Prague Linguistic Circle. وربما كان ذلك
تحت تأثير جاكوبسون نفسه الذي هاجر إلى براغ واستقرَّ فيها عام
١٩٢٠م، وانضمَّ إليه كما سوف نرى ديمتري سيزفسكي
Dimitry Cizevsky ويان
موكاروفسكي Jan Mukarovsky
ورينيه ويليك Rene Wellek،
الذي يعرفه الجميع باعتباره ناقدًا أمريكيًّا.
الشكلية الروسية والنقد الجديد
المهم في هذا السياق أن نربط أيضًا بين ما سبق أن
ذكرناه من مصطلحات النقد الجديد The New
Criticism (الذي تُرجم في مصر باسم
النقد الحديث، وهذا خطأ في المصطلح نقبله من العامة ولا
نقبله من المتخصِّصين)، والمصطلحات التي أتى بها الشكليون،
وإذا كان تأثيرهم في كبار دعاة النقد الجديد في إنجلترا
وأمريكا ما زال قيد البحث (انظر المراجع)؛ فالدارس لا
يحتاج إلى إعمال الذهن طويلًا ليرى أن كلينث بروكس وروبرت
بن وارن Robert Penn
Warren، قد تأثَّرا في مفهومهما للبناء
العضوي أو مذهب العضوية
Organicism بما ذكره
أقطاب الشكلية الروسية. وأن ما ذكرناه منذ صفحات عن
«الغموض» أو «تعدُّد المعاني» في النص، وما ينتج عنه من
«تصارع الأبنية» the
conflict-structures (وترجمتها
الحرفية «أبنية الصراع») في القصيدة مثلًا، وهو الذي نراه
في «التورية الساخرة»
irony وفي المفارقة
paradox؛ كل ذلك
وثيق الصلة بما ذكره الشكليون في المراحل الأخيرة من تطوُّر
نظرياتهم. وربما كان علينا أن نشير إلى علاقة وثيقة تربط
المدرستَين، وتتعلَّق باهتمام كل منهما بالتحليل
analysis بدلًا من
التقييم evaluation. وإذا
كان معظم أرباب النقد الجديد في أمريكا قد غالَوا في
التعميم وصولًا إلى المعايير المطلقة
absolute standards
التي تنطبق على الأدب في كل زمان ومكان، فإن الشكليين
الروس يُحمد لهم أن اتجهوا للنسبية
relativism، وهو ما
ذكره بروكس في مقدمة كتابه «الإناء المحكم الصنع»
The
Well-Wrought
Urn.
١
معجم مصطلحات الأدب، بيروت، مكتبة لبنان،
١٩٧٤م.
٢
نشأت المدرسة الشكلية الروسية على أيدي عدد من
أعلام علماء اللغة والأدب؛ وأهمهم: بوريس أيخنباوم
Boris
Eichenbaum، ورومان جاكوبسون
Roman Jakobson،
وفكتور شكلوفسكي Viktor
Sklovskiy، وبوريس توماشفسكي
Boris
Tomasevskij، ويوري تينيانوف
Jurij Tynjanov.
وكانت أهم قلاعها هي «حلقة موسكو اللغوية»
Moscow Linguistic
Circle (المنشأة عام ١٩١٥م)
و«جمعية دراسة اللغة الشعرية» Society
For The Study of Poetic Language
(Opajaz) أو (أوباياز)، التي
أُنشئت في بتروغراد عام ١٩١٦م. وفي عام ١٩١٩م صدر كتاب
يتضمَّن أبحاث ندوة بعنوان «فن الشعر: دراسات في نظرية
اللغة الشعرية» Poetics: Studies in the
Theory of Poetic
Language، ويُعتَبر
بمثابة تلخيص لآراء هذه المدرسة، كما صدرت كتب أخرى
تتضمَّن أهم ما كانت تدعو إليه، مثل كتاب جاكوبسون
بعنوان «الشعر الروسي الحديث»
Modern Russian
Poetry.
٣
انظر Modernism من
تحرير مالكوم برادبري وماكفارلين
Bradbury and
Mcfarlane اللذين يوردان دراسات
بالغة التنوُّع تؤكِّد جميعًا أن العقد الأخير من القرن
التاسع عشر كان على الأرجح موعد ظهور الحداثة في
أوربا.