الفصل السابع
البنيوية في الغرب
وصلت البنيوية إلى ذروتها، باعتبارها منهجًا للتحليل ونظريةً
للأدب، في فرنسا إبَّان الستينيات، كما هو معروف، في كتابات
رولان بارت Roland Barthes
وجيرار جينيت Gerard Genette،
وأ. ج. جريماس A. J. Greimas
ورومان جاكوبسون، وتزفيتان تودوروف، ثم انتقلت إلى النقد
الأمريكي. ومن العسير وضع حدود للصورة التي اتخذتها البنيوية
في الغرب، باعتبارها امتدادًا للتفكير النقدي الأوربي الذي لم
يتوقَّف منذ بداية القرن العشرين؛ لأنها سرعان ما تحوَّلت إلى ما
يسمَّى بحركة «ما بعد البنيوية»
post-structuralism، والتي
كثيرًا ما يصوِّرها أربابها باعتبارها معارضةً للبنيوية الأولى،
وإن كانت في الحقيقة تطويرًا طبيعيًّا لأفكارها وتنقيحًا
لكثير من مفاهيمها التي لم تكن قد تبلورت بعد، خصوصًا في
كتابات بارت، وجوليا كريستيفا Julia
Kristeva وجاك دريدا
Jacques Derrida. أمَّا
خارج مجال النقد الأدبي فأهم أعلام البنيوية هم كلود ليفي-شتراوس Claude Lévi-Strauss
وميشيل فوكوه Michel Foucault
وجاك لاكان Jacques
Lacan.
وعلى أي حال يمكننا تحديد الاتجاه العام للبنيوية باعتباره
مناقضًا ومناهضًا للتفكير القائم على التجزئة والتفتيت، أو ما
يسمَّى بالتفكير الذرِّي، نسبةً إلى الفلسفة الذرِّية
atomism؛ أي التي كانت
تقول بأن العالم يتكوَّن من ذرات منفصلة، والصفة منها
atomistic (وليس
atomic التي تشير إلى
تفتيت الذرَّة والانشِطار النووي nuclear
fission في عصرنا الحديث، أو إلى نظريات
«علوم» الذرة منذ دالتون حتى أينشتاين). أي إن الاتجاه العام
للبنيوية هو النظرة الكلية التي تبحث عن النظم الكامنة في
الظواهر مجتمعةً لا منفصلة، وتفسِّر لنا علاقاتها بعضها بالبعض.
وقد استفاد ليفي-شتراوس من أفكار سوسير في اللغة؛ فأنشأ لنفسه
منهجًا يرصد النُّظم الكلية (التي كان يسمِّيها الأبنية) أو
التراكيب القائمة في حياة الإنسان، وخصوصًا في الظواهر
الاجتماعية والثقافية. وكان ممَّا أتى به مصطلح «منطق
المجسَّدات» logic of the
concrete، وكان يعني به «نُظم المفاهيم»
التي تمكِّن الناس من التفكير وفي تنظيم صور العالم في أذهانهم.
وكان المدخل الذي اتبعه في تحليل الأساطير، أو في تقديم تفسير
لتأثير الأساطير على قارئها أو المستمع إليها، هو القول بأن
كل أسطورة تقوم على مجموعة من المفاهيم المتعارضة والمتقابلة
(بل والمتناقِضة أحيانًا)، وهي مجموعات ثنائية
binary sets مستقاة من
شتَّى مجالات الخبرة العملية البشرية، وانتهى إلى أن ذلك يمكن
تطبيقه على الأدب، وخصوصًا على لغة الشعر.
أمَّا سبب تسمية ذلك ﺑ «منطق المجسَّدات» فهو أن ليفي-شتراوس
يرمي إلى استقاء منطق خاص مبسَّط من الظواهر المادية
«المجسَّدة» في الأساطير؛ أي منطق قادر على الربط بين الظواهر
التي يبدو أنها منفصلة؛ فالتعارض رابِطة مثل التَّماثل،
والتناقض رابِطة لأنه يعني نفي النقيض؛ فالجهل والعلم
مرتبطان بالنَّفي (تناقض)، والأبيض والأسود مترابطان بالتقابل
(التضاد) وهكذا. ومن ثم كان «منطق المجسَّدات» وثيق الصلة بعلم
العلامات أو السيميوطيقا.
وتلخيصًا لِمَا سبق، وقبل أن نناقش المصطلحات التي أتت بها
البنيوية الفرنسية فاختلفت بها وفيها عن تيار «النقد الجديد»
الأنجلوأمريكي، نقول إن البنيوية تستند إلى نظرتَين أساسيتَين
ترتبطان كما سبق أن ذكرنا بعلم العلامات؛ أولاهما هي أن
الظواهر الاجتماعية والثقافية ليس لها «جَوْهر»
essence بالمعنى الفلسفي؛
أي ليس لها كِيان صلب يمكن تعريفه في ذاته، بل يمكن تعريفها
من زاويتَين؛ الأولى هي أبنيتها الداخلية، والثانية هي المكان
الذي تشغله في كل ما تنتمي إليه من نظم اجتماعية وثقافية.
وهنا نجد التركيز على التركيب؛ أي على البناء، سواء فيما يتعلَّق
بالظاهرة أو فيما يتعلَّق بالنُّظم الشاملة التي تندرج فيها
الظاهرة.
وأمَّا النظرة الثانية فهي أن الظواهر الاجتماعية والثقافية
علامات، وهي ليست علامات ماديةً فحسب، ولكنها أحداث لها
معناها. وقد ننجح في محاولة فصل الجانب التركيبي عن الجانب
السيميوطيقي؛ أي فصل بنائها عن دلالتها باعتبارها علامات، ومن
ثم نكون قد فصلنا بين دراسة الأنماط
patterns وبين دراسة
العلامات، ولكن أقصى نجاح نحقِّقه في التحليل البنيوي؛ أي تحليل
أبنية هذه الظواهر، هو نجاحنا في التعرُّف على الأبنية (أو
فصلها)؛ فهي التي تمكِّننا من إدراك الظواهر باعتبارها علامات.
١
المذهب الفرنسي
وفي فرنسا كان مولد البنيوية مرتبطًا بالتمرُّد على
الدراسات الأدبية التقليدية الشبيهة بالعلوم العربية
التقليدية، والقائمة على الحفظ والرصد التاريخي والنقد
المستند إلى حياة الشاعر وأحداث عصره. وكانت الجامعات
الفرنسية التي أدخلت هذه المناهج في البلدان التي أخذت
بدراسة الأدب باعتباره من وسائل نشر اللغة الفرنسية، توجِّه
جُل اهتمامها إلى التاريخ الأدبي وحفظ معالمه وأهم
ملامحه. ومن ثم كان دعاة البنيوية الأوائل يُريدون العودة
إلى النَّص، وهو المنهج الذي كان موجودًا باعتباره من
«الأنشطة الخاصة» التي لا يُجيدها الجميع، وكانوا يُطلقون
عليه منهج «شرح النصوص» explication des
textes، وهو الذي كان محمد مندور
يعنيه ﺑ «الميزان الجديد» (في كتابه «في الميزان الجديد»).
ولا شكَّ عندي في أن تراث الشكليين الروس والبنيوية
التشيكية كانا من القوى التي وجَّهت البنيوية الفرنسية إلى
هذه الوجهة، وإن كانت المراجع التي تتناول نشأة البنيوية
في فرنسا تلتزم الصمت إزاء ذلك التأثير. وأقصى ما يقوله
مؤرِّخو هذه الفترة هو أن الفرنسيين لم يطَّلعوا على أعمال
أوربا الشرقية إلا عند ترجمتها في أواخر الستينيات فوجدوا
فيها نظائر analogues لِمَا
كانوا يقولونه.
ومهما يكن من أمر فقد كان الفرنسيون يختلفون عن زملائهم
في إنجلترا وأمريكا الذين سبقوهم إلى التركيز على النص في
أنهم قرَّروا بدايةً أن الإنسان لا يستطيع دراسة النص دون
افتراضات سابقة
presuppositions، وأن
دراسة النَّص دراسةً تجريبية؛ أي تطبيقية
empirical، دون إطار
مرجعي سابق، مآلها الفشل، بل لن يُكتب لها أن تقدِّم نقدًا
أدبيًّا له معنًى، وأن المطلوب إذن وضع نماذج منهجية
للدراسة والتحليل.
وهكذا ابتعد البنيويون عن تراث أسلافهم، ووضعوا مشكلة
المنهج نصب أعينهم. لم يكن التفسير هدفهم، بل قراءة
النصوص أولًا، ثم التوصُّل إلى تفهُّم طرائق
modes الكتابة
الأدبية أو أنواعها (لا الأنواع الأدبية
genres) ووسائل قيام
كل منها بعمله operation
أو إحداث تأثيره. وسوف أُحاول أن أُعيد صياغة هذه العبارة،
إيضاحًا لمعنى أول مصطلحَين بنيويَّين يصادفاننا هنا وهما
mode
وoperation.
أمَّا الأول فقد سبقت ترجمته بالطريقة (أو الطريق)، وأعتقد
أن الترجمة معقولة. فالطريقة تتضمَّن البناء والنسج
ومستويات اللغة وكل ما يتعلَّق بالأسلوب، وقد أصبحت كلمةً
شائعة (وهي عنوان كتاب هو «طرائق الكتابة الحديثة»
The
Modes of Modern
Writing لدافيد لودج
David Lodge الأستاذ
البريطاني صاحب دراسات ما بعد البنيوية، والذي تحوَّل إلى
كتابة الرواية)، وأمَّا كلمة الكتابة فكان الأجدر بها أن
تكون الكلام.
وأمَّا المصطلح الثاني الذي ترجمته ﺑ «العمل»، فأعتقد أن
ترجمته لا بأس بها؛ لأنك لو استبدلت كلمة
work بها لَمَا تغيَّر
المعنى. ومن ثم أُعيد صياغة العبارة هكذا: «التوصُّل إلى فهم
الطرائق الأدبية، ووسائل تحقيقها لغاياتها».
وسوف نستعين هنا بما قاله رولان بارت تمييزًا لجهود
أصحابه عمَّن سبقهم؛ إذ قال إنهم يطمحون إلى إرساء قواعد
لعلم الأدب؛ فالنقد الأدبي يضع النص في سياق معيَّن، أيًّا
كان هذا السياق، ويهبه معنًى من المعاني، وقد يتضمَّن الحكم
عليه، وربما يتضمَّن أحكام قيمة value
judgments، وأمَّا «علم الأدب»
science of
literature أو علم الشعر مجازًا
poetics، فهو يدرس
أحوال وشروط ذلك المعنى، والأبنية الشكلية التي تنظِّم النص
من الداخل وتُتيح له أن يكتسب معاني كثيرة.
وليس معنى ذلك أن علم الأدب يمكن أن يحل محل النقد
بصورة مطلقة، ولكنه الأساس لأي نقد له معنًى. ومن ثم
انطلقت الدراسات البنيوية الفرنسية محاوِلةً إرساء أُسس
الدراسات النصية الجديدة، التي يبدو في سياقها النص
باعتباره كِيانًا مستقلًّا يتضمَّن طرائقه الخاصة التي تمكِّنه
من تجاوز نفسه؛ أي من الخروج إلى مجالات العلوم الأخرى
والحياة غير الأدبية. وكان المثل الأعلى في تناول هذه
الطرائق علم جديد دخل مرحلة التكوين قبل الوصول إلى النضج،
وهو علم الألسنة الحديث أو اللغويات. وقد استفاد
البنيويون من اللغويات من زاويتَين؛ الأولى هي تطبيقاتها
المباشرة على الأدب؛ ممَّا أدَّى في نهاية الأمر إلى ظهور علم
الأسلوبية stylistics،
والثانية هي التطلُّع إليها باعتبارها المثل الأعلى للعلم
ذي الضوابط الذي يصف أبنية اللغة وتراكيبها دون الحكم
عليها (أي دون إصدار أحكام القيمة عليها). وسوف نعرض
بإيجاز لكلٍّ من هاتَين الزاويتَين.
أمَّا الأولى فهي دراسة الأنماط التي يمكن أن يستشفَّها من
يقرأ أي عمل أدبي أو يستمع إليه، ونقصد بها أنماط الأصوات
التي تتكرَّر في أماكن مختلفة من القصيدة مثلًا، وأنماط
المعاني التي تتكرَّر كذلك في شتى كلماتها (الريح تباريح
جريح ما ينتهي له أنين، صلاح جاهين؛ أو تكرار معاني
القسوة والوحشية المستقاة من صور الحيوانات المفترسة في
مسرحيتَي «عطيل» و«الملك لير» لشيكسبير، مثلًا). ويركِّز
جاكوبسون في تحليلاته (في المجلد الثامن من «مختاراته»)
على إبراز الأنماط المتناسقة أو المتسقة التركيب
symmetrical وغير
المتناسقة
asymmetrical،
٢ وهي التي من شأنها توحيد النص وإبراز عناصر
معيَّنة فيه. وقد أشار بعض النقاد إلى أن كثيرًا من الأنماط
التي يكتشفها جاكوبسون لا يشعر بها القارئ أو لا تشكِّل
جزءًا من «تجربة» القراءة
experience أو خبرة
القراءة بمعنًى أدق، وردَّ آخرون بأن هذه مسألة يصعب البت
فيها وخصوصًا كالر
Culler، الذي قال بأن هذه
الأنماط يمكن أن تُحدث تأثيرًا باطنيًّا أو باطنًا؛ أي تحت
مستوى الوعي
subliminal.
والمصطلح الأخير شائع في الأدب بهذا المعنى، وهو مركَّب من
البادئة أو الصدر –
sub
بمعنى تحت، و
liminis، وهي
حالة المضاف إليه من كلمة
limes اللاتينية
بمعنى عتبة
threshold أو
حد. كذلك أكَّد كالر أن الأنماط الشكلية يمكن أن تُحدث
تأثيرها دون أن تساهم في المعنى الظاهر للعمل الأدبي.
واتجه آخرون، مثل نيكولاس رويت
Nicholas
Ruwet وجاك جنيناسكا
Jacques Geninasca،
إلى تطبيق نظريات جاكوبسون وطرائق تحليله بالتركيز على
تدعيم الأنماط اللغوية للتأثير الذي يُحدثه المعنى، ولو
أنهم بذلك يفصلون بين العناصر البنيوية؛ أي عناصر البناء
وعناصر الدلالة بالعلامات؛ أي السيميولوجيا؛ ولذلك فهم لا
يساهمون في إقامة الدراسة الفنية على أُسس علوم اللغة
الحديثة.
اللغة والأدب
وأمَّا الزاوية الثانية فهي النظر إلى الأدب باعتباره
مثيلًا للغة، ولو أنه يستخدم اللغة، فمعانيه تعتمد على
نُظُم متعارف عليها؛ أي على العرف
convention، وهي التي
تساعد القارئ على تفسير to
interpret ما يقرأ. ومن ثم كانت
ضرورة وضع مفاهيم تشرح هذا التصوُّر، وكان بارت كما هو
معروف أهم من وضع وطوَّر هذه المفاهيم؛ فالأدب في نظره لا
يتكوَّن من مجرَّد عبارات، بل من عبارات تُعتبَر كلٌّ منها علامةً
في نظام أدبي خاص، يسمِّيه نظامًا من الدرجة الثانية
second order.
فالجملة يختلف معناها في القصيدة عنه في الخبر الصحفي،
وهي تتحوَّل في العمل الفني مع غيرها من العبارات إلى عناصر
من هذا النظام الأدبي؛ أي إلى رموز لها دلالة مقصورة على
معناها داخل العمل الفني، بفضل ما يسمِّيه بارت بالعقد
الخفي المبرم بين الكاتب والقارئ، والذي يطلِق عليه لفظة
écriture الذي يعني
أي عرف أدبي، والعقد في الحقيقة يتكوَّن من عدد من هذه
الأعراف الأدبية التي تمكِّن القارئ من التواصل مع
الكاتب.
الأدب والثقافة
والأدب في رأي بارت يشبه الثقافة من زاوية أخرى؛
فالثقافة تُصِر على التطابق بين الدال والمدلول؛ أي بين
الكلمة ومعناها، وعلى الإحالة الكاملة إلى المدلول بحيث
يتصوَّر القارئ أن إشارة كلمة السحاب مثلًا إلى ما يراه في
السماء أمر طبيعي natural
لا وليد العرف، وهو ما يسمِّيه بارت بميل الثقافة إلى إضفاء
صفة الوضع الطبيعي
naturalization على
العلاقة بين الكلمات والمعاني. ولذلك يحاول من يفسِّر
الأدب، حتى دون وعي منه، أن يضفي هذه الصفة الطبيعية على
ما يقرأ حتى يدرك معناه؛ فنحن نقرأ الرواية استنادًا إلى
شفرات رمزية للمعاني وقواعد المنطق المستقاة من خبراتنا
خارج الرواية؛ أي في الحياة العادية، وكذلك طبقا لشفرات
رمزية للمعاني وقواعد المنطق المستقاة من معرفتنا بالأدب؛ فالأولى تنصرف مثلًا إلى طرائق
السلوك الإنساني التي
تبيِّن لنا إذا ما كانت الشخصية
personality متجانسةً
أو ممزَّقة، وإذا ما كانت العلاقات بين الدوافع والأعمال
مقبولةً ومعقولة أم لا، وإذا ما كانت أحداث القصة منطقيةً
أو تتوالى بصورة غير منطقية وما إلى ذلك. وتنصرف الثانية
إلى ما نألفه في الأدب من ذاك جميعًا، والاستدلال
extrapolation من
رموزه على معانٍ أخرى وهلم جرًّا، بحيث نستطيع أن نخرج من
العمل بمعانٍ أو دلالات متجانسة متماسكة استنادًا إلى
مبدأ التماثل مع الحياة خارجه؛ أي
vraisemblable (أو
verisimilitude
الإنجليزية)؛ أي إننا حين نفعل ذلك نحاول في الحقيقة
استعادة recuperation
الواقع والتقاليد الأدبية من ثنايا العمل الأدبي. أمَّا
الرواية أو العمل الأدبي الذي تسهِّل استعادة الواقع
والتقاليد الأدبية فيطلق عليه بارت صفة «المقروء»
lisible (أي
readable أو
readerly) التي تعني
حرفيًّا هنا القابل للقراءة، أو الذي قصد به أن يقرأ، أو
الموجَّه إلى القارئ «نص القراءة». وأمَّا العمل الأدبي الذي
لا نستطيع أن نفهمه طبقًا لِمَا درجنا عليه من أعرافٍ حياتية
وأدبية (وهو يسمِّيها نماذج
models)، فهو يطلق
عليه صفة «المكتوب»
scriptible (أو
writable أو
writerly) والتي تعني
على وجه الدقة العمل الذي تقتضي قراءته المشاركة في
كتابته من جانب القارئ
vicariously — أي
نيابةً عن الكاتب («نص الكتابة») — (انظر في المعجم
readerly and writerly
texts).
والتحليل البنيوي إذن لا يرمي إلى تفسير العمل الأدبي،
ومن ثم إلى التعرُّف على الواقع والأعراف فيه، وهو ما يسمِّيه
بارت بالاستعادة، بل إلى الكشف عن خصائصه التي تمكِّن
القارئ من تفهُّمه وإدراك تجانسه ووحدته، وهي الخصائص أو
العناصر التي قد تتفق وقد تختلف مع الواقع الحياتي
والواقع الأدبي بالنسبة لقارئ معيَّن. بل إن الناقد في رأي
بارت لا يحاول اكتشاف بناء العمل، بل يحاول اكتشاف
إمكانياته البنائية
structuration، وهي
كلمة فرنسية توازي الإنجليزية
structuring، ومن ثم
فالناقد يركِّز على تأثير الدوال
signifiers؛ أي
العناصر ذات الدَّلالة التي تقوم بترحيل
to defer أو إرجاء
المعنى (أو تعليقه
suspension) من خلال
المادة الفنية التي تتجاوز معنى الألفاظ، مثل الإيقاع في
الشعر والقافية والأنماط الصوتية. وحركة هذه العناصر هي
التي يعزو إليها نقاد البنيوية ما يسمونه بإنتاجية النص
productivity of text؛
لأنها تجبر القارئ على أن يتخلَّى عن دوره باعتباره
المستهلك السلبي passive
consumer أو المتلقي السلبي لِمَا يفهم
دون عناء، بل إن يصبح المشارك الإيجابي في إخراج المعنى
أو التوصُّل إلى معنًى ما، أو ما يسمونه إنتاج المعنى
production of
meaning ما دام يشارك في استكشاف كل
ما يمكن أن يتضمَّنه النص من أنظمة
orders.
وهذه المفهومات تؤدِّي بطبيعة الحال إلى نبذ مفهوم
المحاكاة أو التمثيل والتركيز على النص، والاهتمام
بالتناص
intertextuality
الذي يجدر بنا أن نُنعِم النظر إليه الآن. التناصُّ
معناه في أبسط صورة هو التفاعل داخل النص بين الطرائق
المختلفة للتعبير (أو «اللُّغات») المستقاة من نصوص أدبية
أخرى، أو من كتابات أخرى غير أدبية. وقد رأينا أن
الشكليين الروس كانوا يحاولون إضفاء الغرابة
making strange على
الأشياء العادية (وهو ما كان شلي
Shelley الشاعر
الإنجليزي يدعو إليه، متأثِّرًا بوردزورث
Wordsworth)، وكذلك
فإن أنصار البنيوية يؤكِّدون طابع الغرابة الذي يكسو كلَّ عمل
أدبي بسبب تضمينه ألوانًا من التعبير تُغيِّر من رؤيتنا
للعالم. فالجمع في قصيدة واحدة بين عدة ضروب من الكتابة
يغيِّر من معنى كل منها، من خلال تغيُّر العلاقات التي نشأنا
على توقُّعها فيما بين كلٍّ منها والعالم الخارجي.
٣ وهم يعتبرون ذلك لونًا من ألوان البلاغة،
وإذن فإن إبراز العمليات البلاغية
rhetorical processes
في العمل الأدبي ومن ثم احتلالها مكان الصدارة في الأدب
يؤكِّد وجود الأدب باعتباره عاملًا يدفع القارئ إلى محاولة
إعادة تنظيم خبراته ومعانيها، على عكس ما تحاول الثقافة
أن تفعله من إرساء معانٍ موحَّدة وثابتة لهذه الخبرات،
وإضفاء الصِّبغة الطبيعية عليها.
وفي أواخر السبعينيات وعلى امتداد الثمانينيات تعرَّضت
البنيوية للهجوم من جانب من يُطلقون على أنفسهم «ما بعد
البنيويين» الذين اتهموها أو صوَّروها بأنها محاولة علمية
scientific لاختزال
اللغة والأدب، ويختزل بمعنى
reduce هو المقصود،
وربما كان المعنى أيضًا هو المسخ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى
مَكَانَتِهِمْ (يس: ٦٧)، والمسخ أو التحوُّل هو
metamorphosis؛ أي
تحويلهما إلى شفرات وحسب، أو إلى مجموعات من المقابلات
والتعارضات، ووصفوا مذهبهم بأنه محاولة للكشف عن الطرائق
التي تستطيع النُّصوص أن تتجاوز بها عمل
to outplay الشفرات
أو تقهر التعارُضات التي تقوم عليها. ولكن هذا الاتهام،
كما رأينا، ظالم؛ لأن البنيوية لم تعمد إلى وضع نظم مطلقة
للشفرات، بل ولم تقل إنها متسقة بصورة مطلقة، بل اهتمَّت
أيضًا بحالات انكسار النمط
disruption أو
الإخلال به، ولو أنها، شأن أي مذهب جديد، قد بالغت بعض
الشيء في تصويره.