الفصل التاسع
التفكيكية
التفكيكية deconstruction
مصطلح موفَّق، وإن كان قد أُسيء فهمه إساءةً بالغة، ربما بسبب عدم
تقديمه في صورته التاريخية التي تُعتبر فلسفيةً أولًا ونقدية أو
أدبية ثانيًا. فالتفكيك الذي اشتُق منه المصدر الصناعي هو فك
الارتباط، أو حتى تفكيك الارتباطات المفترضة بين اللغة وكل ما
يقع خارجها؛ أي إنكار قدرة اللغة على أن تحيلنا إلى أي شيء أو
إلى أي ظاهرة إحالةً موثوقًا بها، والكلمة مستعارة بصورتها
الحالية من الفرنسية
déconstruction الموضوعة
على أساس الألمانية
Destruktion كما سبق أن
أشرنا، ولا يوجد في الإنجليزية فعل من هذا الاسم، بل ولم يُشتق
منه فعل حتى الآن ولو من خلال الاشتقاق العكسي
back formation، حتى بعد
انطواء صفحة المدرسة بوفاة بول دي مان Paul de
Man وهو من أهم أعلامها. ولذلك فنحن
مضطرون إلى النظر في معناها الفلسفي، خصوصًا في إطار مدرسة
التحليل اللغوي الفلسفية الإنجليزية، والتي عرفناها من خلال
مناهج برتراند رسل Bertrand
Russell وفتجنشتاين
Wittgenstein وجلبرت رايل
Gilbert Ryle، وإير
Ayer، وغيرهم ممن قدَّمهم
إلى قُراء العربية زكي نجيب محمود وعزمي إسلام.
والغريب ألَّا نلتفت في مناهج الدراسة الفلسفية إلى هذه
الفلسفة قدَّمها إلى الناطقين بالفرنسية جاك دريدا
Jacques Derrida في ثلاثة
كتب أصدرها عام ١٩٦٧م، فحوَّلت مجرى التفكير النقدي البنيوي
بتوسيع مجاله بحيث أصبح ممارسوه — بعد التوسيع — يصفون الحركة
بما بعد البنيوية. أمَّا الحركة النقدية نفسها التي رفع رايتها
من يسمَّون بأصحاب مدرسة ييل Yale
School، وهم بول دي مان نفسه، وجيفري
هارتمان Geoffrey Hartman
(وهو من تخصَّصت مثله في وردزورث
Wordsworth) وج. هيليس
ميلر J. Hillis Miller فلم
يُكتب لها البقاء لأنها، على عكس البنيوية، كانت سلبيةً
negative؛ تُنكر ولا
تُثبت، وتقطع ولا تصل، وتفك ولا تربط، إلا في حدود اللغة
نفسها، ومن النص إلى النص، بل إن مذهبها الأساسي ألَا وهو
استحالة إثبات معنًى متماسك لنص ما، أيًّا كان، لم يلبث أن جرَّ
عليها حنق الكثيرين، وأهمهم جون إليس John
Ellis، الذي كتب كتابًا أسماه «مناهضة
التفكيكية» Against
Deconstruction عام ١٩٨٩م،
وأتبعه في عام ١٩٩٤م بكتاب أسماه «اللغة والفكر والمنطق»
Language,
Thought and Logic هدم
فيه الأسس الفلسفية التي استند إليها التفكير اللغوي الشكلي
الذي يفصل البناء عن المعنى أو التركيب النحوي عن الدلالة،
وهو التفكير اللغوي الذي بدأه نعوم تشومسكي
Noam Chomsky، ثم عدَّله،
وآخر ما أتى به هو ما يسمَّى ببرنامج الحد الأدنى
minimalist program؛ أي
وضعَ حدودٍ دنيا للصفات المشتركة بين لغات العالم، واستبدال
مذهب principles and
parameters؛ أي المبادئ والمعايير،
بمذهبه القديم في النحو، في محاضرة ألقاها في لندن عام ١٩٩٥م.
وكان إليس في ذلك يستند إلى بعض كبار مفكري اللغة الأفذاذ مثل
سوسير، وفتجنشتاين وبيرس
Peirce، وورف
Whorf.
يبدأ دريدا نقده بإنكار قدرتنا على الوصول بالطرق التقليدية
إلى حلٍّ لمشكلة الإحالة
reference؛ أي قدرة اللفظ
على إحالتنا إلى شيء ما خارجه؛ فهو ينكر أن اللغة «منزل
الوجود» (house of being)
(وأنا أعتمد على نص دريدا Of
Grammatology — أي «علم
الكتابة»، كما سيأتي بيانه — الذي ترجمَته جاياتري سبيفاك
Gayatry Spivak إحدى
زعيمات الحركة النسائية الجديدة
feminism). ومعنى «منزل
الوجود» في نظره (انظر القسم السابق) الطاقة على سد الفجوة
بين الثقافة التي صنعها الإنسان والطبيعة التي صنعها الله؛ أي
إن اللغة لن تصبح أبدًا نافذةً شفافة
transparent على العالم
كما هو في حقيقته. وما جهود فلاسفة الغرب جميعًا — وخصوصًا من
سبق ذكرهم من المُحدَثين هنا — وكذلك الألمان مثل هايدجر
Heidegger وفريجي
Frege الذين حاولوا
تحقيق هذا الهدف بإرساء الأسس أو المذاهب القائمة على بعض
البديهات axioms أو الحقائق
البديهية self-evident truths
الموجودة خارج اللغة، إلا محاولات يائسة بائسة كُتب عليها
الفشل. وقد وصف دريدا مواصلة اعتساف هذا الطريق بأنه عبث لا
طائل من ورائه، وبأنه تعبير عن الحنين إلى ماضٍ من اليقين
الزائف.
وقد استند دريدا في هذا بدايةً على ما ذكره سوسير محقًّا عن
طبيعة عمل اللغة؛ حين ذكر أن العلاقة بين اللفظ (الدال)
والمفهوم (المدلول) علاقة توقيفية
arbitrary؛ أي تعسُّفية،
بمعنى أنها لا تُعلَّل، وأن «اللغة لا تعتمد إلا على
الاختلافات، ولا توجد بها تعابير موجَبة
positive term» (والإشارة
هنا إلى كتاب سوسير Cours de Linguistique Général
(1916))؛ فاللغة كما يقول
دريدا نقلًا عن سوسير عملية إطلاق أسماء على الأشياء بحيث
ينفرد كل دال بمدلوله، ولكنها تعمل works,
functions عن طريق التمييز والتفريق
diacritically بحيث لا
تبرز دلالة الكلمة إلا من خلال علاقتها بالكلمات الأخرى في
اللغة باعتبارها نظامًا مستقلًّا. وقد توسَّع شراح سوسير في
تبيان معنى التمييز والتفريق، وقبل أن نضرب له نماذج يجدر بنا
أن نتأمَّل مصطلح التمييز السابق؛ فالصفة
diacritical أو
diacritic (ولا يوجد لها
فعل من لفظها) مركَّبة من البادئة
dia- بمعنى عبر، وقد سبقت
الإشارة إليها، واليونانية
krinein بمعنى يميِّز أو
يدرك، وقد اشتُقَّت منها الكلمة اليونانية
krisis التي تحوَّلت إلى
الإنجليزية crisis بمعنى نقطة
التحوُّل أو النقطة الحرجة وأصبحت تطلَق على الأزمة، وهي كلمة
مهمة؛ لأنها أصل الكلمة التي أصبحت تعني النقد والناقد
criticus اللاتينية
المشتقة من اليونانية
Kritikos بمعنى القدرة
على التمييز. ولا يزال ذلك المعنى كامنًا في الكلمات الأوربية
للنقد والناقد، بل أحيانًا ما يُشار إليه باسم «المميِّز»،
وللنقد باعتباره القدرة على التمييز
discrimination، والقارئ
المميِّز the discerning
reader، وأسماء هذه القدرة عريقة في العربية،
مثل «الفصل بين …» «الفرق بين …» (وهي عناوين بعض كتب الفرق
الإسلامية).
وقد أحببت تأكيد هذا المفهوم لأنه أساسي في فكر دريدا، كما
سوف يتضح من العرض الموجَز التالي، ولكن النماذج التي يوردها
شُراح سوسير تحتاج إلى مقابل بالعربية حتى تتضح؛ فأحد شُراحه
وهو فيرنون و. جراس Vernon W.
Gras يضرب نماذج التشابه الصوتي التي
تجمع بين عدد من الكلمات، وكلٌّ منها به آثار أو أوجه شبه صوتية
من صاحبتها traces مثل فالح
ومالح وصالح وطالح، بحيث يتمكَّن السامع من تمييز الصوت
الملائم والتعرُّف على الكلمة المقصودة، وينطبق ذلك على
المدلولات؛ إذ ليس المدلول نفسه ما يحتِّم تسميته باسم معيَّن،
وهو يضرب لذلك مثلًا من الأرز وأسمائه التسعة في لغة الصين
الجنوبية.
وإذا كان سوسير يراوده الأمل في أن يؤدِّي الاتجاه الجديد نحو
اللغويات؛ أي الدراسة العلمية للغة، إلى إرساء قواعد علم جديد
أو علم عام للعلامات (أي السيميولوجيا)؛ فإن جهود البنيويين
الأوائل في هذا السبيل لم تلقَ من دريدا إلا الهجوم والسخرية؛
إذ صبَّ جامَّ غضبه على ما رآه أو ما زعمه من طموح دعاة البنيوية
إلى اتباع المنهج العلمي؛ فالعلم
science في نظره، مثله في
ذلك مثل الدين والفلسفة الميتافيزيقية، يُقيم نظامه
system على ما يسمِّيه
بالحضور presence، ومعناه
التسليم بوجود نظام خارج نطاق اللغة وإطار عملها، بحيث يبرِّر ما
تدعيه من الإحالة إلى الحقائق أو الحقيقة
truth. وقال إنه حتى بعد
أن أنكر سوسير نظرية الإحالة
reference واستبدل بها
مبدأ الاختلاف difference، فإن
كلود ليفي-شتراوس، وجال لاكان Jacques
Lacan اللذَين يعتبرهما من آباء البنيوية
قد أحالا اللغة نفسها إلى نشاط بنائي عالمي كامن في عقل
الإنسان نفسه، وهو ما اعترض دريدا عليه بشدة قائلًا إن اعتبار
اللغة نشاطًا بنائيًّا لا يخضع لسيطرة الذهن الواعي بل يتبع
قوانين اللاوعي، يُعتَبر آخر محاولة تقوم بها الفلسفة لإرساء
ما يسمِّيه ﺑ «ميتافيزيقا الحضور» metaphysics of
presence، وهو يبسِّط حجته على النحو
التالي:
تحاول الفلسفة الغربية منذ أفلاطون تقديم أو افتراض وجود
شيء يسمَّى «الحقيقة» أو الحقيقة السامية المتميِّزة، أو ما يسمِّيه
هو ﺑ «المدلول المتعالي» transcendental
signified؛ أي المعنى الذي يتعالى على
(أو يتجاوز) نطاق الحواس، ونطاق الحياة بمفرداتها المحدَّدة،
بحيث توجد هذه الحقيقة خارج نطاق اللغة والتاريخ والزمن ولا
«تتلوَّث» بأي منها
uncontaminated. ونستطيع
في رأي دريدا الكشف عن هذه المحاولة أو هذه المحاولات من خلال
رصد مجموعة كبيرة من «الكيانات»
entities الميتافيزيقية
التي احتلَّت مركز الصدارة في شتى المذاهب الفلسفية؛ مثل
eidos؛ أي الصورة، و
arche بمعنى الأول أو
المبدأ الأول، أو الأزل، أو القِدم، و
telos بمعنى الغاية أو
النهاية أو الكمال، وlogos
بمعنى الكلمة أو الفكر (أو الكلام والمنطق)، و
matter بمعنى المادة (أو
الهيولي أو الهيولة؛ أي المادة دون تشكيل)، والرب
God، والدافع الحيوي
elan vital (أو السَّورة
الحيوية بتعبير عبد الرحمن بدوي، أو وثبة الحياة بتعبير كمال
عبد الجواد في ثُلاثية نجيب محفوظ)؛ إلى آخر هذه القائمة
الطويلة، التي تتعاقب فيها «الكيانات» ويحل بعضها محل بعض
فيها، ومن ثم فيمكن اعتبار اللغة المرشَّح الأخير للانضمام إلى
هذه القائمة؛ إذ يشترك هايدجر
Heidegger وسوسير في
توجيه أنظارنا إلى هذا الاكتشاف الذي يعتبرانه فتحًا جديدًا
breakthrough، وهما في
رأي دريدا يهبطان بذلك إلى درك الميتافيزيقا الأسفل، وبذلك
يرى أن عليه أن يضع حدًّا لهذه المحاولة الدائبة للبحث عن
اليقين the quest for
certainty، وتقويض أُسس هذه المحاولات هو
في نظره هدف التفكيكية؛ أي إن هدف دريدا هو تفكيك الفلسفة،
وتفكيك to take apart
تطلُّعاتها إلى إدراك «الحضور» أو «المنطق»، عن طريق ما حاول
إثباته من أن عمل اللغة نفسه يحول دون الوصول إلى تلك الغاية،
ومن ثم يقدِّم إلينا بديلًا عن سيميولوجيا سوسير، وهو ما يسمِّيه
بعلم الكتابة
grammatology.
ولمَّا كان ذلك هو عنوان كتاب من أهم كُتب دريدا، ومناط مذهبه
الذي أقام الدنيا وأقعدها، فلا بد لنا من وقفة قصيرة عند كلمة
gramma. أمَّا المعنى
المعجمي فليس عسير الفهم، وقد صدر في عام ١٩٩٣م معجم جديد من
تأليف تراسك Trask وعنوانه
A Dictionary
of Grammatical Terms in
Linguistics، وهو أوفى مرجع في
هذا الباب حتى الآن، وإن كان يقتصر على علوم اللغة؛ حيث يعني
النحو أو الأجرومية دراسة أشكال وأبنية الكلمات (والصرف
morphology) وترتيبها
المعتاد أو المألوف في عبارات وجمل (التراكيب
syntax)، وأيضًا كثيرًا
ما ينصرف معناه أو يتضمَّن أصوات الألفاظ (علم الأصوات
phonology) ودلالتها
semantics.
ولكن أصل المعنى هو الذي سيُفيدنا في فهم مقصد دريدا؛
فالكلمة الأوربية مشتقة من الكلمة اليونانية التي دخلت
اللاتينية gramma والتي قد
تعني وزن إبرتين أي oboli،
وهي جمع obolus بمعنى إبرة،
وهي وثيقة الصِّلة بكلمة obelos
التي اشتُقت منها obelisk من
كلمة obeliskos اليونانية و
obeliscus اللاتينية
بمعنى مسلة (ومن ثم جاءت تسمية الإنجليز للمسلة المصرية في
لندن بالإبرة أو إبرة كليوباترا Cleopatra’s
Needle)، وهو ما أصبح الجرام (وحدة الوزن)
في لغتنا المعاصرة. وقد تعني الكلمة أي كتابة؛ أي كل شيء
مكتوب، من الفعل اليوناني
graphein بمعنى يكتب (أو
يرسم). ومن هنا كان معنى الكلمة اللاتينية
grammatica (المتبوعة ﺑ
ars بمعنى
art؛ أي في اليونانية
grammatike techne) وهو
الكتابة أو العلم، وكانت تعني في العصور الوسطى بصفة خاصة
دراسة اللاتينية أو العلوم أو «العلم» كما حفظَته لنا
اللاتينية، ولم يختفِ ذلك المعنى اختفاءً كاملًا من اللغات
الأوربية الحديثة، وهو يكمن خلف ما يسمَّى أو ما كان يسمَّى حتى
عهد قريب في بريطانيا بمدارس تعليم الكتابة (ومعناها تعليم
اللغة اللاتينية) grammar
schools (في مقابل مدارس الحِرف
والصناعات).
وكان دريدا يعني بعنوانه إذن علم الكتابة، ويقصد به الكتابة
العامة التي يسمِّيها
archi-écriture، وهي تتضمَّن
الكلام والكتابة العادية، وعلم الكتابة في رأيه ثمرة لثلاثة
عوامل هي بالتحديد؛ الكلمة
gram، وأوجه التشابه بين
الكلمات traces، والاختلاف
بينها differance، وهو يغيِّر
هِجاء الكلمة الفرنسية عامدًا كما سوف نرى. ويقول إنه كان
ينبغي على سوسير أن يركِّز اهتمامه على ذلك بدلًا من التركيز
على المقابلة بين الدال والمدلول (اللفظ والمعنى). وقال إن
سوسير أوحى بأهمية أو بأسبقية المدلول على الدال؛ إذ قَصَرَ
وظيفة الدال على رمزيته أو قدرته على الإحالة إلى المدلول؛
ممَّا يؤكِّد تصوُّر سوسير أن ثمة مفاهيم «حاضرة»؛ أي موجودةً خارج
الألفاظ، وهذا «الحضور» (وأرجو أن يكون معنى هذه الكلمة قد
اتضح الآن) هو الذي ينعيه دريدا على مذهب سوسير؛ إذ إن
«الحضور» يعني أن العلامات ذات قدرة ذاتية أو أن قيمتها تكمن
في قدرتها الكامنة على العمل حدود اللغة، ودريدا يرفض ذلك أو
يضعه «قيد الشطب» sous rature
وunder erasur، ومعناها
الحرفي قيد المحو (انظر المعجم) (وشوقي ضيف يقول إن الشطب
كلمة فصيحة)؛ استنادًا إلى ما قاله سوسير نفسه من أن العلامات
توقيفية أو تعسُّفية، وأن الفصل بينها يعتمد على الاختلافات
القائمة فيما بينها لا على أي صفات إيجابية في داخلها.
الاختلاف والإرجاء
وهذا هو الذي حدا بدريدا إلى تغيير هجاء الكلمة
الفرنسية؛ فهو يريد لها أن تدل على معنيَين معًا؛ الأول هو
الاختلاف (بهجائها العادي)، والثاني هو الإرجاء، ويقابلهما
في الإنجليزية differ
وdefer. أمَّا
الاختلاف فقد سبق إيضاحه، وأمَّا الإرجاء فهو عكس الحضور؛
أي إننا حين نعجز عن الإتيان بشيء أو بفكرة فنحن نشير
إليها بكلمة، ومن ثم فنحن نستخدم العلامات مؤقتًا ريثما
نتمكَّن من الوصول إلى الشيء أو الفكرة، وعلى هذا فإن اللغة
هي حضور مُرجأ للأشياء والمعاني، ولا يمكن إذن افتراض
حضورها في وجود اللغة.
والاختلاف والإرجاء يعملان معًا ويهبان اللغة قدرتها
على الانتشار
dissemination، ومعنى
ذلك أن كل عنصر لغوي مكتوب أو منطوق
grapheme أو
phoneme على الترتيب
يحدث تأثيره من خلال الآثار
traces التي تخلفها
أو تشاركها فيه شتى العناصر الأخرى، والتي يرتبط بها داخل
سلسلة ما أو نظام ما. ومن ثم يقول دريدا إن عمل اللغة
يشبه عملية التناسج الدائبة ceaseless
interweaving؛ أي إن كلًّا منها
يشارك في نسج صاحبه، ثم يشبِّه تأثيرها بالأمواج التي تنداح
من المركز إلى الأطراف، ومن الماضي إلى الحاضر، وينتهي
بذلك إلى الجمع بين الوظائف أو العناصر المتقابلة في علم
اللغة — مثل العناصر الإحلالية والتركيبية
paradigmatic, syntagmatic
(انظر المعجم)، والمقابلة بين الظواهر الآنية وعبر
الزمنية
synchronic, diachronic
— قائلًا إنها لا ينفصل بعضها عن بعض، وكلها يندرج في
نطاق مبدأ الاختلاف.
وينطبق ذلك أيضًا على المقابلة بين الطاقة اللغوية
langue والكلام
parole، وبين الشفرة
والرسالة، وبين البناء والحادثة؛ فكلها ممَّا يشكِّل دائرة
الدلالات، ويكشف عن استحالة نشوء اللغة من عنصر دون الآخر،
فإذا كان من المحتوم أن توجد طاقة اللغة حتى يصبح الكلام
ممكنًا، فإن الشفرات التي تتكوَّن منها هذه الطاقة لا بد أن
تكون قد نشأت من أفعال الكلام speech
acts (انظر المعجم) أول الأمر؛ ممَّا
يؤدِّي بنا إلى حلقة مفرَّغة لا سبيل إلى كسرها إلا بالعودة
إلى فكرة الاختلاف التي تستطيع دون غيرها أن تضع لنا أُسس
الطاقة اللغوية والظواهر الآنية والتحوُّلات في أشكال
النماذج المفردة، وكذلك قواعد أفعال الكلام، والظواهر عبر
الزمنية وتحوُّلاتها، والعلاقات بين الكلمات. فإذا كانت
الأسس المذكورة أولًا مكانيةً
spatial وساكنة
passive (بمعنى عدم
قيامها بالفعل) وتستند إلى الواقع
factual (بمعنى
ثباتها في الزمن أو أنها خبرية
constative) (انظر
المعجم) فإن القواعد المُشار إليها ثانيًا زمنية
temporal وفعَّالة
active وترمي إلى
تحقيق أغراض محدَّدة
persuasive، كما
يتجلَّى في الأداء اللغوي المعتاد
performance.
وينتهي دريدا من هذا العرض إلى أن مبدأ الاختلاف ليس
تركيبًا توفيقيًّا
synthesis بالمعنى
الجدلي الهيجيلي Hegelian
بين هذه القوى؛ فهو لا يرمي إلى التوفيق بين القوى
المتضادة، لكنه يؤكِّد أن اللغة تتضمَّن تلك القوى في نفس
الوقت وفي جميع الأحوال؛ فالاختلاف بناء وحركة معًا
وساكِن وفعَّال، وذو وجود خاص به حتى وهو يخضع في بنائه
لِمَا تعنيه كل هذه العوامل.
ويُصر دريدا على أن هذه التناقضات قائمة دائمًا
باعتبارها صراعًا لا ينتهي بين القوى أو الطاقات، وهي تمثِّل
في مجموعها الكتابة العامة
archi-écriture وتتسم
بالتعدُّدية التوليدية generative
multiplicity؛ أي تعدُّد صورها الممكنة
وقواعدها الكامنة ومن ثم معانيها المتباينة حتى وهي تُخرج
لنا علامات أو رموزًا يبدو لنا أنها كاملة؛ أي إن الكتابة
تُشبه أي ظاهرة ذات دلالة، وهو يسمِّيها علم الظاهرات
الوجودية existential
phenomenology في أنها تتضمَّن الذات
والموضوع subject &
object، وهما اللذان نستشف وجودهما من
عملية توصيل المعنى. أي إن أيًّا منهما لا يُعتبر أصلًا
سابق الوجود على صاحبه، ولا يمكن استشفافه إلا من خلال
إدراك «الفروق»، لا قبلها ولا بعدها ولا بصورة منفصلة عن
ذلك الإدراك.
وبكلمات أوضح، يقول دريدا إننا نشكِّل وعينا بذواتنا
وبالعالم من خلال إدراك حركة الفروق اللغوية، دون حاجة
منا إلى تصوُّر «حضور» خارج اللغة أو «بناء» نهائي مطلق
داخلها قد يحد من عملها وتأثيرها. ويقول ساليس
Sallis أحد شُراح
دريدا في كتابه «التفكيكية والفلسفة» (وهو مجموعة دراسات
أسهم فيها بدراسة ومقدمة، انظر المراجع) تعليقًا على هذا
الموقف من اللغة: «إن ذلك (أي عدم وجود مرجع خارجي أو بناء داخلي) … معناه أن دريدا يقدِّم
لنا
صورةً للغة تفتقر إلى الاكتمال، وإلى التوحُّد، بلا نهاية
ولا أصل ولا غاية، لا يَقَر لها قرار ولا تهدأ أبدًا.» وهذه
هي العبارة (ص١٢ من الطبعة الأولى، ١٩٨٧م):
“… Derrida offers a
non-full, non-unitary,
open-ended-without-origin-or-goal,
never-to-be-at-rest version of
language.”
والذي أراه، استنادًا إلى كتاب «علم الكتابة»، هو أن
دريدا يُقيم مبدأ الاختلاف فيما بين العلامات (أو الكلمات)
الحاضرة، وأيضًا بينها وبين العلامات أو الكلمات غير
الحاضرة؛ أي إن تصوُّره للاختلاف لا يقتصر على الفروق في
الدلالة والصوت والأشكال بين الكلمات المكتوبة أو
المنطوقة فقط، كما ألمح إلى ذلك سوسير وكما توسَّع في تطبيق
هذه الفكرة جون إليس في كتابه المشار إليه عن «اللغة
والفكر والواقع»، لكنه يجعل مبدأ الاختلاف ساريًا على ما
هو موجود أمامنا على صفحة الكتاب وعلى ما هو غير موجود،
بحيث يقترب من التشكيك في وجود العلامة أو الكلمة ذاتها
باعتبارها كِيانًا إيجابيًّا له معنًى، وهذا ما يفسِّره قوله
إن العلامة يجب أن توضع «قيد الشطب»؛ أي أن نشطبها في
مكانها دون أن نمحوها محوًا (انظر المعجم)، واهتمامه
بإظهار الاستعارات والتشبيهات التي لجأ إليها فلاسفة
الغرب من قبله للإيحاء «بحضور» كِيانات خارج اللغة؛ فهو
يعتبر ذلك ضربًا من التفكير الميتافيزيقي الذي أثبت العصرُ
الحديث أنه «حديث خرافة».
وإذا افترضنا أن العالم والذات من ثمار اللغة — في حدود
مفهوم الاختلاف — فالنتيجة المنطقية لذلك هي عدم وجود
حقيقة reality خارج
تفسيرنا للواقع اللغوي وهو النَّص. فاللغة هي التي تربط
أجزاء العالم وتُفصِّلها، بمعنى أنها توضِّح حدودها وتُفصح
عنها to articulate، وما
أقبح ترجمتها ﺑ «يمفصل» ولدينا كلمة فصَّل؛ أي لا يوجد ما
يدعونا إلى اشتقاق جديد كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ، ولماذا نفترض
وجود مَفْصِل (والكلمة الإنجليزية تعني بوضوح على أية
حال القدرة على البيان والإفصاح) وهي التي تبنيه
to structure، وتخلقه
وتعيد خلقه باستمرار وإلى الأبد؟
ومن هنا فإن دريدا يدعو إلى أن تَنصَب الدراسة
التفكيكية على النصوص، وأن تحلِّلها عن كثب للكشف عن أي
ثغرات من القلق aporia؛
أي عدم اليقين، أو بمعنى أوضح ما لا يمكن الوثوق منه؛
فهذه هي التي يَنفُذ منها الكاتب إلى ما يسمِّيه المدلولات
المتعالية transcendental
signifieds؛ أي المفاهيم التي
يعتبرها ميتافيزيقيةً مثل الطبيعة، والوجود، واللاوعي وما
إلى ذلك.
ودريدا يلتمس العذر للكاتب حين يقع، ولو واعيًا، في هذه
الفجوات أو نقاط الضعف؛ لأنه معرَّض، بحكم نشأته، لثقافة
تتضمَّن مفاهيم تاريخيةً وتربوية وميتافيزيقية لا حيلة له في
دفعها؛ فهو لذلك خاضع للنظم والأبنية القائمة بسبب هذه
المفاهيم داخل اللغة، وهو يستخدم «الشفرات» القائمة
ليُساهم في ترسيخها حتى حين يتصوَّر أنه يفعل العكس. ومن ثم
فما أكثر ما تنضح النصوص بمفاهيم تدل على عكس ما قصد
صاحبها، وهو يعدِّد في عرضه التاريخي لهذه المفارقات أسماءً
تختلف في ظاهرها وتتفق في جوهرها. ولا يُعفي أحدًا من
هجومه؛ من أفلاطون، إلى روسو إلى ليفي-شتراوس إلى
هوسيرل وسوسير؛ مؤكِّدًا أن «المعنى» لديهم هو كِيان خارج
النص، وخارج على «الاختلاف» في اللغة، وأن الفيلسوف شأنه
شأن الناقد الأدبي يريد أن يدلنا على هذا «المعنى». أمَّا
اللغة باعتبارها اختلافًا فتجعل من المحال تحقيق هذه
الغاية، وأقصى ما نستطيعه هو أن نتطلَّع إلى التعليقات التي
لا تنتهي وإلى إعادة التفسيرات المتوالية، بل وإلى سوء
الفهم، ولن يجدي ذلك كله في إيقاف «تشريد» الكلمات،
و«إزاحة» displacement
العلامات، ثم إعادة توطينها
resettlement
وإيوائها ثم تشريدها، وهكذا إلى ما لا نهاية.
ولا أزعم أنني استطعت في هذه الصفحات القليلة أن أوفي
فلسفة دريدا حقها؛ فهي تحتاج على الأقل إلى مجلد كبير،
ولكن غايتي هي تقديم أهم أفكاره بأقل عدد ممكن من الكلمات
والمعجم يتضمَّن شرحًا أوفى لمصطلحاته. وأرجو ألَّا يفهم من
هذا العرض الموجز أن دريدا يرفض اللغة برُمتها، أو أن
يقاطعها ويخاصمها بسبب هذه «النقائص» التي يراها فيها؛
فهو يراها أداةً نافعة ووسيلة لتحقيق أغراض جمَّة (وليس هنا
مجال عرض آراء معارضيه وعلى رأسهم جون إليس)، ولكنه يرى أن
التفكيكية لازمة لتحرير اللغة، أو تحرير النصوص من
العوامل الخارجية التي تحول دون قراءة النص باعتباره
كائنًا متناسجًا دائب الحركة؛ إذ يتدخَّل عامل التاريخ
أحيانًا ليُغلق النَّصَّ إغلاقًا يحرمه فيه من تفاعله مع
غيره من النصوص، بل ومع اللغة الحية، وغالبًا ما يكون ذلك
بفرض مذهب فكري خارجي عليه؛ إذن فالتفكيكية تعمل من داخل
النص لمقاومة هذا الإغلاق.
نُقاد جامعة ييل
لقد توسَّع دريدا في عرض هذه الآراء في كتابَيه الآخرين
(انظر المراجع) عن الكتابة والفروق، وعن الظاهريات
(الصادرَين في نفس السنة)، ثم نشر بعد ذلك بستة أعوام
(١٩٧٢م) ثلاثة كتب أخرى يُعيد فيها نفس الأفكار مع التوسُّع
في شرح نظريات انتشار اللغة وموقفه الفلسفي، ويركِّز على
التناقضات الداخلية في مذاهب من سبقه من المعاصرين. ولكن
تأثير فلسفته على النقد الأدبي لم يبرز إلا في كتابات
نقاد جامعة ييل The Yale
Critics الذين سبقت الإشارة إليهم،
وخصوصًا بول دي مان. ومع ذلك وبعد انطفاء بريق جِدَّة
التفكيكية، بل بعد أن خبت جَذوتها بسبب انصراف النُّقاد،
حتى نُقاد ما بعد البنيوية عنها، استمرَّ تأثيرها قائمًا
بصورة غير مباشرة في ألوان أخرى من الاتجاهات النقدية
الملوَّنة بطابع فكري مثل الماركسية والفرويدية والنسائية،
والتي يتناولها المعجم بالتفصيل.
والمدخل إلى تأثيرها المباشر هو قول بول دي مان في
كتابه المنشور ١٩٧٩م بعنوان «رمزيات القراءة»
Allegories of
Reading (صفحة ١١٥): «إن
الأدب قد أصبح الموضوع الأساسي للفلسفة ونموذجًا لنوع
الحقائق (أو الحقيقة) التي تتطلَّع الفلسفة إلى بلوغها.»
وهو يعني بذلك أن الأدب لا يزعم أنه يحيل القارئ إلى
الواقع الحقيقي خارج اللغة؛ فهو تعريف خيالي، ومن ثم فلا
داعي لأن تعتذر الفلسفة حين تكتسي ثوب الأدب بأنها تصل أو
تتوصَّل إلى حقائق خيالية. ويقول دي مان إن تاريخ الفلسفة
كله كان بمثابة رحلة طويلة إلى دنيا الإحالة، أو الإحالية
referentiality، وإلى
المضمون content بعيدًا
عن الوعي بذاته؛ أي بأن الفلسفة قد استمدَّت أصولها من
مصادر بلاغية أو من علم البلاغة نفسه
rhetorics ويستند دي
مان هنا على رأي دريدا بأن الأدب يمكن اعتباره حركة تفكيك
ذاتية للنص self-deconsturctive movement
of a text؛ إذ يقدِّم لنا معنًى ثم
يقوِّضه undercutting في آنٍ
واحد؛ فالأدب أقرب ما يكون إلى تجسيد مبدأ الاختلاف أو
الكتابة العامة. وهو يحتفل بوظيفة الدلالة، وفي نفس الوقت
بحرية عمل الكلمات في نطاق الطاقات الاستعارية
metaphoric وألوان
المجاز figural والخيال
imaginative، دون
الجمع بين هذه وتلك في تركيب جدلي. إنه يهب الصدارة
للبلاغة، ولا يوفِّق بين المتناقضات، فلا يصل أبدًا إلى
الوحدة.
وأهم ما يلاحَظ هنا هو أن هذا التصوُّر للأدب باعتباره
نصوصًا متداخلةً ينفتح بعضها على البعض، ولا يحد النص منها
حدود تمنعه من تجاوز ذاته، بدلًا من التصوُّر القائم على
وجود نص مستقل
self-contained أو
كتاب مغلق، يناقض تعريف الأدب الذي جاء به النقد الجديد
The New Criticism
باعتباره عملًا يتمتَّع ﺑ «الوحدة العضوية». ولقد دافع أرباب
النقد الجديد عن الأدب استنادًا إلى استخدام اللغة فيه
استخدامًا يقوم على التورية الساخرة
irony والغموض أو
الإبهام ambiguity (انظر
القسم الأول) قائلين إن الأدب لا يكفي فيه التعبير الواضح
عن شيء ما دون وجود القطب المقابل له
polar opposite (وهو
تعبير مأخوذ من الفيزياء حيث القطبان الموجب والسالب في
الدائرة الكهربائية anode &
cathode وإن كانت فكرة الاستقطاب
نفسها polarization ترجع
إلى القطبَين الشمالي والجنوبي للأرض)، ووجود هذا القطب
المقابل يعقِّد ويعمِّق ويوسِّع من آفاق تأثير العمل ومن خبرة
قراءته
experiential.
ولكن هذا الاتكاء على خبرة القارئ أو تجربة قراءته
للنَّص يؤدِّي إلى التصالح آخر الأمر بين المعاني وتوحيد
القوى المتصارعة فيه وإحالة النَّص والقارئ جميعًا في
آخر المطاف إلى العالم الخارجي. ومن ثم يقول التفكيكيون،
والكلام هنا لجيفري هارتمان، إن «الحقيقة» الشعرية كانت
تستمد حياتها، في نظر النقد الجديد، من العالم الخارجي
باعتباره حقيقةً فوق الواقع اللغوي؛ أي متعاليةً عليه
transcendental
verity.
ولنتأمَّل هذه الكلمات الأساسية برهةً قصيرة. إن «الحقيقة»
التي نُشير إليها بكلمة
truth تقترب في
معناها من الصدق، وما الصدق في أبسط معانيه إلا مطابقة
القول للواقع، ولكن حقيقة العالم الخارجي المقصودة
reality, truth هي
مناط الفكر الفلسفي لجاك دريدا؛ فهو يشكِّك في وجودها في
ذاتها إلا في حدود ما تستطيع اللغة أن تقدِّمه إلى أذهاننا
من خلال التفريق بين المفاهيم المختلفة؛ ولذلك فضَّلنا كلمة
الحقيقة على كلمة الصدق، مع وجود ذلك المعنى دون شك في
الكلمة الأخيرة أيضًا
verity.
أمَّا التفكيكيون فهم يرَون أن المزية الأولى للأدب ترجع
إلى أنه خيال
fiction أو
كذب
untruth؛ فالشعر
يحتفل بحريته من الإحالة «الحرفية»
literal (التعبير
الحقيقي في مقابل المجازي)، وهو واعٍ بأن إبداعاته ذات
أساس تخيُّلي
imaginative
basis؛ ولذلك فهو لا يعاني مثلما
تعاني النصوص الأخرى من مشكلة الإحالة إلى خارج النص
logocentrism. ويلخِّص
أحد الشراح، وهو فيرنون. و. جراس هذا الموقف قائلًا:
«ترجع أهمية الأدب، في ظل التفكيكية، إلى طاقته
على توسيع حدوده بهدم أُطر الواقع المتعارف عليها
[التقليدية]؛ ومن ثم فهو يميط اللثام عن طبيعتها
التاريخية العابرة [المؤقَّتة]؛ فالنصوص الأدبية
العظيمة دائمًا ما تفكَّك معانيها الظاهرة، سواء
كان مؤلِّفوها على وعي بذلك أم لا، من خلال ما
تقدِّمه ممَّا يستعصي على الحسم (ما لا يمكن القطع
به)، ويجب على القراءة التفكيكية للنص أن تفك
[عُقَد] خيوطه. والأدب أقدر فنون القول على
الكشف عن العملية اللغوية التي تمكِّن الإنسان من
إدراك عالمه مؤقَّتًا، وهو إدراك لا يكتمل أو يصبح
نهائيًّا أبدًا.»
هذا هو الأصل، وقد وُضعت الكلمات العربية التي أضفتها
بين أقواس مربعة:
“The importance of
literature under deconstruction lies in its
power to extend boundaries by destroying
conventional frames of reality, revealing
thereby their historically transient
nature. Great literary texts, with or
without the awareness of their authors,
always deconstruct their apparent message
by introducing an aporia (undecidable)
which the deconstructive reading must
unravel. Literature, more than any other
discourse, reveals the language process by
which man takes hold of his world
temporarily, but never completely or
finally.”
The New Princeton
Encyclopedia of Poetry and Poetics. Princeton, 1993, p.
280
وقد اقتطفت هذه الفقرة لأبيِّن أننا حتى حين نقرأ «النثر
العلمي» الذي يكتبه النقاد فنحن نمارس ما يعنيه سوسير
بإدراك الفروق والاختلافات بين الكلمات، ومن ثم فنحن نحوِّل
بعض معانيها في أذهاننا إلى معانٍ أخرى، وقد يتفق معنا
الكاتب نفسه فيعيد التعبير عن المعنى المقصود بالألفاظ
التي استشففناها في النص عند قراءته، والكلمات التي
أضفتها توضِّح ذلك. فالفرق بين
convention بمعنى عرف
وأعراف وtradition معروف،
وإن كان معنى الثانية غالبًا ما يندرج في الأولى، مثلما
تتحوَّل الأعراف في حالات كثيرة إلى تقاليد. ولكن الفارق
مهم؛ ولذلك فالقارئ عندما يقرأ عن أُطر الواقع الموصوفة
بأنها conventional قد
يتصوَّر أن المقصود بها الأطر التقليدية، وهو غير ملوم، بل
ربما كان ذلك ما يعنيه الكاتب، وكذلك الأمر بالنسبة لكلمة
العابرة transient فهي
تشترك في معظم دلالاتها مع «المؤقَّتة» التي عاد الكاتب إلى
استخدامها في آخر الفقرة
temporary. وقس على
ذلك الفرق بين التفكيك بالمعنى اللغوي العام الذي يعود
إليه الكاتب عندما يتكلَّم عن فك الخيوط أو تعقيدات الخيوط،
والتفكيك بالمعنى الفني
technical المرتبط
بالمذهب النقدي الذي نتحدَّث عنه؛ إذ هو أقرب إلى الهدم منه
إلى التفكيك، ولكن الفارق موجود ومهم، وكذلك الفارق بين
كلمة رسالة بالمدلول الفني وكلمة المعن؛ ولذلك فالتمييز
ضروري، على اشتراكهما في الكثير في علم السيميولوجيا.
وأخيرًا فإن إضافة «العُقَد» موحًى بها وغير مصرَّح، وهي
تشير إلى معنًى من المعاني المحتملة، وإنما وضعتُها جميعًا
بين أقواس لأضرب المثل فحسب.
لا شيء خارج النص
ويعترض التفكيكيون على كل ما عدا التركيز على النص
وقراءته من الداخل استنادًا إلى مقولة دريدا الشهيرة —
التي ذهبت مذهب الأمثال — في كتابه عن علم الكتابة ص١٥٨:
«لا يوجد شيء خارج النص.» ومعنى ذلك رفض التاريخ الأدبي
التقليدي ودراسات تقسيم العصور، ورصد المصادر؛ لأنها تبحث
عن مؤثِّرات غير لغوية؛ أي عن حقائق غير لغوية، وتبعد
بالناقد عن عمل الاختلافات اللغوية (التي تُعتبر وحدها
تاريخ الأدب).
وهم يعتبرون أن الغوص على الدلالات وتفاعلاتها
واختلافاتها المتواصلة بمثابة معادِل
correlative للكتابة،
فإذا كان من حق كل عصر أن يعيد تفسير الماضي، ويقدِّم
تفسيره الذي يرسم طريق المستقبل، فإن التفسيرات أو
القراءات الخاطئة أو المنحازة
misreadings هي
السبيل الوحيد لوضع أي تاريخ أدبي بالمعنى التفكيكي.
فكتاب بول دي مان الذي سبقت الإشارة إليه يرفض «لافتات»
الرومانسية والكلاسيكية وما إليها، وإذا كان قد بدأ
الكتاب من مدخل الدراسة التاريخية للرومانسية، فهو ينتهي
فيه إلى وضع نظرية لقراءة النص طبقًا للتفكيكية؛ إذ يُعلي
من شأن الرموز والتوريات الساخرة والمفارقات، ويغالي في
تصويرها كيما يهدم ما كان يُظن أنه المثال الرومانسي
للرمز، خصوصًا في كتابات «المؤرِّخين النقاد»؛ أي كُتاب
التاريخ النقدي مثل لوجوي
Legouis وكازاميان
Kazamian، أو ديفيد
ديتشيز David Daiches أو
إيان جاك lan Jack. وهو
يرفض أي منهج خارجي مثل منهج ف. ل. لوكاس
F. L. Lucas الذي
يتصدَّى لهدم الرومانسية من «الخارج» استنادًا إلى منهج
نفسي في كتابه «تداعي وسقوط المثل الأعلى الرومانسي»
The
Decline and Fall of The Romantic
Ideal. وهو يفتح
الطريق أمام جيفري هارتمان للانطلاق في إعادة قراءة
وردزورث قراءةً تفكيكية تُعتبر في حقيقتها كتابةً إبداعية؛
فهو ينطلق بلا حدود في تفسيراته لشعر الشاعر الذي قُتل
بحثًا، بل الذي سبق أن كتب هو عنه كتابًا ممتازًا، فكتب
مقالات مستوحاةً من النص دون أن تتقيَّد به؛ إذ تحتفل
بالتوريات اللفظية puns
بأشكالها المختلفة، وإحالات الألفاظ والتعابير إلى أعمال
سواه، ومن ثم احتمالات التناص، حتى ولو كانت هذه التعابير
قد أصبحت جزءًا من التراث الاصطلاحي للغة، مُظهرًا في ذلك
براعةً يحسده عليها المبتدئون ولا يوافقه عليها الشيوخ؛
ابتغاءَ هدم المعاني التي ألِفَتها الأجيال على مدى قرنَين من
الزمان.
ولا يزال بول دي مان، حتى بعد موته، المثل الحي لتطبيق
أفكار دريدا في الفلسفة واللغة؛ فهو يركِّز على مناطق
القلقلة في النص التي تسمح باستشفاف الاختلافات والفروق
اللغوية التي تُعينه على إخراج الاحتمالات، وإثبات عدم
جدوى الركون إلى معنًى واحد للنص، وكذلك على إقامة مواجهة
بين الطرائق البلاغية المستعملة في النص، ومعناها
المتوهَّم أو الشائع خطأ، ومن ثم إثبات صحة ما دعا إليه
دريدا.
وكان بول دي مان يرى أن الأدب أقرب فنون القول تحقيقًا
لأفكار دريدا عن استحالة الإحالة — أي الدلالة على معانٍ
خارجية محدَّدة — ويرى أن التفكيكية تعين الناقد على التحرُّر
وتعين القارئ والكاتب أيضًا على إدراك معنى الحرية
الحقيقية. وكان يردِّد دائمًا أن الإنسان يتمتَّع في الأدب
والنقد بحرية دائمة على إعادة طرح صورة ذاته وصورة
العالم، دون الخضوع لأي قيود خارجية تفرضها عليه الثقافة.
وقد علَّق أحد الفلاسفة المعاصرين على ذلك (وهو جون باسمور
John Passmore)
قائلًا إن بول دي مان ينتهي هو نفسه إلى مذهب أقرب إلى
المطلق منه إلى النسبي، وإلى التعميم الذي يؤكِّد «الحضور»
الخارجي بدلًا من أن ينفيه، بمعنى أن التفسيرات المؤقَّتة
(بالمعنى الذي قصده دريدا) تصبح نهائيةً من وجهة نظر هذا
العصر، بحيث لا تسمح في هذا العصر بنقضها، ومن ثم تصبح
مطلقةً في الإطار التاريخي، وهو ما كان دريدا يناهضه.
والواضح أن تكرار تحليل النصوص لإنكار معانيها أو إثبات
عدم إمكان فهمها، أو عدم جدوى هذه المحاولة، قد أحدث
لونًا من الرتابة والملل حدا بالكثيرين إلى التساؤل:
وماذا بعد؟ بل دفع الكثيرين إلى الانصراف عن المذهب
برمته.
ولكننا نشهد هذه الأيام تحوُّلًا عجيبًا في هذا المذهب،
ولا يزال قويًّا في التسعينيات، وهو ما يسمِّيه ساليس
Sallis باستخدام
المصطلح دون مضمونه، وإن كُنا نستطيع أن نسمِّيه بالاستخدام
غير المباشر للتفكيكية، عن طريق الالتفاف حولها. فلمَّا كان
دريدا — كما أوضحنا — يحظر على النقاد التفكيكيين
الاعتراف بقدرة اللغة على الإحالة، لم يجد هؤلاء بدًّا من
السخرية ممن يزعم أن للغة وظيفةً عقلانية
rational أو معرفية
cognitive لكنهم
أجرَوا تعديلات غريبةً على مفهوم العلاقة بين اللغة والواقع
reality (أو الحقيقة
truth)، فبدءوا —
خصوصًا في الآونة الأخيرة — يرصدون القوى المحرِّكة للغة من
الخارج، عن طريق رصدها في تلافيف النَّص أو النَّص
الباطن subtext، مثل
الرغبات الجنسية (فرويد) أو المادية الماركسية، أو ما
وصفه نيتشه Nietzsche
بالنزوع إلى التسلُّط أو إرادة القوة.
ورأينا منهم من يقول إن هذه الرغبات غير العقلانية
irrational تساهم في
عملية الدلالة على المعنى أكثر ممَّا تساهم فيها المعرفة
العقلية intellectual
cognition، وهكذا ارتضَوا لأنفسهم
المذهب التفسيري الذي يُطلَق عليه «تفسيرات الارتياب
hermeneutics of
suspicion (انظر القسم السابق)؛ أي
الانتقال من معنى النص الظاهر إلى النص الباطن بحثًا عن
الأصول التي تتحكَّم في البنية السطحية أو الفوقية للنص
surface text أو
superstructure text.
وهكذا أباحوا لنفسهم أيضًا استخدام أساليب التفكيكية في
التحليل للكشف عن الوسائل التي «يُرتاب» في أنها تُخضِع
النص على مستوًى أعمق لهذه الدوافع؛ أي لاستراتيجيات
التسلُّط strategies of
power أو للقوى التاريخية.
ولسنا في مجال الحكم على سلامة المنهج من حيث هو منهج
في النقد الأدبي؛ فله منطقه وله نتائجه العلمية المقنعة،
ولكننا نود أن نوضِّح فحسب أنه لا يمكن أن يسمَّى تفكيكيًّا؛
فالتفكيكية كما رأينا نظرة فلسفية في اللغة أولًا، يتحتَّم
في تطبيقها عدم إخضاع اللغة لعوامل خارجية. وأكبر من
استفاد من هذا المنهج هم دعاة الحركة النسائية الجديدة
feminism الذين
حاولوا (رجالًا ونساء) الكشف عن التناقضات الصارخة في
كتابات أنصار سيادة الرجل على المجتمع
patriarchal
domination، رغم عدم التفرقة في
التفكيكية بين الذكر والأنثى. وقد أدرجتُ في المعجم معظم
المصطلحات التي أتى بها هؤلاء، ودلَّلت عليها بشواهد كثيرة
من كتاباتهم، بدلًا من تخصيص قسم في هذه المقدمة لكل
«اتجاه»؛ فهي تشارك جميعًا في استخدام تفسيرات الارتياب،
لتقديم رؤًى نقدية جدية، سواء من خلال الماركسية أو
التاريخية الجديدة أو الحركة النسائية، وهي جميعًا تنتفع
بالتفكيكية دون أن تكون تفكيكيةً على الإطلاق.