الفصل الأول
(١) بعدَ خمسةِ أشهرٍ
قَضيتُ أَشْهُرًا خمسةً مع زَوْجتِي وولديَّ. وما أحسبُني أُخْطِئُ الصَّوابَ إذا قَرَّرْتُ أنني كنتُ خِلالَ هذه الْمُدَّةِ سعيدًا. وليتَني فَطِنْتُ إِلى هذه السَّعادةِ، وقدَّرْتُ تلكَ الْحَياةَ الرَّغْدَةَ الْوادِعَةَ التي نَعِمْتُ بها حِينًا مِنَ الدَّهْرِ.
ولكنّ الشَّقاءَ أبَى عليَّ إلَّا أنْ أَكفُرَ بهذه النِّعْمَةِ، وأُوثِرَ الْمُغامرةَ في الْأسفارِ، وأَقبلَ رِياسَةَ سفينةٍ تِجاريَّةٍ كبيرةٍ، اختارَني أَصحابُها رُبَّانًا لها، فأعددتُ العُدَّةَ للسَّفرِ، وفرِحتُ بهذا الْمَنْصِبِ الْجديدِ الذي أَراحَنِي من أَعباء مِهْنَتِي الْأُولَى، وهي الجراحةُ، فاستَدعَيتُ إلى سفينتِي جَرَّاحًا ماهرًا اسْمُهُ «روبرت»، وانْتَوَيْتُ مُعَاوَنَتَهُ إذا اضْطَرَّتْنِي الأحوالُ إلى ذلك.
ثم أقْلَعَتِ السفينةُ من ميناء «بُورتْسموث» في الْيَوْمِ السابِع من سبتمبر عام ١٧١٠م. ولما جاء اليومُ الرابِعَ عَشَرَ من هذا الشهر الْتَقَيْنا بالرُّبَّانِ «بروك»، وكان — حينئذٍ — رُبَّانًا للسفينةِ «بِرِسْتول»، وقد جَعل قِبْلَتَهُ خليجَ «كمبيش»؛ حيثُ يَقْطَعُ الخُشُبَ ويعودُ بِها إلى بلادِه.
وسارتِ السَّفينتانِ جَنْبًا إلى جَنبٍ؛ حتى إذا جاء الْيومُ السَّادِسَ عَشَرَ من الشهرِ هَبَّتْ عاصفةٌ شديدةٌ، انتهتْ بالفُرْقةِ بين السَّفينتَيْنِ؛ فلم يُكتبْ لنا اللِّقاءُ بعدَ ذلك اليومِ.
وقد علمتُ — بعد أَن عُدْتُ إلى بلدِي — أَن السفينةَ «بِرِسْتول» هذه قد غرِقتْ، وغَرِقَ رُبَّانُها وبَحَّارُوها، ولم يَنْجُ منهم إلَّا بَحَّارٌ صغيرٌ هَيَّأَ له الْقَدَرُ أَسبابَ النَّجاةِ بأُعْجُوبةٍ.
وَكان هذا الرُّبَّانُ مثالًا من أَمثلةِ الظَّرْفِ والْبراعةِ، وقد شهِد له كلُّ من عَرَفه بالمهارةِ في قِيادةِ السُّفُنِ. ولكنه كان — على ذلك — شَدِيدَ العِنادِ، لا يقبَلُ الْخُضُوعَ لرأيِ غيرِه، بالغًا ما بَلَغَ من الرَّجاحَةِ والْأَصالةِ. وأَغلَبُ الظَّنِّ أَن هذا الْعَيْبَ هو الذي أَسْلَمَه إلى حَتْفِه، وكان سببَ هلاكِه وهَلاكِ رِفاقِه.
ولو أَنه أَقْلَعَ عن عِنادِه، وترك الِاسْتِبدادَ برأيِه، وأَخذ بنصيحَتي، لكُتِبَتْ له الْعَوْدةُ إلى بلادِه سالِمًا، فلقِيَ أُسْرَتَه كما لقِيتُها، ولكنْ هكذا كانَ!
(٢) مُؤامَرَةُ الْهَمَجِ
وأَراد الله أن تُصابَ جَمهرةٌ من رِفاقِي بالمَرضِ — في أَثناء الرِّحلةِ — وأَن يُسْلِمَهُمُ المرضُ إلى الهلاكِ. فلم أَرَ بُدًّا من الاِستِعانةِ بجماعةٍ منَ الْهَمَجِ؛ لِيَحُلُّوا مَحَلَّ رفاقِي في السفينةِ، وكان سَوادُهم من صَيّادِي الثِّيرانِ الْوَحْشِيّةِ.
وقد ندِمتُ أَشدَّ النَّدمِ لاخْتيارِ هؤلاء الْخَوَنةِ؛ فقد تكشَّفَتْ لي مَساوِئُهم، وتَبيَّنَ لي خُبْثُ نُفوسهم، ولُؤمُ طَبائِعِهِمْ.
وبعدَ قليلٍ من الزَّمنِ أَمرني هؤلاء الْهَمَجُ بالرُّسُوِّ في بلدٍ قريبٍ. وكان معي بالسفينةِ خمسونَ رجلًا، وكنتُ مُوَزَّعَ الفِكْرِ بينَ ثلاثٍ: الاِتِّجارِ مع أَهْلِ «إِفريقيةَ»، وكَشْفِ الْأصقاعِ المجهولةِ جُهْدَ طاقَتِي، وقِيادةِ هذه السفينةِ. فانْتهز الْأَوْغَادُ الفرصةَ؛ فأفسدُوا عليّ بقيةَ البَحّارِينَ، ثم ائْتَمَرُوا بي، وأَبرَمُوا خُطَّتَهُمُ الخبيثةَ للقبضِ عليّ، والِاسْتيلاءِ على سفينَتِي.
(٣) تنفيذُ المؤامرةِ
وذا صباحٍ اقْتَحَمُوا غُرفتِي، وانقضُّوا عليَّ، وشدُّوا وَثاقِي، وتوعَّدُوني بالهلاكِ، وأَقسمُوا لَيَقْذِفُنَّ بي إِلى البحرِ، إِذا هَمَمْتُ بمقاومَتِهِم، أو فكَّرْتُ في الدِّفاع عن نفسِي.
فقلتُ لهم وقد رأَيتُ أَن كلَّ مقاومةٍ لن تُثْمِرَ إِلَّا شَرًّا: «لقد أَصبحتُ — منذُ اليومِ — سجينَكم. وإِني أُقسِمُ لكم على الخضوعِ، ولن أَعْصِيَ لكم أَمرًا.»
فاطْمأَنُّوا إِليَّ، ووثِقُوا بقسَمِي؛ فَحَلُّوا وَثاقي، واكْتَفَوْا بربْطِي إلى عمودِ سَرِيرِي الخشبيِّ. ووكَّلُوا أَحدَ الحُرّاسِ بمُراقبَتِي وحِراسَتِي، وأَمرُوهُ بشَجِّ رأْسِي وتحطِيمِه إذا حاولتُ الفَكاكَ منَ الْأسْرِ، وأَوْصَوْهُ بتقديمِ الطَّعامِ والشرابِ لي، ثم تَوَلَّوْا قِيادةَ السفينةِ إِلى حيثُ يشاءُونَ.
وكان أَكبرَ هَمِّهم أَنْ يتَّخِذُوا من هذه السفينةِ أَداةً لِلُّصُوصِيَّةِ، وسَلْبِ السفنِ التِّجاريةِ كلَّ ما فيها. فقرَّ رأْيُهم على بَيْعِ ما في سفينتي — من البضائِع — في أَقربِ مدينةٍ يَحُلُّون بها؛ فإذا تمَّ لهم ذلك، ذهبُوا إِلى جزيرةِ «مَدَغَشْقَرَ»؛ فأخذُوا منها جمهرةً من الأهْلِينَ، ليعاوِنُوهم في قِيادةِ السفينةِ. وكانوا مُضْطَرِّينَ إلى ذلك؛ لأن المرضَ قد أَهلك كثيرًا من البحَّارةِ، بعدَ أَن تمَّ لهمُ اعْتقاليِ.
وقد سارتِ السفينةُ أسابيعَ عدةً، وظلُّوا يَبيعون ما لديهِم منَ البضائعِ، ويَسيرُون في مجاهِلَ — من البحر — لا عَهْدَ لي بها؛ لأنني كنتُ أَجهلُ — بعدَ أَن أَسَرُوني — خُطَّةَ السيرِ التي اخْتارُوها. وظَللْتُ أَرتقِبُ حينِي بينَ لحظةٍ وأُخرى؛ لأنهم هَدَّدُوني بالقتلِ أكثرَ من مرَّةٍ، ولم يكنْ يمنعُهم عن تنفيذِ وَعِيدِهم أيُّ مانع.
(٤) خاتِمَة الْمُؤَامَرِةَ
وفي اليوم التاسِع من مايو/أيار عام ١٧١١م دخل غُرفَتِي أَحدُ المؤتَمِرِينَ واسْمُه «جاك» — وقال لي: «لقد أَمَرنِي رُبَّانُ السفينةِ أَن أُنْزِلَك إلى الشَّاطِئِ.»
فسألتُه عن السببِ فلم يُجِبْني بشيء. وحاولتُ عبثًا أَن أَعْطِفَه عليّ، وظَللْتُ أَضْرَعُ إليه مرةً، وأَحْتَجُّ عليه مرةً أُخرى؛ فلم تُجِدْنِي الضَّراعةُ، ولم يَنفعْنِي الاِحْتِجاجُ. فسألتُه عنِ اسْمِ الرُّبَّانِ الجديدِ، فكان جوابَهُ الصَّمْتُ.
على أن المؤتمرِينَ قد أذِنُوا لي أنْ أرتدِيَ أفخرَ ثيابِي، وأنْ أحمِلَ معي كلَّ ما أحتاجُ إليه من مَتاعٍ.
وتلطَّفُوا بي؛ فلم يفتِّشوا عَمَّا في جُيُوبِي، وكان بها قليلٌ من النقودِ، وبعضُ الأدواتِ الصغيرةِ الضَّرُوريةِ.
ثم حملونِي إلى زَوْرَقٍ صغيرٍ، وسارُوا به نحوَ مِيلٍ، حتى وصلْنا إلَى الشاطئِ، فسألْتُهم: «أيُّ البلادِ هذه؟»
فأقسَمُوا إِنهم يَجْهَلُونها، ولا يعرِفون عنها أكثرَ مِمَّا أعرِفُ، وأَخبرونِي أن الرُّبانَ قد أَصدر قرارَه — منذُ أيامٍ — بالتَّخَلُّصِ منِّي في أولِ فرصةٍ، بعد أن تمَّ له بَيْعُ كلِّ ما في السفينةِ من بضائعَ.
(٥) في أرْضِ مَجْهُولَةٍ
ثم تركونِي واقفًا على الشاطئِ، ونصَحُوا لي أنْ أُعَجِّلَ بالذَّهابِ بعيدًا عنه؛ حتى لا يُغْرِقَنِيَ الْمَدُّ — وهو وَشيكٌ — ثم ودَّعوني وعادُوا بِزَوْرَقِهِم إلى السفينةِ مسرعين، ينهَبُون البحرَ نَهْبًا.
ولم أجِدْ مَناصًا في ذلك الموقِفِ الحرِجِ منَ الْإِسراعِ — كما أوْصَوْنِي — إلى تلك الأرضِ المجهولةِ التي لا أعلمُ عنها شيئًا.
وما زِلْتُ سائرًا حتى تَخطَّيتُ رِمالَ الشاطئِ كُلَّها، وحَلَلْتُ بالْأرضِ الصُّلْبةِ؛ فجلستُ أستريحُ من عَناء السَّيرِ، وأفكِّرُ فيما أنا قادمٌ عليه من أخْطارٍ وأهوالٍ.
وأكْسَبَتْنِي الرَّاحةُ شيئًا من القوةِ؛ فتقدَّمتُ سائِرًا في تلك المجاهلِ، وقد تملَّك نفسي اليأسُ؛ فاعْتزمتُ أن أُسْلِمَ نفسِي إلى أوّلِ من يلْقانِي في الطريقِ، ورأيتُ أن أرْشُوَ من يقابلُني مِنَ الأَهْلِينَ ببعضِ الخواتِم والطُّرَفِ الصغيرةِ التي لا يخلُو منها جَيْبُ سائِحٍ، وكانت جُيُوبي مَلْأَى بأمثالِ هذه الهدايا والتُّحَف.
ورأيتُ جَمهرةً من الأشجارِ مُبَعْثَرةً في أثناء الطرِيقِ على غيرِ ترتيبٍ، كأنما أخرجْتها الطبيعةُ، ولم تُنَظِّمْها يدُ إِنسانٍ، ولمَّا اجْتَزْتُها، اسْتَقْبَلَتْنِي مَراعٍ فسيحةٌ، وحُقولٌ واسعةٌ مِنَ الشُّوفانِ؛ فمشَيْتُ خِلالَها منتبهًا حَذِرًا خَشْيَةَ أن يفاجِئَني سَهْمٌ من سِهامِ الأهلينَ؛ فيقضِيَ على حياتِي.
(٦) آثارُ السُّكَّانِ
ورأيتُ أمامي سبيلًا مَطْرُوقةً، فيها آثارُ أقدامٍ إنسانِيةٍ، وآثارُ حَوافرِ البقرِ والخيلِ. ورأيتُ دَوابَّ جاثِماتٍ على شجرةٍ، وبدا لي منها وُجوهٌ غريبةٌ مُشَوَّهَةٌ؛ فدَبَّ دبيبُ الخوفِ إلى قلبي، وأسرعتُ إلى كَوْمَةٍ من العلَفِ، فاسْتَخْفَيْتُ في أثنائِها، وظَللْتُ أُنْعِمُ النظرَ فيما أرى أمامي من تلك الوُجوهِ المشوَّهةِ. وقد هالَني ما رأيتُه من الشعرِ الطويلِ الْمُتَدَلِّي على وُجوهِها ورِقابِها، وأَبْصَرْتُ لبعضِها شَعْرًا جَعْدًا، وللبعضِ الآخَرِ شَعْرًا سَبْطًا مُرْسَلًا.
وزاد عَجَبِي منها حينَ رَأَيتُ صُدورَها وظُهورَها وأرْجُلَها مُغَطَّاةً بشعرٍ كثيفٍ، وقد نَبَتَتِ اللِّحَى — في أذقْانِها — فكانتْ في وُجُوهِها أشبَهَ باللِّحَى التي تَنبُتُ في أَذْقانِ الْجِدَاء.
أما بقيةُ أجْسادِها العاريةِ، فلَيْسَ فيها شَعْرٌ؛ وَألْوانُها تَمِيلُ إلى السُّمْرَةِ، وقد تَدَلَّتْ على ظُهُورِها خُصَلٌ طويلةٌ من الشَّعرِ، وليس لها ذُيولٌ في مُؤَخِّراتِها.
ورأيتُ هذا الحيوانَ يجلسُ — كما يَجْلِسُ النَّاسُ — ويقفُ على رِجْلَيْهِ كما نَقِفُ، ويتسلَّقُ الأشجارَ في سرعةٍ عجيبةٍ، ويقفِزُ إِليها في مِثْلِ خِفَّةِ السِّنْجابِ، وله مَخالِبُ طويلةٌ مُلْتَوِيَةٌ في أرْجُلِهِ الخلفية والأمامية.
وإناثُ هذا الحيوانِ أضألُ جسمًا من ذُكُورِه، ولها شعرٌ طويلٌ مُرْسَلٌ ناعمٌ، وليس في وجُوهِها شعرٌ، ولا يَنْبُتُ في أَجسادِها منه إلَّا خُصَلٌ قليلةٌ. وأَثْداؤُها مُدَلَّاةٌ بين أرجِلها الأماميةِ، وربُمَّا مَسَّتْ ثُدِيُّها الأرضَ، في أَثناء سيرِها. ورأَيتُ لبعضِها شَعرًا أَسمرَ، وللبعضِ الآخرِ شعرًا أَحمَر، أَوْ أَسودَ، أَو أَصفَرَ.
وجُمَّاعُ القولِ أَنّ هذا الحيوانَ قد تمثّلَ لي في أَبْشَعِ صُورةٍ رأَتْها عَيْنايَ، وإنني لم أَشعُرْ — طُولَ حياتي — لأيِّ جنسٍ من أَجناسِ الحيوانِ، بِمِثْلِ ما شَعرتُ به من الكراهِيَةِ والْمَقْتِ لهذا الحيوانِ المُخيف.
(٧) مَخْلُوقاتٌ بَشِعَةٌ
ورأًيتُني قد ضِقْتُ ذَرْعًا بهذا المخْلوقِ التَّعِسِ، فلم أُطِقِ النَّظَرَ إليه؛ فخرجْتُ من مَخْبَئِي نافِرًا مُشْمَئِزًّا مُتَقَزِّزَ النفْسِ، واسْتأنفتُ السيرَ في طريقي، آمِلًا أَن أَهتدِيَ إلى كُوخِ بعضِ السُّكَّانِ. ولكني لم أَلْبَثْ أَنْ فُوجِئْتُ بَعْدَ خُطُواتٍ يَسِيرَةٍ بِحَيَوانٍ من ذلك الجِنْسِ البَشِعِ الذي وصفتُه. فما أَبْصَرَنِي حتى تَملَّكَتْه الدَّهْشَةُ، وبَدَتْ على أَسارِيرِهِ أَماراتُ الْوَحْشِيَّةِ؛ فكَشَّرَ عن أَنْيابِه، فَكأَنَّما لم يَرَ طَوالَ حياتِه حيوانًا في مثلِ صورتي. فدَنَا مِنِّي، ورفع إحدى رِجليْه الأماميّتيْنِ، وما أَدري لذلك سببًا؛ فلم أَستطِعْ أَن أَتبيّنَ مَقْصِدَه من هذه الحركةِ: أهو التَّرْحِيبُ أَمِ الْغَدْرُ!
فاسْتَلَلْتُ سَيْفِي، وضربتُ بصَفْحَتِهِ ذلك الحيوانَ، وقد آثرْتُ أَن أَضرِبَه بمِتْنِ السَّيْفِ — دُونَ حَدِّه — لأنني لم أَقصِدْ إلى قتلهِ أَو جَرْحِه، حتى لا أُسِيءَ إلى أَصحابِ هذا الحيوانِ.
ولما رأى ما فعلتُ فَرَّ هارِبًا، وانْطَلَق يُصَوِّتُ، ويُرْسِلُ صَرَخاتٍ عاليةً مُدَوِّيَةً في الفضاءِ؛ فأقبلَ — لنجدتِه — أربَعون دابَّةً في مثْلِ شكلِه وهيْئته، واندفعتْ صَوْبِي، وهي تَصيحُ مُكَشِّرَةً عن أنْيابِها، مُنذِرةً مُتَوَعِّدَةً. وعلا صَخَبُها؛ فانطلقتُ أعْدُو حتى بلغتُ شجرةً، فاعْتمدتُ على جِذْعِها، ولَوَّحْتُ بسْيفي أمامَ هذه الجمهرةِ الشَّرِسَةِ؛ فقفز كثيرٌ منها على أغصانِ الشجرةِ، وأمْطرَني وابِلًا من أقْذارِه. ورأيتُ الخَطرَ يشتدُّ؛ فتشبَّثْتُ بالشجرةِ — بكلِّ قوَّتي — حتى آمنَ شرَّ هذا الحيوانِ الشَّرِسِ وأتَّقِيَ أَذاهُ، ولكنني كِدْتُ أختنِقُ من رائحةِ أقذارِه الكريهةِ التي غمرنِي بها.
(٨) صَهِيلُ الجَوادَيْن
وإنِّي لَأُعانِي — من هذا المأزِق الحَرِجِ — ما أُعانِي، إذْ تَنَسَّمْتُ الفرجَ بعد الضِّيق، حين رَأيتُ أسْرابَ هذه الدَّوابِّ الكريهةِ تَفِرُّ هاربَةً، وتَعْدُو مُنْطَلِقةً في سُرْعَةِ الخائِفِ المذعورِ. فشجعني ما رأَيتُ عَلى تَرْكِ الشجرةِ، واسْتأنَفْتُ سَيْرِي، وأَنا شديدُ العَجَبِ ممَّا حدث، وظَللْتُ أُحِدِّثُ نفسي، مدهوشًا: «تُرى ما الذي أخاف الدَّوابَّ وفَزَّعها، فانْطَلَقَتْ في عَدْوِها، لا تَلْوِي على شَيْء؟»
ونظرتُ — يَمْنَةً ويَسْرةً — لعلي أتعرَّفُ السببَ؛ فرأيتُ جَوادًا مُقْبِلًا عَلَيّ، يَمْشِي مُتَبَخْتِرًا — في وَقارٍ عَجِيبٍ — وَسطَ حَقلٍ قريب. وكان مَقْدَمُ هذا الجوادِ النبيلِ سببًا في إنقاذي من الورطةِ، وفَكاكِي من الحِصارِ.
ثم دَنا مني هذا الجوادُ، ووقف أمامي، ثم تراجع إلى الوراء، ثم أجال بصرَه فيّ، وظلَّ يُنعِمُ النظرَ، ويُجِيلُ لِحاظَهُ في كل ناحيةٍ، ويدُورُ حَوْليِ مراتٍ عدةً، وقد بَدَتْ عليه أماراتُ الدهشةِ والعَجَبِ!
وبدا لي أنْ أستأنِفَ السَّيْرَ في طريقي، ولكنه اعترضني، ووقف أمامي ينظرُ إليَّ بعينٍ وادِعَةٍ مُؤْنِسَةٍ، ولم يُبْدِ شيئًا من الشَّراسَةِ والعُنْفِ، وظَلَّ كِلانا يُنْعِمُ النظرَ في صاحِبه وقتًا غيرَ قصيرٍ. ثم عَنَّ لي أنْ أُرَبِّتَ رَقَبَتَهُ مُتَوَدِّدًا، كما يُرَبِّتُ السَّائِسُ الجوادَ الغريبَ لِيُؤْنِسَهُ ويُلاطِفَهُ.
وكأنما أغضبَتْه مني هذه الجُرْأةُ، ورأى في تَحِيَّتِي تَوَقُّحًا عليه فبدتْ على وجهِه دَلائِلُ الاِحتقارِ والاِزْدِراءِ، وهَزَّ رأسَه، وقَطَبَ حاجِبَيْه، وشَمَخَ بأنفِه، ورفع إحدى رِجْلَيْه الأمامّيتيْنِ — في عِزَّة واسْتكبارٍ — مُشِيرًا إليّ أن أرفعَ يدي. ثم صَهِل الجوادُ ثلاثَ مّراتٍ أو أربعًا، وحَمْحَمَ. فدَهِشْتُ من صهيلِه وحَمْحَمَتهِ، فقد سمعتُ في جَرْسِهِ ما لم أسمعْهُ من جَوادٍ قبله، وخُيِّلَ إليَّ أنه يتكلمُ لغةً بعينها، فقد سمعتُ من اخْتلافِ نَبَراتِ صَوْتِه، وتَنَوُّعِ لَفْظِهِ، وتَبايُنِ جَرْسِهِ، ما أشْعَرنِي أنها تَنْطَوِي على مَعانٍ شَتَّى.
ولم يَنْتَهِ من حَمْحَمَتِهِ وصَهِيلِه، حتى أقبلَ عليه جَوادٌ ثانٍ، وظلَّ يتهادَى في مِشْيَتِه، حتى داناهُ؛ فلمَسَ بحافرِه الأماميةِ حافِرَ صاحبِه، ثم أجابه عن صَهيلِه بصَهِيلٍ آخرَ. وَظَلَّ كِلاهُما يُجِيبُ صاحبَه مُتَفَنِّنًا في صهيلِه بَنَبراتٍ شتَّى، ومقاطعَ مُتَبايِنةٍ (مُخْتَلِفةٍ)، تُشعِرُ سامِعَها أنَّها ألفاظٌ مستقلةٌ، تؤدِّي معانيَ بِأَعْيانِها.
ثم سارَ الْجَوادانِ بِضْعَ خُطُواتٍ، وهما يُحَمْحِمانِ ويَصْهَلانِ؛ فَكَأَنَّما يتشاوران في أمري. وما زالا يمشِيانِ — جيئَةً وذَهابًا — في جَلالٍ ووَقارٍ خَيَّلا إليَّ أن رجُلينِ يتشاوران في بَعْضِ الشُّئُونِ الخطيرة. وكانا لا يكُفَّان عن النظر إليّ — في أثْناء حِوارِهما — كأنما خَشِيا أن أُفْلِتَ منهما!
(٩) سادَةُ الجزيرةِ
واشتدَّتْ دَهْشَتِي وعَجَبِي مما رأيتُ، وقلتُ في نفسي: إذا كانتْ جِيادُ هذا البلَدِ على مِثْلِ هذه الرَّجاحَةِ والوَقارِ، فكيف بِسادَتِه من الأَناسِيَّ؟ لا رَيبَ أنهم أرجحُ الناسِ عقلًا، وأوفرُهم ذكاءً، وأعظمُهم أصالةَ رأيٍ، وصِدْقَ نظَرٍ!
وتملَّكَتْ نفسي هذه العقيدةُ، فاعْتزمتُ التَّجْوالَ في هذه البلادِ، لعلّي أهتدِي إلى قريةٍ أو منزلٍ، أو أُوَفَّقُ إلى لِقاء أحدٍ من الأهلينَ. وما هَمَمْتُ بتركِ الجوادينِ حتى قَطَعا حَدِيثَهما، واتَّجَه إلَيَّ أحدُهما — وكان أزرقَ تُرَقِّشُه نُقَطٌ بِيضٌ — فظلَّ يَصْهَلُ خَلْفِي صهيلًا مُتتابعًا، واضِحَ النَّبَراتِ، بَيِّنَ المقاطِعِ، يُشْعِرُ سامِعَه أن في طَيَّاتِه مَعانِيَ تكادُ ألفاظُها تُفْصِحُ عن مَدْلُولِها.
فعُدتُ إِليه حتى دانَيْتُه، وبذلتُ جهديّ في إخفاءِ ارْتِباكي واضْطِرابِي، وكانا قد بلغا بِي كلَّ مبلَغٍ، فقد كنتُ حائرًا لا أدري مصيرَ أمري. وفي وُسْعِ القارئِ أن يتصوَّرَ حرَجَ هذا المركزِ الدقيقِ وخُطورتَه.
وتكنَّفَني هذان الجوادانِ، وراحا يُجِيلانِ لِحاظَهما، ويُطيلانِ التّأَمُّلَ في وَجْهِي ويديَّ، زمنًا يسيرًا.
ثُمَّ دَنا مني أحدُ الجوادْينِ — وهو الأزْرَقُ المُرَقَّشُ — فرفع رِجْلَيْهِ الأماميّتيْنِ إِلى قُبَّعَتي، وعَبِثَ بها؛ فنزعتُها من فَوْرِي. ودَهِش الجوادُ الآخَرُ — وهو الجوادُ الأَحْمَرُ — حين أمسك بذَيْلِ ثوبِي، فرآه غيرَ مُلْتَصِقٍ بجَسَدِي؛ فَلَبِثا ينظرُ أحدهُما إلى الآخَرِ، وقد بَدَتْ عليهما أماراتُ الحيْرةِ والعَجَبِ.
ثم وضع ذلك الجوادُ رِجْلَه على يدِي اليُمْنَى، وبدا على سِيماه أنه مُعْجَبٌ بلطفِها، ورقةِ ملمسِها، وصَفاء لونِها. ثم ضَغَطَ عليها بين سُنْبُكَيْه وشِكالِه؛ فاشتدَّ ألَمِي لذلك، وصَرَخْتُ بأعلَى صَوْتي مُوَلْوِلًا. فعطَف عليّ الجوادان، ورقَّ قلباهما لي، وظهرتْ على ملامِحِهما دلائلُ الرحمةِ لما أصابني.
ثم أجالا لِحاظَهُما في حذائي وجَوْربي، وظَلَّا يَلْمسانِ الحذاءَ مرةً، والجَوْرَبَ مرةً. ثم دار بينهما حِوارٌ طويلٌ، هو أقربُ إلى حِوارِ فيلَسُوفَيْنِ يُريدان أن يتعرَّفا ظاهرةً غريبةً، لا عهدَ لهما برؤيتِها من قبلُ.
شَدَّ ما عجبتُ من رزَانَةِ الجوادين، واتِّزانِ حَرَكاتِهما، ولم أدْرِ كيف أُعَلِّلُ ما بدا لي منهما من تَعَقُّلٍ وحِكْمَةٍ.
وَخَطَر بِبالِي أنهما — فيما أُرَجِّحُ — ساحِرانِ، وأنهما قد أُوتِيا القدرةَ على الحَوْلَةِ (التَّحَوُّلِ) — بما عرَفاه من فُنونِ السِّحْرِ وأساليبِه — فاخْتارا أن يَتَحَوَّلا إلى صُورةِ الجَوادِ؛ لإِنجاز خُطةٍ رسَماها، وانْتَوَيا مَعًا أن يُحَقِّقاها. أو لعلَّهما رأياني قادِمًا في طريقِهما، فاختارا أن يتمثَّلا في صُورَةِ جوادَيْنِ، لِيَلْهُوَا بهذه المفاجأةِ.
ولعلَّهما دَهِشا لغرابةِ مَلْبَسي، واخْتِلافِ سَحْنَتي عن أبناء البلادِ، فَراحا يُجِيلانِ أبْصارَهما في زِيِّي، ليتعرَّفا من أي البلاد السَّحيقةِ أتيتُ!
(١٠) لُغَةُ الجيادِ الناطِقَةِ
وما مَرَّ بخَلَدِي هذا الخاطرُ حتى اعتقدتُه وآمنتُ به، فأنشأْتُ أقولُ لهما: «سَيِّدَيَّ العزيزَيْنِ! إذا كُنْتُما ساحِرَيْنِ — وما إخالُكُما إلّا هكذا — فأنتما بلا رَيْبٍ عارِفانِ بجمِيع لُغاتِ العالَمِ، وهذا يُتِيحُ لي الفرصةَ لمخاطبتِكما بلُغَتِي، وما إِخالُكما تجهَلانِها على أَيّ حالٍ. فأنا سائحٌ مسكينٌ، رمَتْنِي الأقدارُ — التي لا مَرَدَّ لأحكامِها — إلى شاطئ هذه الجزيرةِ النائيةِ، بعدَ أن أشْرَفْتُ على الغرقِ. وقد بَرَّح بي التعبُ؛ فإذا أذِنْتُما لي في رُكوبِ أحدِكما — إنْ صَحَّ أنكما جوادانِ حقًّا — حتى تُبْلِغاني بعضَ المنازلِ أو القُرَى، فإِني أعيشُ بَقِيَّةَ حَياتي شاكِرًا لكما هذا الصنيعَ، وليس عندي ما أُعْرِبُ به عَنْ تقديرِي وعِرْفاني لهذا الجميلِ، إلّا هذه المُدْيَةُ الصغيرةُ وهذا السِّوارُ الجميلُ؛ فاقْبَلاهُما هديّةً مني تُذَكِّرُكُما بي في قابِلِ الأيامِ.»
ولما أتممتُ كلامي أخرجتُ المُدْيَةَ والسِّوارَ من جيبِي، وقدمتُهما إلى الجواديْن.
وكان الجوادانِ — فيما رأَيتُ يُنْصِتان إلى ما أقولُ إِنْصاتًا. وما أَتْمَمْتُ خِطابِي، حتى اسْتأْنَفا حِوارَهما صَهِيلًا وحَمْحَمةً، وظَلَّا يتحدثانِ كأنهما آدمِيّانِ يتكلَّمانِ لغةً غَرِيبَةً لا أَفْهَمُها. وكانَتْ نَبَراتُهما ومَقاطِعُ لَهْجَتِهما تَدُلُّ على ألفاظٍ مَخْبُوءةٍ في تَضاعِيفِها، وتُؤَكِّدُ لسامِعِها أنها كلماتٌ لا يَبعُدُ أن تكونَ مُرَكَّبَةً من حُروفٍ هِجائّيةٍ، لعلَّها أيسرُ وأبسطُ منَ الألفاظِ والحروفِ في اللُّغةِ الصِّيِنيّةِ!
(١١) الْكَلِمَةُ الْأُولَى
وسمعتُهما يُردِّدانِ — في أثناء حوارِهما — كَلِمَةَ «ياهُو»؛ فَمَيَّزتُ هذا اللَّفْظَ من خِلالِ حِوارِهما، وارْتَسَمَتْ أحْرُفُهُ في خَلَدِي، دُون أن أعرِفَ لَهُ مَعْنًى. ولقد أجْهَدْتُ نفسِي، وأرهفتُ أُذُنِي، متتبعًا حوارَهما؛ لَعَلِّي أتَبَيَّنُ مَدْلُولَ هذا اللَّفْظِ، فلم أُوَفَّقْ إلى فهمِ معناه الصحيح. على أنني حاولتُ جُهْدِي أن أنطِقَ بِهِ، مُحاكِيًا نَبَراتِ الجواديْنِ، ودَرَّبْتُ نفسي على ذلك. حتى إذا انْتَهَيا من حِوارِهما، رُحْتُ أَصِيحُ — بكل قُوَّتِي — مُرَدِّدًا لَفْظَ: «ياهُو» مَرَّةً بعدَ أُخرى. وبَذَلْتُ وُسْعِي، حتى لفظتُ هذه الكلمةَ: حَمْحَمةً وصَهِيلًا، كما يفعلُ الجوادانِ!
وقدِ اسْتَولَتِ الدهْشةُ على الجوادَيْنِ، فكرَّرَها الجوادُ الأزرقُ المُرَقّشُ مرَّتين، كأنما أراد أن يُعَلِّمَنِيها، ويُدَرِّبَني على النُّطْقِ بها صحيحةً؛ فلم أتردَّدْ في تلبيةِ رغبتِه، وحاولتُ إمكاني حتى نطقتُها بلهجةٍ مُرْضِيَةٍ قريبةٍ من الإِجادةِ، فيما يَلوحُ لي.
(١٢) الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ
وأراد الجوادُ الأحمرُ أن يُعَلِّمَني كَلِمةً أُخرَى، ولكنها كانت أصعبَ من سابقتِها، وأشدَّ تعقيدًا في نُطقِها من الكلمةِ الأولى.
وسأحاولُ أنْ أقرِّبَها إلى القارئ، وأرْسُمَ حُروفَها، على قدرِ الإِمكان؛ فقد عجزتُ عنِ النُّطْقِ بها — بادِئَ بَدْءٍ — ولم أستطِعْ ذلك إلَّا بعدَ مَرانةٍ طويلةٍ. أما هذه الْكَلِمَةُ العسيرةُ النطقِ، فهي «هوِيهِنْهِمْ»!
على أنني لم أَكَدْ أُدانِيهما في النُّطْقِ بهذه الكلمةِ الصعبةِ، حتى اشتدَّتْ دهشتُهما.
ثم تحدَّثا: صَهِيلًا، وتكلَّما: حَمْحَمَةً. وما أشُكُّ في أنَّ حِوارَهما لم يَعْدُ الحديثَ عَنِّي. ولما انْتَهَيا من حديثِهما، اسْتأذَنَ كلٌّ منهما صاحبَه في الاِنصرافِ؛ فحيّا كلٌّ منهما الآخرَ — في أدبٍ ولُطْفٍ — وتلامَسَتْ قَدَماهُما، كما تتصافحُ يَدَا الصديقينِ. ثم ذهب الجوادُ الأحمرُ في طريقِه، وأشار الجوادُ الأزرقُ إلَيَّ أنْ أسيرَ أمامَه؛ فلم أتَرَدَّدْ في إطاعَةِ أمرِه، ولم يكُنْ في وُسْعِي أن أهتديَ إلى دليلٍ خيرٍ منه.
وكنتُ — إذا تَلَكَّأْتُ في سيرِي — أسمَعهُ يصيحُ بي مُحَمْحِمًا، يستحِثُّني على الإِسراع في سيرِي. وقد أدركتُ غرضَه؛ فأشرتُ إليه إشاراتٍ لِأُفْهِمَه أن السيرَ قد جَهَدني وأضْنَى قُوايَ، وأنني قد عَجَزتُ عَنْ مُواصلةِ الْمَشْيِ، لشدةِ ما اسْتولَى عليّ من التعبِ والإِعياء.
وقد فهِم الجوادُ إشارتي، وأدرك ما أَعْنِيه؛ فوقف إِلى جانبي متلطِّفًا كريمًا، وأشار إِليَّ أن أَكُفَّ عن السيرِ، وأَنْعَمَ بنصيبِي منَ الرَّاحةِ.