الفصل الثالث
(١) دَرْسُ اللُّغَةِ الصَّاهِلَةِ
كان أكبرَ هَمِّي، وقُصارَى أُمنيّتِي: أن أدْرُسَ اللغةَ الصاهلة، التي يُحَمْحِمُ بها السيدُ الجوادُ. وكان أَبناءُ هذا السيِّدِ وَخَدَمَتُهُ يُبادِرُونَ إِلى تحقيقِ هذه الرغبةِ، وبِهم منَ الشوقِ إلى تعليمي مثلُ ما بي منَ الرَّغبةِ في التعلُّمِ.
وقد رأَوْا في ذكائي مُعجِزةً نادرةً، وأَدْهَشَهم أن يعثُروا على واحِدٍ منَ «الياهُو» يستطيعُ أن يفهمَ ويفكِّرَ؛ لأنهم لا ينظُرونَ إِلى الأناسِيِّ مِنْ أَمثالي في بلادِهم، إلَّا كما ننظرُ نَحْن إلى الجيادِ مِنْ أمثالِهم في بلادِنا!
وكانوا يَعْجَبُونَ أَشدَّ العجَبِ، إذ يَرَوْنَ دابَّةً مثلي تُجِيبُ عن إشاراتِهم، وتُبادلُهمُ الحديثَ. ولم أكُنْ أَتوانَى في درْسِ هذه اللغةِ، ولم أُضِعْ شيئًا من وَقْتِي عبثًا. فظَللْتُ أُشيرُ إلى كلِّ ما يكتنِفُنِي منَ الأشياءِ؛ لِأَتعرَّفَ مِن هؤلاءِ السَّادةِ أسماءَها. فإذا حَمْحَمُوا به حَفِظْتُه — من فَوْرِي — وردَّدتُه مراتٍ عدةً. فإِذا خَلَوْتُ إلى نفسي قيَّدْتُه في دَفْتَرِ سِياحاتي؛ حتى لا أَنساه.
وكنتُ أحاولُ إمْكانِي أن أُحاكِيَ الجيادَ في صُهالِها وحَمْحَمَتِها؛ حتى يَمْرُنَ لساني على نُطْقِ ما أَسْمَعُه. وقد وَكَلُوا بي جوادًا أَدْهَمَ — في مُقْتَبَلِ صِباهُ — لِيلازِمَني وَيتعهَّدَني بالحديثِ طولَ الوقتِ. وكان هذا الجوادُ خادِمًا من عامَّةِ خدمِهم، وقد بذلَ جهدَهُ في ترديدِ الكلماتِ التي طلبتُ سماعَها منه، وَلم يُقَصِّرْ في تعليمي وتدريبي على الحَمْحَمَةِ والصَّهِيلِ.
«لو أَردتُ أَن أَتحدَّثَ إلى جوادٍ لخاطبتُه بالألمانية!»
(٢) في خلالِ أَشهرٍ ثلاثة
وكان السيدُ الْجَوادُ يكادُ يلتهِبُ شوقًا إلى مُحاوَرَتِي بلغتِه الصَّاهِلَةِ، ولا يألو جهدًا في تذليلِ كلِّ عقبةٍ تعترضُ هذه الرغبةَ. واشتدَّ شَغَفُه بتعليمي هذه اللغةَ؛ فكان يلازِمُني — في أَوقاتِ فَراغهِ كلِّها — ويُؤْثِرُ أن يتعهدَني بالدرْسِ على أن يُريحَ جسمَه من عناء العملِ.
وكان هذا السيَّدُ لا يَشُكُّ في أَنني إنسانٌ، أي أَنني «ياهو»، وهو اسْمُ الإِنسانِ في لغتِهم. وهم يَعُدُّونَ هذه الدابَّةَ الْآدَمِيَّةَ مِثالَ الانْحطاطِ والتَّرَدِّي. ولكنَّ ما رآه السيدُ من أَدبي، ودَماثَةِ خُلُقي وعِنايتي بالنظافةِ، واسْتِعدادِي للتعلُّمِ، وإقبالي على الدرسِ: قد أَدهَشَه، وحيَّرَ لُبَّه؛ لِأَنه كان مؤمنًا إيمانًا وثيقًا أَن هذه الخِلالَ المحمودةَ تتنافَى مع ما أَلِفُوهُ من طبيعَة الدوابِّ الإِنسانِيَّةِ التي تعيشُ في بلادِهم.
وكانت ثيابي تزِيدُ في ارتباكِه وحَيْرَتِه. ولَطالما راح يُسائلُ نفسَه عن حقيقةِ هذه الثيابِ، وهل هي جزءٌ من أَجزاءِ جسمي؟ أَم هي شيءٌ خارجيٌّ منفصِلٌ عنه؟ وكنتُ إذا أَوَيْتُ إلى فِراشي ليلًا لم أَنزِعِ الثِّيابَ عن جَسَدي، إلَّا في ساعةٍ مُتأَخرةٍ من الليلِ، بعدَ أَن أَستوْثِقَ من نَوْمِ كلِّ مَن في الدارِ.
وكان السيدُ شديدَ الرغبةِ في أن يتعرَّفَ: من أَيِّ البلادِ أَتيتُ؟ وكيف انْفردتُ — من بينِ الناسِ جميعًا — برجاحَةِ الْعقلِ التي تتجلَّى في أَعمالي كلِّها؟
وجُمَّاعُ القولِ أَن السيدَ الجوادَ كان تَوّاقًا إلى سَماعِ تاريخي مُفَصَّلًا، وكان ينتظرُ اليومَ — الذي أُفضِي فيه بهذا البيانِ — بفارغِ الصبرِ، كما كان شديدَ الإعجاب بذكائي وتقدُّمي في درسِ اللغةِ الصَّاهلةِ، يومًا بعدَ يومٍ.
ورأَيتُ أن أَخطوَ خُطْوةً أُخرى؛ فأنشأْتُ من نَبَراتِ هذه اللغةِ حُروفا هِجائيةً، أَثْبَتُّها تحتَ كلِّ كلمةٍ. وكَتبْتُها — ذاتَ يومٍ — أَمامَ السيدِ الْجَوادِ؛ فَلَمَّا رَآها تَحَيَّرَ في تَعْلِيلِها، وسأَلني أن أُفَسِّرَ له ذلك. وقد ارتبكْتُ — حينئذٍ — فَلَمْ أَدْرِ كيف أَقولُ. ولمْ يكُنْ من اليسيرِ عليَّ أن أُفْهِمَهُ شيئًا عنِ الكتابةِ؛ لأن الجيادَ الناطقةَ لا تدرِكُ شيئًا عنِ الكتابةِ والهِجاء وما إلى ذلك.
وَلم يَمُرَّ عليَّ عشَرةُ أَسابيعَ، حتى أَصبحتُ قادرًا على إجابةِ السيدِ عن أكثرِ أَسئلتِه. ولم يَنْقَضِ ثلاثةُ أشهرٍ حتى مَرَنْتُ على فهمِ هذه اللغةِ، والتعبيرِ بها، وأَداء كلِّ ما أَحْتاجُ إليهِ منْ أغراضٍ حَمْحَمَةً وصهيلًا!
(٣) الحِوارُ الصاهل
وكان أَكبرَ ما يعنِيه أن يسأَلني عن مَوْطني — كما أَسلفتُ القولَ — وأَن يتعرفَ بأي مُعجزةٍ خارقةٍ ظفِرْتُ بنعمةِ العقلِ والتَّمييزِ، مع أَنني من بني الإِنسانِ، أَيْ من أَبناء «الْياهُو» — وهو اسْمُ الأَناسيِّ عندَهم — وهُمْ يَعُدُّونَهم أَحَطَّ جِنْسٍ من أَجناسِ الدوابِّ التي يعرِفونَها في تلك الجزيرةِ النائيةِ؛ فإنَّ «الْياهُو» معروفٌ في تلك البلاد بالْغَدْرِ والْخَديعَةِ ولُؤْمِ الطبعِ، مشهورٌ بالتمرُّدِ والعصيانِ، كلما أَمْكَنَتْه الفرصةُ.
وقد صدَقَ السيدُ في حُكْمِه عليَّ بأَنني من جنسِ «الْياهُو»؛ إذْ رآني أُشْبِهُهُ في الْوجهِ والْيَديْنِ، وهذه هِيَ الأَجزاءُ الظاهرة من جسمي.
وقد أَخبرتُ السيدَ: أَنني قادمٌ من بلادٍ نائيةٍ، وأَنني لم أَصِلْ إلى جزيرتِه إلَّا بعدَ أن رَكِبْتُ الْبِحارَ، وتعرَّضتُ لكثيرٍ من المخاوفِ والأَخطارِ، وكان معي جمهرةٌ من أبناء جنسي في سفينةٍ كبيرةٍ من الْخشبِ، بَنَيْناها من جُذوع الشجرِ، لتَمْخُرَ بنا عُبابَ البحرِ. ثم حدَّثتُهُ بما فعله رِفاقي، وكيف غدرُوا بي فقذَفوني إِلى الشاطئِ، وأَسْلَمُوني إلى هذه الْجزيرةِ النائيةِ وَحيدًا.
وقد بذلْتُ جهدًا عظيمًا في إفهامِه كلَّ هذه الْمعاني، تارةً صهيلًا وَحَمْحَمَةً، وتارةً إشاراتٍ وَحركاتٍ حتى أَدركَ ما أَعْنِيه.
فَحَمْحَمَ السيدُ الْجوادُ صاهلًا: «شَدَّ ما خَدَعَتْكَ نفْسُكَ فيما قرَّرتَه؛ فليسَ إلى فهمِ ما تقولُ من سبيلٍ!»
وأُحِبُّ أن يعلَمَ القارئُ أن لُغةَ الجيادِ الناطقةِ ليسَ فيها كلمةٌ واحدةٌ تدلُّ على الكَذِبِ أو التَّزْوِيرِ. ولهذا حَسِبَنِي الْجَوادُ مَخْدُوعًا، ولم يتَّهِمْني بالْكَذِبِ والتلفيقِ؛ لأن هذا المعْنى لا يَجُولُ بخَاطِرِه، ولا تَحْويهِ لُغَتُهُ!
وقد رأَى السيدُ الجوادُ أنَّ منَ المُحالِ أن توجدَ — فيما وَراءَ البحرِ — أرضٌ أُخرى، وأنَّ الدُّنيا كلَّها تنحصرُ في الجزيرةِ التي يعيشُ فيها معَ قوْمِه: سادةً وأَعيانًا، لا تُرَدُّ لَهُمْ كلمةٌ، ولا يُعصَى لَهُم أمرٌ.
ولم يدُرْ بخَلَدِه قَطّ أن من المعقولِ أن تتمكَّنَ جَمهرةٌ حقيرةُ الشأنِ — منَ الدوابِّ الإِنسانيةِ — من بناء سفينةٍ كبيرةٍ منَ الخشب يَمخُرون بها عُبابَ البحرِ، وَفْقَ ما يريدُونَ.
ثم ختمَ حَمْحَمَتَه صاهلًا: «إننا معشرَ الجِيادِ قادرونَ على مثل ذلك، ولكنْ على شَرِيطةِ ألَّا نعهَدَ إِلى أحدٍ منْ دَوَابِّ «الياهُو» أن يُسَيِّرَها. وقد كنتُ أظنُّ أننا وَحدَنا قدِ اسْتَأْثَرْنا بهذه المزَايا الطبيعيةِ، وأن أيَّ أحدٍ منَ الدَّوابِّ — أمثالِكم — لا يَشْرَكُنا في شيءٍ منها.»
فَحَمْحَمْتُ للسيد الجوادِ صاهلًا: «ما زِلْتُ قاصِرًا عنِ التعبيرِ والإِجابةِ عن كلِّ ما يطلُبه سيِّدِي — في دِقَّةٍ وتفصيلٍ — ولكنني آملُ أن أصلَ إلى تحقيقِ هذه الغايةِ في مَدًى قصيرٍ.»
(٤) بعد أشهرٍ خمسة
وقد ألْهبتُ السَّيِّدَ الجوادَ شوقًا إلى سَماعِ قصتي مفصَّلةً وافيةً، في وقتٍ قريبٍ. فأمر زوجتَهُ الفرسَ، وابْنَهُ المُهْرَ، وابْنَتَهُ المُهْرَةَ، وَخَدَمَه جميعًا، ألَّا يترُكوا فرصةً تمرُّ من غيرِ أنْ ينتهزُوها لتعليمي هذه اللغةَ. وكان لا يكتفِي بذلك؛ فخصَّني بساعتيْنِ أو ثلاثٍ — في كلِّ يومٍ — ليتعهَّدَني هو نفسُه بالتعليم.
وكان يحضُرُ إلى المنزِلِ، في أغلبِ الأَحْيانِ، بعضُ الأَفراسِ الكريمةِ، من ذُكورٍ وإناثٍ؛ يَحْفِزُهُم الشَّوْقُ إلى رؤيةِ «الياهُو» العجيبِ، الذي سمعوا من أخبارِه ما أَدهَشَهُمْ، وحيّر ألبابَهم، وهم لا يكادُون يُصدِّقُون ما سمِعُوه، ولا يَتَصَوَّرُون أَن دابةً إنسانيةً مثلي لها — من مَخايِلِ العقلِ ودلائِلِ المعرفةِ — مثلُ ما لهُم!
وكانت وجُوهُهم تنطلِقُ بِشْرًا وابْتهاجًا، كُلَّما أجبتُهم عن سؤالٍ يوجِّهونه إليّ، جَهْدَ ما أستطيعُ. وقد أكسبَتْني هذه المُناقَشاتُ قوةً، في اللغةِ، ومَرانةً عليها؛ فلم تَمْضِ خمسةُ أشهرٍ حتى أصبحتُ قادرًا على فهمِ كلِّ ما يَتفوّهُون به، وكنتُ موفّقًا في الإجابةِ عن أكثرِ أسئلتِهم، فتهافتَ على دارِ السيدِ كثيرٌ من أصحابِه الجِيادِ الراغِبينَ في مُحادَثَتِي وحِوارِي. وقد ساوَرهُمُ الشكُّ في أمري، فلم يصدِّقوا أنني «ياهُو» حقًّا؛ لأن بَشرَتي تختلفُ الاِخْتِلافَ كُلَّهُ عَنْ جُلُودِ تِلْكَ الدَّوابِّ، ولأنني لا أُشْبِهُها فيما عدا الوجهَ واليديْنِ.
(٥) افتضاحُ السِّرِّ
لقد أسلفتُ القولَ: إنني كنتُ لا أنزِعُ ثيابي عن جَسَدِي — كلَّ ليلةٍ — إلَّا بعدَ أن أَستوثِقَ من نومِ كلِّ من في الدارِ، فإِذا تمَّ ذلك غَطّيتُ جسدي بتلك الثياب. وظَللْتُ على ذلك شهورًا عِدّةً، ثم حدث ما لم يكُنْ في الحُسبانِ. فقد بعثَ السيدُ إليّ — في ذاتِ صباحٍ باكرٍ — بخادمهِ الجوادِ الأَشقرِ الصغيرِ. ولما وصل الخادمُ إلى حُجْرَتِي، دخلَها من غيرِ أن أفْطنَ إلى حُضورِه؛ فقد كنتُ مستغرقًا في النومِ، وكانتِ الثيابُ قد سقطتْ عن جسدِي — في أثناءِ النومِ — وكان قَمِيصِي مرفوعًا. فلمَّا اسْتَيْقَظْتُ على أَثَرِ الضَّجَّةِ التي أَحدثَها الجوادُ، بَدَا الاِرْتباكُ والقلقُ على سِيماهُ. ثم عاد إلى سَيِّدِه، فَقَصَّ عليه ما رآه، وهو لا يكاد يُبِينُ لاِخْتِلاطِ الْأَمرِ عليه.
وقد رأَيتُ أَثرَ الحادثِ في نفس السيدِ، حين ذهبتُ إليه لِأُحَيِّيَهُ وأَتَلَقَّى أَوامرَه. فَبَدَأَني بالسؤالِ عمَّا سَمِعَه من خادمهِ، وأَخبرنِي أَن الخادِمَ قد أَدْهَشَه أن يراني في صورتيْن مُخْتَلِفَتَيْنِ أَشدَّ الِاختلافِ، في يَقَظَتِي ومَنامِي؛ لأَنه رأَى أَجزاءً بِيضًا من جسمي، ورأَى أَجزاءً أُخرى سُمْرًا وَقاتِمَةً.
وكنتُ — إلى هذه اللحظةِ — أُخفِي سِرِّي عن السيدِ وغيرِه منَ الجِيادِ؛ حتى لا أُسْلَكَ في زُمْرةِ الأَناسِيِّ الجُبَناءِ المَمْقوتين. ولكني اضطُرِرتُ إلى الإِفضاءِ بحقيقةِ أمري — على الرغْمِ مني — بعدَ أنِ افْتَضَح السرُّ.
وكان من الطبيعيِّ المحتومِ أن تظهرَ الحقيقةُ التي حاوَلْتُ إخفاءَها جُهْدي؛ فقد بدأ البِلَى يَدِبُّ إلى حذائي وثيابي — من طُولِ الاِسْتِعْمالِ — ولم يكُنْ لي بُدٌّ مِنَ الاِستِعاضةِ عنها بأُخرى من جِلْدِ «الياهُو»، أو غيرِه من الدوابِّ. وكان ذلك كلُّه مُؤْذِنًا بافْتضاحِ السرِّ بعد زمنٍ قليلٍ.
وقدِ اضْطُرِرتُ — حينئذٍ — أن أُخبرَ السيدَ أن من عادتي، وعادةِ أبناءِ جنسي — من الآدَمِيِّينَ — أن يُغَطُّوا أجسادَهم بثيابٍ يصنعونها من صُوفِ بعض الدوابِّ، بأسلوبٍ فَنّيٍّ يحذِقُه النُّسَّاجُ عندَنا؛ ليستُرُوا بها أجسادَهم عنِ الْأَنظارِ، ويَتَّقُوا وَطْأَةَ الحَرِّ والبَرْدِ.
فتعاظَمتْه الدهشةُ، واسْتَوْلَتْ عليه الحيرةُ مما سمع؛ لأنه لم يكنْ يظُنُّ أن أحدًا من المخلوقاتِ في حاجةٍ إلى ارتداء إِهابٍ صِناعيٍّ غير إِهابِه (جِلْدِهِ) الطبيعيِّ الذي وهبه الله إِيّاهُ.
وأردتُ أن أُقنِعَه بصِحَّةِ ما أقولُ؛ فرفعتُ شيئًا من ثيابي، وخلعتُ حذائي وجَوْرَبي؛ فدَهِش حينَ رأى بَياضَ صَدْرِي وقَدَمِي، وأمسك ثيابي بسُنْبُكِه، وظَلَّ يُنْعِمُ النظرَ ويُمْعِنُ الفكرَ فيما يراه، ثم يَلْمسُ جسدي، ويدورُ حولي — حينًا فَحِينًا — وهو لا يكادُ يصدِّقُ بصرَه فيما يُخبرُه به، وبعدَ افتكارٍ طويلٍ، الْتَفَتَ إِليّ السيِّدُ، وحَمْحَمَ صاهلًا في احْترامٍ وأدبٍ وإعجابٍ: «لستُ أشُكُّ في أنك «ياهُو»؛ لأنني لا أرى فَرْقًا جَوْهرِيًّا بينَك وبينَه؛ فالْجِسْمانِ مُتَماثِلانِ، والوجهُ والقَدَمانِ لا تختلفُ عنه إلَّا اخْتلافًا يسيرًا، فإنَّ الشعرَ كثيفٌ مُرْسَلٌ على جَسَدِ «الياهُو»، ولا كذلك جَسدُكَ، لأن أَغْلَبَه لا يُغطِّيه الشعرُ. وأسنانُك قصيرةٌ جدًّا، على الْعَكسِ مِنْ أَنْيابِ «الْياهُو» الطويلةِ. وأَنتَ تمشِي على قدمَيْنِ اثْنَتَيْنِ، على حينِ يمشِي «الياهُو» على أَرْبَعٍ.»
ورآني السَّيِّدُ — حينئِذٍ — أَرتَجِفُ منَ الْبَرْدِ؛ فرثَى لِحالِي، وأَمرني أَن أَرتديَ ثيابي، حتى لا يُصيبَني سُوءٌ.
فشكرتُ له عطفَه عليَّ، وبِرَّه بي، ثم ضَرَعْتُ إليه متوسِّلًا أَن يُعْفِيَني من إطلاقِ اسْمِ «الياهُو» عليّ، وأَظهرتُ له تَقَزُّزي وارْتِياعِي وسُخْطِي على هذه الدوابِّ الخبيثةِ، التي تتجلَّى فيها الفَظاظةُ والغِلْظَةُ واللُّؤْمُ، وأَقسمتُ عليه أَن يكُفَّ عن هذه التسميةِ المُفَزِّعةِ، وأَن يأمرَ أُسْرتَه وخدمَه وأَصدقاءَه أَن يُعفُوني من سَماعِ هذا الاِسْمِ البغيضِ المَمْقوتِ. ثم خَتَمتُ رجائي برجاءٍ آخرَ، هو أَن يحتفِظَ بسِرِّي هذا، فلا يُفْضِي إلى أَحدٍ من السَّادةِ الجِيادِ وخَدَمِهم بما عَرَفه عن ثيابي وحقيقةِ أَمري، في ذلك اليوم. واسْتَحْلفتُه أَن يأمرَ خادمَه الصغيرَ بِكتْمانِ السرِّ عن أَيِّ كائنٍ كان.
فتفضل السيدُ الجوادُ بقَبولِ هذا الرَّجاءِ كُلِّهِ، وتلطّف معي، فَوَعَدنِي — في وَداعةٍ وأَدبٍ — أَن يَظَلَّ سِرِّي مَكْتُومًا كما طلبتُ.
وما زال سِرِّي مَحْجوبًا حتى خَلُقَتْ ثيابي، وأصبحتْ أَسْمَالًا باليةً؛ فاسْتبدَلْتُ بها ثيابًا أُخرى، سأُحدِّثُ القارئَ عنها فيما بعدُ.
(٦) سَفِينَةُ «جلفر»
وقد شاقَ السيدَ الجوادَ مني هذا الحديثُ الطريفُ؛ فنصحَ لي بالمُثابرةِ والجِدِّ في دَرْسِ لغتِه الصَّاهلةِ. وأَنساه ما رآه من أصالةِ رأْيي، وَرَجاحةِ فِكْرِي: اشمئزازَهُ من بياضِ بَشَرتي، وعُرْيِها منَ الشَّعرِ الذي يُجَلِّلُ أجسامَ الْجِيادِ. وقدِ اشْتدّتْ رغبتُه في أن أُجيبَ عنْ أسئلتِه الْأُخرى، التي يَعْنِيه أن يقِفَ على الحقيقةِ فيها؛ فوعدتُه بالتبسُّطِ معه في الحديثِ والشرحِ فيما بعدُ.
وظللْتُ أُضاعفُ الجُهدَ في مواصلةِ الْحِفْظِ والدَّرسِ، وصارَ يصحَبُني معه في غُدُوِّهِ وَرَواجِه، ويُعرِّفُني بأصحابِه ورِفاقِه، ويعاملُني مُعاملَة الصديقِ، ويحترمُني، ولا يَأْلُو جهدًا في رِعايتِي وإكرامِ وِفادتي، حتى يُسَرِّيَ عني، ويُؤْنِسَني من وَحْشَتِي، ويُزيلَ هَمِّي.
وكان يُكثِرُ من سُؤالي عما يَعِنُّ له من الْمسائلِ التي تَشْغَلُ بالَه، وأَنا أُجيبهُ، على قَدْرِ ما أستطيعُ. وكان يفهمُ أكثرَ حدِيثي فهمًا ناقصًا، وأَنا أَعِدُهُ بِمُواصلةِ الشَّرحِ في القريبِ العاجلِ؛ حتى أسْعَفَتْني اللغةُ، وأَمْكنني الدَّرسُ من الْإِفْضاءِ إليه بالحقائقِ التاليةِ: «جئتُ من بلادٍ بعيدةٍ جدًّا، وكان معي في رِحلتي خمسُونَ رجلًا — من أبناءِ جنسي — في سفينةٍ بَنَيْناها من الْخَشبِ، واجْتَزْنا بها ذلك الْبحرَ الواسعَ الْعظيمَ.»
ثم صوَّرتُ له السفينةَ — جُهْدَ طاقَتِي — ونشرتُ أمامَه مِنديلي؛ لأُمثِّلَ له صُورةَ الشِّراعِ، وأُصَوِّرَ لهُ كيف تَدْفعُه الريحُ، فَيُزْجِي السفينةَ.
ثم شرحتُ له كيف ائْتَمَر أصْحابي — في السفينةِ — بي، وكيفَ انْتَهَتْ مُؤامرتُهم بإِلْقائي إِلى شاطئِ هذه البلادِ، حتى لقيَتْني شِرْذِمَةٌ شِرِّيرةٌ من «الْياهُو»، وكيف هَمُّوا أن يَبْطُشُوا بي، لوْلا مقدَمُ السيد النبيلِ
فسألني مُتعجِّبًا: «ومَنِ الذي بَنى السفينةَ؟ وكيف سَمَحَ السادةُ الْجِيادُ — في بلادِكم — أن يُسْلِموا قِيادتَها إلى تلكَ الدَّوَابِّ الإِنسانيةِ الشرِّيرةِ؟»
فَحَمْحَمْتُ صاهلًا: «ليس في قدرتي أن أُكاشِفَكَ بالْحَقيقةِ، إلَّا إذا أقسمتَ لي بِشَرَفِك أَلَّا تألَمَ لما أُخبِرُك به، فإِني أخشَى أن يَتملَّكَ نفسَك الغضبُ إِذا أَفْضَيْتُ إِليك بالصحيحِ، فإِذا عاهَدْتَني على ذلك لم أتردَّدْ في إخبارِك بكلِّ ما وَعدْتُكَ به منَ الحقائق.»
فحمحمَ السيدُ الجوادُ صاهلًا: «كُنْ على ثقةٍ أنني لن أَغضَبَ من شيءٍ، ولا يُخامِرْك في عَهْدِي أيُّ شكٍّ؛ فإِنني لا أَتوخَّى غيرَ الْمَعْرِفَةِ. فحَدِّثني بكلِّ ما تعلَمُ.»
فقلتُ له: «الآن اطْمَأْننتُ إلى وَعدِك الكريم، فاعْلَمْ — يا سَيدي — أن الذين بَنَوْا تلكَ السفينةَ إنما هم أَناسِيُّ مثلِي، وأن هؤلاءِ الأناسِيَّ — في بلادِ الْعالمِ قاطِبةً — هُم السادةُ العقلاءُ الذين يُهَيْمِنُون على جميع المخلوقاتِ، ويُسَخِّرون الدوابَّ كلَّها لِخِدْمتِهم، وأن الحيرةَ قد اسْتَوْلَتْ عليّ حين رأَيتُ — أولَ مرةٍ في حياتي — جيادًا عاقلةً متكلمةً. ولم تكُنْ دَهْشَتي من ذلك بأقلَّ من دهشتِك ودهشةِ أصحابِك من رؤيةِ دابَّةٍ مثْلي من دوابِّ «الياهُو» — في بلادِكم — تنِطقُ وتُبيِنُ عن أَغراضِها. واعْلَمْ — يا سَيِّدي — أن الناسَ في بلادي لن يصدِّقُوا ما أقصُّه عليهم من أنبائِكم؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يَتَصَوَّروا أن جِيادًا تَعْقِلُ وتتكلمُ. وسيتَّهِمُني الناسُ بأنني أَرْوِي لهم قصةً خياليةً لا أصلَ لها، ولن يصدِّقَ أحدٌ مِنْهُمْ أنَّ منَ الجيادِ ما يعقِلُ ويفكرُ ويتكلمُ، ويُتوَّجُ سَيِّدًا على بلدٍ، ويُهَيْمِنُ على غيرِه من الدوابِّ؛ لأَنهم لا يتصوَّرُون الجوادَ إلا دابةً منَ الدوابِّ التي لا تعقِلُ ولا تنطِقُ.»