بعد الصيف
ربوة تَلقَى حين ترقى إليها جهدًا عظيمًا؛ لأنها لم ترتفع في الجو رويدًا رويدًا، ولم تدبر صعودها فيه تدبيرًا، وإنما وثبت إليه وثوبًا مفاجئًا، فقامت أمامك كما يقوم الجدار، فأنت لا تصَّعَّد فيها تصعيدًا هينًا لينًا، وإنما تصَّعَّد تصعيدًا شاقًّا عسيرًا، فإذا انتهيت إلى قمتها وجدت الأرض قد انبسطت لك واستوت، فليس فيها عوج ولا التواء، وأحسست كأنك ارتفعت فوق هذه الحياة المضطربة المختلة التي يجري نهرها في القرية تحت قدميك، يملؤها الكدر والغثاء، وأحسست كأن الشركة بينك وبين هذه الأحياء التي يزدحم بها النهر قد انقطعت، وكأنك من جوهر مُصفَّى لا يشارك هذه الجواهر الكَدِرة في شيء، ثم أحسست كأن ضغط الهواء قد خف وكأن في نفسك وجسمك ميلًا شديدًا إلى الارتفاع والعلو، وكأنك تريد — لو خُلِّي بينك وبين ما تريد — أن تطير في الجو، وتعيش مع هذه الأحياء الأخرى التي تتخذ الهواء ميدانًا لما تأتي من حركة وما تنفق من حياة.
ثم تنظر فإذا صدق لا ترف فيه ولا تأنق، قد قام في ناحية من هذه الربوة، يدعوك إلى الراحة والحياة المطمئنة، حين تود لو تظفر بالراحة والحياة المطمئنة، بعد أن تشارك هذه الطبيعة القوية فيما هي فيه من حياة ونشاط، وقد انبسطت أمام هذا الفندق مروج لا تكاد تنتهي، وقامت في هذه المروج هنا وهناك أشجار تنفرد حينًا وتجتمع حينًا آخر، وتختلف فيما بينها اختلافًا غير قليل؛ فمنها ما يثمر للإنسان ألوان الفاكهة، ومنها ما يمنحه الظل والجمال. وقد انتشرت في الجو المرتفع لهذه المروج ضروب من الطير مختلفة الأصوات والنغم، متباينة الألوان والأحجام، ولكنها تشترك كلها في الغناء والنشاط، وانتشرت في الجو المنخفض لهذه المروج ضروب من الحشرات الصغار الدقاق، تريد أن ترتفع فلا تواتيها القوة، فتظل قريبة من هذه الأرض الخضراء، واستخفَتْ بين هذه الأعشاب الكثيفة الصفيقة حشرات أخرى مختلفة متباينة لا تكاد تُرى ولا تكاد تُحَسُّ، لولا أنها تستلذ الحياة في هذه المخابئ الوثيرة، وتستلذ ما يصل إليها من هذا النسيم الخفيف الأرج، وتستلذ حياتها الضئيلة اليسيرة كلها، فتندفع إلى غناء مختلف مؤتلف، ولكنه متصل على كل حال، وقد نجمت من بين هذه الأعشاب الكثيفة الصفيقة، وحول هذه الأشجار القائمة الشاهقة في الجو، نجوم تحمل ألوانًا مختلفة من الزهر، وتنشر ضروبًا متباينة من الورق النضر، ثم غمر هذا كله عَرْفٌ لذيذ حلو حاد يبعث في الأنف لذة وفي النفس نشوة، وفي الجسم قوة ونشاطًا، واستزادة من الحياة.
وهذا كله يختلف من حين إلى حين، حين تبسم له الشمس، فتلقي عليه أشعتها الحارة الهادئة، وحين تعرض عنه الشمس، فتنشر بينها وبينه سحابًا رقيقًا، وحين تغضب منه الشمس، فتحتجب عنه احتجابًا، وتنشر بينها وبينه سحبًا كثافًا، وحين تسخط عليه الشمس، فتقطع ما بينها وبينه من صلات المودة والحب، وتخلي بينه وبين هذه السحب الكثاف، فإذا هي تصب عليه الماء صبًّا، أو تحصبه بالبرد حصبًا، وأنت تشهد هذا كله مستمتعًا به منغمسًا فيه حين ترضى الشمس، ومتحفظًا حين تسخط، ومترددًا بين هذا وذاك حين تعرض إعراضًا يسيرًا أو عسيرًا، فأنت تحيا في المرج حينًا منقطعًا له، ممتزجًا به، أو منصرفًا عنه بعض الانصراف إلى حديث عذب، أو كتاب ممتع، وأنت تهيم في المرج حينًا آخر صارفًا نفسك مرة إلى السماء من فوقك، ومرة إلى هذه الأرض الخضراء تحت قدميك، ومرة إلى ما بينهما من الشجر والزهر، تمتع بهذا كله نفسك وحسك وقلبك وعقلك، وتستمتع بهذا كله استمتاع الرجل الذي قد استكمل الحياة، فلم يجد فيها نقصًا ولا ضعفًا، حتى إذا أدركك المساء وتقدم بك الليل وعرفت أن هذه المروج لن تحسن ضيافتك ولا مؤانستك، وأن هذه القرية التي تضطرب في الحضيض بما يملؤها من سخف الحياة وباطلها لن تقدم إليك ما تقدمه إليك المدن من هذا اللهو الراقي الممتاز الذي هيَّأتْهُ الحضارة للمتحضرين؛ آويت إلى غرفتك وسمرت فيها مع كتاب ممتع من هذه الكتب، التي يحول العمل بينك وبينها أثناء العام، ولا تستطيع أن تفرغ لها إلا في الصيف، وما تزال في ذلك حتى تحس الحاجة إلى النوم، فتأوي إلى مضجعك وتستسلم فيه لراحة هادئة حلوة مطمئنة، حتى يوقظك غناء الطير، فتستأنف الحياة كما بدأتها أمس، وكما ستستأنفها غدًا وبعد غد، حتى تدعوك ضرورة الحياة إلى أن تهبط من هذه الربوة وتخرج من هذه العزلة وتنغمس في هذا النهر الكدر الذي نسميه حياتنا اليومية.
على هذا النحو قضيت الصيف بعد أن أنفقت في مصر أعوامًا لم أذق فيها للراحة طعمًا، ولم أعرف فيها للهدوء والطمأنينة ذوقًا، وكم كنت قد دبرت من خطة، وهيأت من عمل لهذا الصيف، وقد كنت أحدث نفسي بأني سأستريح بعد جهد وجد، وسأخلص من هذه المشاغل السخيفة التي تملأ الحياة في مصر، وسأوفق بين راحة الجسم ونشاط العقل، وبين التروض والإنتاج، فأكتب الرسائل وأفرغ للدرس، وقد أُتِمُّ كتابًا ما زال ينتظر أن يتم، وقد أعود إلى مصر وقد أخذت من القوة أعظم حظ ممكن، وجنيت من هذه المروج والرياض زهرات أنسقها تنسيقًا، ثم أقدمها إلى الناس في كتاب أو كتب.
نعم، وكم فكرت فيما يمكن أن أكتب، وكم فكرت فيما يمكن أن أدرس، ولكني أعود إلى القاهرة بعد هذه الرحلة الطويلة، بعد هذه الأشهر الثلاثة التي أنفقتها على تلك الربوة، وفي تلك المروج، أو على ربوة ومروج تشبهها من قريب أو بعيد، أعود ولم أكتب فصلًا، ولم أتم كتابًا كان ينتظر أن يتم، ولم أبدأ كتابًا كنت أحب أن آخذ فيه.
أعود فارغ اليدين كما سافرت فارغ اليدين، والغريب أني لا أحس حزنًا ولا ألمًا ولا أسفًا، ولا ألوم نفسي على شيء، ولا أكره ما قد يتحدث به إليَّ الشيطان من أني قد أضعت الوقت في هذه الأشهر الطوال.
ذلك أن إضاعة الوقت شيء إضافي يختلف باختلاف الظروف وباختلاف التقدير، فلعلي أضعت الوقت بالقياس إلى الصحف التي كانت تريدني على أن أكتب لها الرسائل، وبالقياس إلى الناشرين الذين كانوا يريدونني على أن أتم لهم كتابًا، أو أبدأ لهم كتابًا، وبالقياس إلى بعض القراء القليلين الذين كانوا يحبون أن يقرَءُوني من حين إلى حين.
لعلي قد أضعت الوقت بالقياس إلى هؤلاء، ولكني واثق بأني لم أُضِع الوقت بالقياس إلى نفسي، فقد حييت في هذه الأشهر الحياة التي أرضاها: حياة الراحة النقية والقراءة الخصبة المتصلة المختلفة، ولو أني خُيِّرتُ لما عدلت بهذه الحياة حياة أخرى، مهما تكن ظروفها، ومهما تكن ألوان الإغراء بها والترغيب فيها، بل من يدري؟ لعلي لم أضع الوقت على هؤلاء، فقد أنفقت أربعة أعوام لا تكاد تنقطع فيها كتابتي إلى الصحف وأحاديثي إلى القرَّاء، فمن يدري؟ لعل الصحف كانت في حاجة إلى أن أريحها، ولعل القراء كانوا في حاجة إلى أن أرفِّه عليهم، فقد يكون من حق الكاتب نفسه أن يستريح، ولكن من حق الكاتب على نفسه أن يريح أيضًا، وقد أرحت القراء وأرحت نفسي أشهرًا من هذه الثرثرة المتصلة الفارغة، ولكن الصيف قد انقضى مع الأسف الشديد وعدت إلى مصر مع العائدين، واستأنفت العمل مع المستأنفين، ولا بد من استئناف الكتابة والحديث فيما أستأنف من الأعمال.
ولست أدري أيستقبل القراء كتابتي وأحاديثي باسمين راضين، أم مبتسمين ساخرين، أم عابسين ساخطين؟ أما أنا فأعلم حق العلم أني لا أستقبل الكتابة باسمًا ولا راضيًا، وأني قد أكتب ساخرًا من نفسي ومما أكتب، وقد أكتب خطًّا على نفسي وعلى ما أكتب، ولو خُيِّرتُ لما اخترت كتابة ولا حديثًا، ولكن من للكاتب بهذه الحياة التي لا يكتب فيها، فهو مدفوع إلى الكتابة بطبعه، فإن أدركه الملل أو التقصير أو القصور، دفعه الذين يريدون الكتابة إلى أن يكتب، دفعه أصحاب الصحف الذين يريدون أن يملئُوا صحفهم، والناشرون الذين يريدون أن يملئُوا مكاتبهم، والقراء الذين يريدون أن يملئُوا أوقات الفراغ، وما أكثر أوقات الفراغ في مصر! وما أطولها على المصريين!
وقد تسألني لمَ أكره الكتابة أو أضيق بها؟ ولمَ أزهد في الحديث أو أنفر منه؟ فانظر حولك تجد الجواب؛ فليس مما يُرضِي ولا مما يلذ أن تكتب فإذا أنت مضطر إلى النقد المتصل واللوم المستمر، وأن تتحدث فإذا أنت مكره على أن تسجل في حديثك ما يحزنك أو يسوء، فقد يجد الإنسان في النقد لذة أحيانًا، ولكن النقد إذا اتصل ثقل على الناقدين أنفسهم، فكيف إذا لم يجد منه الكاتب بدًّا، ولم يجد عنه منصرفًا؟! ولست أدري في حقيقة الأمر كيف يستطيع الكاتب الأمين أن يكتب فيرضى ويرضي القراء، وكيف يستطيع المتحدث النزيه أن يتحدث فيرضى ويرضي المستمعين له، وليس في مصر ما يرضي أحدًا، وليس بين المصريين من يرضى عن شيء، وإنما كل شيء في مصر يُحزِن ويسوء، وكل إنسان من المصريين ساخط محزون.
ما أعظم الفرق بين تلك الرُّبى الباسمة المشرقة التي قضيت فيها الصيف، وبين هذه الوهاد العابسة المظلمة التي أستقبل فيها الشتاء! ومع ذلك فما زالت سماء مصر مشرقة ونجومها متألقة، وما زال جوها صحوًا وماؤها صفوًا، وما زال النيل يشق طريقه فيها، يحمل إليها الخصب والأمن والدعة والخلود، ولكن اعتدال الطبيعة وحدها ليس يكفي فيما يظهر لاستقامة الأمور، واعتدال الحياة، وإنما يجب مع ذلك أن تعتدل أمزجة الناس وتستقيم أخلاقهم، وما أبعد الأمل بيننا وبين اعتدال الأمزجة واستقامة الأخلاق! فإلى أن يتم الوفاق بين الطبيعة المصرية والشعب المصري، وإلى أن يعتدل الناس كما اعتدلت الطبيعة، لا بد للمصري المستنير الذي يحسن الحس والشعور والتقدير من أن يألم ويحتمل المكروه ويستقبل الصبح إذا أصبح والليل إذا جنَّ بكذب الأماني وخيبة الآمال، وهو قد يعلن ألمه هذا من حين إلى حين فيكون ناقدًا، ولكنه إذا أعلن ألمه هذا إعلانًا متصلًا كان شاكيًا، وقليل من الناس يحب أن يشكو، وقليل منهم يحب أن يسمع الشكاة.
لا تستكثر إذن على الكاتب المصري أن ينفق الصيف من حين إلى حين على ربوة باسمة، وأن ينصرف عن النقد والشكوى إلى الامتزاج بالطبيعة وتنقية نفسه من أوضار الحياة.