في الثقافة
تحية صادقة وشكر خالص يا آنسة بعد أن قرأت كتابك الممتع الظريف الذي تفضَّلتِ به على «الوادي» وعلى «الرسالة» وعليَّ أيضًا.
أما بعد فإني أستأذنكِ في سؤال أحب أن أرفعه إليكِ، وأود لو تتفضلين بالرد عليه: ما بالك تؤثرين المبالغة وتحبين الإسراف ولا تقنعين بالحقائق الواقعة ولا تكتفين بأن تسمي الناس بأسمائهم؟ من الذي زعم لك أن اسمي أبو العلاء، أو من الذي زعم لك أن بيني وبين هذا الرجل العظيم الفذ في حياتنا الأدبية الطويلة شبهًا قريبًا أو بعيدًا؟ أظنك لا تقفين عند ما بين أبي العلاء وبيني من الشبه الطبيعي الذي ضاق به الفيلسوف العظيم والذي قلما أقف عنده أو أفكر فيه، فهو حظ مشترك بين كثير من الناس في جميع العصور والبيئات يشقى به بعضهم ولا يكاد يكترث له بعضهم الآخر، وهو على كل حال أظهر وأيسر وأدنى إلى الابتذال من أن يقف عنده الأدباء والمفكرون، وإذن فما إسرافك وإغراقك وتسميتك إياي بهذا الاسم الذي ليس مني ولست منه في شيء؟ لقد أحب أن أشكر للذين يحسنون إليَّ إحسانهم، وأقدِّر للذين يثنون عليَّ ثناءهم، ولكني أحب أن يكون هذا الإحسان في موضعه وأن يكون هذا الثناء ملائمًا لمن يساق إليه، فهل تأذنين لي في أن أكون ثقيلًا فظًّا وغليظ الطبع خشنًا كما تعودت أن أكون دائمًا حتى حين أتحدث إليك فلا أشكر لك هذه التسمية ولا أقبلها منك، وإنما أردها إليك مع تحية مِلْؤها الإكبار والإعجاب والاحترام؟
وشيء آخر أنا مضطر إلى أن أبرئ ذمتي منه قبل أن أدخل في هذه الخصومة التي أثرتها بيننا — أيتها القاسية الجائرة — في غير ما يدعو إلى خصومة أو حوار إلا حب الشر والرغبة في إيثار الحفيظة والموجدة، وفي أن يتحدث الناس بأننا نختصم أشد الخصام، وهو أني فهمت عتبك الظريف عليَّ فيما كتبته عن محاضرتك الجميلة الرائعة التي ألقيتِهَا في الجامعة الأمريكية منذ شهور، وما كنت أحسب أن ذاكرتك على قوتها تستطيع أن تحفظ السوء وأن تذكر الموجدة، وما كنت أحسب أن لك من القسوة هذا الحظ العنيف الذي يمنعك من أن تغفري لمن اعتذر وتشملي بالعفو من ابتغى عندك العفو، وأظنك تذكرين أني اعتذرت إليك واستغفرت من هذا الذنب في آخر ذلك المقال الذي تناولت به محاضرتك القيِّمة، وكنت أُقدِّر أن الاستغفار والاعتذار سيمحوان ذلك الذنب من نفسك الكريمة محوًا، فإذا هما لم يصنعا شيئًا، وإذا أنت واجدة عليَّ وناقمة مني، أفينبغي إذن أن أصدق ما يقال من أن النساء يسرع إليهن نسيان الخير ويبطئ عنهن نسيان الشر؟
لا تغضبي يا سيدتي الآنسة فهذا كلام يقوله الرجال الذين لم تهذبهم الحضارة تهذيبًا صحيحًا، وكنت أرفضه أشد الفرض وأنأى عنه كل النأي، ولكني لاحظت أنك لم تنسَي لي هذا الذنب على كثرة ما اعتذرت منه كتابةً وكلامًا كلما التقينا، ولاحظت ما أنبأتني به الطير من أنك كتبت مقالًا شديدًا صارمًا تردين به عليَّ ذلك المقال، ثم أدركك الإشفاق وأدركتني رحمة الله، فإذا أنت تمسكين المقال ولا تذيعينه، فما بالك تمنحين بعض العفو وتمنعين بعضه الآخر؟ أليس الخير في أن تمنحيه كله أو تمنعيه كله؟ أما أنا فلست أخفي عليك أني أكره أن أراك واجدة عليَّ، ولكني لا أكره أن أراك مغضبة ثائرة تكتبين المقال الثائر الحار وترسلينه على صواعق محرقة، فإن هذه النار تعجبني وتروقني وتجد فيها نفسي أمنًا وسلامًا. أتذكرين أني ألححت عليك في نشر المقال فأبيتِ، وأني ألححت عليك في إظهاري على هذا المقال فأبيتِ، وإذن فما ذكرك لهذه القصة وما إشارتك إليها إلا أن تكوني محبة للشر حريصة على أن تُذكِّريني بأن بينك وبيني ثارات، وتنبهيني — وإن لم أكن في حاجة إلى التنبيه — إلى أن نار غضبك لم تخمد بعدُ، وإلى أنها قادرة على أن تبلغني من حين إلى حين! هلم يا سيدتي الآنسة، أرسلي إلي أو أرسلي عليَّ هذه النار فإني لها منتظر وإليها مشوق، هل ترين كتابك كله إلا ظلمًا وجورًا وخلافًا في غير ما يدعو إلى خلاف، وتجنيًا في غير ما يدعو إلى التجني؟ ولكن لا تطمعي في أن يغضبني ظلمك أو يحفظني جورك أو يمضَّني تجنيك، فلست بمتحضر ولا بمثقف إن لقيت ظلمك وجورك وتجنيك بغير الشكر الصادق والتحية الخالصة والإعجاب العظيم.
لم أظلمك يا سيدتي الآنسة حين تناولت محاضرتك القيِّمة بشيء من النقد، وإنما أردت أن أنصفك وأن أؤيدك، وأن أبين لك كيف يفهم الرجال بمنطقهم الغليظ وعقولهم الجافة وقلوبهم الجافية هذه الخواطر الرقيقة العذبة، وهذه المعاني السامية الممتازة التي تخطر للنساء وتضطرب في نفوسهن العالية، فلا يقدرونها حق قدرها ولا يسيغونها كما ينبغي أن تساغ، وإنما يحرفونها تحريفًا ويشوِّهونها تشويهًا، ثم يجادلون فيها جدالًا لا غناء فيه لأنهم أضعف وأغلظ وأجفى من أن يفهموا أو يقدروا مثل هذه الخواطر والمعاني على وجهها، فماذا تنكرين عليَّ وماذا تنقمين مني وأنا أعلن إليك أني مؤمن بكل ما تقولين، مصدق لكل ما تقررين إلا حين أحكم فيه هذا العقل الغليظ الجافي الذي لا ينبغي أن يحكم فيما يصدر عنكن أيتها السيدات؟ ولم أظلم «الرسالة» يا سيدتي الآنسة لا عامدًا ولا مخطئًا حين ذكرت عنايتها بموضوع الإلياذة والأودسا وتفصيلها لأوليات التمثيل والقصص التمثيلية لأني لم أنكر على «الرسالة» شيئًا، وإنما أنكرت أن تكون هذه الحالة هي حال الثقافة عندنا، أنكرت أن يضطر كاتب أديب كصديقنا الزيات ومجلة ممتازة كصديقتنا الرسالة إلى الحديث في مثل هذه الأشياء التي انقضى زمن الحديث فيها عند المثقفين، والتي يتعلمها الصبية والفتيان في المدارس والبيوت لا في المجلات الأدبية العليا، وما ذنب الزيات وما ذنب «الرسالة» إذا كان الناس يجهلون الإلياذة والأودسا أو يجهلون من شئون التمثيل والقصص التمثيلي ما لا ينبغي لهم أن يجهلوا؟ وأظنك لا تكرهين أن تعيريني شيئًا من قوَّتك الأدبية الجبارة كما يقول الناس في هذه الأيام لأرتفع بها عن الحياة اليومية، ولأسمو بها إلى المثل الأعلى، ولأنظر بها ساخطًا إلى هذه الحياة الأدبية التي نحياها والتي لا تكاد تمتاز إلا بالغلو في التواضع والغرور معًا، وفي الحركة العنيفة والخمود الذي لا يجدي.
وأنت تعلمين حق العلم أن الأديب الذي يستحق هذا الاسم والرجل الذي يستمتع بشيء من حياة لا يستطيع أن يرضى ولا أن يطمئن لأن الرضا آية الخمود ولأن الاطمئنان آية القصور، إنما حياة الرجل المثقف طموح كلها وسمو كلها، وسخط على ما يحيط به، واندفاع إلى ما لم يبلغ بعد، فلا تسرفي يا سيدتي الآنسة في الغضب عليَّ والتنكر لي إن رأيتني أضيق بما نحن فيه ولا أطمئن إلى ما انتهينا إليه، ولا تلتمسي المعاذير لكتَّابنا وقرَّائنا وأصحاب الثقافة فينا من هذا الفتور الذي يغرقهم إلى أذقانهم أو إلى آذانهم، فهم ليسوا في حاجة إلى أن تلتمس لهم المعاذير، وهم خليقون إذا رأوا من مثلك هذا التشجيع وهذا الاعتذار أن يزدادوا إعجابًا بأنفسهم ورضا عن خمودهم واطمئنانًا إلى ما هم فيه من فتور وقصور. إن الذين يعنون بإحياء الأدب ونشر الثقافة وبعث الهمم إلى الحياة التي يملؤها النشاط الخصب لا ينبغي لهم أن يكسلوا ولا أن يرضوا عن الكسل، ولا أن يغروا به، ولا أن يقنعوا ولا أن يرضوا القناعة من غيرهم في الأدب والعلم والفن، وإنما الحق عليهم أن ينشطوا دائمًا وأن يدفعوا الناس إلى النشاط دائمًا وأن يقنعوا الناس بأنهم مهما يجدُّوا ويكدوا وينشطوا فهم دون ما ينبغي لهم من الجد والكد والنشاط.
إني أكره يا سيدتي الآنسة لأدبائنا أن يطيلوا النظر في المرآة، وأحب ألا ينظروا إلى أنفسهم إلا قليلًا جدًّا، كما أكره للأدباء أن ينظروا إلى وراء إلا أن يلتمسوا ثروة من حياتنا القديمة الخصبة، فأما أن ينظروا إلى وراء ليعجبوا بما قطعوا من الآماد فإني أخاف أن يغرهم ذلك ويدفعهم إلى العجب والتيه على حين ما تزال الآماد بعيدة أمامهم وما يزال الوقت الذي يملكون أقصر جدًّا من أن يبلغهم الغاية، وينتهي بهم إلى المثل الأعلى.
تذكرين هذه المجلة الفرنسية التي أرادت أن تتبين عدد المحسنات للعَرُوض من قارئاتها فلم تجد إلا خمسًا في كل مائة؟ فاطلبي يا سيدتي الآنسة إلى «الرسالة» أن تحصي المحسنين والمحسنات للعَروض العربي من قرائها وقارئاتها، فإن ظفرت بأكثر من خمسة في كل مائة، فأنا ظالم كل الظلم، وأنت منصفة كل الإنصاف، ولن تستطيعي أن تقولي إن العَرُوض العربي فن حديث أو ثقافة جديدة عبرت إلينا البحر، إنما هو فن عربي خالص قديم، ومع ذلك فالمثقفون منا يجهلونه، وأدباؤنا يجهلونه، وشعراؤنا يجهلونه لا أكاد أستثني منهم إلا نفرًا يحصَون، وإنك لتنظرين في دواوين الشعراء فيؤذيك ما ترين من جهل كثير منهم أصول العروض وقواعد القافية، واندفاعهم إلى خلط في ذلك يؤذي السمع والذوق معًا، وأظنك ترين معي أن كبار الشعراء لم يكبروا بابتكارهم للمعاني وإتقانهم للأساليب وحسن اختيارهم للَّفظ فحسب، وإنما كبروا أيضًا بتصرفهم في الأوزان وابتكارهم لفنون الموسيقى، وقلما يوجد شاعر فذ إلا كان له عروضه الذي لم يسبق إليه؛ ذلك لأن الشعراء المجيدين لا يلتمسون الشعر على أنه وحي يهبط عليهم من السماء، وإنما يلتمسونه على أنه فن له ثقافته، وله أدواته، ثم له بعد استكمال الثقافة والأدوات نصيبه من إلهام الطبيعة الخصبة والنفس الغنية والقلب الفياض.
وتنكرين يا سيدتي الآنسة أن تُلتَمس الثقافة عند التعليم المنظم، فَأْذني لي في أن ألاحظ أن إنكارك هذا غريب؛ فالتعليم المنظم هو الذي يسيطر على تهيئة العقل لفهم الحياة والتأثر بها والاستزادة من هذا التأثر وذلك الفهم، فإذا فسد هذا التعليم وجف وأصبح صورًا وصيغًا تتحدث إلى الذاكرة لا إلى العقل ولا إلى القلب، لم يُثِر نشاطًا ولم يرغِّب في ثقافة ولم يدعُ إلى استزادة من علم وفهم واستقصاء. وأنت تستطيعين أن تلاحظي ما بين الصبية الذين يختلفون إلى المدارس المصرية الخالصة والذين يختلفون إلى بعض المدارس الأجنبية في مصر، كلهم يتلقى تعليمًا منظمًا قد رسمت برنامجه دولة من الدول ووزارة من وزارات المعارف، ولكن بعضهم يحفظ ما يتلقى من هذا التعليم لا يزيد عليه ولا يستبقيه إلا ريثما ينساه، وبعضهم لا يكفيه ما يتلقى وإنما يدفعه إلى الاستزادة، فإذا هو يقرأ ويبحث ويحاول الاستكشاف، وإذا هو يثقف نفسه تثقيفًا لا يظفر به الشباب الجامعيون عندنا.
لا تظني أني أغلو أو أسرف، فقد تركت لك الغلو والإسراف، إنما أنا أصور لك حقائق أشهدها كل يوم، وأستطيع أن أدلك عليها متى أحببت، وأستطيع أن أُحضِر أمامك صبيًّا في الثانية عشرة لم يتقدم في التعليم وشابًّا في الثامنة عشرة قد دخل الجامعة، وأن أترك لك سؤال هذين التلميذين، فسترين أن حظ الصبي من الثقافة العامة والخاصة أعظم جدًّا من حظ الشاب؛ لأن التعليم المنظم الذي تلقاه الصبي أخصب وأدنى إلى النفع وأقدر على إثارة النشاط من التعليم المنظم الذي تلقاه الشاب في مدارسنا المصرية الخاصة. ولقد رأيت منذ يومين اثنين كتبًا يتبادلها صبيَّان يتعلمان في بعض المدارس الأجنبية فقرأت فيها من الشعر والنثر الفرنسيين ما أتمنى أن أقرأ مثلهما في كتب الشباب المصريين حين يكتب بعضهم إلى بعض في الصيف، وإنك لتعلمين حق العلم أن للصبية في أوروبا صحفًا ومجلات يصدرها لهم الرجال والنساء، وأن هذه الصحف والمجلات ترتفع جدًّا عما يُنشَر لشبابنا وكهولنا من أمثالها في الشرق، وإنك لتعلمين أن للصبية في أوروبا كتبًا يصدرها لهم الرجال والنساء، وأن هذه الكتب ترتفع عن كثير جدًّا مما يصدره كثير من الكُتَّاب لشبابنا في مصر والشرق.
عللي ذلك بما شئت وأوِّليه كما تحبين، فإن التعليل والتأويل لا يغيران من الحقيقة الواقعة شيئًا، والحقيقة الواقعة هي أن ثقافتنا ضعيفة مسرفة في الضعف، ضيقة مسرفة في الضيق، والحقيقة الواقعة أيضًا هي أن الذين يحبون الرقي للشرق لا ينبغي لهم أن يرضوا بهذه الثقافة فضلًا عن أن يعجبوا بها ويلتمسوا لأصحابها المعاذير.
وأراك يا سيدتي الآنسة تضيقين بعض الضيق أو كله بما ينتجه الأوروبيون من الآثار الأدبية في هذه الأيام، وتزعمين أن هذه الآثار أدنى إلى المادية وتَعَجُّل المنفعة المالية والتجارية منها إلى العناية الخالصة بالأدب والفن، وأخشى أن تكوني مسرفة في هذا إسرافك في تسميتي أبا العلاء، فعند الأوروبيين ميل ظاهر إلى المادة وتهالك بيِّن على المنفعة، ولكنَّ معبدَي أبولون وأثينا لا يزالان مفتوحين في جميع المدن والبيئات الأوروبية الكبرى، وما زال العقل الأوروبي والقلب الأوروبي ينتجان آثارًا عالية قيِّمة في الأدب والفن تسعد بها النفس الراقية ويحتفظ بها الإنسان على أنها متاع روحي خالد حقًّا.
والخير يا سيدتي الآنسة في ألا نصدق الأوروبيين إذا أظهروا الضيق بمادياتهم وثقافاتهم، فهم في ذلك بين ساخطٍ لا يرضى بما وصلت إليه أوروبا طامحٍ إلى المثل الأعلى مستزيدٍ من الرقي، ورجل قد أخذه السأم فهو لا يرضى عن شيء ولا يطمئن إلى شيء، وإنما يريد أن يغير بيئته وحياته على أي نحو من التغيير. والخير أيضًا ألا نطمئن إلى ما يقوله بعض الشرقيين ويكرره من أن الثقافة الأوروبية والحضارة الأوروبية والحياة الأوروبية قد فسدت فسادًا لا صلاح بعده، فهذا كلام مصدره الضعف والعجز، وما زالت في أوروبا قوة خصبة غزيرة تؤهلها للبقاء الطويل وتؤهلها للسلطان وللسلطان الواسع، والأيام دول وقد ينتقل مركز الحياة القوية من الغرب إلى الشرق كما انتقل من الشرق إلى الغرب، ولكن وقت هذا الانتقال ما يزال بعيدًا، فمن العجز أن نعلل أنفسنا به وأن نلهيها عن السعي والجد حتى نبلغ ما بلغه الغربيون، وحتى نحس إذا لقيناهم أو خلونا إلى أنفسنا أنهم ليسوا خيرًا منا ولا أقدر على الحياة والفوز فيما تحتاج إليه من جهاد. وهل تأذنين في أن أعاتبك عتابًا رقيقًا وددت لو أهديه إليك في طاقة حسنة التنسيق من الورد والقرنفل حتى لا تغضبي ولا تذكري مقالي عن محاضرتك في الجامعة الأمريكية: تذكرين ما قاله رينان من أن الذين يعرفون أفلاطون لا يكادون يتجاوزون عشرة في كل جيل ثم تسألين عن الذين يعرفون هوميروس وغيره من شعراء اليونان أيزيدون عن هذا العدد؟! كثير منك هذا السؤال وأنت تترجمين شعر الممثلين من اليونان، وأنت تعلمين أن أفلاطون فيلسوف وأن الفلسفة أقل انتشارًا من الشعر والأساطير، وأنت تعلمين أن رينان كان مثلك يحب الدعابة ويكلف بالغلو والإسراف، وأن هؤلاء العشرة الذين يذكرهم يستطيعون أن يبلغوا الآلاف في غير مشقة ولا جهد، وأن معرفة أفلاطون التي أرادها رينان هي معرفة المتقن المجيد الذي يحسن العلم بما يعالج من الموضوعات، فلا بأس على جيل من الأجيال إذا قل فيه المتقنون لفلسفة أفلاطون.
وبعد فهل تظنين أن للشرق كله واحدًا أو اثنين بين هؤلاء العشرة الذين يحسنون العلم بفلسفة أفلاطون؟ أليس يؤلمك أن الجواب على هذا السؤال قد يكون نفيًا، وأن هؤلاء العشرة قد يكونون جميعًا من الأوروبيين والأميركيين؟
صدقيني يا آنسة، ليست ثقافتنا العامة مرضية ولا قريبة من المرضية، وصدقيني يا آنسة لا مصدر لضعف هذه الثقافة إلا فساد التعليم المنظم من جهة، وكسل الأدباء وأصحاب الصحف من جهة أخرى، ثم تعالي نتعاون يا آنسة على أن نصلح هذا الفساد ونرتفع بالثقافة إلى حيث نستطيع أن نلقى الغربيين فلا نستحي منهم، وأن نقرأ «الرسالة» وأشباه «الرسالة» من الصحف فلا نجد فيها فصولًا موضوعها الإلياذة والأودسا وبسائط التمثيل، ثم تفضلي يا آنسة فاقبلي تحيتي الخالصة وإجلالي العظيم.