ذات القفاز الأخضر
أو قُل ذات القفازين الأخضرين إن كنت لا تحب أن تجتزئ في مثل هذا الموضع بالواحد عن المثنى، بل تؤثر ثقل التثنية على خفة الإفراد؛ فالعنوان في نفسه واضح، فما يظهر يؤدي معناه أحسن الأداء، ويكفي أن تعلم أن ذات القفاز الأخضر أو القفازين الأخضرين سيدة من أهل باريس عرضت نفسها للمصور فاتخذ لها صورة جميلة رائعة، وأبت عليه أن يعلن اسمها إلى الناس فرمزت لنفسها بهذا الوصف، وهي — فيما يُفهَم من هذا العنوان — صاحبة الشخصية الممتازة في القصة، وسترى أثناء هذا الحديث أنها شخصية ممتازة حقًّا، ولكنَّ للقصة بطلًا آخر أشد منها امتيازًا وأعظم منها حظًّا من عناية النظارة والقراء.
وقد فهم النقاد الفرنسيون — وليس من شك في أنهم لم يخطئوا — أن شخصية هذه السيدة ليست هي الأولى ولا التي أُلِّفت القصة من أجلها، وإنما الشخصية الأولى، الشخصية التي قصد الكاتب إلى تصويرها واتخذها مرآة لعصر من العصور، ووسيلة إلى نقد جيل من الأجيال الفرنسية كألذع ما يكون النقد، شخصية رجل، هو بطل القصة حقًّا، والغريب أنه فيما يظهر ليس شخصًا خياليًّا، وإنما هو شخص قد عرفه الوجود الواقعي، وظهرت آثاره قوية جلية في حياة الفرنسيين قبيل الحرب الكبرى، ثم ظهرت في العام الماضي شخصية تشبهها من بعض الوجوه، وتحدث في الحياة الفرنسية مثل ما أحدثت من الآن، وهي شخصية ستافسكي، والرجل الذي قصد المؤلف إلى تصويره ليس فرنسيًّا، وإنما هو شرقي ولد في مصر من أبوين شرقيين من هؤلاء الشرقيين الذين لا تستطيع أن تعرف لهم وطنًا ولا جنسًا، ولا أن تضيفهم إلى جيل من أجيال الناس معروف، إنما هم يتكلمون لغات كثيرة، وينتسبون إلى أمم مختلفة، ويتخذ كل واحد منهم لنفسه آخر الأمر جنسية سياسية أوروبية يحتمي بها من قوانين مصر في هذه الأيام أو من قوانين الشرق حين كان الشرق كله خاضعًا لنظام الامتيازات.
وصاحبنا الذي تدور القصة عليه والذي سماه الكاتب أشيل بروسكا قد اتخذ الجنسية الفرنسية وقاءً من قوانين مصر، ثم عمل كما يعمل أمثاله في حِرَف مختلفة ومهن لا يبلغها الإحصاء، حتى أثرى وظفر بالغنى، فهاجر إلى فرنسا وأقام فيها، واشتغل بالصحافة، ثم بالأعمال المالية، ثم بالسياسة، ثم أدركته القصة، وهو رجل عظيم من أرفع الناس شأنًا، وأوسعهم سلطانًا، وأعظمهم خطرًا، وأبعدهم أثرًا في الحياة السياسية والمالية والصحفية بباريس. له قسط في كل مصرف، وسهم في كل عمل، وكلمة في كل قانون، ورأي في كل تدبير. يعين الوزراء ويعزلهم، ويرفع الكبراء ويخفضهم، ويغني الفقراء، ويفقر الأغنياء، ويعبث بثروة ضخمة لا تقل عن أربعمائة من الملايين.
ونحن إذا ابتدأت القصة نراه حين يرفع الستار متكاسلًا يشهد امرأته الجميلة موريسيا وهي تتخذ زينتها للعشاء، وقد علمنا أن العشاء سيكون فخمًا هذه الليلة، فقد دُعِي إليه أربعون من أرقى الطبقات الباريسية، فيهم رجال السياسة والمال، ورجال الأدب والعلم، ورجال الأعمال والحرب، وصاحب الدار كسلان لا ينشط لزينته، ولا يريد أن يستقبل الحلاق الذي أقبل يهيئه لهذه الزينة، وإنما هو يأمر الخادم أن يسقيه شيئًا من النبيذ وينقده شيئًا من المال، ويصرفه، أما هو فيؤثر أن يكسل وأن يشهد امرأته الجميلة وهي تأخذ زينتها، وليس عليه بأس من أن يلقى ضيفه ويرأس مائدة الطعام مهمل اللحية والزي أيضًا، فهو لا يحفل بهؤلاء الناس الذين دعاهم لطعامه، ولا يعنيه أن يرضوا عنه أو يسخطوا عليه، بل هو واثق بأنهم سيرضون عنه ما بقيت له ثروته وقوته، وسيزدرونه إن صفرت يده من هذه الثروة، أو انحلت عنه هذه القوة. هو يزدريهم أشد الازدراء، ويحتقرهم أعظم الاحتقار، ويتحدث عنهم أقبح الحديث، هو لا يُقَدِّر من خلق الله جميعًا إلا رجلًا واحدًا عاش كريمًا شريفًا، نقي اليد والقلب والضمير، فلم يلق من الناس إلا شرًّا. خانته امرأته، وأنكره بنوه، وألح عليه الفقر والبؤس حتى ماد معدمًا مريضًا، وهو أبوه. وصاحبنا من أجل هذا يحتقر الناس كأنه يرد عليهم ما قدموا لهذا الرجل الكريم وكأنه ينتقم منهم له، وهو لا يرى أن الانتقام يتهيأ له إلا إذا اطَّرح الفضيلة والشرف اطِّراحًا، وسعى إلى المال والجاه من كل طريق، ثم اتخذهما وسيلة إلى غاية في غير تحفظ ولا احتياط ولا حياء، وإنما الحياء خلق الضعيف، والاحتشام خلق الرجل الذي لا يريد أن ينجح.
وانظر إليه وقد قصد إلى التليفون وأخذ يتحدث إلى أحد الوزراء بنفس اللهجة التي يتحدث بها إلى خادمه، وما له لا يفعل ذلك وهو الذي رفع هذا الرجل إلى الوزارة ويستطيع أن ينزعه منها نزعًا متى شاء؟! وانظر إليه والخادم يقبل عليه من حين إلى حين فينبئه بمقدم هذا العظيم أو ذاك فلا يظهر احتفالًا ولا احتفاءً، وإنما يقول للخادم: دعه ينتظر.
ثُمَّ انظر إليه وقد طُرِق الباب فأذن بالدخول فدخل عليه سكرتيره الخاص، وهمت امرأته أن تستخفي لأنها لم تكن قد تهيأت بعد للقاء الغرباء، فيأبى عليها هذا كل الإباء، لأن سكرتيره كلب لا ينبغي أن يُحسَب له حساب، وهو يقول ذلك جهرةً في وجه سكرتيره، والرجل يحتمل منه ذلك ضيِّقًا به مبتسمًا له في وقت واحد. ثم اسمع إلى السكرتير وهو ينبئ سيده بأنه قد حاول أن يشتري الصورة فلم يفلح مع أنه قد ارتفع بالثمن إلى مائة ألف من الفرنكات لأن المصور لا يريد أن يبيع هذه الصورة مهما تكن الظروف، فإذا سألت امرأته عن هذه الصورة عرفنا أنها صورة ذات القفاز الأخضر، وأن ذات القفاز الأخضر هذه باريسية حسناء، كانت صديقة لامرأته أيام الصبا، ثم فرقت بينهما الأيام، فلما نشرت هذه الصورة عرفت موريسيا صاحبتها، وبحث زوجها عن هذه المرأة حتى اهتدى إليها، وهي مدعوة للعشاء الذي يقام هذا المساء، وكان صاحب الدار يريد أن يشتري الصورة ليهديها إليها، وهو مغيظ لأنه لم يستطع شراء هذه الصورة، وهو لم يتعوَّد قط أن يفشل عن بعض ما يريد.
ثم انظر إليه يكره سكرتيره على أن يشهد العشاء، فإذا اعتلَّ عليه السكرتير منحه مائة ألف فرنك فرضي، ولكنه بهذا الرضا أصبح مِلكًا لسيده يعبث به كما يحب، وهو يفرض عليه أن يدخل في ثيابه هو، وإن كانت لا تلائم جسم هذا البائس، وأن يلبس حذاءه هو، وإن كان لا يلائم رجل هذا البائس. ثم انظر إليه وقد انتهى به العبث إلى أقصاه، فهو يريد أن يزوج خادمه من هذا السكرتير المضحك، وأن يمنح الخادم مليونًا من الفرنكات إن قبلت هذا الزواج، وأظن أنك قد اتخذت لنفسك من هذا الرجل الغريب صورة واضحة هي صورة الرجل الوصولي الذي وصل إلى كل ما يريد فهو يعبث بالحياة والأحياء جميعًا، على أنك لم تعرف من أمره كل شيء، فانتظر قليلًا حتى تقبل ذات القفاز الأخضر وتخلو إلى صاحبتها، وتأخذ معها في الحديث، فستعلم من حديث هاتين السيدتين أن لصاحبنا هذا عادة غريبة، فهو مزواج، مطلاق، يرى المرأة فيحبها فيتزوجها، مهما تكن النتائج، يطلق امرأته إن كان متزوجًا، ويحمل حبيبته على الطلاق إن كانت متزوجة، يشتري ذلك بالمال من امرأته التي يطلقها، فهو يمنحها ثلاثة ملايين، ومن الرجل الذي يريد أن يأخذ منه امرأته فهو يمنحه ما يشاء من مال ومنصب وجاه، وامرأته هذه موريسيا تحبه أشد الحب، وتخاف منه أعظم الخوف، تنتظر اليوم المحتوم الذي يعرض عليها فيه الطلاق وثلاثة ملايين.
والغريب أن ذات القفاز الأخضر لم تكد تسمع حديث صاحبتها حتى خافت أشد الخوف، فهي تعرف أن رجلًا يتبعها في هذه الأيام ويريد أن يتصل بها ويتحدث إليها، وهي تحسُّ أن هذا الرجل هو بروسكا، وهي تشفق بعد أن علمت ما علمت أن يعرض لها ولزوجها بما تعوَّد أن يعرض به للرجال والنساء، وهي على ذلك تعاهد صديقتها على أنها ستقاوم هذا الرجل إن كان هو من تخاف، وستمتنع عليه كل الامتناع.
فإذا كان الفصل الثاني فقد كان ما خافت المرأة أن يكون، ولكن يحسن ألا نتعجل الحوادث وأن نسعى مع الكاتب في شيء من المهل والأناة كما فعل هو في قصته، فنحن حين يرفع الستار عن هذا الفصل الثاني في بيت جيتان ذات القفاز الأخضر، ونحن نرى زوجها واسمه «جي دي لارونسيري» يحاور المصور واسمه «ألمادو» حوارًا غريبًا حقًّا، قد أقبل المصور ينبئه بأنه قد أحب امرأته منذ صورها ولم يصل منها إلى شيء، ولم يرد بها مكروهًا، وهو يائس من حبها، وهو يلتمس عنده العزاء من هذا اليأس، يطلب إليه مودته ليستطيع أن يزوره من حين إلى حين وأن يرى امرأته دون أن يسوءها أو يتعرض لشيء، والرجل ينكر هذا الحديث أشد الإنكار، ولكنه لا يغضب له ولا يثور؛ لأن المصور يلقيه إليه في شيء من سذاجة الفنان، بريء لا يثير غيظًا ولا حفيظة، وهذه امرأته تقبل فتقر بأن المصور يحبها ويكتب إليها بهذا الحب، وبأنه يائس من حبه، وترفض ما يقترح المصور من هذه المودة الغريبة، وتقترح عليه ألا يحاول لقاءها، فيذعن ويزمع أن يعود إلى بلده في أمريكا الجنوبية، ولكنه يريد أن يهدي إلى هذه المرأة صورتها هذه التي فتن بها الناس والتي أبى أن يبيعها بمبلغ ضخم من المال، وقد انصرف ليحضر هذه الصورة، وخلا الزوجان وأخذا في حديثهما، وإذا الزوج محزون لأنه أُنذِر بصرفه عن العمل بعد أشهر، وهو يقترح على امرأته أن تتحدث إلى صديقتها موريسيا لعلها تحمل زوجها بروسكا على أن يسعى له في البقاء حيث هو، وامرأته تسمع منه محزونة ولا تستطيع أن تجيبه إلى ما يريد، ولكن ماذا؟ إن الجرس يدق، وهذه الخادم تدخل وقد حملت طاقة فخمة من الورد، ومعها بطاقة قد كتب عليها اسم بروسكا.
ولم يكد الزوجان يقضيان عجبهما من هذه المصادفة حتى يدق الجرس مرة أخرى، ويدخل عليهما سكرتير ذلك الرجل الغريب، وهو قد جاء يدعوهما إلى العشاء مع سيده في مطعم فخم من مطاعم باريس، فأما الزوج فسعيد بهذه الدعوة، وأما المرأة فضيقة بها، معتذرة منها، فإذا ألح عليها زوجها في قبول الدعوة طلبت إلى ذلك السكرتير أن ينصرف عنهما لحظة، ثم أنبأت زوجها بأن بروسكا يحبها، ويتبعها، ويلح عليها بالحب والاتباع، هنالك يظهر الزوج غضبًا وحفيظة ويقر امرأته على الاعتذار، ولكن السكرتير يلح ويأبى أن يعود خائبًا، ثم يعمد إلى التليفون فينبئ سيده باعتذار الزوجين، ويأبى سيده قبول الاعتذار، ثم ينبئ بأنه مقبل بنفسه ليقنعهما بقبول دعوته.
وغضب الزوج يزداد من حين إلى حين وامرأته تهدئه وتنصح له بالاعتدال، ولكن ماذا تسمع؟ إن الجرس يدق، وهذه امرأة تدخل وهي موريسيا قد أقبلت يائسة ذاهلة تنبئ بأن زوجها يتركها، وبأنها دعيت إلى الموثق لتسمع منه نبأ الطلاق ولتقبض منه الملايين، وهذا بروسكا نفسه قد أقبل، ولست أريد أن أطيل عليك بما يكون بينه وبين امرأته من عتاب أو خصام، ولكن انظر إليه واسمع له، إنه لا يتحفظ ولا يتحرج، وإنما ينبئ ذات القفاز الأخضر بأنه يحبها ويخطبها، وينبئ زوجها بأنه سيطلق امرأته ويترك له أن يحتكم فيما يريد من ثمن للطلاق.
والرجل مغضب محنق، يغضب ويثور ولكن هذا لا يغني عنه شيئًا، فصاحبنا هادئ مطمئن واثق، وهو يخرج من جيبه وسامًا يقدمه إلى الزوج، وهو وسام الليجيون دونور، كان هذا الزوج يلتمسه منذ خمس سنين دون أن يبلغه، فظفر به هذا الرجل في ثلاث دقائق، والزوج يتردد في قبول الوسام شيئًا ولكن شوقه إليه يغلب آخر الأمر، فيقبل الوسام ويمضي مع ذلك في الإباء لما يطلب منه، والرجل يحاوره هادئًا عاقلًا، فيبين له أنه كان يستطيع أن يلح على امرأته بالإغراء والترغيب والاتباع حتى يدفعها ويندفع معها في الإثم والخيانة، ولكنه لا يحب ذلك، بل يؤثر عليه الزواج الشرعي بعد الطلاق الذي يبيحه القانون، فإذا لم ينجح في هذا الحوار لجأ إلى الوعيد فبين للزوج أنه هو الذي أخرجه من عمله، وأنه يستطيع أن يرده إليه وإلى أحسن منه، وأنه يعرف مواضع ثروته كلها، وهو قادر على أن يفسد عليه كل شيء، يفسد عليه الأرض التي يملكها في مدينة كذا، والتجارة التي يستغلها في باريس، والمناجم التي يستغلها في إسبانيا، وهو آخر الأمر واثق بأنه قد هزَّ الرجل هزًّا، وملأ قلبه خوفًا ورعبًا، وإن كان الزوج لا يزال مع ذلك يظهر إباءً وامتناعًا، وقد انصرف الرجل عن الزوجين وهو واثق بأنهما سيستجيبان لدعائه إلى العشاء، وقد رد امرأته إلى دارها، وعهد إلى المصور الذي رأيناه في أول الفصل أن يرافقها، ويعنى بها، ولكني لم أحدثك عن هذا المصور بعد أن ذهب ليحضر صورته، فهو قد أقبل أثناء الحديث مرتاعًا جزعًا لأنه لم يجد الصورة حيث تركها فقد عدا عليها اللصوص، ولا ينتهي الفصل حتى يتم الاتفاق بين الزوجين على إجابة الدعوة مصانعةً لهذا الرجل المخوف، فأما المرأة فقد ذهبت تتهيأ للخروج، وأما زوجها فهو معجب بوسامه يتهيأ لاتخاذه إذا ذهب إلى العشاء.
فإذا كان الفصل الثالث، فقد استكشف الزوجان أن لهما شيئًا من ثروة يجهله هذا الرجل العنيف، ولا يستطيع أن يضارَّهما فيه، وأن نصيبهما هذا من الثروة في بلد أجنبي بعيد هو رومانيا، فهما يهربان بحبهما وشرفهما وأمنهما من فرنسا ليستقرا في هذا البلد الغريب وقتًا ما ينساهما فيه هذا الرجل، ثم إذا أتيحت لهما العودة إلى وطنهما عادا إليه آمنين، وقد فعلا.
فنحن نراهما حين يرفع الستار في فندق من فنادق رومانيا في مدينة صغيرة، ونسمعهما يتحدثان فنعرف من أمرهما ومن أمر أصحابهما عجبًا، فأما هما فقد تغير شأنهما بعض الشيء، فالزوج يكاد يشك في زوجته، هو لا يتهمها بشيء، ولكنه يكاد يظن أنها قد أظهرت له من التلطف والتودد ما أطمعه فيها، وأغراه بها، وآية ذلك أنه نظر في كتاب كانت تقرأ فيه فرأى وردة جافة، أليس يمكن أن تكون هذه الوردة قد أُخِذت من تلك الطاقة التي أُرسِلت إليها في ذلك اليوم المشهود؟ وهو لا يخفي شكه هذا على زوجه، ولكن زوجه تسأله ألست قد قبلت منه الوسام الذي حمله إليك؟ ويكاد الأمر يفسد بين الزوجين لولا أنهما يتداركان عواطفهما تداركًا متصلًا.
وأما موريسيا فقد رافقت هذين الزوجين إلى منفاهما، ولعلها أعانتهما بشيء من المال، ورافقهما كذلك المصور، ولكنا نعلم مما نسمع وما نرى أن بين المصور وموريسيا غرامًا ناشئًا، وليس من شك في أن كلًّا منهما يلهو بهذا الغرام عن حبيبه الذي هجره وقسا عليه، فموريسيا تتسلى بهذا الحب عن زوجها الظالم، والمصور يتسلى بهذا الحب عن جيتان القاسية، ولكن جيتان نفسها ما خطبها؟ وكيف تلقى انصراف عاشقها المصور عنها إلى صديقتها؟ وكيف تلقى اعتداء صديقتها على هذا العاشق الذي كان ينبغي أن يظل لها خالصًا؟ هي لا تحبه من غير شك، ولكنها كانت تؤثر ألا يُصرف عنها، ولا يُلهَّى عن حبها، على أنها في حقيقة الأمر ترى هذا كله ساخرة منه، فهي مشغولة بشيء تخفيه، وستبديه الحوادث بعد حين، هذا زوجها قد انصرف عنها لبعض شأنه على أن يغيب يومًا كاملًا أو أكثر من يوم، وقد تركها مع صاحبتها وعاشقها الفنان الذي لا خوف منه، ولكنه لم يكد يمضي لشأنه حتى يدخل على القوم سكرتير ذلك الرجل العنيف بروسكا.
فهو إذن كان يتبع الزوجين، وهو إذن يعلم من أمرهما كل شيء، وهو لا يوجد في هذه المدينة وحده، وإنما يوجد معه سيده أيضًا، فالخطر ما زال محدقًا بالزوجين لولا أن السكرتير محزون ظاهر مضطرب شديد الاضطراب ينبئ بنبأ خطير، وهو أن سيده قد مات في حادث لسيارته، وأن جثته قد حفظت في بعض الفنادق، فأما موريسيا فتتلقى هذا الخبر في وجوم قليل، وسرور عميق، كأنما حطمت عنها الأغلال، وهي لم تزل زوجًا لهذا الرجل، فهي وارثته إذن، وهي تتعجل أن ترى جثته، وأن تفرغ من دفنه، وأن تتولى ثروته، وأما ذات القفاز الأخضر فتظهر سرورًا متكلفًا، وتضمر حزنًا عميقًا، فهي كانت تحب هذا الرجل وتغالب هذا الحب بالكتمان، فأما وقد مات فلا بأس عليها من أن تعترف لنفسها بما كانت تخفي.
وقد ذهبت موريسيا ومعها المصور إلى حيث الجثة، وهمَّ السكرتير أن يذهب ليهيئ نقل الجثة إلى المدينة أو إلى فرنسا، ولكنه قبل أن ينصرف ألقى إلى هذه المرأة الواجمة سوارًا كان سيده قد اشتراه ليهديه إليها، ولا تكاد المرأة تخلو إلى نفسها حتى تنظر إلى هذا السوار وحتى تضعه في ذراعها محزونة آسفة، ولكن ماذا تسمع؟ إن الباب يطرق طرقًا خفيفًا، وإنها تنزع السوار مسرعة، وإن الباب يفتح، وإن شخصًا يمثل أمامها، فإذا نظرت إليه رأت عاشقها العنيف بروسكا قائمًا بين يديها.
فقد كانت قصة موته مدبرة إذن ليصرف عنها النَّاس، وليخلو إليها، أو قل ليختطفها، فهو مصمم على ذلك، وهو واثق بأنَّها لن تمتنع عليه؛ لأنَّه يعلم أنَّها تُحبه، وهي تستطيع أن تنكر هذا الحب، وأن تلحَّ في هذا الإنكار، فلن يزيده إنكارها إلا ثقة بأنَّها تحبه وتهيم به.
وقد استحال هذا الرجل العنيف الغليظ القاسي السوقي إلى رجل مترف، رفيق رقيق شاعر حقًّا، فهو في هذه المرة محب لا بحسه وشهواته، بل بقلبه وعقله وعواطفه، وهو يتحدث إلى هذه المرأة أحاديث حب ترقُّ حتى كأنها النسيم، وتعنف حتى كأنها النار المحرقة، ثم انظر إليه يغيب لحظة ويعود ومعه الصورة التي سرقت من المصور، والتي كان يريد أن يشتريها فلم يستطع، هو الذي سرقها متواطئًا مع الشرطة، أو قل سرقها الشرطة له، وأي شيء أيسر من ذلك؟ إن له الأمر والنهي في باريس، ثم انظر إليه يغيب لحظة ويعود ومعه حقيبة لا يكاد يظهر ما فيها أو بعض ما فيها حتى يسحر هذه المرأة، فيها ما شاءت وما لم تشأ من الحلي، وفيها ما شاءت وما لم تشأ من الثياب، أليس قد رشا خادمها في باريس وعرف منها ذوق سيدتها وقدَّها، فهو يشتري لها من الحلي ويصطنع لها من الثياب ما يلائم ذوقها وقدَّها معًا؟ والمرأة تسمع وترى وتفكر، فيسحر عقلها سحرًا ويظهر حبها واضحًا جليًّا صريحًا، وهي متهيئة لتذهب معه، وقد طلب إليها أن تتخذ ثوبًا بعينه وقبعة بعينها لهذا الرحيل، ففعلت، وهو يطلب إليها آخر الأمر أن تكتب كلمة لزوجها تنبئه بهذا الرحيل، فتطيع، وتكتب ويقرأ هو بعض ما تكتب، فيجن جنونه ويذهب لبه، أليس يقرأ أنها تحبه؟ وقد أتمت كتابها وتركته على المائدة ونهضت لتمضي معه ولكنها مفتونة به، مستسلمة له، وهو هائم بها، وهو يريد أن تمنحه القبلة الأولى، وهي بين ذراعيه، وهو هائم أو مجنون، لا يكاد يصدق سعادته، ولكن ماذا؟ إنها تسقط إلى الأرض! إنه ينظر! إنه يصيح ويستغيث! إن سكرتيره يدخل فإذا ذات القفاز الأخضر قد قتلت نفسها، وإذا هي قد تركت لزوجها هذه الكلمات: «أموت لأني أحب بروسكا.»
والمرأة تحمل إلى سريرها، وهذا الرجل القوي العنيف قد استلقى على كرسي منهزمًا لأول مرة هزيمة لا سبيل إلى تلافيها ولا إلى إصلاحها، هزمته امرأة لأنها استعانت عليه بالموت.