سِن جولييت
أمَّا القصة التي سنتحدث عنها اليوم فيسيرة حقًّا، توشك لسذاجتها أن تكون حديثًا من أحاديث العامة في أسمارهم، أو خبرًا من هذه الأخبار التي تنشرها الصحف عن سذاجة الشباب واندفاعهم بين حين وحين.
ومع ذلك ففي هذه القصة اليسيرة ما يدعو إلى التفكير، وفيها بعد هذا شيء من الظرف وخفة الروح، يجعل قراءتها حلوة وتأثيرها في النفس عميقًا. وقد عاب النقاد على صاحبها أمورًا ستراها أثناء الحديث، ولكن النظارة لم يعيبوا عليه شيئًا؛ لأنَّ سذاجة القصة وقوتها وجمال الحوار فيها، كل ذلك قد شغلهم عن النقد والتحليل وعن التفكير والتعليل، فالقصة تأخذ القارئ والمشاهد منذ تبتدئ أخذًا يسيرًا، وتخلق حوله جوًّا هادئًا حلوًا فيه ابتسام، وفيه ضحك، وفيه توقع لشر عظيم، كان خليقًا أن يحزن ويخيف لولا أن كل ما حوله من الظروف ضاحك يخيل إليك بل يكاد يحملك على الجزم بأن هذا المكروه لن يكون.
فالقصة تحدث بين شابين يجدَّان ولكن كما يجدُّ الشباب؛ أي يقدمان على أمور يحسَّانها أكثر مما يقدرانها، فهما إلى اللعب أقرب منهما إلى الجد، وأنت تحس منذ تتقدم القصة بعض الشيء أن هذا الفتى الذي لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، وهذه الفتاة التي لم تتجاوز السابعة عشرة يقدمان على أمر خطير، ولكن من حولهما قوى خفية تعصمهما من الشر وتحول بينهما وبين الخطر الذي يسرعان إليه.
ونحن حين نرفع الستار في مطعم فخم من هذه المطاعم الباريسية التي أقيمت في غابة بولفي نرى الخادم يهيئ غرفة خاصة من غرف الطعام لشخصين اثنين، ونرى في هذه الغرفة ما يُرى في أمثالها من هذه الأشياء التي تغري بالإثم وتدعو إليه، لا نلبث أن نرى امرأة رشيقة رائعة الجمال قد أقبلت وسألت عن رجل بعينه، فتُنَبأ بأنه سيأتي بعد قليل، وتُدعَى إلى انتظاره، فتدخل الغرفة، ولا تكاد تنظر فيها حتى تضيق بها وحتى تثور نفسها ثورة عنيفة لأنها رأت دواعي الإثم والمغريات بالفساد، وكانت في أكبر الظن تقدر أن صاحبها قد دعاها إلى طعام بريء، فلما رأت ما رأت أبت البقاء وانصرفت عن هذه الغرفة نافرة، وتركت الخادم حيران باسمًا.
ثم يأتي صاحب المطعم فإذا عرف النبأ لم يحفل به، ولم يأبه له، وماذا يعنيه من هذه المرأة وصاحبها وقد تحدث إليه في التليفون فندق من أكبر الفنادق في باريس، هو فندق كلاردج، يدعوه إلى أن يهيئ غرفة خاصة للغداء، وينبئه بأن أميرًا شابًّا أجنبيًّا سيبلغ مطعمه بعد قليل ومعه صاحبة له تقاربه في السن، وصاحب المطعم مغتبط بمقدم هذا الأمير، وهو يوصي الخادم بأن يعنى بهما في الخدمة، بأن يعنى بهما في ثمن الطعام أيضًا، فما ينبغي أن يقل ثمن الغداء عن مئات من الفرنكات يجب أن تكون ستًّا وجائز أن تزيد.
وما هي إلا لحظات حتى يقبل الأمير الشاب ومعه زوجه الشابة أيضًا، فإذا فتيان كأنهما صبيان فيهما سذاجة الشباب وغفلته، وفيهما جهله وغروره، وهما يتكلفان الجد ويتصنعان أخلاق من تقدمت بهم السن شيئًا، وصاحب الفندق وخدمه يتملقونهما ما وسعهم التملق، وهما يقبلان منهم هذا التملق في سذاجة مؤثرة ودعابة حلوة، والخادم يعرض عليهما من ألوان الطعام أغلاها وأندرها، وهما يقبلان في غير تحفظ ولا تحرج، والساقي يعرض عليهما كذلك من أنواع النبيذ أكرمها وأقدمها وأغلاها طبعًا فيقبلان كل ما يعرض عليهما، يظهران أنهما قد ألفا هذا كله وعاشا فيه، فإذا خلا كلٌّ منهما إلى صاحبه في غيبة الخادم والساقي بين لون ولون رأيناهما سعيدين مبتهجين بما يأكلان وما يشربان وما يريان، وعرفنا أنهما يشهدان هذا كله لأول مرة، ثم لا نلبث أن نتبين حقيقة أمرهما، فهما من أسرتين كانتا صديقتين ثم نجم بينهما الشر وكان بينهما العداء، وفسد الأمر بينهما لأن الدهر واتى أسرة الفتاة فمنحها الثروة والغنى، وحفظ على أسرة الفتى منزلتها المتواضعة، فنشأ بينهما ما ينشأ بين الأغنياء والفقراء من هذا الاختلاف الذي يفسد المودة ويغير الصلات، ولكنهما كانتا قد اتفقتا منذ عهد بعيد على أن يكون كلٌّ من الصبيين لصاحبه. ونشأ الصبيان يسمعان هذا الحديث في الأسرتين حتى ألفاه واطمأنا إليه، واستيقن كل واحد منهما أن حياته وقف على حياة صاحبه وأنه سيكون لصاحبه زوجًا، فنشأ معهما حب قوي طبيعي ساذج لا تكلف فيه ولا عناء، بقي على قوته وصدقه حتى بعد أن فسدت الصلات بين الأسرتين.
ثم أخذت أسرة الفتاة تتحدث إليها عن الخاطبين والفتاة ترفض وتلقى في رفضها نكرًا، وأخذت أسرة الفتى تتحدث إليه عن الفتيات اللاتي يستطيع أن يختار بينهن فيرفض ويلقى من رفضه نكرًا، حتى انتهى الأمر بهما إلى شر ما كان يمكن أن ينتهي إليه وأصبحت حياتهما عذابًا متصلًا، واستيأسا من ثمرات هذا الحب الذي رافقهما طول أيام الصبا ورافقهما في أول الشباب وامتزج بهما حتى لا يستطيعان منه تخلصًا ولا عنه انصرافًا.
وهما قد التقيا هذا اليوم على ألا يفترقا بعده أبدًا أو قل قد التقيا على ألا يعودا إلى أسرتيهما، وهما ينظمان أمرهما تنظيمًا لا تكلف فيه ولا مشقة، ويستقبلان حدثًا عظيمًا يقدمان عليه في غير حزن ولا جزع، بل في سرور لا يشبهه سرور، وابتهاج لا يعدله ابتهاج، فهما قد أزمعا أن يموتا معًا، وأقبلا إلى هذا المطعم يلتمسان الموت، ولكنهما يريدان أن يموتا فرحين، فهما يقدِّمان بين يدي الموت غداءً لذيذًا فيه ما تشتهي الأنفس من ألوان الطعام والشراب، وهما يحملان السم الذي سيخلصان به من الحياة.
وهما يتحدثان عن هذا كله في دعابة ومزاح واغتباط أيضًا، والخادم يدخل ويخرج فيقطع عليهما الحديث، والساقي يذهب ويجيء فيقطع عليهما الحديث أيضًا، ولكن الخادم معجب بهما عاطف عليهما، قد راقه شبابهما النضر، ووقع في نفسه حديثهما الحلو، وأحبهما حبًّا ستظهر آثاره بعد حين، وقد أزمع العاشقان أن يكتب كلٌّ منهما إلى أسرته كتابًا قصيرًا ينبئها فيه بموته، ويعتذر إليها منه، ويطلب إليها أن تدفنه مع صاحبه، وقد كتبا هذين الكتابين أثناء طعامهما.
وهذا طعامهما قد انتهى وقد أخذا يعدَّان السم، فملأ كلٌّ منهما قدحًا من الماء، وهمَّ أن يلقي فيه أقراصًا مهلكة، ولكن الباب يفتح وصاحب الفندق يدخل وهو يخفي غضبًا عنيفًا، ويظهر سخرية لاذعة، ذلك أنه تبين أن هذا الشاب ليس أميرًا وأنه لم يأت من فندق كلاردج وأنه ليس غنيًّا، فقد سقطت من معطفه تذكرة من تذاكر المترو ومن تذاكر الدرجة الثانية، فأقبل صاحب الفندق يستوثق من أمرهما، وما هي إلا أن يكون بينه وبينهما حوار قصير حتى يتبين عجزهما التام عن أداء الحساب، فليس مع الفتى إلا فرنك واحد، وقد كان معه خمسون من الفرنكات، ولكنه ألقاها في بعض دعابته إلى هذا الموسيقي الذي جاء يوقع لهما لحنًا أثناء الطعام، وليس حسابهما يسيرًا فهو يتجاوز مئات سبعًا من الفرنكات، وصاحب الفندق ثائر، وهو يطلب إلى الخادم شارل أن يسوق هذين اللصين إلى دار الشرطة، وأن يسرع في ذلك ولا يتلكأ، والخادم يجاريه في ثورته ويأخذ العاشقين أخذًا عنيفًا ويدفعهما أمامه دفعًا، حتى إذا بلغ بهما الباب قال لهما، وهو يزجرهما وينهرهما: سأسلك بكما طريق كذا لأنها خالية أو كالخالية من الناس، ويجب أن تسعيا سعيًا، وإياكما أن تعدوا، فإني مريض لا أستطيع العدو، أتسمعان؟ وقد فهم العاشقان عن هذا الخادم فهَمَّا يشكرانه، وفهمنا نحن كذلك عن هذا الخادم فنحن واثقون بأنهما لن يُدفَعا إلى الشرطة ولن يلقيا من الخادم شرًّا.
ثم يرفع الستار عن الفصل الثاني، وإذا نحن في جناح من أجنحة هذا الفندق الباريسي الفخم — فندق كلاردج — نرى خادمين تهيئان الغرف لاستقبال مسافرين سيصلان بعد لحظات، وهما تتحدثان عن هذا الجناح بأنه الوحيد بين غرف الفندق كلها لم يقع فيه شر ولم يقترف فيه إثم ولم تُزهق فيه نفس منذ ثلاثين عامًا، فأما بقية ما في الفندق من غرفات وحجرات فلكل واحدة منها ذكر وتاريخ، في هذه قتل مسافر، وفي هذه سرقت حلي، وفي هذه قتل بعض الأغنياء نفسه، وفي هذه قبضت الشرطة على فلان من رجال المال. والخادمان تمضيان في حديثهما هذا، وإذا الباب يفتح ويدخل منه بعض خدم الفندق يحمل حقيبتين ضخمتين يدل منظرهما على أنهما قد تعودتا الأسفار البعيدة في البلاد المختلفة في القارات كلها، ولا يكاد هذا الخادم يضع الحقيبتين حتى يأتي العاشقان الشابان اللذان رأيناهما في الفصل الماضي.
وهما يزعمان أنهما من المستكشفين الذين يطوفون في الأرض، ويجوبون أقطارها ويألفون خشونة العيش ويزهدون في الترف وما يتصل به، وهما من أجل ذلك يصرفان الخدم ولا يقبلان مما يعرضون عليهما شيئًا، فإذا خلا كل واحد منهما إلى صاحبه وأغلق من دونهما الباب عرفنا أنهما لم يكادا يفارقان المطعم حتى استأنفا سعيهما إلى الموت وتدبيرهما لفراق الحياة، وكان الفتى يملك ساعة ذهبية فباعها واشترى بثمنها هاتين الحقيبتين ثم أقبل بهما مع صاحبته إلى الفندق الفخم يلتمسان الموت، وهما لا يريدان أن يموتا موتًا يسيرًا مبتذلًا، وإنما يريدان أن يموتا موتًا فخمًا في مطعم مترف أو في فندق عظيم، وقد حيل بينهما وبين الموت في المطعم ولكنهما أصابا فيه غداءً حسنًا، ولن يحال بينهما وبين الموت في هذه الغرفة التي أغلق بابها من دونهما إغلاقًا، وأمامهما ساعتان يجب ألا تنقضيا حتى يكونا قد قطعا الأسباب بينهما وبين الحياة والأحياء، وهما كما رأيناهما في الفصل الأول يستقبلان الحدث العظيم مبتهجين أشد الابتهاج، ولكن هذه الخلوة في هذه الغرفة الأنيقة من وراء هذا الباب المغلق تثير في نفسيهما الغريرتين شيئًا من الاضطراب الغامض الذي لا يتبينانه في وضوح، ولكنهما يحسانه إحساسًا قويًّا ويظهر أثره في حديثهما وحركاتهما وما يتبادلان من نظرات.
وهذه الفتاة قد دخلت الحمام فلم تكد تراه حتى شغفها ما فيه من جمال وزينة، وهي مشوقة إلى أن تستحم في هذا الحوض وتلف جسمها في هذا الرداء وتستمتع بهذا الترف النادر لحظة قبل أن تموت، وصاحبها لا يأبى عليها ذلك وإنما يرخص لها فيه، فقد ذهبت لتستحم، وبقي الفتى يكتب كتابًا آخر لأبيه، وهي تحدثه من حمامها وهو يجيبها، ونحن لا نحس في حديثهما كله إلا صفاءً ونقاءً، وعفافًا وطهرًا واضطرابًا شديدًا مع ذلك، ولكنه اضطراب يجهلان مصدره كما يجهلان غايته، وهذه الفتاة قد أقبلت من الحمام ملتفة في ردائه، سعيدة راضية ناعمة البال، تداعب صاحبها وتلاعبه، ثم تعزم عليه أن يفعل كما فعلت وأن يستحم في الماء الذي استحمت فيه، والفتى يمانعها ويأبى عليها، ثم يستجيب لها ويذهب إلى الحمام ويعود بعد حين وقد التف في رداء من أردية الحمام، ولكنه يرى الفتاة واجمة ذاهلة، تريد أن تسأل عن شيء، ولكنها لا تستطيع لأنها لا تجد وسيلة إلى السؤال، وهي لا تثق بأن صاحبها سيجيبها إن سألته.
والفتى يلح عليها في أن تلقي سؤالها وقد أخذ الاضطراب يسعى فيه كما سعى فيها، ولكنه يقاوم هذا الاضطراب مقاومة حسنة، ثم يستبين الأمر، ويعرف هذا السؤال الذي لا تستطيع الفتاة أن تبين عنه، فهما عاشقان، وقد أتيح للغريزة أن تعرب عن نفسها، ثم أن تفرض نفسها على العقل والإرادة فرضًا، وكانت الفتاة أسرع إلى الانهزام من الفتى، فهي تسأل وتلح في السؤال وهي تدعو وتلح في الدعاء، هادئة حينًا ثائرة حينًا آخر، وديعة مرة عنيفة مرة أخرى، وقد قاوم الفتى ما استطاع أن يقاوم ذاكرًا طهرهما ونقاءهما وما ينبغي لهما من الاحتفاظ بهذا الطهر والنقاء، ولكن الفتاة يائسة من الحياة وهي تستقبل الموت وستلج بابه بعد لحظات، ففيم الاحتفاظ بشيء، ولمَ الاحتفاظ بشيء؟ وقد ضعف الفتى، وأخذت الهزيمة تدركه، ولكن طرقًا خفيفًا يمس الباب فيفرق بين هذين العاشقين، ثم يفتح الباب ويدخل عاملان يريدان أن يتعهدا أسلاك الكهرباء، وإذا هذه الخلوة التي قطعت على هذين العاشقين قد فرضت عليهما، فهما يدعان للعاملين هذه الغرفة ليتعهدا فيها أسلاك الكهرباء، ويخلوان في غرفة أخرى، ونرى نحن العاملين يعملان ونسمعهما يتحاوران، ثم نراهما ينصرفان بعد أن أتمَّا عملهما.
ويظل الملعب خاليًا أمامنا لحظات، ثم يقبل العاشقان، وقد تغير من أمرهما كل شيء فهما قد عرفا الحب، وهما مع ذلك يستقبلان الموت أكثر سعادة وابتهاجًا مما كانا قبل حين، وهما يهيئان سمهما في قدحين وهما يخلطان الدعابة بالجد، ويخلطان الحب بالموت، وقد شربا قدحيهما واضطجعا معًا على مضجع واحد، لا يجدان ألمًا، وإنما يحسان سعادةً ونعيمًا ويتبادلان أحاديث تتقطع قليلًا في صوت يخفت شيئًا فشيئًا، حتى لا يكاد يسمع، ثم يلقى بيننا وبينهما الستار، ولا ينبغي أن تحزن أيها القارئ، ولا أن يأخذك شيء من الأسى، فهذا الستار يرفع أمامك، وانظر فسترى هذين العاشقين قد أغرقا في نوم عميق، ولكن أين هما؟ إنهما في غرفة من غرف أحد المستشفيات في باريس قد وضعا في سريرين متجاورين، وأنت تراهما، فلا ترى موتًا، وإنما ترى نومًا عميقًا، ثم انظر فهذه الممرضة قد أقبلت تسعى بين يدي الأستاذ الطبيب، وهذا الطبيب ينظر إليهما، ثم يلتمس نبضهما، ثم يدعوهما فلا يجيبان، ثم ينصرف عنهما مطمئنًا مستيقنًا أنه قد استنقذهما من الموت الذي ألقيا نفسيهما في أحضانه منذ ثلاثة أيام.
ولا يكاد الطبيب ينصرف عنهما حتى يتحرك الفتى قليلًا ثم تتصل حركته، ثم تبلغه اليقظة شيئًا، وإذا هو يتحدث إلى نفسه، وإذا هو مستوثق أنه في العالم الآخر، وقد لمست يده ريشة نجمت من الوسادة التي أسند إليها رأسه فهو يظن أنه قد أصبح ذا جناحين يطير بهما في العالم الذي لا ينتهي، وهو يلتمس أصل جناحيه فلا يجد شيئًا، واليقظة تسعى إليه، ثم تهجم عليه، وإذا هو قد أفاق، وإذا هو يفتح عينيه، ويرى ما حوله، ويستيقن أنه لم يمت، وإذا هو يرى صاحبته مغرقة في النوم، وهو يدعوها، ويدعوها، ويصيح بها، ويلح عليها، ثم ماذا؟ إنها هي أيضًا تتحرك ثم تستيقظ، ثم تفيق ثم ترى صاحبها، ثم تسأله أين هما، فيجيبها مازحًا نحن في السماء، ثم ينتهيان إلى هذه الحقيقة التي لا يعرفان أحلوة هي أم مرة، وهي أنهما لم يموتا، وهذه الممرضة قد عادت إليهما فتراهما مستيقظين، وتبشرهما بالإفلات من الموت فلا يفرحان، ولعلهما إلى الحزن أقرب منهما إلى الفرح، فما خطب الأسرتين؟ وماذا قالتا حين انتهى إليهما النبأ؟ وماذا تريدان أن تصنعا بهما؟ وهذه الممرضة تنبئهما بأن رجلًا وامرأة يريدان أن يرياهما، والفتيان مشفقان أشد الإشفاق من هول ما سيريان وما سيسمعان.
فإذا أقبل هذان الزائران عرفنا أنهما عم الفتى وعمة الفتاة قد وكلت إليهما الأسرتان العناية بهذين الآثمين اللذين لا يستحقان من أهلهما عناية ولا حماية، وهذان الزائران يغلظان للمريضين، ثم ينبئانهما بما قرر أهلهما في أمرهما، فسيتزوجان، ولكن كل صلة بينهما وبين الأسرتين مقطوعة لا سبيل إلى وصلها، وعليهما أن يكسبا حياتهما، فأما الفتاة فستعمل في تجليد الكتب، وأما الفتى فسيعمل مع أحد المقاولين، وقد انصرف الزائران وخلا كلٌّ من العاشقين إلى صاحبه وقد أفاقا من نومهما حقًّا، وأفاقا من أحلامهما أيضًا، فأين الحب وبهجته، وأين الموت وراحته من هذه الأحاديث التي كانا يسمعانها، أحاديث العمل والجد والكد والفقر والجهاد في سبيل الحياة؟! وأين هذا الترف الذي كانا يفكران فيه قبل أن يموتا، ويبأسان منه حين كانا يلتمسان الموت، من هذا الشظف الذي يقبلان عليه؟! وهذا الفتى الذي كان طالبًا في مدرسة الفنون الجميلة يتهيأ لهندسة العمار، لن يكون مهندسًا، ولن يشيد الدور والقصور والكنائس الفخمة، ولكنه سيكون عاملًا عند أحد المقاولين!
هما محزونان وهما يترددان بين احتمال الحياة المرة التي تعرض عليهما والرجوع إلى الموت الحلو الذي خرجا منه، ولكن زائرًا قد أقبل عنيفًا غليظ الصوت، كثير اللوم، حلو النفس مع ذلك، لا يكاد العاشقان ينظران إليه حتى يعرفاه، فهو شارل خادم المطعم قرأ قصتهما في الصحف فأقبل يسأل عنهما، وهو سعيد لنجاتهما، وهو برٌّ بهما عطوف عليهما، إنه يقرضهما ما يحتاجان إليه من مال ليستقبلا حياة هادئة وليتم الفتى درسه، إنه يحمل إليهما بعض ألوان الطعام التي أحباها في المطعم منذ أيام، إنه يطعمهما بيديه ويأخذ عليهما عهدًا ألا يسعيا إلى الموت مرة أخرى.
هذه القصة كما لخصتها لك يسيرة أشبه شيء كما قلت بأحاديث العامة في أسمارها، ولكني أزعم أنك لا تستطيع أن تقرأها بالفرنسية حتى تُفتَن بها وتحاول أن تعيد قراءتها، فهي قد كتبت في أسلوب عذب سهل مؤثر حقًّا، ولكن النقاد ينكرون — كما قلت — على الكاتب أمورًا، فهذا الخادم شارل قد أقبل في الفصل الثالث لينقذ الموقف ليس غير، لا تدعو القصة إلى مقدمه وإنما هو قد اخترع اختراعًا، وهذه الدعابة المتصلة والمزاح المستمر قبل الموت وبعد الموت، شيء غير مألوف، وهاتان الأسرتان اللتان تنتهي القسوة بهما إلى هذا الحد لا يعرفهما الناس في الحياة المتحضرة، والقصة بعد هذا كله متأثرة بقصة شكسبير روميو وجولييت، وعنوان القصة مشتق من قصة شكسبير، فالعاشقان يختلفان وقتًا ما في سن جولييت أكان خمس عشرة سنة أم كان اثنتي عشرة سنة، ولكن أخذ القصص الرائعة الخالدة وتعصيرها كما يقول بعض الكتَّاب مباح بشرط ألا يكون فيه إفساد لهذه القصص، ولا إخراج لها عن طورها الرائع الجميل.
وكل هذه الملاحظات في نفسها وجيهة معقولة، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن النظارة قد وجدوا في شهود القصة راحة ومتاعًا، وأن القراء يجدون في قراءتها راحة ومتاعًا أيضًا، فقد يكون الكاتب مقصرًا في ذات الفن، ولكنه لم يقصر من غير شك في ذات النظارة ولا في ذات القراء، ومن الكتَّاب من يكفيه هذا المقدار من الإجادة.