مدام خمسة عشر
في عنوانها شيء من الغرابة الظاهرة، ولكنها من أروع القصص التمثيلي الفرنسي الذي ظهر في هذه الأعوام الأخيرة، ولعلها كما يقول بعض النقاد أن تكون أروع ما ظهر في هذا الفصل، بل أروع ما ظهر في هذا العام.
فيها فلسفة وتاريخ وشعر معًا، وفيها مع ذلك ملاءمة رائعة بين ما ينبغي لملعب التمثيل وما ينبغي للسينما، وما أظن أن هذه القصة ستمضي دون أن تُعرَض على الناس في أطراف الأرض من طريق السينما، فهي كأنها أُنشئت للسينما إنشاءً بفضل هذه المناظر القصار المتلاحقة التي يتصل بعضها ببعض في حقيقة الأمر، ويكاد كل واحد منها يستقل عما قبله وما بعده، والتي تجمع بين ما ينبغي للتمثيل من الرزانة والهدوء، وما ينبغي للسينما من الحركة والنشاط، وقد مثلت القصة في بيت موليير كما رأيت؛ أي في أشد الملاعب الفرنسية حرصًا على المحافظة واحتياطًا في التجديد، وستراها من غير شك ذات مساء في دور السينما فتعلم أن صاحبها قد وُفِّق إلى فوز عظيم حين استطاع أن ينشئ قصة تصلح لبيت موليير وللسينما دون أن تحتاج مع ذلك إلى أن يمسها تغيير أو تبديل.
وفي القصة كما قلت تاريخ وفلسفة وشعر، ولكن يجب أن نلاحظ أن الكاتب لم يكد يأخذ من التاريخ إلا الأسماء والأشكال وبعض الأوضاع، ولم يكد يأخذ من الفلسفة إلا بحظ معتدل جدًّا، لا يرتفع على أوساط الناس؛ لأنه إنما يضع القصة لأوساط الناس هؤلاء، فأما الشعر فقد أخذ منه الكاتب بأعظم حظ ممكن أن يحتمله النثر والحوار.
ولننظر قبل كل شيء إلى موضوع القصة وإلى الغرض الذي توخاه الكاتب حين أنشأها، والواقع أن العنوان الذي رأيته لا يصف القصة وصفًا دقيقًا، ولعله أعجب الكاتب فانصرف إليه دون عناية شديدة بالتدقيق، فموضوع القصة — إن صدقنا العنوان — هو هذه السيدة التي سماها مدام خمسة عشر، ونحن نجد هذه السيدة في القصة ونجد لها شخصية قوية، ولكننا نجد كما لاحظ بعض النقاد شخصية أخرى أظهر منها وأشد قوة، وهي شخصية رجل يمكن أن نسميه مسيو خمسة عشر، وهو لويس الخامس عشر ملك فرنسا. وظاهر أو غير ظاهر لمن لم يحسنوا تاريخ هذا الملك أن السيدة التي يتحدث الكاتب عنها هي مدام دي بونبادور عشيقة الملك التي فتنته واستأثرت بقلبه ولُبِّه، وتسلطت على قصره ومُلكه، واستغلت بأسه وسلطانه فأحسنت وأساءت، وأثرت في الحياة الفرنسية والسياسة الفرنسية أثناء القرن الثامن عشر أبلغ الأثر وأعمقه، وقد ظن الكاتب أنه يصور في قصته حياة هذه المرأة ذات الجمال الرائع والسحر البارع والقلب الذكي والعقل الخصب، ولكنه لم يصور من حياتها إلا شيئًا يسيرًا على حين صور حياة الملك تصويرًا قويًّا واضحًا شديد التأثير في النفوس، وأعطى من الملكة نفسها صورة إلا تكن بارزة كل البروز فهي صادقة كل الصدق.
وقد قلت إن الكاتب لم يأخذ من التاريخ إلا الأسماء وبعض الأوضاع والأشكال، وهو نفسه يقول ذلك في مقدمة كتبها لقصته ونشرها في الصحف الباريسية قبل أن تمثل، وهو ينبئنا بأنه لم يصور الملك كما يراه التاريخ، بل صوره كما يراه هو، أو كما يجب أن يراه، فالتاريخ يرى — أو كان يرى إلى وقت قريب — هذا الملك رجلًا ضعيفًا، شديد الضعف، مترفًا، مسرفًا في الترف، متهالكًا على لذاته إلى حد يبلغ الخزي، مستسلمًا للنساء من خليلاته استسلامًا يسقط المروءة أو يكاد يسقطها، مهينًا بهذا كله لملك فرنسا العظيم، وعرشها المجيد لا حظ له من إرادة ولا من تفكير، ولا من محاولة للإرادة والتفكير، ذلك إلى ما ينكره التاريخ على هذا الرجل وعلى وزرائه من إفساد للسياسة الفرنسية الخارجية والداخلية معًا، ومن تهيئة فرنسا للثورة التي نجمت فيها بعد موته بأقل من عشرين سنة.
كذلك كان التاريخ يرى هذا الملك، بل كذلك كان كثير من المعاصرين لهذا الملك يرونه ويحكمون عليه في أحاديثهم ومذكراتهم، ثم جاءت الثورة فأكثرت من التشهير به، وبالغت في التشنيع عليه، واستقرت السُّنَّة التاريخية على أن هذا الملك قد كان من شر من عرفت فرنسا من الملوك، ولكنَّ حركةً ظهرت في الأعوام الأخيرة فيها دفاع عن هذا الملك واستكشاف لشيء من الحسنات يضاف إليه، وتفسير لبعض الأعمال التي لم تُفهَم على وجهها، والتي لم تكن لتصدر عن ملك ضعيف شرير، وإنما هي خليقة أن تصدر عن ملك قوي خيِّر.
وصاحب هذه القصة لم يخترع إذن هذه الشخصية الجديدة للملك الفرنسي اختراعًا، وإنما ذهب في تصويرها مذهب هؤلاء المؤرخين المعاصرين الذين نهضوا يدافعون عنه، ويفسرون ما أُبهِم من سيرته على الناس، ولكنه على ذلك قد تجاوز الحد الذي انتهى إليه هؤلاء المؤرخون وأصبح مادحًا للملك، غاليًا في مدحه، يصوره كما يتمنى أن يكون لا كما كان بالفعل، وهو يعترف بذلك في غير تردد ولا تحفظ، وهو يستخدم قوته الشعرية كلها في إنشاء هذه الصورة الجذابة للملك، فيبلغ من ذلك كل ما يريد، وهو لم يقسم قصته إلى فصول، وإنما قسمها إلى أجزاء ثلاثة، وقسم كل جزء من هذه الأجزاء إلى مناظر تتصل فيما بينها ولكنها في ظاهر الأمر منفصلة، تحتاج إلى أن يُرخى الستار ويُرفَع فيما بينها.
فأما الجزء الأول من أجزاء القصة فيصوِّر حياة الملك وحياة صاحبته أثناء الشباب حين أتيح لهما أن يلتقيا وبعد أن تم لهما هذا اللقاء، وحين كان الحب بينهما قويًّا وعنفًا.
أما الجزء الثاني فيصور حياتهما بعد أن مضت على هذا الحب أعوام فضعفت حدته وفتر نشاطه، وأصبح شيئًا يشبه العادة اللازمة التي لا يستطيع أحدهما أن يخلص منها، ولكنها مع ذلك ثقيلة عليهما معًا.
وأما الجزء الثالث فيصور حياتهما حين تقدمت بهما السن فمات الحب وأصبحت حياة هذه المرأة في القصر حياة فرضتها العادة ليس غير، وهي في الوقت نفسه حياة تسرع بها إلى الموت ثم تنتهي بها إليه، وقد ضعف الملك، وبلغت منه الشيخوخة، شيخوخة القلب والجسم معًا، فهو فيما بينه وبين نفسه فيلسوف زاهد يائس، ولكنه يتكلف اللهو والدعابة والمجون إذا خرج إلى أهل القصر؛ لأنه يرى ذلك أساسًا من أسس الملك.
ونحن حين يُرفع الستار عن الفصل الأول في قصر من قصور الأشراف في الريف الفرنسي نرى رجلين يتحدثان: أحدهما مسيو بواسون والآخر صديق له، ومسيو بواسون هذا رجل من الأغنياء، كان يشتغل بتجارة الدقيق فأسرف في تجارته وغلا في طلب الربح حتى انتهى بالباريسيين إلى الجوع، فعوقب أشد العقاب ونفي من باريس واضطر إلى حياة الأقاليم، وهو لم يستيئس بعد من استئناف الحياة والنشاط، بل له آمال كبرى يتحرق على تحقيقها، وهو يتأذى كلما رأى رجلًا من طبقته قد ارتفع إلى طبقة الأشراف وظفر بلقب من ألقابهم. وله ابنة جميلة رائعة الجمال، فاتنة الصورة، هي أنطوانيت، اقترنت برجل من الأشراف هو مسيو دي تيول، ونحن الآن في قصرها، وإذا رأينا هذه المرأة الجميلة الشابة عرفنا أن جمالها وذكاءها ومكانة زوجها وثروته، كل ذلك قد مكنها من أن ترفع نفسها إلى مكانة اجتماعية عالية حقًّا، فكبار الأدباء والشعراء يختلفون إلى قصرها، وهي منهمكة فيما كان ينهمك فيه أمثالها من قراءة الشعر والاستماع له، ومن الاشتراك في التمثيل الغنائي والقصصي، وهذا فولتير يخرج من عندها في الوقت الذي يرفع فيه الستار. وزوجها يحبها أشد الحب ولكنه لا يلقى منها حبًّا يلائم حبه، وإنما يجد فتورًا وإعراضًا وانصرافًا إلى اللهو واللعب والأدب، وهو يشكو من ذلك، ولكنها لا تحفل بشكاته، وإنما تأخذه بالعبث مرة وبالجد والنذير مرة أخرى، وهو مذعن مطيع لأنه محب مفتون، بل نحن نحس من هذه المرأة شيئًا آخر، فهي قبل كل شيء حرة غالية في الحرية، قد أحبت حين كانت في العاشرة من عمرها فتى من أبناء الأطباء وكلفت به، ولكنه لم يحفل بهذا الحب الصبي، وهي تقص ذلك على زوجها، وتغيظه به، وهي منذ أن كانت تتنزه في الغابة فرأت موكب الصيد ورأت الملك فأحبته وسمت نفسها إليه وأطالت التفكير فيه، وتعرضت للقائه غير مرة وهي تعلم أن الملك قد لاحظها، وهي تطمع في أن ترقى حتى تبلغ حب الملك. وهذا قريب لها من الأشراف يعمل في الخدمة الخاصة للملك، وهي تتحدث إليه عن الملك، وهو يجيبها مغريًا لها، ضاحكًا منها، محدثًا نفسه فيما يظهر بأنه قد يبلغ بتقديمها إلى الملك حظوة عنده.
ويُسدل الستار على هذا المنظر، وقد تهيأت نفس هذه المرأة لحب الملك والسعي إليه، وتهيأت نفس زوجها للخضوع والإذعان، وتهيأت نفس أبيها للطمع وتحقيق المآرب مهما يكلفه ذلك من تضحية.
فإذا رفع الستار عن المنظر الثاني فنحن في قصر الملك بفرسايل، وفي غرفة من غرفات الملكة نراها تدخل على وصائفها فتحيِّيهن وتنبئهن بأنها قد نامت هذه الليلة مع أنها لم تتعود النوم، وتفهم من حديثها أنها امرأة صالحة، رقيقة القلب، كثيرة البكاء، سيئة الحظ، قوية الدين. ونحن في غداة اليوم الذي تزوج فيه ولي العهد، والملكة تسأل عن العروسين، وهذان العروسان قد أقبلا يحييانها، وهي تقبِّل ابنها وتتحدث إليه حديثًا رقيقًا، وتركع مع وصائفها للصلاة، وهذا الملك يقبل فيشاركهن في صلاتهن، ثم يتحدث إلى ابنه وإلى امرأته، فنفهم من الحديث أن الفتى يؤثر أمه، ويؤثر الحرب، وأن الملك يعلم منه ذلك ويألم لضعف مكانته في قلب ابنه، ثم يخلو الملك إلى الملكة فيتحدثان ويتعاتبان، فإذا الملكة تشكو هجر الملك وصده، وإذا الملك يرد عليها هي إثم هذا الهجر لأنها أسرفت في الجد، ولم تلاحظ ما كان ينبغي للشباب من نشاط ومرح، فاضطرته إلى أن يلهو ويلعب بعيدًا عن غرفاتها مع أنه أحبها أشد الحب وأصدقه، ولم يبقَ بُدٌّ من هذه الحياة الجديدة التي فرضتها عليه الظروف، فهو قد رسم لنفسه خطة في اللهو أصبحت شيئًا يشبه القانون لا سبيل إلى التخلص منه، وهذا رجل من الحاشية قد أقبل يدعوهما إلى الصلاة فيخرجان، ويسدل الستار على هذا المنظر، وقد فهمنا حياة الملك الخاصة في أسرته، فهو يحب امرأته ولكنه يخونها ويسرف في الخيانة لأنها صاحبة جد ودين، ومزاج هادئ لا تواتيه فيما يحب من المرح، وهي تعلم ذلك وتذعن له محزونة محبة لزوجها، وولي العهد يحب أمه، ويكبر أباه، ويتحرق شوقًا إلى الحرب.
ثم يُرفع الستار عن المنظر الثالث، فإذا نحن في قصر البلدية في مدينة باريس، والمدينة تحتفل بزواج ولي العهد؛ فتقيم لذلك عيدًا راقصًا قد سعى إليه الباريسيون على اختلاف طبقاتهم وهم منقبون، قد اتخذوا من الأزياء ما يخفي أشخاصهم، وقد حضر ولي العهد هذا العيد وقتًا ثم انصرف، ونحن نرى في هذا القصر أنطوانيت قد أقبلت ومعها أبوها، وكأنها تنتظر شخصًا، بل هي تنتظر الملك، تنتظر أن تراه، ومن يدري لعله يكلمها، فقد يجوز أن يكون قريبها سعى في هذا اللقاء، وآية ذلك أنها قد أبعدت زوجها عن باريس، وأنها تحاول أن تبعد أباها، وأنها قلقة تستبطئ مقدم الملك، وقد قبل أبوها أن ينصرف عنها لحظة ليلهو وليدعها فيما هي فيه. وهؤلاء أشخاص قد أقبلوا منقبين، وهذا أحدهم قد لحظ فتاة منقبة، فهو يتقدم إليها ويطلب أن ترفع النقاب، فتأبى، فيلح، فإذا رأى وجهها أراد أن يداعبها، فتفر منه، ويرسل أصحابه في أثرها، وقد عرفت صاحبتنا أنه الملك فتضحك منه، وما تزال به حتى تضطره إلى أن يتحدث إليها، ثم إلى أن يداعبها، ثم إلى أن يغلو في مداعبتها، وهي تتعمد دفعه عن نفسها، وهي تلطمه لطمة خفيفة، وهو يغضب لذلك، ويأمرها أن ترفع النقاب فتأبى، فيهمُّ بأن يرفع نقابه فتلفته إلى أن ذلك لا ينبغي له في هذا المكان، فهي إذن تعرفه وهي تحبه، تعلن إليه ذلك وقد رفعت نقابها، فرآها فعرفها، وهي تتهالك وتغريه فيستجيب لها، ولكن هذا الحوار الغرامي يصور لنا أجمل تصوير ذكاء هذه المرأة ودهاءها وسلطانها على نفوس الرجال.
فإذا رفع الستار عن المنظر الرابع، فنحن في فرسايل، وقد أمر الملك النفير العام، وهو يتهيأ للحرب وقد أقبلت أنطوانيت مع قريبها، فأُدخلت حجرة ضئيلة مستخفية لترى الملك قبل سفره إلى الميدان، وقد أقبل الملك فقضى معها لحظات، وتحدث معها أحاديث نفهم منها أن الحب قد انتهى بهما إلى غايته، وأن الملك مفتون بها، وأنها ليست أقل منه افتتانًا به، وهما يتحدثان حديث العاشقين عما كان قبل أن يلتقيا وما سيكون بعد هذا اللقاء، ولا يفارقها الملك إلا حين يضطره النظام الدقيق إلى هذا الفراق، وقد أقبل الخادم فأنبأه بأن الناس جميعًا ينتظرونه، وبأن الملكة قد أشرفت من القصر لترى سفره، ولتحييه قبل هذا السفر، فيخرج وقد وعد هذه المرأة بأن تحيته الأخيرة ستوجه إليها، فلتقف عند هذه النافذة.
ويُرفع الستار عن المنظر الخامس فإذا نحن في الميدان وقد انتصرت جيوش الملك على الإنجليز، وأبلى ولي العهد بلاءً حسنًا، والملك سعيد بالانتصار، سعيد بحسن بلاء ابنه، ولكن أنباء الجرحى والقتلى تنتهي إليه، وإذا هو محزون، وإذا هو رجل رقيق القلب، يكره الحرب، ويرثي لأوليائه وأعدائه معًا، ويسرع لمواساة الصرعى في الميدان.
وبينما هو في طريقه إلى الميدان يُرفع ستار جزئي فنرى الملكة وقد انتهت إليها أنباء النصر، فهي تبشر القصر وتصلي مع وصيفاتها.
ويرفع ستار آخر فنرى أنطوانيت معذبة تنتظر رسائل الملك التي لا تصل إليها.
وعلى هذا النحو ينتهي الجزء الأول من القصة، ولا يبتدئ الجزء الثاني إلا بعد عشرة أعوام قد استنفد الحب فيها قوته وحدته، ولذته ونشاطه، وانتهى إلى هذا الهدوء الذي لا يقطع الصلة بين العاشقين ولكنه يجعل كل واحد منهما على صاحبه ثقيلًا عزيزًا معًا، ونحن نرى أنطوانيت في حجرتها تتخذ زينتها مع الضحى، وقد أقبل أبوها يتحدث إليها طالبًا هذه الحاجات التي لا تنقضي، وهي ترده عن نفسها وعن الملك، والرجل يظهر الرضى، ويمضي في الإلحاح ويستقل ما ظفر به من مال كثير وشرف عظيم، وقد أقبل الملك فحيا هذا الرجل ثم خلا إلى صاحبته فإذا هي تتلطف له، وإذا هو يثقل عليها، وإذا هما يتحاوران حوار المتخاصمين، يشتد الخصام بينهما حتى ينتهي إلى العداء، ثم يلين حتى ينتهي إلى الصفاء، وهي تطلب إليه وهو يأبى عليها، وهي تسأله عن أمور السياسة وتشير عليه فيها، أليست تنصح له بالخدمة العسكرية الإجبارية؟ أليست تنصح له بموادعة البرلمان؟ أليست تشير عليه بموادعة الفلاسفة ومقاومتهم بالحيلة؟ وقد خرج الملك من عندها بعد حوار طويل ممتع فيه إلمام بالسياسة، وفيه تصوير للحب، واليأس من هذا الحب، والإذعان لسلطانه أيضًا.
وقد ذهب الملك للصيد، ونحن نراه في المنظر السابع وقد انفرد عن أتباعه وانتهى إلى قرية من القرى ووقف عند أسرة من الأسر تعرفه ويعرفها، تعرفه على أنه طبيب بيطري من أطباء القصر، وهو يتحدث إليها عن الملك، وفي الأسرة فتاة جميلة ساذجة تحبه ويحبها لولا أن السن قد تقدمت به، فهو لا يستطيع أن يتخذها لنفسه زوجة وإن كانت هي لا تكره ذلك، بل تحبه وتؤثره، وعند الأسرة فتى طبيب مثقف يحب الفلاسفة ويقرأ كتبهم، ويبغض الملك ويتحدث إليه بهذا البغض، لأنه لا يعرفه، وهو خطيب هذه الفتاة، وفي الأسرة مع ذلك أطفال يداعبون الملك ويداعبهم، وهو يصنع لهم اللعب ويفكههم بالأحاديث، وهو سعيد بالخلوة إلى هذه الأسرة والحديث مع هذه الفتاة، ولكن ماذا؟ هؤلاء قوم قد أقبلوا لا يكاد الملك يراهم حتى ينكرهم ويضيق بهم، على رأسهم أنطوانيت وجماعة من الحاشية، قد أقبلوا يطلبون الملكة، فلما انتهوا إليه وعرفوا تنكُّره لم يظهروه ولم يظهروا أنفسهم، وإنما زعموا أنهم جماعة من الأشراف، وطلبوا إلى الأسرة — وهي صاحبة فندق قروي — طعامًا وشرابًا، فأما أنطوانيت فشديدة الغيرة من هذه الفتاة، ولكن الملك قد عرف من أمر هذا الفتى الفيلسوف ما أثار غيرته أيضًا، فهو ابن ذلك الطبيب الذي أحبته أنطوانيت حين كانت في العاشرة من عمرها، والملك معنيٌّ بالفتاة، وأنطوانيت معنية بالفتى، والحوار بينهما شديد مختلف، والدعابة بينهما حلوة مرة، ويسأل الملك آخر الأمر عن الساعة فيجيبه بعض الحاشية جوابًا يظهر منه أمره وتتبين الأسرة أنه الملك، فينصرف وقد نفى الفتى إلى خارج فرنسا، وأمر أن تُرسَل الفتاة إلى دير لتتعلم، ثم أن تُمنَح بعد ذلك مهرًا يمكِّنها من الزواج.
ثم يبتدئ الجزء الثالث الذي يصور أصيل هذه الحياة، فنحن في غرفة الملكة وهي تلعب الورق مع بعض وصائفها، وفيهن أنطوانيت وقد تقدمت بها السن، وهي مُبِلَّة من مرض لم تبرأ منه كل البُرء، والملكة ترفق بها، وتعطف عليها، وتتحدث إليها عن الملك وعن حزنه وعزلته، وتستعينها على تسلية الملك، وإخراجه من هذا الحزن، ومن هذه العزلة. ونفهم من هذا الحديث أن هاتين المرأتين قد اشتركتا في حب الملك وفي اليأس من هذا الحب، فأما الملكة فتجد العزاء في الدين، وأما الخليلة فلا تجد العزاء في شيء، وقد انصرفت الملكة مع وصائفها إلى الصلاة وتركت أنطوانيت ومعها وصيفة جميلة رشيقة شابة تعرف أن الملك يحبها ويصبو إليها، وهي مدام دي سيران.
فاقرأ هذا الحوار بين الخليلة الشيخة اليائسة والعاشقة الشابة التي يملؤها الأمل، فستجد عند الشيخة غيرة ولوعة وحبًّا يظهر في مظهر البغض والشماتة، وسترى عند العاشقة الشابة أملًا ودعة وابتسامًا، ولكن الملك قد أقبل، وهمت الشيخة أن تلقاه لولا أن الضعف قد أدركها فانصرفت متثاقلة يعينها الخدم، وبقيت الوصيفة الشابة للقاء الملك الذي تهواه.
فإذا رفع الستار عن المنظر التاسع، فالخليلة الشيخة مريضة في سرير الموت، والقسيس يلقنها آخر ما ينبغي أن تقول، وهي تؤدي واجبها الديني في طاعة ظاهرة وإذعان لا غبار عليه، حتى إذا انتهت من ذلك إلى غايته وتفرق عنها الناس وخلت إلى وصيفتها عرفت أن زوجها الذي نفته منذ أعوام طوال، ثم دعته حين ألح عليها المرض قد أقبل مستجيبًا لدعائها، فإذا دخل عليها كان بينها وبينه حوار من أرقى ما كتب المحدثون؛ فهذه المرأة التي أدت واجبها الديني تعلن أنها لا تؤمن بشيء، وإنما أذعنت للكنيسة إيثارًا للراحة من إلحاح من حولها، وكذلك يفعل فولتير حين يؤدي واجبه الديني ليستريح من القسيس، وهي قد طلبت بأمر القسيس أن يعفو الله عن سيئاتها وأن يعفو أهل القصر عن سيئاتها، ولكنها لم تكن مخلصة في شيء من هذا، إنما العفو الذي تطلبه مخلصة هو عفو زوجها البائس الذي نفته لتمعن في اللهو والعبث مع الملك.
والزوج لا يبخل بهذا العفو، فهو يحبها الآن كما كان يحبها قبل الخطيئة، وهو يؤكد لها أن الحياة لا تنتهي بالموت وإنما تُستَأنف بعد ذلك، وهو يؤكد لها أنهما سيلتقيان في الدار الآخرة، وهي تنتهي إلى الإيمان بهذا اللقاء، والطمع فيه، وتستقبل الموت هادئة راضية ناعمة البال.
ثم يُرفع الستار عن المنظر الأخير، فإذا الملك في غرفته تُعرض عليه الأوراق فيمضيها محزونًا كئيبًا كاسف البال، أليست صاحبته قد ماتت؟! وها هو ذا قد فرغ من أعمال الدولة وعكف على نفسه يفكر، وهو متعب مكدود يجد البرد، وإن كان الموقد مضطرمًا غير بعيد منه، وخادمه يعرض عليه رسائل الحب قد كتبتها إليه غانيات القصر، فيُعرِض عن هذه الرسائل ويسأل عن بناته، ألم تطلب إحداهن أن تراه؟ فإذا أنبأه الخادم بأن واحدة ما لم تطلب لقاءه آذاه ذلك، فقد كان ينتظر هذا اللقاء.
وهذا باب الغرفة يفتح في غير استئذان، والخادم يريد أن يرد الطارق، ولكن الملك يدعو هذا الطارق فهي هذه الوصيفة الجميلة التي رأيناها منذ حين، قد أقبلت للقاء الملك، عرفت أنه محزون فجاءت تعزيه، وهي تنبئه بأن الملكة تصلي، فيسخر من الملكة ومن صلاتها، وهذه المرأة تحسن الحديث إليه وتصل إلى قلبه، وإذا هو يفتح لها هذا القلب، فنرى رجلًا حزينًا بائسًا قد زهد في الحب واللَّذة وأنكرهما، وود لو استطاع أن يظهر لأهل القصر كما هو خيِّرًا مؤثرًا للفضيلة، ولكنه يعلم أن أهل القصر سينكرونه ويزدرونه إن رأَوْا ميله إلى الخير والفضيلة؛ فهو خيِّر إذا خلا إلى نفسه، ماجن إذا ظهر للناس، وهو منكر للموت خائف منه أشد الخوف، والفتاة ترفق به، وتحسن تعزيته، وهو يرى فيها فتاة أحبها حين كان شابًّا وهو يضمها إليه ويقبلها موجهًا نظره نحو صورته حين كان شابًّا.
ثم يصحبها إلى الباب ويخلو إلى نفسه وإلى خادمه، ولكن صوتًا يُسمع من وراء النافذة، والخادم يدنو فينظر، فإذا سأله الملك لم يجب أو أجاب متحفظًا، فيدنو الملك من النافذة ويفتحها ويخرج إلى الشرفة رغم المطر والريح لأنه سمع ورأى وفهم، هذه جثة أنطوانيت تخرج بها العربة من القصر في ضوء المشاعل تحت جنح الليل وتحت هذا المطر المنهمر، وقد خرج الملك إلى الشرفة فوقف وأطال الوقوف، ونظر وأطال النظر، واستمع وأطال الاستماع، ثم عاد وقد بلل وجهه الدمع ممزوجًا بقطرات الغيث وهو يقول: هذا آخر ما استطعت أن أؤدي لها من واجب.
ويُسدل الستار على الملك ليتلو بينه وبين نفسه، وبينه وبين الله صلوات لاتينية فيها الحب والرحمة والندم والاستغفار معًا.