بين كأسين
مدت إلى القدح يدًا مترددة فتناولته على كره، ورفعته في بطء، ثم لم تبلغ به فمها الصغير، وإنما أمسكته في الفضاء لحظة كأنما كانت تدعو ما بقي لها من قوة وتجمع ما ندَّ عنها من صواب.
ثم أدنت القدح من شفتيها الورديتين الرقيقتين فمنحته قبلة طويلة لم تبق فيه راحًا ولا روحًا، ثم ردته مسرعة حازمة إلى موضعه من المائدة كأنها قد أعرضت عنه ونفرت منه وضاقت به ولم يبق لها فيه أرب، فهي تنبذه نبذًا وتلقيه إلقاءً.
وكانت — فيما علمتُ — أهوى الناس للَّهو وأصباهم إلى اللذة وأنشطهم للشراب، وكانت — فيما علمت — إذا صحَتْ أحرص الناس على الصمت وألزمهم للهدوء، وإذا انتشت أرغب الناس في الحركة وأقدرهم على الكلام، وكانت تصحو ما رأت الشمس، فإذا أقبلت ظلمة الليل فزعت إلى الشراب تلتمس عنده الأمن والأنس وتفر إليه من نفسها ومن الناس، كأنما كانت شمس النهار تؤنسها وتبعث فيها الدعة والطمأنينة فلا تشفق من شيء ولا تخاف شيئًا، فإذا انحدرت الشمس إلى مبيتها وبسَطَ الليل رداءه المظلم، أحسَّتْ وحشة لا تزيلها إلا هذه الشمس التي تُصبُّ من الزجاجة في الكئوس والأقداح والتي لا تكاد تبلغ الشفاه حتى تجري مع الدم وتسري إلى النفس، فإذا كل شيء نور ودعة وأمن واطمئنان.
ولم يكن القدح الأول قادرًا على أن يخرجها من هذه الوحشة التي تلم بها مع الليل، وإنما كان يعدها للخروج منها إعدادًا، ويهيئها للمرح تهيئة، كان يحل عقدة لسانها ولكنه لا يطلق هذا اللسان، وكان يلقي على وجهها رداءً رقيقًا ولكنه قوي من الحياة والنشاط، وكان يبعث في نظراتها قوةً وسحرًا، وكان الناظر إليها يحس كأن قوة حلوة ولكنها عنيفة تريد أن تنبعث من هذا الوجه الجميل ومن هاتين العينين الساحرتين ومن هذا الفم العذب، ولكنها في حاجة إلى حركة رشيقة يسيرة أشبه بحركة الأصبع حين تمس زرًّا من أزرار الكهرباء فتبعث الحرارة والضوء، ولم تكن هذه الحركة الرشيقة إلا أن تمتد يدها اللطيفة إلى القدح الثاني وقد هيأه لها الساقي فترفعه إلى شفتيها وتحسو منه حسوة واحدة.
هنالك يلقى الستار، وهنالك تتجلى نفسها من ورائه كأكمل ما تكون قوةً ونشاطًا وجمالًا.
وكانت قوتها منذ هذه الحسوة الأولى من القدح الثاني حرية كلها: حرية في اللحظ واللفظ، حرية في هذه الخواطر الشاذة الجامحة التي لم تكن تعلن نفسها في صراحة أول الأمر، وإنما كانت ترتسم على وجهها صورًا متعاقبة مسرعة يراها الناظرون إليها فتثير في نفوسهم شكوكًا وأوهامًا وأحلامًا أيضًا.
حرية في حركاتها التي تظهر وقد تجاوزت نفسها إلى جسمها كله، فإذا هي تلتفت إلى جلسائها عن يمين وعن شمال، ترمق هذا بنظرة وتلقي إلى هذا جملة، وإذا يدها بل يداها تمتدان عن يمين وشمال وإلى أمام تمسان هذا وتداعبان هذا، وإذا هذه الحركة تنبعث في جسمها كله، وإذا هي تنهض مُتهيِّئة للرقص، ترقص وحدها وتدعو من أحبت ليراقصها، حتى إذا أعيتها الحركة وأجهدها الاضطراب عادت إلى مكانها وأسرعت إلى قدحها فاحتست منه ما شاءت أن تحتسي، واستعارت من روحه روحًا ومن قوته قوة ومن حياته حياة.
ولم يكن هذا الجمال الذي يُرفَع عنه الستار أقل انبعاثًا في نفسها وجسمها من تلك القوة وهذا النشاط، ولكنه كان جمالًا حرًّا كتلك القوة الحرة، جمالًا سهلًا سمحًا لا يتحرج ولا يلتزم حدًّا ولا قيدًا، جمالًا كريمًا جوادًا لا يحتشم ولا يحب البخل، وإنما هو دعاء إلى الفرح والمرح ودعاء إلى اللذة والبهجة والنعيم.
دعاء ينبعث من عينيها المتوقدتين اللتين تنفذان إلى أعماق القلوب فتضعان فيها جذوة ضئيلة لا تلبث أن تلتهب وتضطرم.
دعاء من هذين الخدين المتوردين اللذين يكادان يفيضان الحياة، واللذين لا تقع عليهما الأعين إلا أغرت بهما الشفاه.
دعاء من هذا الفم الضيق الجميل الذي يسحر الآذان بما يساقط من لؤلؤ الحديث كما يقول الشعراء، ويسحر العيون بما يحيط به من هذا الإطار الوردي الخلاب. والذي يمتزج فيه هذا الجمال الذي يبلغ النفس من طريق السمع، وهذا الجمال الذي يبلغ النفس من طريق العين، فإذا هو ينبوع لا يرقى إليه الوصف، ينبوع تصدر عنه موسيقى عذبة سهلة معقدة مع ذلك تسحر الأذن والعين والقلب والنفس جميعًا.
دعاء من هذا الصدر المشرق، دعاء من هاتين الذراعين الرخصتين الممتلئتين، دعاء من هذا القد الرشيق، دعاء إلى كل شيء، دعاء إلى غير شيء، دعاء إلى هذا الهيام الذي يستبي النفوس، ويصرف عنها ما أبقى الشراب لها من رشد وصواب.
ولم ينتهِ صاحبي من هذا الوصف الجميل المغري حتى كان قد بلغ منه الإعياء، وأخذه الذهول، كأنه تمثلها أمامه منصرفة إلى قدحها تأخذه في رفق وترده في عنف، ماضية في عبثها، مغرقة في دعابتها، مندفعة في مرحها الذي لا حد له.
تراها نفسه فتغريه بالمشاركة في اللهو والاندفاع إلى اللذة، ويفقدها طرفه فيرده إلى الأناة ويضطره إلى الاحتشام.
وظل كذلك مضطربًا بين نفسه وطرفه حينًا، وأنا أريد أن أسأله عن أمره فلا أجد إلى ذلك سبيلًا، فلما طال بي ذهوله وشرود نفسه أقبلت عليه أسأله عن صاحبته هذه ما اسمها ومن عسى أن تكون؟ ولست أخفي أني ردَّدت عليه السؤال مرات، وعرضته عليه في ألوان من الكلام أرفق به مرة وأعنف عليه مرة أخرى، وما أشك في أن إلحاحي عليه هو الذي اضطره إلى أن يجيبني، وأخرجه من ذهوله الذي كان يكلف به ويحرص أشد الحرص على الإمعان فيه.
فلما أطلت عليه في القول وألححت عليه في السؤال قال: ما أنت وذاك؟! وما تعرُّضك لما لا تحسن؟! وما سؤالك عما ليس بينك وبينه سبب؟! لو أنك شربت بالكأس التي أشرب بها، وأحسست النشوة التي أحسها لاستطعت أن تعرف هذه الصورة الرائعة الخالدة من الجمال، ولكان الحديث بينك وبيني ميسورًا. قلت: وما هذه الكأس التي تشرب بها أنت ولا أشرب بها أنا؟ قال: هوِّن عليك فليست كأسًا محظورة، وليست كأسًا فيها لغو أو تأثيم، وإنما هي كأس مباحة، ولكنها لا تتاح إلا للمصطَفَين الأخيار، هي كأس الشعر يا سيدي، ثم انصرف عني حينًا وعاد إلى ذهوله وتركني واجمًا لا أفهم عنه أو لا أكاد أفهم عنه.
ثم عاد إليَّ بعد صمت طويل كأنه كان قد أُنسِي مكاني منه ثم ذكره بعد لَأْيٍ، عاد إليَّ فقال في صوتٍ كان يأتي من بعيد، كأنما كان يحدِّث عن نفسه الشاردة النائية: تسألني عن اسمها، فإن أسماءها لا تُحصَى، وتسألني عن شخصها، فإن شخصها لا يُدرَك ولا يكاد يبلغه الوصف، هي هيلانة هوميروس، وهي نُعْم عمر بن أبي ربيعة، وهي بثينة جميل، وهي عزة كُثيِّر، وهي ليلى قيس، وهي ألفير لمارتين، وهي شارلوت غوت، وهي رآي موسيه، وهي هذه التي عنَّت المحبين وأذاقتهم لذع الألم أثناء النهار، ومرارة الألم أثناء الليل، وهي التي أسعدت المحبين فجعلت حياتهم نعيمًا كلها وجمالًا كلها، ثم ردتهم إلى الشقاء فجعلت حياتهم بؤسًا وجحيمًا، وهي التي ألهمت الشعراء فاستوحوا منها شعرهم الذي غنوا فيه اللذة والألم، والنعيم والبؤس، والسعادة والشقاء، وهي التي جعلت الإنسان المترف إنسانًا مترفًا، وجعلت الشاعر المُجيد شاعرًا مُجِيدًا، وهي التي جعلت للحياة الإنسانية معنى يدركه الفلاسفة ويتفكرون فيه، فإذا هم بين رجل متفائل يرى الحياة ابتسامًا فيبتسم، وآخر متشائم يرى الحياة عبوسًا فيعبس، وينشر على نفسه وعلى الناس والأشياء من حوله رداءً قاتمًا من اليأس والقنوط.
وأعترف أني لم أكد أسمع هذا الكلام من صاحبي حتى أغرقت في الضحك، ومضيت أعبث به وأسخر منه، ورأيت أنه لا يتجاوز أن يكون قد خضع لهذه النوبة التي كانت تعرض له بين حين وحين من الجنون حين كانت تطول قراءته ويتصل عهده بدواوين الشعراء، ولكنه في هذه المرة كان هائمًا حقًّا قد اشتد عليه الهيام حتى أخرجه من طوره، وإذا هو يستأنف حديثه عن صاحبته هذه التي لا تُحصَى أسماؤها، ولا تُحصَر أوصافها، ولا يحدُّ لها مكان من الأمكنة، ولا عصر من العصور، وإنما هي فكرة من الجمال المطلق تصور المثل الأعلى لهذه الأنوثة التي تغري بالسعادة وتدعو إليها، وتحبب اللذة إلى النفوس، وتسلط الألم والشوق على القلوب، وتطلق ألسنة الشعراء بالشعر، وتشكل أصوات المغنين بأشكال الغناء، وهو يستأنف الحديث عنها واصفًا من شخصها ما لم يصف في حديثه الأول، يحلل من صوتها ومن حركاتها، ومن لحظها ومن خواطرها، ومن نشاطها ومن كسلها ما لم يخطر لي على بال، وأنا أسمع له معجبًا بهذه الفصاحة التي لا تنضب، وبهذا البيان الذي لا يدركه عجز ولا قصور، وبهذا الخيال الذي أفلت منه عنانه فاندفع أمامه لا يعرف لنفسه حدًّا ينتهي إليه.
وقد استيأست من أن أرده إلى بعض الوقار، أو آخذ معه في شيء من حوار، أو أجاذبه أطرافًا من حديث، فلم أرَ بُدًّا من أن أخلي بينه وبين ما هو فيه من هيام، وأنا أستمع لحديثه الغرامي أو لغنائه هذا الذي كانت تملؤه الفتنة، وما لي أخفي الحق، ولا أقول إني كنت أجد في الاستماع له لذةً ومتاعًا كهذه اللذة التي أجدها حين أقرأ الشعراء، أو أسمع لهم؟! وهل كان صاحبي إلا شاعرًا قد أرسل نفسه على سجيتها إرسالًا فتغنت بخير ما فيها من حب الجمال والطموح إلى مثله الأعلى؟!
لم يكن صاحبي إلا شاعرًا في ذلك الوقت، ولكني كنت أحب أن أعرف مصدر هذا الشعر الذي دُفِع إليه دفعًا وهام به هيامًا، وقد عرفته آخر الأمر وبعد كثير من الجهد، فهو كان قد قرأ أول النهار مقالًا لصديقنا الأستاذ محمد عوض في مجلة الهلال موضوعه مضايق البحار أو عنق الإمبراطورية البريطانية، ولست أشك في أنك ستغرق في الضحك حين تنتهي إلى هذا الموضع من هذا الفصل، كما أغرقت أنا في الضحك حين أخذ صاحبي يقص عليَّ قصته بعد أن أفاق من هيامه الغريب، فأين مضايق البحار وعنق الإمبراطورية البريطانية من هذه الغادة الحسناء التي وصفها صاحبي فأبدع في وصفها ما شاء له الشعر، وهام بها صاحبي فأمعن في الهيام بها ما شاء له قلبه الرقيق، وشعوره الدقيق، وخياله الرشيق؟ وأين مضيق جبل طارق وقناة السويس ومضيق باب المندب ومضيق سنغافورة من هيلانة هوميروس، ونُعم ابن أبي ربيعة، وبثينة جميل، وليلى قيس؟!
نعم، أين مضايق البحار وتاريخ الاستعمار من هذه المثل العليا للجمال واستهوائها لأحلام الرجال؟ ولكن اقرأ مقال صديقنا الجغرافي الأديب وانتهِ منه إلى آخره، فسترى أنه اعتدى على الشعر، وبغى على الفن، وأهان الجمال، وأساء إلى الخيال، وبعض هذا يكفي لإثارة شاعر رقيق القلب، دقيق الحس، ملتهب العاطفة كصاحبي هذا، فقد شرب صديقنا الأستاذ محمد عوض بكأس العلماء الجغرافيين قبل أن يكتب فصله هذا، فزعم أن الذي أثار الحرب بين اليونانيين والطرواديين لم يكن جمال هيلانة البارع، ولا لحظها الساحر، ولا طرفها الفاتر، ولا صوتها العذب، ولا حديثها الذي كان يُحيِي القلوب كما يَحيا الزهر لقطرات الندى. لم يكن شيئًا من هذا، وإنما كان الاستعمار وحب الاستيلاء على مضايق البحار، وحسد اليونانيين للطرواديين لأنهم كانوا يتسلطون على طريق من طرق التجارة. يا للهول! يا للإثم! يا لعدوان العلم على الفن! يا لطغيان العقل على الخيال! يا لجناية المادة على الروح! ماذا؟ وإذن فقد كان كل ما نظم هوميروس من الشعر، وكل ما نظم الشعراء قبل هوميروس وبعد هوميروس من القصص حول هيلانة وأحاديثها، وقد كان غناء اليونان كله، وقد كان كثير من تمثيل اليونان، وقد كان كثير من فن اليونان، وقد كان إيمان اليونان بهذا الجمال البارع الخالد؛ لغوًا من اللغو، وعبثًا من العبث، وأسطورةً من الأساطير، وكان الأمر ينتهي عند البحث والتحقيق، وعند التمحيص والتدقيق، إلى هذا الشيء التافه الحقير الغليظ الفج الذي يسمونه المال والتجارة والربح، وتريد بعد هذا أن يكون العلم محسنًا إلى الناس لا مسيئًا، ومُسعدًا للناس لا مُشقيًا، ومنعمًا على الناس لا ممتحنًا لهم بألوان البؤس والضراء؟
كلا، لقد عذرت صاحبي حين أثاره ما قرأ في مقال الأستاذ الدكتور عوض فأبغض العلم ونفر منه وكره العلماء، وضاق بهم، وأسرع إلى الشعر فغرق فيه إلى أذنيه، ثم خرج منه بهيلانته هذه التي رويت حديثها في أول هذا الفصل.
العجب لهؤلاء العلماء! يكبُر العلم في نفوسهم فيفسد عليهم كل شيء، وإذا هم يزينون الباطل ثم يعرضونه على أنه الحق، وإذا هم يفتنون بما زينوا، ويفنون فيما اخترعوا، ويخدعون أنفسهم عن أنفسهم. يحدثنا اليونان جميعًا أثناء العصور الطويلة والقرون المترامية وفي الآثار الأدبية والفنية الخالدة التي لا تكاد تُحصَى، بأن حرب طروادة إنما أثارها جمال هيلانة، فنأبى إلا أن يكون اليونان كاذبين مخدوعين مضللين، بفتح اللام وبكسرها، وإلا أن يكون مصدر الحرب حاجة الاستعمار إلى مضايق البحار. يجب أن يكون اليونان ساسة مهرة كالإنجليز، لماذا؟ لأن طروادة تقوم غير بعيد من مضيق الدردنيل، ويجمع الرومان على مثل ما أجمع عليه اليونان من قبلهم، وتجمع أوروبا المتحضرة أثناء القرون الوسطى على مثل ما أجمع عليه اليونان والرومان، ويجمع الأدباء والشعراء وأصحاب الفن في أوروبا الحديثة، وفيهم شكسبير وغوت، على مثل ما أجمع عليه الذين من قبلهم، يتفق هؤلاء جميعًا على أن اليونان غضبوا لجمال هيلانة فأثاروا ما أثاروا من هذه الحرب، واحتملوا ما احتملوا من المحن، وخاضوا ما خاضوا من المكاره، وأنشَئُوا ما أنشَئُوا من الآثار الخالدة في الأدب والفن، ثم يأتي عالم من أصحاب الجغرافيا فيلقي نظرة سريعة على الخريطة، ويرى أطلال طروادة قريبة من الدردنيل فيهدم في أقصر لحظة وبأيسر حركة من عقله ويده هذا البناء الإنساني الشامخ الذي أقامته الأمم والأجيال، واشتركت فيه عبقريات الأدب والفن تمجيدًا لجمال هيلانة، وتخليدًا لحسنها الذي كان يسحر النفوس.
هذا كثير وأكثر منه أن العقل لا يستطيع أن يخلص من هذا الرق الذي يفرضه عليه العلماء، فهو مضطر إلى أن يرفض وحي الأدب والفن ويذعن لنتائج هذا البحث العلمي الجاف.
الآن، والآن فحسب، فهمت لماذا يتردد صديقنا عوض في ترجمة فوست الثاني بعد أن ترجم فوست الأول، فقد كان غوت يؤمن بهيلانة وبخلودها، وهو قد زوجها من فوست، ولم يكن يرى رأي الجغرافيين أن حرب طروادة كانت للاستعمار، فكيف بصديقنا الجغرافي أن يترجم هذا الأثر الأدبي الخالد الذي ينقض علمه نقضًا ويرفضه رفضًا؟ آمنت بأن صاحبي لم يكن مخطئًا ولا غاليًا حين طلب إليَّ أن أشرب بكأس الشعر لأتعرف هيلانة، فإن هذه الكأس الأخرى التي يسقينا بها العلماء مُرة المذاق، قصيرة المدى، ضيقة الأمد، لا تفتح للنفوس أملًا، وإنما تقيم أمامها أسوارًا شاهقة من اليأس والقنوط، وأين كأس الشعر التي تجلو لنا بهجة الجمال الخالد من كأس العلم التي تفرض علينا سماجة المال الوضيع؟!
ما أعظم الفرق بين هاتين الكأسين! وما أشد حاجتنا حين يلح علينا العلماء بكأسهم المُرَّة إلى أن نُسلِّي عن أنفسنا بهذه الكأس الحلوة الخالدة التي يديرها علينا الشعراء!
اللهم اشهد أني أنكر العقل، وأجحد العلم، وأرفض أن تكون حرب طروادة قد ثارت لشيء غير جمال هيلانة الخالدة!