صريع الحب والبغض
ضاق بالحياة فخرج منها، أو ضاقت به الحياة فنفته من جوها نفيًا، وكان الذي بغَّض إليه الحياة وزهَّده فيها وأخرجه منها مَخرجًا عنيفًا حبه للناس ورفقه بهم وعطفه عليهم، وكان الذي حبَّب إليه الموت وزيَّنه في قلبه ودفعه إليه دفعًا شديدًا بغض الناس له، وحقدهم عليه، وإسرافهم في إيذاء نفسه، وإهانتهم إياه في ضميره وكرامته وشرفه الوطني.
نهض بواجبه شابًّا فجاهد ذائدًا عن وطنه، متحملًا في ذلك ما يحتمله المحاربون من ألوان البأس وفنون الشقاء، ثم أسره العدو فكلفه ضروبًا من الجهد، وثبت هو لما كلفه العدو أبيًّا كريمًا ذائدًا عن وطنه في سجن الإسار كما كان يذود عنه في ميادين الحرب، ثم رد الناس إلى السلم واستقرت بهم علاقات الإلف والمودة، واستأنف المحاربون القدماء حياة العمل اليومي، كلٌّ مُيَسَّر لما خُلق له، وكان هذا الرجل قد خُلق للنضال السياسي فأقبل عليه وجدَّ فيه وظفر بكثير من التوفيق، وإذا هو نائب اشتراكي، ثم وزير اشتراكي، وإذا هو ينهض بأعباء الحكم ويحتمل أثقال الإدارة في وزارة الداخلية الفرنسية، وإذا هو يصل الليل بالنهار عاملًا في ديوانه، وعاملًا في بيته، وعاملًا في حزبه، وعاملًا في مجلس البرلمان، وعاملًا في مجلس الوزراء، ووسيطًا بين العمل ورأس المال، ومتنقلًا بخطبه في مدن فرنسا وقراها لا يستريح ولا يحب الراحة، ولا يطمئن ولا يميل إلى الاطمئنان، قد امتلأ قلبه بحب المستضعفين وامتلأت نفسه بمذهبه السياسي؛ فأنفق ما يملك وما لا يملك من القوة والجهد في تقوية الضعفاء حتى ينتصف لهم من الأقوياء، وفي الذود عن مذهبه السياسي الاشتراكي حتى يحقق من أغراضه أقصى ما يستطيع تحقيقه في غير ثورة ولا عنف ولا تغيير أساسي للنظام الديمقراطي المستقر.
وإنه لفي ذلك يمضي أمامه مضاء السهم لا يبطئ ولا يني ولا يُحجِم ولا يتردد، وإذا خصومه السياسيون يرمونه بسهم مسموم يتلقاه الرجل أول الأمر فيثبت له ويمتنع عليه، ولكن السهام يتلو بعضها بعضًا، وكلها مسمومة مُهلِكة، والرجل يثبت لها ويقاومها ما استطاع، يردها عن نفسه بماضيه النقي، ويردها عن نفسه ببلائه الحسن في الحرب، ويردها عن نفسه بسيرته الكريمة في الإيثار، ثم ينهض لمعونته وزير الدفاع فيعلن إلى الناس جادًّا جاهدًا ومصممًا مُلحًّا أنه كان محاربًا كريمًا وأسيرًا كريمًا، وأنه قد أدى واجبه الوطني في أيام المحنة الوطنية الكبرى كأحسن ما تُؤدَّى الواجبات، ولكن مقاومة الرجل لا تغني عنه شيئًا، ومعونة وزير الدفاع لا تغني عنه شيئًا، واجتماع قلوب العمال والضعفاء حوله لا يغني عنه شيئًا، فهذه السهام المسمومة تُرسَل إليه مجتمعةً متصلةً لا تفتر ولا تني ولا تحيد.
وإذا هو قد استيأس من قدرته على المقاومة، واستيأس من قدرة أعوانه على الدفاع عنه، واستيأس من قدرة هذا الحب الشعبي الذي كان يحوطه ويكلؤه على أن يحميه من هذا البغض السياسي الذي كان يصب عليه الشر متصلًا في غير رفق ولا أناة.
وقد أنهك الجهد قوته الجسمية وأنهك الحزن قوته المعنوية، وإذا هو ينظر فلا يرى إلا ضميره قد أفعمته الحياة واستأثرت به الكرامة والغضب للشرف، فهو يثور في غير جدوى، وهو يضطرب في غير غَنَاء، وهو يُدمَى مصبحًا ويُدمَى ممسيًا، وهو يُدمَى عاملًا ويُدمَى مطمئنًّا، وهو لا يجني من وراء هذا كله إلا اتصال هذه السهام التي تُرسَل إليه إرسالًا لا يعرف المهل ولا الريث، وإذا نفسه تمتلئ باحتقار الناس والحياة، وتمتلئ باحتقار هؤلاء الذين يقذفونه ويكذبون عليه مستمسكين بأهداب الباطل، معرضين عن أسباب الحق، مستجيبين لداعي الشهوة، معرضين عن داعي الإنصاف، يريدون أن يسوءُوه وأن يسوءُوا أنصاره فيه، لا يسألون أنفسهم أيسوءُون معه الحق والفضيلة والعدل والإنصاف.
نعم، وتمتلئ نفسه بهذا الاحتقار الرفيق الذي تملؤه الرأفة، وتشيع فيه الرحمة لهؤلاء الذين يحبونه فلا يغني عنه حبهم شيئًا، ولهؤلاء الذين يدافعون عنه فلا يغني عنه دفاعهم شيئًا.
نعم، وتمتلئ نفسه احتقارًا لهذه الحياة التي تجمع بين أولئك وهؤلاء، ولا تميز بين الجور والعدل، ولا بين الخير والشر، وإنما تدور على غير بصيرة ولا هدى فتمد للطغاة أسباب الطغيان، وتقصر بأهل الخير حتى عن حماية أنفسهم، تمتلئ نفسه بالاحتقار للحياة والأحياء، وبالزهد في الحياة والأحياء، فلا يرى لنفسه مخرجًا إلا الموت فيقبل عليه مسرعًا إليه، ثم يكتب إلى ذوي قرباه قبل أن يخطو خطوته الأخيرة إلى القبر أنه جاهد ما استطاع الجهاد، ولكنه انهزم فآثر الموت، وأن الذي دفعه إلى الموت إنما هو ما ألحَّ عليه من تعب جسمه وتعب نفسه.
وكذلك قضى هذا الوزير الفرنسي صريع حبه للناس وبغض الناس له، فكان موته عبرة تدعو إلى كثير من التدبر والتفكير، وما أكثر العبر التي تدعونا إلى أن نتدبر ونتفكر! فالحياة تعرض علينا منها ألوانًا مختلفة في كل يوم، ولكننا لاهون عنها بأنفسنا وهمومنا المتصلة ومنافعنا العاجلة، إلا أن تكون العبرة متصلة بشخص ممتاز أو بحادث فذ، هنالك نقف عندها قليلًا ونفكر فيها قليلًا ثم نستأنف ما كنا فيه من اشتغال بأنفسنا وهمومنا ومنافعنا، وكأن الحياة لم تدعُنَا إلى الاعتبار، وكأن الأيام لم تضطرنا إلى التفكير.
ذاد هذا الوزير عن وطنه في الحرب العظمى ذيادًا كريمًا، ثم أسره العدو، فإذا خصومه يزعمون أن هذا الأسر لم يكن إلا فرارًا، وإذا هم يعظمون أمر هذا الفرار ويسرفون في التشنيع به ويكبرون أن يصل الفارُّ من ميدان القتال إلى أن يكون نائبًا، ثم إلى أن يكون وزيرًا، وقد كذَّب الرجل خصومه ونفى عن نفسه هذا الإثم، وأيدته وزارة الدفاع ما وجدت إلى تأييده سبيلًا، فحققت واستوثقت وأعلنت إلى الناس أن الرجل لم يفرَّ ولم يُقض عليه ولم يؤخذ بظنة ولم تلحق به ريبة، ولكن خصومه لجوا في الخصومة وأبوا إلا أن يجادلوا ويمعنوا في الجدال، وأكبر الرجل نفسه وأكبر حرية الرأي وأكبر حق المعارضة في نقد الوزراء فلم يحاكم خصومه ولم يقف معهم أمام القضاء، وكانوا خليقين أن يقدروا هذا وأن يرعوا حرمة هذا الرجل الذي وسَّع عليهم وكان يستطيع التضييق، وأقصر عنهم وكان يستطيع أن يأخذهم بالبطش دون أن يخالف القانون أو يتجاوز حدوده ولكنهم لم يعرفوا لهذا الرجل حقًّا ولم يرعوا له حرمة، كما أنهم لم يعرفوا للعدل حقًّا ولم يراعوا له حرمة؛ لأنهم لا يخاصمون كما تعود الناس أن يخاصموا وإنما هم يخاصمون خصام المستميت، يحاربون بكل سلاح وينتفعون بكل وسيلة، ويأخذون على عدوهم كل طريق.
وكذلك انتهى الأمر إلى هذه المسألة التي ذهب فيها رجل ضحية حرية الرأي أو ضحية الإسراف في حرية الرأي أو ضحية العدوان على حرية الرأي، فليس عدو الحرية من ينصب لها الحرب ويفرض عليها الأغلال والقيود وحده، ولكنَّ للحرية عدوًّا آخر ليس أقل شرًّا ولا أهون شأنًا من هذا الطاغية المستبد، وهو هذا الذي يتجاوز بها الحدود ويخرجها عن طورها المعقول ويحولها أداة للشر وسبيلًا إلى الفساد.
وكذلك تشهد أوروبا في هذه الأيام ويشهد العالم كله معها هذه الحرية البائسة يعذبها أعداؤها ألوانًا من العذاب، أولئك يغلونها ويقيدونها ويقيمون الأسوار الصفيقة بينها وبين الملايين من الناس في شعوب كثيرة وأقطار مختلفة من الأرض، وهؤلاء يستغلونها ويسرفون في استغلالها، فيحررونها من كل قانون ويطلقونها من كل عقال ويشيعون فيها جنونًا ينتهي بها إلى الإجرام واقتراف الآثام، أولئك يقتلون الناس لأنهم يحرمونهم الحرية ويقطعون بينها وبينهم الأسباب ويضطرونهم إلى هذا الصمت المهلك والكظم المضني، وهؤلاء يقتلون الناس لأنهم يسلطون عليهم الحرية الجامحة التي لا تعرف لجموحها حدًّا تقف عنده أو غاية تنتهي إليها، فهؤلاء الصرعى الذين يسقطون في أقطار أوروبا على اختلافها إنما هم ضحايا الحرية المعذبة بالسجن حينًا وبالإطلاق حينًا آخر.
وكذلك تشهد أوروبا ويشهد العالم معها هذا التطور الغريب الذي ينتهي بالإنسانية إما إلى الجنون وإما إلى المذلة والهوان، وكذلك تشهد أوروبا ويشهد العالم معها هذا التطور الذي ينتهي بالحضارة الحديثة إلى الكارثة تأتيها لأن أفرادًا يضيقون بالحرية فيهدرونها، ولأن أفرادًا آخرين يهيمون بالحرية فيذهبون بها إلى غير مدى.
والأمر لا يقف عند هذا الحد، فهذا كاتب فرنسي من كبار الكتاب يحرض على القتل ويستمع له أنصاره ويستجيبون له ويهمون بسفك الدماء، فيؤخذ هذا الكاتب ويُقضَى عليه بالسجن قضاءً لا مرد له، ولكن الناس لا يعتبرون ولا يزدجرون وإنما تمضي الصحافة في إذاعة البغض وإثارة الحقد وإفساد ما بين الناس من صلات حتى تنتهي إلى هذه المأساة التي دفعت الوزير الفرنسي إلى الموت، فأيهما خير: نظام يغل الصحافة ويعقل الأقلام ويعقد الألسنة ويكبح المعارضة كبحًا ويميت الناس غيظًا بما يضطرب في صدورهم من الآراء وما يغلي في رءوسهم من الخواطر، أم نظام يرسل الصحافة على حريتها والأقلام على سجيتها والألسنة على طبيعتها فيكتب الناس في غير حساب، ويقول الناس في غير رعاية للحق والعدل؟ أيهما خير: نظام السلطان العنيف الذي يرد الناس إلى ذلة كانوا يظنون أن عصرها قد انقضى، أم نظام الحرية المطلقة الذي يرد الناس إلى فوضى كانوا يظنون أن عصرها قد انقضى أيضًا؟
كلا النظامين شر من غير شك، وما أظن إلا أن الناس جميعًا يعرفون ذلك، وما أظن إلا أن كل فرد واحد فيما بينه وبين نفسه يود لو استطاعت الإنسانية أن تصل إلى نظام وسط لا يلغي الحرية فيلغي معها كرامة الإنسان، ولا يُطغِي الحرية فيطغي معها الأهواء والشهوات، ولكن كيف تستطيع الإنسانية أن تصل إلى هذا النظام وقد فسد عليها أمرها واختل التوازن بين قواها المختلفة، وأفلت عنان النظام فيها من يد العقل، واستأثرت به الشهوة فهي تصرِّفه تصريفًا لا حظَّ فيه للروية ولا للتدبير.
مهما يكن من شيء فهذه حرية الصحافة، أو قل هذا الإسراف في حرية الصحافة قد استحدث فنًّا جديدًا من الإجرام، فن القتل المعنوي كما يسميه بول نور، هذا الذي يأتي من الإسراف في القذف وإذاعة السوء حتى يحمل الناس على أن يقتلوا أنفسهم، وهو يستحدث في الوقت نفسه فنًّا جديدًا من العقاب، فهؤلاء الفرنسيون أو المفكرون من الفرنسيين يريدون الحكومة على أن تشرِّع القوانين لتردع مثل هذا النوع من الإجرام، ومهما يكن من شيء فهذه الديمقراطية الأوروبية تلقى حربين مختلفتين: حربًا تأتيها من الخارج من هؤلاء الذين ينظمون السلطان العنيف، وحربًا تأتيها من الداخل من هؤلاء الذين يستمتعون بالحرية الديمقراطية إلى غير حد، أفتراها تسلم من هاتين الحربين؟ أفترى تخرج ظافرة من هذا العداء المزدوج؟ لا أدري، ولكن هل يتاح لنا — نحن الشرقيين الناشئين في الديمقراطية — أن ننتفع بمحنة الديمقراطية الأوروبية وأن نسلك بديمقراطيتنا الجديدة طريقًا وسطًا آمنة تعصمها من الطغيان كما تعصمها من الفوضى، تعصمها من أولئك الذين يصبون العذاب على الناس لأنهم يريدون أن يكونوا أحرارًا، وتعصمها من أولئك الذين يسرفون في حقهم من حرية القول فيدفعون الناس إلى اليأس ثم إلى الموت؟