فُجاءَة فاجعة
أشرقت الشمس بنور ربها فملأت الأرض بهجة وجمالًا، وملأت النفوس قوة ويقينًا، وبثَّت في الأجسام حياةً ونشاطًا، وغمرت قلب تلك الفتاة بنور من الأمل حلو حار مطمئن طموح معًا، أرسل على وجهها الجميل دعة ولينًا وأمنًا وحنانًا، وكانت قد أنفقت ليلة هادئة مطمئنة بعد أن أنفقت يومًا هادئًا مطمئنًّا. عملت بياض النهار وشطرًا من الليل في تمريض هؤلاء البائسين الذين تضطرهم الآلام والأدواء والفقر إلى المستشفى، فيلقون فيه من عناية الأطباء ورفق الممرضات والممرضين ما يرد عنهم عوادي العلل، أو يسلك بهم طريقهم إلى آخر الحياة في لين ورفق وعزاء. وكانت هذه الفتاة حلوة الروح، كريمة النفس، رقيقة القلب، تقبل على عملها مُحِبة له، مؤمنة به، موقوفة النشاط عليه، كأنما تؤدي حين تؤديه واجبًا دينيًّا مقدسًا قد امتلأ به قلب صادق الإيمان.
فكان ابتسامها وحديثها وحركاتها حين تذهب وتجيء، وعنايتها بهؤلاء المرضى حين تختصهم بعنايتها، كان هذا كله يقع من هؤلاء الضيوف البائسين في المستشفى موقع الرحمة على القلب الشقي، وموقع الماء من الظمآن الذي يحرقه الظمأ ويضنيه الصدى، وموقع العزاء من المكروب، والغنى من المحروب، وموقع الأمل من اليائس الذي اشتملت عليه ظلمات اليأس، والقانط الذي كاد يهلك نفسه القنوط. كانت حياتها في المستشفى نورًا يذود عنه الظلمة، ونعيمًا يرد عنه البؤس، وبهجة لقوم قد استيأسوا من بهجة الحياة. وكانت تتنقل بين غرفات المستشفى وحجراته مشرقة الوجه، باسمة الثغر، مطمئنة النفس، محزونة القلب مع هذا كله لما تشهد من ألم وما ترى من شر، فلا تكاد تدخل غرفة أو حجرة إلا أدخلت معها الرحمة والحب، ولا تخرج من غرفة أو حجرة إلا تركت فيها قسطًا من أمل وحظًّا من عزاء.
وكانت إذا أنفقت يومها هذا في توزيع العناية والرحمة والحنان على المرضى والبائسين آوت إلى مضجعها حين يتقدم الليل ناعمة النفس، رضية البال، مطمئنة القلب، والتمست هذه الراحة التي تردُّ إلى الجسم قوته وإلى العقل نشاطه، وإلى القلب ذكاءه وشجاعته وحبه للخير وحرصه على البر واحتماله للمكروه.
وكانت تنفق ليلها في نوم هادئ ربما روَّعته من حين إلى حين أحلام سود تمثل لها آلام المرضى وعواقب هذه الآلام، وربما ابتسمت فيه أحلام بيض تمثل لها شفاء بعض هؤلاء المرضى واستئنافهم لحياة حلوة باسمة، وربما أشرقت فيه أحلام أخرى لا تتصل بالمرض ولا بالمرضى ولا بأهل هذا المستشفى، وإنما تتصل بأسرتها المتواضعة النائية عن المدينة التي تنفق حياتها في كد وجد، وفي أمن وأمل، وفي حزن غير قليل مصدره أثقال الحياة، وبُعد الولد، وضيق ذات اليد، أو تتصل بهذا الأخ الشاب الذي لم يكد يتجاوز العشرين، والذي يقيم في المدينة غير بعيد منها ولكنه لا يكاد يلقاها إلا مرة في الأسبوع، حين يتيح لها العمل ويتيح له الدرس ساعات يلتقيان فيها فيتحدثان، وربما خرجا للتروض إلى ضاحية من ضواحي المدينة سعيدين بهذا اللقاء ناعمين بهذه النزهة المشتركة، ثم عادا مع المساء فصحبها أخوها حتى يبلغها المستشفى ويودعها وقد ضربا موعدًا للقاء بعد أسبوع.
ولعلها كانت ترى في بعض ما ترى أثناء هذا النوم الهادئ صورًا أخرى من الأحلام لا تتصل بالمستشفى ولا تتصل بالأسرة النائية ولا تتصل بالأخ القريب، وإنما تصور زاوية من زوايا هذا القلب المتواضع الكبير لا يعرفها أحد غيرها، وقلما تفكر فيها يَقِظةً وقلما تحلم بها نائمة، ولكنها تعرض لها من حين إلى حين، لحظات قصارًا في اليقظة أو لحظات قصارًا في النوم، تعرض لها لأسباب نادرة طارئة غير منتظرة ولا مقدرة، إنما هي نظرة إلى بعض الوجوه أو تأثر ببعض الأصوات أو ابتهاج لبعض الابتسامات، وإذا الستار يرفع عن هذه الزاوية المستورة في قلب كل فتاة، وإذا هذه الصور تسنح شاحبة حينًا، ومشرقة حينًا آخر، تمثِّل آمالًا ضيقة طورًا وواسعة طورًا آخر ولكنها تملأ حياة الفتيات نعمة وثقة وإيمانًا بالحياة. ولم تخلُ ليلتها هذه من أحلام مروعة بعض الروع وأخرى مهدئة بعض الهدوء، ولم تخلُ ليلتها من حزن وأمل معًا فقد كثر الذين حملوا إلى المستشفى من جرحى الفتنة، وكثر حولهم نشاط الأطباء والممرضين، وعظم بفضلهم إيمان هذه الفتاة بعملها وحرص هذه الفتاة على أن تفيض من رحمتها وحنانها وبرها أكثر مما أفاضت إلى الآن.
فكرت في هذا كله قبل أن يغلبها النوم، وحلمت بهذا كله بعد أن اشتملها النوم، ثم أفاقت من نومها وانسلَّت من غرفتها وذهبت إلى رئيستها لعلها أن تكون في حاجة إلى بعض العون، ولكن الرئيسة لقيتها باسمة وردَّتها رفيقة وألحت عليها في حزم أن تستكمل حظها من الراحة ونصيبها من النوم، فعادت الفتاة إلى غرفتها وأوت إلى سريرها وأخذت تغالب هذا الأرق مستعينة على ذلك بالتفكير فيما يدخر لها الغد من ساعات حلوة تقضيها مع أخيها خارج المنزل في هذه الضاحية أو تلك، ومضت تتصور أخاها وتسمع حديثه وتلقي إليه حديثها وتقترح عليه ويقترح عليها، وتداعبه ويداعبها، وتغاضبه ويغاضبها، ثم تراضيه ويراضيها حتى عاد إليها النوم فردها إلى كنفه مرة أخرى، ثم لم تفق حتى كانت الشمس قد أشرقت فملأت الأرض بهجة وجمالًا وملأت النفوس قوةً ويقينًا، وبعثت في الأجسام حياة ونشاطًا، وكانت نفسها أشد ما تكون قوة على احتمال الجهد وإيمانًا بنفع هذا الجهد وحرصًا على بذل المعونة الصادقة لمن يحتاج إلى المعونة الصادقة، وكانت حياتها قوية إلى غير حد، وكان نشاطها بعيدًا إلى غير مدى، وكان وجهها كله ابتسامًا، وكان قلبها كله رحمة، وأنفقت صباحها في حركة متصلة لا تحس جهدًا ولا نصبًا ولا تشعر بإعياء، وإنما هي ينبوع من الرحمة والحنان والمواساة يجري في طرقات المستشفى ويفيض على ما يقوم في جوانبها من الغرفات والحجرات.
وإنها لفي ذلك وإذ هي تحس نبأة تراع لها أول الأمر، ثم تثبت لها بعد ذلك بقليل: لقد استؤنفت الفتنة مع الضحى، وكان لهذه الفتنة صرعى قد كثرت فيهم الجراحات، وها هم أولاء يحملون إلى المستشفى كثيرين، منهم من فقد الحركة والألم، ومنهم من لا يزال شاعرًا يجد الألم ويصبر عليه، ومنهم من تجاوز الألم طوقه فأخرجه عن الصمت إلى الأنين أو إلى الصياح، كلهم في حاجة إلى العون وكلهم في حاجة إلى المواساة، وكلهم في حاجة إلى الرحمة والعزاء، فليتجدد النشاط إن كان قد فتر، وليضاعف النشاط إن كان لم يدركه الفتور، ولتُدْمَ القلوب في الصدور ليظهر برغم ذلك الابتسام على الثغور، ولتنطق الألسنة بهذه الكلمات التي تقع من الجرحى أحسن موقع وتقع من قائليها أشد المواقع ألمًا وإيذاءً، وليكثر هذا الكذب الحلو البريء الذي يمنحه الأطباء والممرضون للمرضى والمنكوبين ليعينوهم به على الصبر واحتمال المكروه، وليمكنوهم به من مقاومة المرض ومقاومة الموت أيضًا.
وهذه الفتاة قد سمعت هذه النبأة فارتاعت لها أول الأمر، ثم ثابت إليها نفسها، ثم وجدت هذا الكنز الذي خبأته في قلبها الكريم والذي لا ينفد ما فيه من العطف والبر ومن الحب والحنان، ثم ملكتها هذه الأريحية التي تملك النفس الكريمة فتدفعها إلى البذل من هذا الكنز من غير حساب، وإذا هي تندفع اندفاعًا إلى حيث النشاط والحركة، وإذا هي قد تسلحت بالشجاعة والحب لتصارع المرض والموت وتستنقذ منهما هؤلاء البائسين المنكوبين.
أقبلي أقبلي أيتها الفتاة على هذا المصاب، امنحيه ما تملكين من عون، هبيه ما تستطيعين من عناية، ردي إليه بعض الحياة، ردي إليه بعض الحس فقد اشتد عليه الألم حتى ما يحس ألمًا، وتدنو الفتاة ذاهبة القلب باسمة الثغر، فلا تكاد تلقي نظرة على هذا الفتى الذي تُدعَى لإسعافه حتى تنفرج شفتاها عن صرخة يدوي لها المستشفى، ثم تضطرب يداها في الهواء ثم تسقط، وإذا هي في حاجة إلى الإسعاف، وإلى من يمنحها بعض هذا العون الذي كانت تريد أن تمنحه لهذا الفتى، وإلى من يرد عليها بعض هذا الحس الذي كانت تريد أن ترده على هذا الفتى، وإلى من يكذب عليها كما كانت تريد أن تكذب على هذا الفتى، وإلى من يواسيها كما كانت تريد أن تواسي هذا الفتى.
لم تنفرج شفتاها عن تلك الصرخة الداوية فرقًا ولا خوفًا؛ فقد تعودت أن ترى صرعى المرض وصرعى الموت، ولم تضطرب يداها في الهواء ضعفًا ولا جبنًا؛ فإن لها في صراع العلل والموت بلاءً محمودًا، ولم تسقط إلى الأرض خورًا ولا تهالكًا؛ فقد طالما ثبتت لأبشع ما يثبت له الممرضون والممرضات، ولكن عاطفة الأخوة فوق هذه الشجاعة المكتسبة وفوق هذا الجَلَد المصنوع وفوق هذا الصبر الذي يُتَعلم في المدارس ويأخذ الناس به أنفسهم أخذًا.
رفقًا بهذه الفتاة، ورحمة لهذه الفتاة، وعطفًا على هذه الفتاة؛ فإنها لم ترَ مريضًا ولا جريحًا، وإنما رأت أخاها وقد اشتمله الموت، وكانت تقدر بل كانت تهيئ نفسها لتلقاه موفور القوة والنشاط وتقص عليه آخر النهار بلاءها في أوله.
ها هي هذه تُردُّ إلى حياتها أو تُردُّ إليها حياتها، وها هي هذه تُردُّ إلى شجاعتها أو تُردُّ إليها شجاعتها. لن تستطيع مواساة المرضى ولا معونة الجرحى في المستشفى لأن هناك في مكان بعيد عن هذه المدينة جريحين هما أحق بهذه المواساة وأجدر بهذا العون، فلتسرع إليهما ولتحمل إليهما نبأ الكارثة، ولتحمل إليهما مع هذا النبأ الأليم عزاء البنت البرة عن الابن الشهيد.