تبولة بدون بصل
أخذ التليفون يدقُّ بإلحاح في غرفة النوم الصغيرة … بينما المطر الغزير يدقُّ النافذة من الخارج … وكانت الساعة قد تجاوزت الثالثة صباحًا في تلك الليلة الباردة من ليالي الشتاء … بينما أخلدَ «أحمد» و«عثمان» إلى نومٍ عميق تحت الأغطية الثقيلة.
دقَّ جرس التليفون للمرة الرابعة … ففتح «أحمد» عينيه ومرت لحظات قصيرة ثم مدَّ يده إلى التليفون ورفع السماعة … وكان المتحدِّث هو رقم «صفر».
انتبه «أحمد» فورًا وأخذ يَستمِع إلى الصوت العميق الخشن باهتمام … بينما عيناه تنظران إلى ساعته ذات الميناء المضيئة.
قال رقم «صفر»: لقد تأخَّرت في الرد؟!
أحمد: آسفٌ جدًّا … فإن المطر في الخارج عنيف جدًّا … وصوته على النافذة لم يجعلْني أنتبه إلى التليفون.
رقم «صفر»: مهمَّة عاجلة.
أحمد: نحن على استعداد.
رقم «صفر»: هناك رجل تُهمُّني سلامته جدًّا … رغم أنني لست متأكِّدًا حتى الآن إذا كان عدوًّا أم صديقًا.
أحمد: أين هو؟
رقم «صفر»: في غرفته بفندق «نورماندي» … هل تعرف الفندق؟
أحمد: إنه بجوار البحر على ما أذكر.
رقم «صفر»: بالضبط … خذ «عثمان» واتَّجها إلى هناك فورًا … أُريدكما أن تقضيا بقية الليلة معه، وكُونا في نفس الوقت على حذر منه.
أحمد: هل يعرفنا؟
رقم «صفر»: ستدقَّان الباب … وقولا له «تبولة بدون بصل» إنها كلمة السر وسوف يفتح الباب … وحاوِلا ألا يراكما أحد.
أحمد: اسمه؟ ورقم غرفته؟
رقم «صفر»: مؤقتًا اسمه: «معروف مبارك» … الغرفة «٣٨» … الدور الثالث … وهناك رجل من رجال الأمن يُدعى «سميح» مكلَّف بحمايته أيضًا فتعاوَنا معه … إنه يعرف كلمة السر أيضًا.
أحمد: ما نوع التهديد الذي يتعرَّض له الرجل؟
رقم «صفر»: القتل أو الخطف.
أحمد: سنَذهب فورًا.
رقم «صفر»: سأتَّصل بكما بعد نصف ساعة هناك لأُعطيكُما بقية التعليمات.
وضع «أحمد» السماعة وكان «عثمان» قد استيقظ واستمع إلى طرف من الحديث فغادَرَ فراشه، وكذلك فعل «أحمد»، وسرعان ما ارتدَيا ملابسهما … جاكيت من الجلد المبطن بالفَرو، وبنطلون من القماش السميك، وحذاء مرتفع.
ونزلا سريعًا واتَّجها إلى «جاراج» العمارة التي يُقيمان فيها … كانت الريح عاصفة … والمطر يهطل بشدة … و«أحمد» يُدير السيارة خارجًا من «الجاراج» بسرعة …
كانت شوارع بيروت خالية في هذه الساعة المتأخِّرة … فأطلق «أحمد» العنان لسيارته رغم الأرض الزلقة … و«أحمد» يروي ﻟ «عثمان» بسرعة المهمة التي كُلفا بها … وكان «عثمان» يضع يده على جيبه حيث توجد الكُرة المطاط … هذه الكرة التي تمثل سلاحًا رهيبًا مع هذا الشيطان ذي الذراع المفتولة … فبإمكانه أن يَقذفَها بشدة على بُعد عشرين مترًا، فتُصيب من تَرتطِم برأسه بضربة تكفي لإلقائه أرضًا دون أن تُحدِثَ صوتًا على الإطلاق.
مرقَتِ السيارة الحمراء الرياضية عبر شوارع بيروت حتى وصلَت إلى مشارف المدينة النائمة … واقتربت من فندق نورماندي فركنها «أحمد» بعيدًا حتى لا تلفت الأنظار. ثم نزل الصديقان واجتازا الشارع جريًا حتى وصلا إلى مدخل الفندق … ودخَلا … كانت صالة الفندق خالية إلا من فَرَّاش نائم في مقعدِه، وموظف الاستعلامات الذي كان يُدير لهما ظهره.
قال «أحمد»: فرصة … سنتَّجه إلى المصعد فورًا … إلا إذا نادانا أحد.
واتجها إلى المصعد بخطوات سريعة خفيفة … ولحسن الحظ لم يرَهما أحد. وضغط «أحمد» على زرار رقم «٣» وتحرك المصعد ووصَلا إلى الدور الثالث، واتجها إلى الغرفة رقم «٣٨».
دقَّ «أحمد» الباب ووقفا ينتظران … ولكن الباب لم يُفتح … ودقَّ «أحمد» دقًّا قويًّا … ولكن مضت الدقائق دون أن يفتح أحد.
قال «عثمان»: هل أنت متأكِّد من رقم الدور ورقم الغرفة؟
أحمد: طبعًا … الدور الثالث غرفة «٣٨».
وتقدم «عثمان» ودقَّ الباب بشدة … ولكنَّ أحدًا لم يفتح.
قال «أحمد»: لن نستطيع أن ندقَّ الباب أكثر من هذا وإلا لفتْنا إلينا الأنظار في هذه الساعة المتأخِّرة.
عثمان: هل نعود؟
أحمد: لا … سأفتح الباب.
ومَدَّ يده إلى جيبِه الخلفي، وأخرج أداة صغيرة ألصقها بثقب الباب وأخذ يُديرها إلى اليمين وإلى اليسار ثوانيَ قليلة، ثم سمعا تكة خفيفة وانفتَح الباب ودخلا وأغلقاه خلفهما.
كانت الغرفة مُضاءة … ولم يكن الرجل الذي قَدما من أجله فيها … وأحسَّا على الفور أن تيار هواء شديدًا يأتي من ناحية الحمَّام، فأسرعا إليه … كان الحمَّام مُضاءً هو الآخر ونافذته مفتوحة … ولم يكن للرجل الذي حضَرا لحمايتِه أيُّ أثر.
نظر «أحمد» من نافذة الحمَّام المفتوحة إلى الشارع، كان المطر يتساقط بشدة، ولا أثر لمخلوق.
والتفَتَ «أحمد» إلى «عثمان» وقال: رغم أنه من الواضح أن الرجل غير موجود فعلينا أن نبحث ونُفتِّش كل سنتيمتر هنا.
وأخذا يفتشان … ولم يكن هناك أثر لمخلوق … لا تحت الفراش، ولا في الدولاب.
وقال «عثمان»: لعله لم يحضر.
أخذ «أحمد» يتشمَّم الجو حوله ككلب الصيد ثم قال: لقد كان هنا أشخاص قبل حضورنا بقليل … هناك رائحة إنسان.
وقلد «عثمان» ما فعل «أحمد» خاصة في أركان الحجرة؛ حيث لم يصل الهواء الذي كان يأتي من النافذة … ثم قال: أظن ذلك.
أحمد: هل تعتقد أنه خرج؟
عثمان: ولماذا ترك النافذة مفتوحة؟
أحمد: هذا هو السؤال؟!
عثمان: هل خُطِف؟
أحمد: لا نستطيع الجزم بهذا الآن … وإن كنتُ أرجِّح أن هذا ما حدث … خاصةً هذه النافذة المفتوحة، إنها توحي بأفكار كثيرة.
عثمان: وما هي خطوتنا القادمة؟
أحمد: سنبقى هنا نتلقَّى تعليمات رقم «صفر».
وفي هذه اللحظة سمعا طرقات على الباب … أشار «أحمد» ﻟ «عثمان» أن يَختفي بجوار الدولاب استعدادًا لأيِّ تطور … وأسرع «عثمان» بالاختباء وأخرج كرته المطاط، وأسرع «أحمد» يفتح الباب سنتيمترًا واحدًا، ونظر إلى الخارج … كان ثمة رجل يقف …
وقال الرجل: تبولة … بدون بصل …
وفتح «أحمد» الباب ودخل الرجل … كان طويل القامة … أبيض اللون … مقصوص الشعر ذا عينين نفاذتين … وأغلق «أحمد» الباب واستند عليه … كان يتساءل: «هل هو «معروف مبارك»؟! أم رجل الأمن المكلَّف بحمايته؟!» وقرر أن ينتظر حديث الرجل … وسرعان ما تحدث قائلًا: أين «معروف»؟!
وأدرك «أحمد» على الفور أنه ليس الرجل الذي قدما لحمايته فقال: لقد حضرنا منذ لحظات، ولكنَّنا لم نجده!
وبرز «عثمان» في تلك اللحظة، ونظر إليه الرجل ثمَّ قال: وأين ذهب؟!
عثمان: كنا نسأل منذ لحظات نفس السؤال.
الرجل: ألم يترك خلفه رسالة؟
أحمد: لا شيء على الإطلاق … لقد فتَّشنا المكان جيدًا.
واتجه الرجل إلى الحمَّام وسار «أحمد» خلفه … واتجه إلى النافذة وأطلَّ منها بينما وقف «أحمد» وسط الحمَّام يتأمل كلَّ ما فيه … ولفت نظره خطوط مكتوبة بالصابون على المرآة واقترب منها يتأمَّلها، وسمع خطوات الرجل خلفه، فتظاهر بأنه يغسل يديه … فتركه الرجل وذهب إلى الغرفة.
أخذ «أحمد» يتأمل الخطوط … كان واضحًا أنها محاولة للكتابة بقطعة صابون على المرآة وأن كاتبها كان في عجلة من أمره … واستطاع «أحمد» بمجهودٍ أن يقرأ «سينما ٩٩». وفكَّر «أحمد» لحظات ثم مسح الكتابة وعاد إلى الغرفة … وكان جرس التليفون يدقُّ وكان «عثمان» أقرب إليه فردَّ … كان المتحدث هو رقم «صفر» … وأخذ «عثمان» يَستمع ويرد: لم نَجِده.
– لا نعرف.
– نُرجِّح أنه هرَب أو اختُطف.
– نعم … رجل الأمن معنا.
وسلَّم «عثمان» السماعة إلى رجل الأمن الذي أخذ يستمع ويردُّ هو الآخر: لا أدري.
– حضرت بعدهما بقليل.
– أُرجِّح أنه هرَبَ من نافذة الحمَّام، فمن المُمكِن النزول على المواسير إلى الشارع، ومع ذلك سوف أقوم مع رجالي ببحث كل شيء.
وطلب «أحمد» أن يحدث رقم «صفر» وقال له هامسًا: أرجو أن تُحدِّثني بعد ربع ساعة في المنزل!
ووضَعَ «أحمد» السماعة وأشار ﻟ «عثمان» فخرَجا، وسرعان ما كانت السيارة تعود بهما إلى شقتهما الصغيرة.
وفي الطريق قال «عثمان»: مُهمَّة فاشِلة!
قال «أحمد» متأملًا: لعلها لم تنتهِ بعد، لقد وجدت على مرآة الحمَّام كلامًا مكتوبًا بالصابون … لعلَّ له معنًى … ولعلَّ لا معنى له على الإطلاق … وإن كنتُ أرجِّح أن له صلة بالرجل الذي اختفى.
كانا يسيران على الكورنيش … والسماء تُمطر، والأرض زلقة … والسيارة تشقُّ طريقها وسط المياه كأنها تعوم … وفجأة تحت أنوار السيارة شاهد «أحمد» سيارةً تخرج من طريقٍ جانبي مخالفة قوانين المرور وتقبل عليه مسرعة في الاتجاه المضاد وأسرع يتفاداها ويدوس على الفرامل، ويغير اتجاهه في نفس الوقت … ولكن قدمه التي امتدَّت إلى الفرامل مضت في طريقها إلى أقصى الفرامل دون أن يحسَّ بالمقاومة المعتادة للفرملة تحت قدمه … وأدرك أن الفرامل لا تعمل … ومضت السيارة على الأرض الزلقة تدور بلا وعي وهو يُحاول السيطرة عليها … وانزلقت بسرعة وبشدة في اتجاه الكورنيش وكادت تَقتحمُه وتسقُط في البحر ولكنه أدار المقود بسرعة بعد أن رفع قدمه عن البنزين تمامًا وأخذت العربة تتأرجَح في كل اتجاه وتدور ثم اصطدمت بجدار الكورنيش وتوقَّفَت.
نزل «أحمد» و«عثمان» مُسرعَين … وكان المطر ما زال يهطل مدرارًا … ومن بعيد شاهَدا ضوء سيارة مقبلة بسرعة … واقتربت منهما … فأسرع «عثمان» إلى وسط الشارع يُشير إليها ليركباها. وفجأة صاح «أحمد»: انبطح على الأرض.
ورغم زمجرة الريح، سمع «عثمان» تحذير «أحمد» وألقى بنفسه على الأرض وفي نفس اللحظة برز من نافذة السيارة مدفع رشاش أطلق سيلًا من الرصاص في اتجاه «عثمان» ثمَّ في اتجاه «أحمد» الذي احتمى بسيارته المحطمة … ومضَت السيارة المُعتدية مُبتعِدة … وأسرع «عثمان» فوقف واتجه إلى «أحمد» فوجده واقفًا بجوار السيارة مرسلًا بصره خلف السيارة المجهولة التي انحرفت في أول انحناءة واختفت عن عيونهما.
قال «أحمد»: لنُسرع إلى الحواري الصغيرة … إن الكورنيش ليس مكانًا آمنًا!
عثمان: شيءٌ مثير!
أحمد: المهم أن نصل بسرعة إلى المنزل … لا بُدَّ أن أُخبر رقم «صفر» بما حدث، وبما وجدته في حمَّام غرفة الفندق.
وأسرعا يَحتميان بالمنازل … كانا يقيسان كل خطوة، ويتقدمان وكلٌّ منهما يَحمي الآخر قبل التقدم.
وعندما وصلا أخيرًا إلى الشقة الصغيرة التي يعيشان فيها كان الفجر يطلع فوق بيروت والمطر يتناقص ويتحوَّل إلى خيوط رفيعة هادئة.
كانت ملابسهما ملوثة بالوحل وماء المطر، فغيَّرا ملابسهما مُسرعَين، ودخل «عثمان» إلى المطبخ يُعدُّ إفطارًا وكوبين من الشاي … ودق جرس التليفون وكان رقم «صفر» هو المتحدث. وروى له «أحمد» ما حدث لهما في الساعات الماضية منذ كلَّفهما بالتوجه إلى فندق نورماندي وما قرأه على المرآة في الحمَّام … والفرامل التي عُطبت … ورصاص المدفع الرشاش.
واستمع «أحمد» إلى تعليمات رقم «صفر» ثم وضع السماعة وأسرع إلى «عثمان» في المطبخ قائلًا: اترُك كلَّ شيء الآن، سنَنتقِل إلى منزل آخر أعطاني عنوانه رقم «صفر» وسينضمُّ إلينا «إلهام» و«خالد» و«زبيدة» وقد نَستدعي بعض الشياطين الآخرين … وستصلنا تعليمات في التاسعة صباحًا.