سينما «٩٩»
أخذا بعض حاجاتهما الضرورية، ونزَلا السلَّم مُسرعَين … كانا يَسكنان في الدور الرابع في عمارة بلا مصعد … وغادرا الدور الرابع … ووصلا إلى الدور الثالث … وسمعا صوت أقدام تصعد مسرعة … وقبل أن يتمكَّنا من رؤية القادمين، شاهد «أحمد» الذي كان في المقدمة مسدَّسًا يمتدُّ إليه، ووجهًا شرسًا يواجهه قائلًا: «قفا ولا تتحرَّكا …» ولكن هذا الأمر لم يكَدْ يَنطلِق من فم صاحبه، حتى انطلق قدم «أحمد» في ضربة قوية أطارت المسدس من يده، ثم انقضَّ عليه كالصاعقة، وفي أسفل السلم بدا رجل آخر وفي يده مسدس. وأخذ يصعد السلم مُسرعًا، وفي سرعة البرق أخرج «عثمان» كرته المطاط وأطلقها كالقُنبلة، فأصابت الرجل في رأسه إصابة مباشرة، سقط على أثرها كأنه غرارة من التبن، وأسرع «عثمان» إلى «أحمد» الذي كان هو والرجل الأول يتدحرَجان على السلَّم في صراع مُميت، وامتدت يدا «عثمان» سريعًا إلى إحدى ذراعي الرجل ولوتْها إلى الخلف حتى فرقعَت كأنها ستَنكسِر … وصاح الرجل من فرط الألم، ولكن صيحته انتهت بلَكمة عنيفة من يد «أحمد» أغلقت فمه. وأسرع «عثمان» يلتقط كرته الجهنَّمية وطارا على السلالم وغادرا العمارة … وعندما وصلا إلى الطريق شاهدا سيارة تقف على الرصيف المقابل ومحرِّكُها دائر … وكان الرجل الذي يقودها يجلس إلى المقود مُتظاهرًا بقراءة جريدة … ولكنَّه لمحهما، ففتح باب السيارة ونزل … ولكنه تهاوى على الأرض بعد أن عبرت كرة المطاط الشارع كالقذيفة وأصابتْه في رأسه.
قال «أحمد»: هيا بنا سريعًا.
رد «عثمان»: لحظة واحدة لأُحضرَ حبيبتي.
وأسرع «عثمان» يلتقط كرته المطاط … ثم اتجها إلى أقرب مُنحنًى ودخلاه، ومضيا مسرعين تحت المطر الخفيف.
قال «عثمان»: هل معك عنوان المسكن الجديد؟
أحمد: نعم.
عثمان: لماذا لم تأخذ سيارتي؟
أحمد: قد يعرف هؤلاء المجهولُون مكاننا بواسطتها … سنركب تاكسيًا!
وعثرا على تاكسي عند قمة شارع، واستقلاه، وزيادة في الحذر نزلا قبل مسكنهما الجديد بمسافة كبيرة، ثم سارا على أقدامهما حتى وصلا إلى هناك. وكانت الساعة تدقُّ السادسة صباحًا … وبدأ «عثمان» الاتصال ببقية الشياطين.
بعد ساعة من وصول «عثمان» و«أحمد» إلى مقرِّهما الجديد، توافد بقية الشياطين المقيمين في بيروت وهُم «إلهام» و«زبيدة» و«خالد»، وبالطبع كان «أحمد» أكثر الشياطين سعادةً بهذا الاجتماع؛ فقد كانت تعليمات رقم «صفر» أن يعيشوا متفرِّقين حتى لا يَلفتُوا إليهم الأنظار، أما وقد بدأت مغامرة جديدة … فلا بُدَّ أن يكونوا معًا …
وقف «أحمد» على باب المنزل ينتظر حضور «إلهام» ولم يَكَد يراها حتى قفز بجسده الرياضي عبر الشارع وفتح لها باب السيارة … قدَّمت «إلهام» يدها إليه وتعانقت اليدان لحظات … وفي المصعد مدَّ يده إلى كتفها وأمسكها بحنان … والتقَت عيناهما في شوق ولهفة … ولم يتمالَك «أحمد» نفسه فوضع على شعرها الجميل قُبلة أودَعَها بعضَ ما يَحمِل قلبُه من حب.
واجتمع الشياطين الخمسة … وشرح لهم «أحمد» الموقف … كل شيء بدقة منذ اتصل به رقم «صفر» وطلب منه الإسراع لحماية «معروف مبارك» حتى اضطرارهما لتغيير مكانهما هو و«عثمان» واستدعاء بقية الشياطين المقيمين في بيروت.
قالت «زبيدة»: وما هي الخطوة التالية؟
نظر «أحمد» في ساعته ثم قال: بعد سبع عشرة دقيقة من الآن سيتَّصل بنا رقم «صفر» وسنعرف خطوتنا التالية.
وانهمكوا في الحديث عن مغامرتهم السابقة «ثعالب الخليج» والحوادث المثيرة التي مرُّوا بها.
وفي التاسعة تمامًا دقَّ جرس التليفون. وأسرع «أحمد» يردُّ وكان المتحدث هو رقم «صفر» … وروى له «أحمد» محاولة الاعتداء عليه هو و«عثمان» وكيف صرَعا الرجلين وتركاهما على سلَّم المنزل، ثم رجل السيارة الذي أصابته الكرة المطاط.
قال رقم «صفر»: عظيم … وأرجو أن تظلُّوا محافظين على تنفيذ تعليماتي الخاصة بالاشتباك مع الغير … لا تنتظروا تدخل الشرطة حتى لا تخضعُوا للاستجواب فإني أُريدُكم باستمرار بعيدًا عن الأضواء.
أحمد: إن هذا ما نُنفِّذُه بدقَّة … ولكن السؤال: كيف اهتدى الرجال الثلاثة إلى مقرنا؟
رقم «صفر»: لا أدري … ولكن سأبحث الأمر!
أحمد: أخشى أن يكون مقرنا الجديد معروفًا أيضًا!
رقم «صفر»: مقركم الجديد لا يعرفه أحد سواي … أما مقرُّكم السابق فلم يكن يعرفه إلا رجل الأمن الذي أرسلتُه لحماية «معروف مبارك» وطلبت منكما التعاون معه.
أحمد: شيء غريب!
رقم «صفر»: سأقول لك القصة كاملة … قصة «معروف مبارك» … إنه واحد من ١١ عالِمًا عربيًّا اختُطفُوا في ظروف غامضة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وهو دكتور في الكيمياء … كان يعمل في أحد مراكز البحث العلمي في بلدٍ عربي … وكان البحث الذي يعمل فيه هو وقود الطائرات … ومنذ عامين اختفى الدكتور واختفت آثاره تمامًا … وفقدنا الأمل في العثور عليه … ثم اتصل ليلة أمس بأحد أرقام تليفوناتي السرية التي لا يعرفها إلا القليل ممَّن يتعاملون معي … وقال إنه استطاع الهرب وإنه نزل في فندق نورماندي وطلب حمايته … وقد اتصل بي أنا بالذات لأنني كنت المسئول عن حمايته، كما أن أكثر العلماء لم يكونوا يُصدِّقون أنه سيصل إلى شيء … ولكني كنت أُصَدِّقُه.
أحمد: إنها قصة في منتهى الإثارة.
رقم «صفر»: طبعًا وفي منتهى الأهمية … فالبحث الذي كان يُجريه لا مثيل له في العالم. فقد كان يحاول اكتشاف نوع من الوقود الجاف بدلًا من البنزين … تكفي كمية قليلة منه لمد الطائرة بالوقود لمسافة آلاف الكيلومترات، وهو وقودٌ رخيصٌ وخفيف الحمل ويوفِّر قدرًا كبيرًا من الأمن. وكذلك كانت الأبحاث التي كان يعمل بها بقية العلماء على نفس الدرجة من الأهمية! لهذا من المهم جدًّا العثور على الدكتور «معروف» … فقد يدلُّنا على بقية العلماء … وأنا مقتنع الآن أن خطفه دليل على جدية البحث الذي يُجريه.
أحمد: هل لك استنتاجات معيَّنة حول ما تركه من كتابة بالصابون على مرآة الحمَّام؟
رقم «صفر»: أُرجِّح أنها رسالة تركها في مكانٍ معيَّن … وسينما «٩٩» مسألة غير مفهومة، فليس في بيروت سينما بهذا الاسم.
أحمد: سنناقش أنا وزملائي هذه الجملة الغريبة … وأقترح أن تنضمَّ إلينا «ريما» من الأردن لأنها درست الرسائل الشفرية، وحلَّ الرموز.
رقم «صفر»: سأُرسلُ في طلبها فورًا … وستنضم إليكم هذا المساء. وسأُتابع تحريات صديقنا رجل الأمن … فقد يَعثُر على أثر للدكتور «معروف» وفي الوقت نفسه سألفت نظره إلى محاولة الاعتداء عليكما.
استسلم «أحمد» و«عثمان» للنوم بعد مغامرات الليل المرهقة … بينما جلس بقية الشياطين وأمامهم كلمة سينما ورقم «٩٩» يُحاولُون الوصول إلى معرفة ماذا تعنيان … وفي المساء وصلت «ريما» واستقبلها الشياطين استقبالًا حماسيًّا … وسرعان ما كانت تستمع إلى قصة الأحداث الليلية التي جرت … ثم وضع الشياطين أمامها كلمة سينما ورقم «٩٩» وقال «عثمان»: والآن أرجو أن تكشفي غباء هؤلاء الشياطين وتعرفي فورًا ما هي حكاية هذه الكلمة وهذا الرقم.
قالت «ريما» مبتسمة: إنني لستُ عقلًا إلكترونيًّا على كلِّ حال … ولكني سأحاول. وغرقت في تفكير عميق ثم سألت: كم دارًا للسينما في بيروت؟
إلهام: حوالي ٣٠ دارًا للسينما!
ريما: إنني سأُقدِّم لكم عدة افتراضات: أولًا ألا تكون الكلمة هي سينما مثلًا … قد تكون كلمة أُخرى … ولكن دعوا هذا الافتراض جانبًا … ولنعمل على أن الكلمة صحيحة … والآن الرقم … وهناك احتمالان: أن يكون رقمًا واحدًا، أو رقمين … أي أنه إما «٩٩» أو «٩» و«٩» … فإذا كان «٩٩» فهو يُمكن أن يكون رقم كرسيٍّ في صالة إحدى دور السينما … وإذا كان رقمَين فرقم «٩» هو رقم الصف … ورقم «٩» الآخر هو رقم الكرسي.
قال «عثمان» بإعجاب: مُدهِشة أنتِ يا «ريما»!
زبيدة: لقد خطرت لي بعض أفكار مُماثلة … ولكن ألا يمكن أن يكون هذا موعدًا أمام دار سينما … الساعة ٩ و٩ دقائق؟
ريما: مُمكن … ولكن هل حدث يومًا أن أعطى أحد موعدًا في الساعة ٩ و٩ دقائق؟ هذا نادر جدًّا، ممكن ٩ و٥ دقائق مثلًا … أو ٩ و١٠ دقائق … ولكن ٩ و٩ مُستبعَد.
أحمد: معنى ذلك أن نبحث عن رسالة في الكرسي رقم «٩» في الصف رقم «٩»!
ريما: أعتقد ذلك … وإن كانت ستكون مهمَّة صعبة طبعًا.
أحمد: إذن سنقوم جميعًا بدخول أكبر عدد من دور السينما هذه الليلة … كل واحد يدخل سينما ويُحاول الحصول على المقعد رقم «٩» في الصف رقم «٩»، في حفلة الساعة السادسة، ثم الساعة التاسعة.
خالد: ولكن هل الصف رقم «٩» في الصالة أو البلكُون؟ … وهل هو رقم «٩» من أول الصالة أو آخرها؟
أحمد: على كل واحد يدخل السينما أن يفحص كل كرسي في الصف رقم «٩» سواء في الصالة أو البلكون … من الأمام أو الخلف … من الشمال أو اليمين. إننا وراء سرٍّ سيهتزُّ له العالم. وفي سبيله لن يقف أمامنا شيء.
قالت «إلهام» ضاحكة: قد نجد المقعد المطلوب مشغولًا.
أحمد: في هذه الحالة انتظري حتى نهاية الفيلم حتى يُغادِر من يشغل الكرسي مكانه.
إلهام: وإذا كان الفيلم سخيفًا؟
وابتسم «أحمد» قائلًا: تحمَّلي!
وفي السادسة كان الشياطين الستة قد انطلقُوا واحدًا بعد واحد وانتشروا في أنحاء بيروت كلٌّ منهم يدخل دارًا للسينما بحثًا عن رسالة في مقعَد رقم «٩» في الصف رقم «٩» ذات اليمين وذات الشمال … وهو لا يدري حتى أين تكون هذه الرسالة … ولكن لم يكن أمامهم حلٌّ آخر لمعنى الرسالة المجهولة والمكتوبة بالصابون على مرآة في حمَّام.
وقف «أحمد» في الصف أمام سينما ستراند وكان الصف يتقدَّم ببطء؛ فقد كان الزحام شديدًا على السينما. فهي تَعرِض فيلمًا بطولة بريجيت باردو، وأحسَّ «أحمد» إحساسًا غامضًا بأنه مُراقَب ولكنه لم يلتفت حوله مطلقًا، لقد تعلم أن يَستسلِم للمراقبة حتى لا يشكَّ المراقِب … إنه مراقَب. وهكذا يُمكن التعرف عليه بعد فترة. وكان يُدرِك أن من يراقبه لا بد أن يقف خلفه حتى يعرف حركاته وفي نفس الوقت لا يكشف نفسه … فهل كان المراقب في الصف، وهل هناك محاولة للعنف، إنه وحده وقد تُغري وحدته من يُراقبونَه أو يطاردونه بالاعتداء عليه، ولم يمضِ بعدُ أكثرُ من ١٢ ساعة على محاولة قتلِه أو اختطافه هو و«عثمان».
ولكن … من الذي يَعرفه في بيروت … ليس هناك سوى رجل الأمن الذي كان مكلَّفًا بحماية «معروف مبارك» فلماذا يتعقَّبه … أو يرسل من يتعقبه، وأخذ يستعرض شريط الأحداث الذي مر به. وخطرت له أكثر من فكرة.
ووصل إلى الشباك ونظر في لوحة المقاعِد، وأخذ يعدُّ بسرعة ٩ صفوف، ثم الكرسي التاسع. ولحسن الحظ وجده خاليًا. وبينما يضع أصبعه على الكرسي المطلوب وجد من يقف خلفَه ويَميلُ بشدَّة ليراه وهو يَختار كرسيه. ولدهشته الشديدة كانت فتاة حسناء. هل هي المكلَّفة بمراقبته؟! شيء مثير حقًّا إذا صحَّ ما توقعه …
وحصل على التذكرة ودخل السينما. ودخلت الفتاة خلفَه. وكان قد أعطى تذكرته «للبلاسيه» الذي يتولى إرشاد الروَّاد إلى أماكنهم وسار خلفه. وبعد أن جلس في مقعده، وجد الرجل يعود ومعه الفتاة وأشار إلى المقعد الخالي بجواره.
وأحس بالفتاة تخلع البالطو الذي تلبسه … فترتفع إلى أنفه رائحة جذابة مُسكِرة، وفجأة وجد كوعها يخبطه في كتفه وهي تخلع البالطو. ولم يكن هناك بُدٌّ من أن ينظر إليها. ووجدها تبتسم له ابتسامة جذابة كشفَت عن صفَّين من الأسنان الصغيرة شديدة البياض … وقالت في لهجة مهذبة جدًّا: آسفة جدًّا … إنني …!
ورد عليها في هدوء: أبدًا لم يحدث شيء!
ولم تكتفِ بالرد ومضت تقول: هل آلمتك؟
وقبل أن يردَّ عليها أطفأت السينما أنوارها وبدأ عرض بعض الأشرطة المسلية التي تسبق الفيلم. ولكن «أحمد» لم يكن يُتابع ما يراه … كان يفكر أن الفتاة الجميلة التي بجواره تُريد التعرف عليه … هل هي صدفة مرةً أخرى؟! أم شيء آخر؟!