على الطريقة الأمريكية
في الاستراحة التي تسبق عرض الفيلم … عاودت الحسناءُ الحديثَ مع «أحمد». كان واضحًا أنها تتعمد أن تتعرَّف به. وراودته أحلام الشباب لحظات. ربما مثلًا أنها أعجبت به، ربما هي فتاة قلبها متعطِّش إلى الحب، ورأت فيه فارس الأحلام. ولكن حواس المغامِر فيه كانت أقوى من أحلامه. خاصة عندما تذكر «إلهام» … إنَّ قلبه لا يتسع إلا لواحدة … وهذه الواحدة هي زميلة العمل والمغامرة.
وبدلًا من أن يلعب دور فارس الأحلام … لعب فورًا دور المغامر الحذر … فجاراها في الحديث، وهو يزن كل كلمة يسمعها وكل كلمة يقولها. وفي نفس الوقت كانت أصابعه تتحسَّس المقعد الذي يجلس عليه … ويعدُّ الصفوف من الأمام والخلف. ومن اليمين واليسار ويُحدِّث نفسه «إن «معروف» هذا رجل غريب … فقد ترك رسالة في دار سينما حافلة بالرواد.» وانطفأت الأنوار وبدأ الفيلم. ولم تمضِ سوى دقائق بعد ظهور بريجيت باردو حتى أحسَّ «أحمد» بيد الفتاة تمتد إلى يده … فأمسك بيدها … يد صغيرة دافئة وأسندت الفتاة رأسها إلى كتفه.
وتوالت أحداث الفيلم، وعندما انتهى العرض وأُضيئَت الأنوار ارتدَت الفتاة البالطو، ثم وضعت ذراعها في ذراعه كأنهما صديقان قديمان، وخرجا دون أن يتمَّ تفتيش المقاعد وهي المهمَّة التي حضر من أجلها، ولكنه كان يُدرك أن لغز الكرسي رقم «٩٩» يستطيع أن ينتظر … فهذه الفتاة سوف تضعه أمام أعدائه المجهولين وجهًا لوجه … وخرجا في الزحام، وعندما وصلا إلى الشارع قالت له: إن معي سيارتي وأستطيع توصيلك إلى أيِّ مكانٍ تشاء.
قال دون تفكير: فلنذهب إلى «الروشة» … إن صديقًا بانتظاري هناك.
كانت سيارة أنيقة من طراز داتسون الياباني. وركبت، وركب بجوارها وأدارت المحرك وانطلقت ببطء في شوارع بيروت المزدحمة.
قالت له في رقة: هل موعدك في الروشة مهمٌّ جدًّا؟
قال بهدوء: ليس عندي بديل!
قالت برقة أكثر: ما رأيك أن يكون البديل … موعدًا معي؟
رد «أحمد»: إن ذلك شرف لا أحلُم به!
ودارت في أحد الشوارع الفرعية وانطلقت مسرعة، وعند الطرف الآخر من الشارع هدَّأت من سرعتها قبل أن تدخل إلى الميدان التالي. وفجأةً برَزَ رجل من باب منزل وفتح باب السيارة الخلفي وركب … وأحسَّ «أحمد» بفوَّهة مسدس باردة تلتصق برقبته من الخلف … لقد أصبح ظهرًا لوجه مع عدوه المجهول وسمع صوتًا يقول: إنك ضيفُنا المبجَّل إذا لم ترتكب حماقة!
وتراجعت فوهة المسدس عن رقبته وقال الرجل: سيظلُّ مسدسي مصوبًا إلى رأسك فكن عاقلًا … ولا داعي في نفس الوقت أن تسأل أسئلة فليست هناك إجابات.
ومضت السيارة تشقُّ طريقها مسرعة بعيدًا عن الشوارع المزدحمة. وكانت تتباطأ أحيانًا وكان في استطاعة «أحمد» أن يَهرُب ولكنه قرر أن يمضي في المغامرة إلى نهايتها … إن ما يهمه الآن أن يعرف هؤلاء الأعداء … من هم؟ ماذا يريدون؟
وغادرت السيارة بيروت وانطلقت في طريق الجبل. كانت الفتاة تقود السيارة ببراعة حسدها عليها «أحمد». وكانت عينه تتجه إلى مؤشر السرعة وهو يقفز: ١٠٠ ميل – ١٢٠ ميلًا – ١٣٠ ميلًا والفتاة هادئة … وعطرها الجميل يملأ جو السيارة …
وضع «أحمد» يده اليسرى على فخذه ونظر إلى الساعة … وأخذ يحسب المدة التي قطعوها … كانت ثلاثة أرباع الساعة. فهم على بعد ١٠٠ ميل تقريبًا من بيروت. وانعطفت السيارة في طرق مظلمة موحشة … وبدأت تهتز وترتج … والفتاة تقودها بمهارة … وفجأة لمع في الظلام ضوء صغير يأتي من جانب أحد الجبال … وأدرك «أحمد» أن وقت العمل قد حان فقال: أخشى أن تكونا قد أخطأتما … فإنني لا أعرف سببًا لاختطافي إلا إذا كنتما تُريدان فدية مثلًا.
لم تردَّ الفتاة. ولكن الرجل قال: إننا نعرف ماذا نفعل! إنك رجلنا المقصود! ولن نطلب أي فدية عنك. إنك — وضحك الرجل — لا تُقدَّر بمال.
قال «أحمد» في الحال: ولكن لا بُدَّ أن أعرف لماذا اختطفتماني … وإلى أين أنتما ذاهبان بي؟!
رد الرجل: ستعرف فورًا لماذا اختُطفتُم … لم تبقَ سوى دقائق قليلة.
وكان هذا الرد هو ما يريده «أحمد» … تسللتْ يده اليُمنى فأمسكت بمقبض الباب في هدوء وامتدت قدمه اليسرى في حذر شديد في اتجاه الفرامل … ونظر حوله ورأى السيارة تقترب من الضوء وأدرك أنه ضوء المكان الذي تتَّجه إليه السيارة، وفجأةً مدَّ قدمه وداس الفرامل بكل قوته. وفي نفس الوقت فتح الباب ثم ألقى بنفسه في الخارج … وانطلقت صيحة ألمٍ من الفتاة التي داس على قدمها … وانطلقت رصاصة سمع على أثرها صوت تحطيم زجاج السيارة.
أخذ يتدحرج دون أن يقف بينما سمع صوت باب السيارة يُفتح ولعنات تنطلق في الظلام.
لقد عرف إلى أين هو ذاهب وكان هذا كل ما يُريد معرفته. فلا بُدَّ أنه ليس المخطوف الوحيد من الشياطين الستَّة الذين خرجوا إلى دور السينما.
فما دام هو مراقبًا، فهم أيضًا مراقبون، وما دام هو اختُطف … فلا بُدَّ أن العدوَّ المجهول قد اختطف أو حاول أن يَختطِف غيره … خاصة عندما أخطأ الرجل وقال: «ستعرف فورًا لماذا اختُطفتُم …» فهناك إذن مخطوفون آخرون.
بعد أن تدحرج نحو ١٠٠ متر على سفح الجبل … توقف، ثم وقف مسرعًا، واختار صخرة قريبة واختفى خلفها … وأخذ يَستمِع في صمت عميق محاولًا تتبُّع محاولات الرجل في تعقبه، فالفتاة بالطبع لن تشترك في المطاردة.
كانت خطة «أحمد» تَعتمِد على مفاجأة من ينتظرون حضوره أسيرًا. إنهم الآن عند مصدر الضوء في انتظار حضوره مرفوع الذراعَين وخلفه خاطفته الحسناء … ومهمَّته الآن أن يصل إلى مقر الأعداء قبل إنذارهم بفرارِه … وكان أمله أن يطارده الرجل وأن يتغلب عليه … ثم تكون مهمته مع الفتاة سهلة!
وصح ما توقعه. فقد سمع صوت قطع صغيرة من الصخور تتساقط على يمينه … وكان القمر الذي يختفي خلف الغيوم قد تسلَّلت حزمة من أشعته الفضية فرشَت الجبل واستطاع أن يرى شبح الرجل، وعندما استدار شاهد في يدِه بطارية يُطلق منها خيطًا من الضوء بين فينة وأخرى.
تحرك «أحمد» سريعًا ودار بحيث يصبح خلف الرجل محاذرًا أن يحدث أي صوت لم يكن يريد أن يشتبك معه خاصةً وأنه مُسلَّح، وحتى لا يُضيِّع وقتًا أطول … بل كان يريد أن يقضي عليه بضربة واحدة … وكان الرجل يتتبع خط سقوط «أحمد» على السفح ووصَل فعلًا إلى النقطة التي استقر عندها «أحمد» … وفي خطوات سريعة كالفهد، انقض «أحمد» عليه … وبضربة واحدة من سيف يده على عروق الرقبة سقط الرجل دون أن تصدُر منه آهة واحدة، وتدحرجت البطارية المضاءة على الأرض. وسرعان ما انحنى «أحمد» عليه وفك رباط رقبته وربط يديه مع قدميه من الخلف، ثم أخرج منديلَهُ وحشاه في فمه، والتقط مسدَّسه ووضعه في جيبه وأخذ يصعد الجبل مسرعًا في اتجاه السيارة وبيده البطارية.
كانت الفتاة قد غادرت السيارة وأخذت تمشي بجوارها رائحة غادية، فتقدم «أحمد» منها مسرعًا. كان متأكدًا أنها ستظنُّ أنه زميلها عندما تشاهد البطارية في يده … وفعلًا رأته يصعد الجبل. ثم تقدم منها وأطلق بطاريته في وجهها بحيث يُعشِّي عينيها فصاحت: «جان» … هل وجدته؟
ولم يردَّ «أحمد» حتى أصبح أمامها مباشرةً وقال: لقد جئت حسب الموعد الذي بيننا!
ترنَّحت الفتاة واستندَت إلى السيارة … ثم فجأة حاولت دخولها وكان الباب مفتوحًا ولكن «أحمد» كان أسرع منها فمد يده وأمسكها من معصمها وقال بصوت هادئ: لا داعي للمقاومة وإلا قضيت الليل في هذا البرد وحدَكِ، وبدون المعطف الدافئ على الأرض …
قالت بعصبية: ماذا حدث؟ أين «جان»؟
رد «أحمد»: سؤال غريب … إن «جان» سيقضي ليلة هادئة في أحضان الطبيعة!
ثم قال «أحمد» بصوت صارم: والآن ساعديني لدفع العربة إلى هذا الكهف القريب.
ولم تجد بُدًّا من إطاعته. وبهدوء أخفى العربة، وأخذ مفاتيحها ثم قال: والآن ستأخذينني إلى أصدقائك فلي حديث معهم.
ولم يكدْ يبدآن السير حتى مرقَت أمامهم سيارة قادمة من الجبل القريب حيث الضوء في الطريق النازل إلى بيروت … وكان من الواضح أن من في السيارة لم يَرونهما لأنَّ السيارة مضَت في طريقها دون توقف، ولاحظ «أحمد» أنها من طراز «لنكولن».
وسارا … هي في الأمام و«أحمد» خلفها في اتجاه الضوء … وكان «أحمد» يُفكِّر في السيارة التي مرقَت أمامهما … وبعد مسيرة نحو عشر دقائق وصَلا إلى مصدر الضوء … وكانت فيللا أنيقة من الخشب، وقد بُنيت تحت ظلال الشجر. وأوقفها «أحمد» على مبعدة، كان يريد استجوابها، وفي نفس الوقت كان يُريد أن يتصرف بسرعة. فقد أقلقته السيارة المسرعة.
قال لها: كم عدد الرجال هنا؟
أجابت: لا أعرف!
قال: من هم بالتحديد … وماذا يريدون؟
أجابت: لا أعرف!
ولم يكن عنده وقت لأسئلة أُخرى رغم رغبته الجارفة في أن يعرف عن أعدائه أكثر.
وقال لها: ستتقدمينني … ولا تُحاولي إنذار أحد … فإن مسدَّس «جان» معي.
واجتازا مدخلًا مظللًا بالشجر، ودقت الفتاة الباب، وسمع «أحمد» وهو منزوٍ خلفها في الظلام طاقة صغيرة تُفتح في الباب ثم سمع صوتًا يقول: من؟
ردت الفتاة: جورجيت.
وسمع «أحمد» الباب وهو يفتح، وتحفَّز، وما كادت «جورجيت» تدخل حتى كان يدخل خلفها شاهرًا مسدسه.
شمل المكان بنظرة سريعة … كان هناك رجل يَجلس على كرسي وقد مدَّ ساقيه أمامه في استرخاء … ووضع مسدسًا على مائدة بجانبه … وكان هناك الرجل الذي فتح الباب ولم يكن هناك أحد آخر …
قال «أحمد» وهو يشهر مسدسه: أرجو ألا أضطرَّ إلى استخدام …
ولكنه لم يكمل جملته فقد مد الرجل الجالس يده ليُمسك بمسدسه … ولكن «أحمد» لم يمهله وانطلقت رصاصة من مسدسه أطارت المسدس بعيدًا، وهبَّ الرجل واقفًا مذعورًا …
قال «أحمد»: لن أُحذِّرك مرةً أخرى … الطلقة الثانية لن تكون بعيدة عن قلبك … أين أصدقائي؟
لم يردَّ أحد. فصاح «أحمد»: أين هم؟
كان ثمة باب موارب، وكانت عينا أحد الرجلين قد اتجهَتا إليه فقال «أحمد»: أمامي … أنتم الثلاثة ادخلوا هذه الغرفة.
وسارت «جورجيت» وتبعها الرجلان في صمت، وخلفهم «أحمد». كانت الغرفة مضاءة وبها فراش تمدد عليه «عثمان» مقيَّدًا ومُكمَّم الفم، وقال «أحمد»: «جورجيت» فكِّي هذه الأربطة فورًا.
ونفذت الفتاة المهمَّة المطلوبة منها بسرعة وقام «عثمان» فتمطَّى ثم قذف قبضته بسرعة البرق، فانقضَّت كالقنبلة على وجه الرجل الذي كان جالسًا على الكرسي عندما دخل «أحمد» وارتفع الرجل عن الأرض ثم طار إلى الخلف وسقط على الأرض الخشبية محدثًا صوتًا مدويًا.
وقال «عثمان»: آسف … لقد كان نذلًا وضرَبني وأنا مُقيَّد لأعترف.
أحمد: هل كان معك أحد من الزملاء؟
عثمان: نعم … «خالد» … وقد أخذوه بالسيارة الآن إلى بيروت إلى عيادة أحد الأطباء.
قال «أحمد» فزعًا: لماذا؟
عثمان: إنهم يُحاولُون إرغامه على التقيُّؤ!
أحمد: يتقيَّأ … لماذا؟
عثمان: لقد ابتلع الرسالة «٩٩»!
أحمد: هل عثَر عليها؟ …
عثمان: نعم … وعندما أحضرونا إلى هنا، وبدءوا تفتيشنا خشي أن تقع الرسالة في أيديهم فابتلعها.
أحمد: وماذا كان فيها؟
عثمان: لا أدري!
أحمد: هل قرأها؟
عثمان: لا أدري … فقد حضرتُ قبله ولم نستطع أن نتحدث، ولكني شاهدته يبتلع الورقة … وقد قال لهم إنه لم يَقرأها.
أحمد: هل تعرف إلى أي عيادة هم ذاهبون؟
عثمان: لا!
التفت «أحمد» إلى الرجل الواقف وقال في صرامة: إلى أي عيادة؟
تردَّد الرجل لحظات ثم قال: لا أدري.
وتقدم «عثمان» منه وأمسك بأصابع يده وثناها إلى الخلف بشدةٍ فرقعت لها العظام وصاح الرجل متألمًا.
عثمان: أين؟
الرجل: في شارع الأمير عمر … عيادة الدكتور مصابني.
أحمد: وهل خطفتم الفتيات كما خطفتمونا؟
الرجل: كان المفروض أن نخطفكَم أنتم الثلاثة أولًا في حفلة الساعة السادسة … ثم نخطف الفتيات بعد ذلك؛ أي في حفلة الساعة التاسعة، ولكن عندما عثَر زميلكم على الرسالة لم نجد داعيًا بعد ذلك لخطف الفتيات.
وطرح «عثمان» الرجل أرضًا وقيَّده، وقيد الرجل الآخر، وقال «أحمد»: هيا بسرعة فقد نلحقهم في الطريق إذا أسرعنا … وإن كنت أعتقد أن السيارة اللنكولن وهي ذات اثنَي عشر سلندرًا أسرع بكثير منا.