الرسالة السرية
أسرع «أحمد» وهو يجر «جورجيت» من يدها ووراءهما «عثمان» خارجين، وجروا إلى حيث كانت تقف السيارة.
وقال «أحمد»: «جورجيت» … سوف تقودين أنتِ السيارة … إنك تعرفين الطريق جيدًا … وحذار من الخداع … هيه بسرعة.
وسلم «أحمد» المفاتيح للفتاة التي أدارت السيارة، ثم أطلقت لها العنان و«أحمد» يجلس بجوارها والمسدس في يده … و«عثمان» يجلس في الخلف.
قال «أحمد»: كيف أحضروكَ إلى هنا؟
عثمان: قصة مضحكة … فعند خروجي من السينما احتكَّ بي شخص بطريقة استفزازية فدفعته بيدي، ولم أدرِ إلا وأنا في وسط مشاجرة ضخمة … اشترك فيها عدد كبير من الأشخاص، وتقدَّم شرطي واقتادني أنا واثنين من المتشاجِرين في الطريق إلى قسم الشرطة كما فهمت … ولكن السيارة لم تمضِ إلى قسم الشرطة، وأحضرتْني هنا تحت تهديد مسدس.
أحمد: كان شرطيًّا مزيفًا!
عثمان: فعلًا: ولم أتبين ذلك إلا بعد فوات الأوان.
أحمد: وماذا بالنسبة ﻟ «خالد»؟
عثمان: لا أدري … فنحن لم نتبادل كلمة واحدة!
وانطلقت السيارة و«أحمد» يُراقب عداد السرعة وهو يقفز بعد المائة إلى مائة وعشرين … مائة وثلاثين … مائة وأربعين …
وساد الصمت، ولم يعدْ يسمع في الجبل الواسع إلا صوت محرك السيارة وهي تهدر بسرعتها الرهيبة في طريق الجبل المُلتوي … كانت «جورجيت» صامتة … وكانت تقود السيارة بمهارة واضحة … بل وبحماس أيضًا لفَت نظر «أحمد» فقال لها: لا أريد أن أشغلك عن القيادة، ولكنك متحمسة للمطاردة!
قالت «جورجيت» دون أن تحوِّل رأسها: لقد خدعوني.
أحمد: كيف؟
جورجيت: لقد أفهمني «جان» بأني سأقوم بدور في القبض على لصٍّ خطير … ولكن ما شاهدته حتى الآن يدلُّ على أنني انغمستُ في مغامرة فيها ضرب واعتداء على شبان ظرفاء لا يبدو أبدًا أنهم لصوص!
أحمد: أنتِ إذن لستِ من العصابة؟
جورجيت: عصابة … أنا … إنني محامية.
وضحك «أحمد» و«عثمان» رغم التوتُّر الذي يشعران به. وقال «أحمد»: وكيف قابلته؟!
جورجيت: على طريق دمشق–بيروت!
أحمد: أنتِ قادمة من دمشق إذن؟
جورجيت: نعم … وقد كان «جان» ومعه صديق له يَركبان سيارة ويبدو أنهما كانا يسيران بسرعة فقد اصطدما بصخرة وكادا يَلقيان حتفهما، وقد أشارا إليَّ فتوقفت، وركبا معي، وعرضا عليَّ مبلغًا كبيرًا من المال إذا استطعت اللحاق بسيارة قالا إن فيها لصًّا هاربًا … ولما كنت من هواة قيادة السيارات بسرعة فلم أتردَّد … ولكن يبدو أن الرجل قد سبقنا بمسافة طويلة. فدخلنا بيروت دون أن نعثر له على أثر.
اهتم «أحمد» بهذه المعلومات جدًّا وقال: وبعد ذلك؟
جورجيت: تركتُهما بعد أن أخذا عنواني للاتصال بي في حالة ما إذا احتاجا إلى خدماتي … إذ أنني كنت مقتنعة أنهما كانا يخدمان العدالة … ويُحاولان القبض على مجرم … وقد اتصلا بي اليوم للتعرُّف بك في السينما.
وانقضى وقت طويل دون أن يُشاهد «أحمد» أثرًا للسيارة «اللنكولن» التي سبقتْهم والتي كانت تحمل «خالد» إلى عيادة الدكتور مصابني. وأشرفوا على بيروت دون أن يلحقوا بالسيارة، وكان ذهن «أحمد» يعمل بسرعة: هل يستطيع أن يثق ﺑ «جورجيت» لقد خدعتْه مرة … فهل تخدعه مرة أخرى؟ وقال: «جورجيت» أؤكد لك أن «جان» ومن معه يعملون ضد أمن لبنان وسلامته … وأننا … أنا وزملائي … نعمل من أجل مقاومة شرِّهم … فهل يمكن أن أعتمد عليك؟
لم تردَّ «جورجيت» لدقائق، ثم قالت: من أنتم؟
قال «أحمد»: كما قلت لك، نحن مجموعة من الشبان نعمل من أجل العدالة … وأنتِ محامية … ومهنتك هي مهنة الدفاع عن العدالة!
جورجيت: لم تَقُل لي من أنتم، وأقصد بالسؤال أسماءكم … والجهة التي تتبعونها. فقد خُدعت مرة، ولستُ على استعداد لأن أُخدع مرة أخرى!
أحمد: آسف. إن كل المعلومات الخاصة بنا لا يُمكن أن يعرفها أحد. ولكن ثقي بكل كلمة قلتها لك.
جورجيت: وما هو المطلوب مني؟
أحمد: سأقول لك عندما نصل إلى هناك، وندرس المكان.
ومضى الوقت. ووصلوا إلى مشارف بيروت. وأخذ «أحمد» و«عثمان» يتأمَّلان المشهد مبهورين بجمال الأضواء التي بدت من بعيدٍ كأنَّها قلائد من الماس على صدر المدينة الفاتنة.
ومضت السيارة تشق طريقها إلى حي «رأس بيروت» الفاخر حيث يوجد شارع الأمير عمر، ثم طلب «أحمد» من «جورجيت» أن تركن السيارة بعيدًا عن الشارع … ونزلوا، وقال «أحمد» ﻟ «جورجيت»: قد يكون المكان مُراقَبًا … سيري على مبعدة منا … وسنسير خلفك بعد أن نسأل عن مكان العيادة.
وسأل «عثمان» أحد البوابين الذي أشار له على مكان العيادة وعندما اقتربوا منها وجدوا السيارة «اللنكولن» تقف أمامها.
فقال «أحمد»: إنهم ما زالوا هنا … ستصعَدين يا «جورجيت» … قولي لهم إنك قادمة من طرف «جان» … وأن الخط التليفوني معطَّل … وأن كل شيء يسير على ما يرام … سنصعد خلفكِ، وسنقف خارج العيادة، وستخرجين بعد أن تبلغيهم الرسالة وتقولي لنا ماذا يحدث في الداخل … عدد الرجال الموجودين … أين يوجد «خالد» … هل تمَّت العملية أم لا. وحاولي أن تتركي الباب مفتوحًا … هل فهمتِ؟
جورجيت: نعم!
وسبقتْهما «جورجيت» … وبعد لحظات تبعاها … وقد وضع «أحمد» يده في جيبه مُمسكًا المسدس … وبينما صعدت «جورجيت» بالمصعد، استخدما هما السلالم حتى لا يراهم أحد معها، فالمفروض أنها جاءت وحدها.
كانت العيادة في الدور الخامس، وعندما وصلا إلى قمة السلم توقفا قليلًا عندما سمعا الباب يُفتح ثم يغلق، وتقدما بهدوء ووقفا أمام الباب … وقال «عثمان»: لقد أغلقوا الباب!
أحمد: نرجو أن تتركه «جورجيت» عندما تخرج مفتوحًا.
واقترب «أحمد» من الباب ووضع أذنه على ثقب المفتاح محاولًا التنصت، وسمع حوارًا غاضبًا، ثم صفعة قوية، وصيحة ألم … ثم أقدام تجري في اتجاه الباب، وفُتح الباب فانزوى «أحمد» سريعًا جانبًا … وظهرت «جورجيت» على عتبة الباب، ثم ظهرت ذراع رجل تُحاول اجتذابها إلى الداخل.
وكان هذا يكفي … انقض «عثمان» على الذراع ولواها بعنف … واندفع «أحمد» شاهرًا مسدَّسه … واستطاع أن يرى في لمحةٍ رجلًا آخر يُشهر مسدسًا … ورجلًا في ثياب بيضاء لم يشكَّ أنه الدكتور «مصابني» يقف في ركن الصالة مُنكمِشًا وقد بدا عليه الذعر الشديد …
وأطلق الرجل رصاصة على المصباح فساد الظلام. وانبطح «أحمد» على الأرض … فقد انطلق سيل من الرصاص من مسدس الرجل، وأحس «أحمد» بأقدام تَجري في اتجاه الباب … وهَبَّ واقفًا … كان ما يهمه في هذه اللحظة هو «خالد» والرسالة السرية التي ابتلعها، وكان يعرف أن صوت الرصاص سوف يَلفت انتباه سكان العمارة وأن أشياء كثيرة قد تَحدُث.
اندفع إلى الغرف يُنادي: «خالد» … «خالد» …
وسمع صوت أنين يصدر من جانب أحد الغرف، فأضاء نورها، وعلى فراش في جانب الغرفة كان «خالد» ينام، وقد بدا عليه الإعياء الشديد …
أسرع «أحمد» إليه، وحمله على كتفه، وجرى به إلى الصالة ثم إلى السلالم وهو ينادي: «عثمان» … اتبعني!
وجرى إلى المصعد، ولحسنِ الحظ وجده ما زال في مكانه ففتح الباب، وتبعه «عثمان» وهو يسحب «جورجيت» في يده … ونزل المصعد سريعًا … بينما كانت ضجة كبيرة تَرتفعُ من مختلف شقق العمارة.
وصلوا إلى الشارع. كانت السيارة «اللنكولن» قد غادرَت مكانها وجرى «أحمد» بسرعة هائلة رغم حمله ووصل إلى سيارة «جورجيت» التي كانت لا تزال في مكانها. وكان المارة المندهشون قد بدءوا يتجمَّعون وصاح «أحمد»: بسرعة!
وركبت «جورجيت» و«عثمان»، وأدارت الفتاة محرك السيارة، واندفعت كالعاصفة قبل أن يصل رجل الشرطة الذي كان يُطلق صفارته في دفعات متلاحقات.
اندفعت «جورجيت» بالسيارة في أول منعطف قابلها، ثم انعطفت مرة أخرى وأطلقت للسيارة العنان.
كان «خالد» يَجلس بجوار «أحمد» مستندًا عليه … وكان صوت تنفسه ثقيلًا، فقال «أحمد»: أظن أنه واقع تحت تأثير مخدِّر.
ثم وجَّه حديثه إلى «جورجيت» متسائلًا: ماذا حدث عندما دخلتِ العيادة … لقد سمعتك تصرخين!
وضعت «جورجيت» يدها على خدها وقالت: لقد نفَّذت تعليماتك … فتح لي الباب أحد الرجلين … ووجدت الدكتور يقف مصفرَّ الوجه … وقد رفع الرجل الآخر مسدسًا في وجهه … وقلت لمن فتح الباب إنني قادمة من عند «جان» وأن كل شيء على ما يرام … فإذا به يصيح في وجهي: «أنتِ كاذبة، وأن التعليمات ألا يحضر أحد لعيادة الدكتور لأي سبب.» ثم صفعني على وجهي وطلب مني أن أقول الحقيقة. فأسرعت أجري إلى الباب وفتحتُه حسب تعليماتك … ثم سارت الحوادث كما تعرف.
قال «أحمد»: آسف جدًّا … لقد عرَّضتك للضرب، ولم يَخطر ببالي أنهم رتبوا أمورهم بهذه الدقة … آسف.
جورجيت: لقد شاركتُ في اختطافك … وكان واجبًا عليَّ أن أشارك في إنقاذك وقد فعلت.
قال «أحمد»: إنني أريدك أن تُغادري بيروت فورًا … إنكِ معرَّضة لخطر شديد … لخطر القتل!
جورجيت: إنني أريد الاشتراك معكم في هذه المغامرة.
أحمد: آسف … ولكن، من يدري، قد نستعين بك مرة أخرى. المهم أن تعودي فورًا إلى دمشق وأعطينا عنوانك فقد نتَّصل بكِ مرة أخرى.
ووجهها «أحمد» إلى حيث ينبغي أن تذهب … وقربَ منزله نزل وحمل «خالد» يُساعده «عثمان» ثم وقف بجوار السيارة وقال: «جورجيت» … شكرًا ووداعًا …
قالت «جورجيت» وهي تنقل الفتيس لتترحك: بل قل إلى اللقاء!
وتحرَّكت السيارة مبتعدة … وتحرك «أحمد» و«عثمان» وصعدا إلى العمارة وهما يحملان «خالد». كانت الساعة قرب منتصف الليل، فلم يلتقيا بأحد على السلالم … وفتح «عثمان» الباب ودخل الثلاثة … وكانت في انتظارهم مفاجأة رهيبة: … لم تكن الفتيات الثلاث موجودات.
وضع «أحمد» و«عثمان» زميلهما «خالد» في الفراش … وأخذا ينظران إلى الشقة … وبخبرتهما أدركا أن الشقة قد تعرَّضت لتفتيش دقيق رغم أن كل شيء كان في مكانه.
وقف «أحمد» وسط الصالة يُفكِّر … ثم ذهب إلى «خالد» الذي كان وجهه الشاحب يدلُّ على العذاب الشديد الذي تعرض له … قال «أحمد»: سنعمل الآن على إفاقته، وإن كنت أعتقد أننا لن نستطيع أن نفعل شيئًا إلا إذا عادت «زبيدة»؛ فهي متخصِّصة في الإسعافات الطبية.
وفي تلك اللحظة دق جرس التليفون، وأسرع «أحمد» إليه، واستمع قليلًا ثم قال: لقد خُطفت الفتيات الثلاث ولا ندري ما هو مصيرهن … ولعلَّهن قد قُتلن … «خالد» قد يموت … وحصل الأعداء على الرسالة «٩٩» … ولم يبقَ سوى أنا و«عثمان» … وقد قرَّرنا مغادرة بيروت فورًا … ولن نشترك بعد الآن في أية مغامرات، فحياتُنا أهم من أيَّة مبالغ تدفعها لنا … وداعًا … ولا تدعنا نسمع صوتك بعد الآن.
ثم وضع السماعة في عنفٍ منهيًا المكالمة … ونظر إليه «عثمان» في دهشة شديدة وقال: من هذا الذي كنت تتحدث معه؟
وقال «أحمد» بوجهٍ جامد: إنه رقم «صفر».
ونظر «عثمان» إلى «أحمد» وأحس برعدة شديدة … فلا بُدَّ أنه قد جنَّ.