الحظ قد يبتسم مرة ثانية
أمسك «عثمان» بذراع «أحمد» يهزُّها في عنف ويصيح: «أحمد» … ماذا حدث؟ هل جننت … كيف تُحدِّث رقم «صفر» بهذه اللهجة؟! وكيف تُدلي إليه بمعلومات كاذبة؟! انطق!
ولدهشة «عثمان» الشديدة ابتسم «أحمد» وقال: إنني أسمع صوت المصعد. افتح الباب فقد عادت الفتيات.
تحرَّك «عثمان» كأنه واقع تحت تأثير سحر وفتح الباب … وظهرت الفتيات الثلاث على الباب، ودخلن، وقال «أحمد»: لعلَّ كل واحدة منكنَّ استمتعت بالفيلمَين اللذين شاهدتهما.
وقبل أن ترد أي واحدة قال «عثمان»: لا تَقُلن شيئًا له … لقد جُنَّ.
ووقفت الفتيات حائرات … ووقف «عثمان» في مواجهة «أحمد» … وقد التمعَت في عينيه نظرة أسًى وألم هائلة وقال بصوت مختنِق: إنك لا بدَّ أن تموت … هذه هي نهاية من يخون قضيتنا.
نظر إليه «أحمد» بهدوء شديد وقال: إنك شابٌّ مُخلص يا «عثمان» ولكني لن أموت الآن … ما زال في العمر بقية … لقد تحدثت مع رقم «صفر» بهذا الأسلوب، وأمليتُه معلومات كاذبة لسبب بسيط … إن تليفونَنا مراقب … بل إني أعتقد أن تليفون رقم «صفر» مراقَب أيضًا.
وفتح «عثمان» فمه في دهشة شديدة وقالت «إلهام» وهي تَندفع إلى «أحمد»: ماذا حدث يا «أحمد»؟ إنني أسمع أغرب حديث سمعتُه في حياتي.
قال «أحمد» وهو يُمسك يدها التي امتدت إليه: إن ما مر بنا حتى الآن يؤكد هذه الحقيقة: إننا مراقبون … ولحسنِ حظِّنا فقط أننا لم نُقْتَل حتى الآن … ولكن ذلك قد يحدث في أي لحظة!
عثمان: إلى أين نذهب؟
أحمد: أرجو أن تُدبر لنا «إلهام» مكانًا … وسنتمكن من تضليل من يتعقبنا … وأظن أنهم سيعيدون تقدير موقفهم بعد أن حصلوا على الرسالة، وسمعوا حديثي إلى رقم «صفر».
ريما: هل عثروا عليها؟
أحمد: عثر عليها «خالد» ولكنَّهم أخرجوها من بطنه.
زبيدة: من بطنه؟
أحمد: نعم … لقد ابتلعها، ولكنهم ذهبوا به إلى عيادة طبيب وجعلوه يتقيؤها!
زبيدة: وأين «خالد»؟
أحمد: إنه نائم في غرفته.
وأسرعت «زبيدة» إليه، وقال «أحمد»: هات دليل التليفونات يا «عثمان» وابحث عن رقم شركات السيارات … واطلب إليهم أن يُرسلوا سيارة في الصباح الباكر لتأخذَنا إلى دمشق.
وأسرع «عثمان» لإحضار الدليل، وهو يمسك بكرته الجهنمية، فعندما دخل المنزل، واتَّضح له أنه قد فُتش، كان أول ما فعله هو البحث عن الكرة. وكانت فرحتُه لا تُقدَّر عندما وجدها مكانها.
جلس «أحمد» و«إلهام» في شرفة المسكن يطلان على بيروت التي أخلدت إلى النوم … وتمنَّى «أحمد» في هذه اللحظة أن يجدا نفسيهما بعيدًا عن كل هذه المشاكل والمؤامرات … والألغاز … وطلقات الرصاص … في جزيرة استوائية صغيرة … يصطادان السمك … ويسمعان الموسيقى، وينامان تحت النجوم.
ولكن كان الوقت أثمن من أن يضيع في الأحلام العاطفية … وقالت «إلهام»: ما هي التطورات المهمة اليوم؟
رد «أحمد»: ما يكفي لشهور من المغامرات.
وكان «عثمان» قد دخل الشرفة فقال: وما يَكفي لشهور من العواطف …
إلهام: عواطف؟
عثمان: فتاة معطَّرة اصطادت الشيطان اللامع «أحمد» وأوقعتْه في أيدي العدو المجهول.
أحمد: أليس هذا أفضل من أن أقع في مشاجرة بسيطة؟
هزت «إلهام» رأسها قائلة: أحب أن أسمع التفاصيل … تفاصيل العواطف طبعًا …
أحمد: للأسف لا وقتَ للعواطف … إن علينا أن نُعيد تقدير موقفنا بسرعة. تمامًا كما يفعل العدو الآن … لقد قصدت أن أُثير الاضطراب في خططهم بالمعلومات التي قلتها في التليفون … ورغم هذا فيجب أن نكون على حذر؛ فهم قد يعرفون أننا نُضلِّلهم.
عثمان: أعتقد أنهم لن يهتموا بنا بعد الآن. فنحن لم نَعُد نملك شيئًا يُريدونه.
أحمد: هذا صحيح … ولكنَّنا رأينا عددًا منهم. وقد نكون مصدر خطورة عليهم لهذا السبب.
عثمان: إنهم يعملون تحت الأرض. ولن يُهمَّهم أن نعرفهم أو لا نعرفهم. لقد خطفوا «معروف مبارك» … وحصلوا على الرسالة التي تركها. فهم قد حصلوا على كل شيء ولم نفعل نحن شيئًا إلا أننا ضربناهم بضع لكمات.
أحمد: كنتُ على استعداد لأن أدفع عمري لأعرف ما في الرسالة، ماذا كان فيها … ماذا كتب «معروف مبارك» قبل خطفه؟!
عثمان: فعلًا كانت مسألة هامة.
إلهام: ولكن لماذا كتب «معروف مبارك» رسالة؟
ريما: ربما اكتشف بعد وصوله إلى بيروت أشياء معيَّنة كان يريدها أن تصل إلى رقم «صفر».
أحمد: أعتقد أن الرسالة أهم من ذلك بكثير. لا بد أنها تتعلَّق باختراعه الخطير!
إلهام: وما هي خطوتنا القادمة! هل صحيح أننا سنركب السيارة إلى دمشق وينتهي الأمر!
أحمد: لا طبعًا … إننا سنُخطَف … ولكن علينا قبل ذلك أن نجد وسيلة للاتصال برقم «صفر».
ونظر الشياطين الثلاثة إليه في دهشة وقالت «ريما»: نُخطف، كيف؟
أحمد: إن تليفوننا مراقب. وعندما اتصل «عثمان» بشركة السيارات، سمع عدوُّنا المجهول المكالمة … ولو كنت مكانه لانتهزتُ الفرصة … وأعتقد أنه سيَنتهزها؛ فهو سيتَّصل بشركة السيارات ويلغي الطلب … ثم يُرسل لنا سيارة من عنده بها سائق من العصابة طبعًا يقودنا إلى حيث يُريدون.
إلهام: خطة شيطانية … ولكن هل تُريدنا أن نُخْطَف؟
أحمد: هذا هو الحل الوحيد لإعادة العلاقات بيننا وبين العدو المجهول.
وساد الصمت مرة أخرى … وظهرت «زبيدة» … عند باب الشرفة وقد بدت على وجهها ابتسامة مطمئنة وقالت: لقد استيقظ «خالد» ويُريد أن يراكم.
وأسرع الجميع إلى غرفة «خالد» … ووجدوه جالسًا في الفراش … وقد بدت عليه علامات الإرهاق الشديد ولكنه كان يبتسم …
قال «أحمد»: ما زلت حيًّا إذن!
خالد: لسوء الحظ … فقد خدَّروني مرتين!
عثمان: مرتين!
خالد: سأروي لكم ما حدث. فعندما دخلت السينما لاحظتُ أنني مُراقَب.
أحمد: لقد كنا جميعًا مراقبين!
خالد: جلست في المقعد وانتظرت حتى أطفأت السينما أنوارها … وأخذت أفتش فيه بطريقة لا يراها أحد … ووجدت شقًّا رفيعًا في حشية الكرسي تحتي … ومددت أصابعي فعثرت على أنبوبة رفيعة من المطاط في حجم غطاء قلم الحبر. وأدركتُ أنني عثرت على الرسالة «٩٩». وقررتُ أن أُضلل من يتبعوني فقمت في الظلام متظاهرًا بأنني ذاهب إلى دورة المياه … وقام شخص كان يجلس بجانبي وسار خلفي … وكان من السهل طبعًا التخلُّص منه في دورة المياه. ولكنَّني كنت واهمًا … فقد فوجئت بشخص يمد ساقه في الظلام … وقبل أن أتمكَّن من تجاوزها تعثرت فيها وسقطت. وانحنى الشخص الذي كان خلفي فوقي … وأحسست بشكَّة قوية في فخذي، وغبت عن الوعي … كانت حقنة مخدِّر.
وسكت «خالد» وهو يتنفس بعمق، ثم مضى يقول: وعندما استيقظت وجدت نفسي في سيارة … ولا أعرف كيف أخرجوني من السينما … ربما زعموا للناس أنهم أصدقائي … وقالوا أنَّني أُصبت بالإغماء عندما سقطت.
وابتسم «خالد» فقالت «ريما»: هل تَضحك لأنهم خدعوك؟!
قال «خالد»: نعم … ولأسباب أخرى … ووجدت نفسي في كوخ خشبي … وجاء «عثمان» بعدي بثوانٍ قليلة … وقاموا باستجوابنا عن الرسالة … وأنكرتُ كما أنكر «عثمان». وقالوا إنهم سيُفتِّشوننا … وأسرعت بإخراج أنبوبة المطاط وابتلعتُها.
إلهام: معنى هذا أنك لم تقرأها؟
خالد: لم يكن عندي وقت لذلك.
إلهام: وهكذا أخذوك للطبيب، وغسلوا معدتَك، وحصلوا على الرسالة؟
خالد: تقصدين أنبوبة المطاط!
أحمد: أنبوبة المطاط؟
خالد: نعم … أنبوبة المطاط وبها بقية تذكرة السينما.
كان بقية الشياطين يراقبون الحوار وقد أمسكوا أنفاسهم وقال «أحمد» بانبهار: تقصد …؟
خالد: عندما أفقت في السيارة. كنتُ ملقًى أسفل المقعد الخلفي، ورجل يَجلس على المقعد ويضع قدميه فوقي … وأدركت ما يحدث. ورغم صعوبة الحركة وخوفي من افتضاح أمري، فقد استطعت استبدال الرسالة … أخرجتها من الغلاف المطاط … ووضعت مكانها بقيَّة تذكرة السينما.
أحمد: تقصد …؟!
مدَّ «خالد» يده في جوربه، وأخرج ورقة ملفوفة بعناية على شكل أنبوبة، ثم مد يده بها إلى «أحمد» قائلًا: أقصد أن الرسالة معي.
ومد «أحمد» يده إلى الرسالة … وتعلقت الأبصار جميعًا بها، بينما انحنَت «زبيدة» على شعر «خالد» وطبعت قبلة أودعتها إعجابها … فقد كان بينهما إعجاب منذ أيام التدريب.
فكَّ «أحمد» الرسالة بسرعة … ولكن قبل أن يقرأها سأل «خالد»: ألم يفتحوا الرسالة عندما حصلوا عليها في عيادة الدكتور مصابني؟
خالد: لا … لقد قال أحدهما … إن تعليمات الزعيم تقضي بعدم فتح الرسالة وتسليمها إليه مغلَّفة.
ابتسم «أحمد» قائلًا: يا لك من شيطان … ويا لهذا الزعيم من رجل طيب!
إلهام: لقد اعتمد على إيهامهم بأنه ابتلَع الرسالة فلم يُفكِّروا في تفتيشه!
قال «خالد»: لقد كان طعمُها سيئًا للغاية … خاصةً بدون ماء!
كان «أحمد» يفتح الرسالة بعناية … فقد كانت مكتوبة على ورق رفيع للغاية وفردها بين يديه، وأخذ يقرأ:
أكتب هذه الرسالة بسرعة وأنا في سيارة … ومعي الحقيبة التي بها المعادلات الخاصة باختراع الوقود … و…
وقبل أن يكمل «أحمد» القراءة دقَّ جرس الباب … وبسرعة أغلق «أحمد» الرسالة ثم وضعها بعناية في جيبه الداخلي … واطمأن إلى وجود المسدس معه … ثم قال: سأذهب أنا و«عثمان» لنرى من الطارق …
وغادر هو و«عثمان» الغرفة وترك بابها مواربًا … وكان الجرس يدقُّ مرة أخرى فقال «أحمد» وهما يعبران الصالة: سأقف خلف الباب، وافتحه أنت.
وقف «أحمد» خلف الباب وفي يده المسدس، وفتح «عثمان» الباب فتحة ضيقة وسمع من يقول: «تبولة بدون بصل.»
ودخل رجل الأمن «سميح» الذي التقيا به في فندق نورماندي وتلفَّت حوله في حذر ثم قال: عندي رسالة من الرجل الكبير.
أدرك «أحمد» أنه يقصد بالرجل الكبير رقم «صفر» فقال: «مرحبًا بك … تفضل …» وأشار له على مقعد، فاتجه إليه «سميح» وجلس ومدَّ ساقه في استرخاء، ثم قال: أين بقية الزملاء؟
قال «أحمد»: إنهم في غرفهم.
سميح: إن الرجل الكبير مندهش جدًّا لمحادثتك التليفونية معه، وقد أرسلني للتفاهم!
أحمد: لم يَعُد هناك تفاهم يا سيدي، لقد قررنا جميعًا الاستقالة من العمل، وسوف يعود كلٌّ منَّا إلى بلده.
سميح: عندي تفويض من الرجل الكبير، إنَّكم إذا كنت مصرِّين على ترك العمل فعليكم تسليم الرسالة السرية لي!
أحمد: أيُّ رسالة سرية؟
سميح: الرسالة … سينما «٩٩»!
أحمد: ولكن العصابة حصلت عليها، فقد اختطفوا «خالد» واضطرَّ إلى ابتلاع الرسالة وقد أجروا له عملية غسيل معدة، وحصلوا على الرسالة!
ابتسم «سميح» قائلًا: أحب أن أطمئنكم على أن العصابة لم تَحصُل على الرسالة مطلقًا، لقد كان زميلكم «خالد» عبقريًّا، فقد وضع مكان الرسالة بقية تذكرة السينما التي دخل بها، وهذا ما وجدته العصابة في الأنبوبة المطاط!
أحمد: وهل علمَ الرجل الكبير بهذا؟
سميح: طبعًا، إنه واسع الاطلاع على كل شيء، والآن أين زميلكم «خالد»؟
أحمد: إنه نائم في فراشه تحت تأثير المخدِّر.
سميح: علمنا أن المخدر الذي أعطته له العصابة قوي المفعول، ولكن أثره يزول خلال ساعة … فلا بد أنه استيقظ الآن، هيا نراه!
وحاول «سميح» النهوض ولكن «أحمد» أخرج مسدسه من جيبه قائلًا: إنك لن تتحرَّك من مكانك يا سيدي … ولن تُقابل «خالد» … وبالطبع لن تحصل على الرسالة …
شحب وجه «سميح» وقال: ما هذا! إنك …
ولكن «أحمد» قال بحسم: «عثمان» … فتش صديقنا رجل الأمن المزيَّف … ودعنا نرى ما يحمله في جيبه!
وتقدم «عثمان» وكله دهشة ليُنفِّذ ما طلبه «أحمد».