هل هناك مفاجآت أُخرى؟!
تسلك أصابع «عثمان» بمهارة في جيوب «سميح» … فأخرجت مجموعة من الأوراق وسلسلة من المفاتيح، ومسدسًا ضخمًا، وبعض أقلام حبرٍ حجمها غير عادي … وقبضة من الحديد من النوع الذي يستخدمه الفتوات في الضرب، وخنجرًا … وعلبة سجاير وولاعة … وقال «عثمان»: إنه ترسانة مسلحة.
أحمد: والآن يا سيد «سميح» أين «معروف مبارك»؟
رد «سميح» في صوت كفحيح الأفعى: لا أعلم!
أحمد: كيف لا تعلم وأنت الذي اختطفتَه من فندق نورماندي. لقد شككتُ فيك من أول لحظة … وتركتُكَ تَعتقِد أنك تخدعنا حتى جاء الوقت المناسب لأواجهك.
أخذ «سميح» ينظر إلى «أحمد» نظرات يَقطر منها الحقد، ومضى «أحمد» يقول: لقد ارتكبت يا سيدي عدة أخطاء … آخرها أنك صدَّقت المكالمة التي تمَّت بيني وبين الرجل الكبير. إنه يعرف جيدًا أني عندما أحدثه بهذه اللهجة غير المؤدبة، وأقول له أننا سنترك العمل، يعرف أنني لا أقصد مطلقًا ما أقول … بل إنني أُحذره من أننا مُراقَبُون … وأنني أطلب منه أن يأخذ حذره … ولكنَّكَ بسذاجة مدهشة صدَّقت المكالمة … وهذا ما توقعته أنا، وتوقَّعت أيضًا أنك ستُرتِّب أمورك على هذا الأساس.
غمغم «سميح»: إنك شيطان!
وقف «أحمد» قائلًا: لقد أضعنا وقتًا طويلًا في الحديث.
وفي تلك اللحظة نظر «سميح» في ساعته … وفي نفس اللحظة سمع صوت أقدام تتقدم من الشقة … وقال «سميح» مبتسمًا في ضراوة: إنكم ما زلتم أطفالًا … لقد حددتُ لزملائي ربع ساعة منذ دخولي المنزل، فإذا لم أعد … فعليهم أن يقتحمُوه … إنهم لا يعرفون الهزار … فهم يستخدمون المدافع الرشاشة … وسوف يحصدونكم واحدًا واحدًا بلا رحمة، هاتوا الرسالة السرية … وسوف …
وتقدم «عثمان» منه ولطمه لطمة قوية أسكتتْه وقال «أحمد»: افتح الباب بسرعة يا «عثمان» … وأعط لهذا الوغد مسدَّسه بعد أن تفرغه من الرصاص حتى يبدو أنه مُسيطِر علينا، ثم اختف خلف باب المطبخ وراقب الموقف … وسأقف أنا خلف باب الشقة … وإذا تحرك هذا الوغد فسوف أسكته بطلقة واحدة.
أسرع «عثمان» ففتح باب الشقة، ثم اختفى خلف باب المطبخ بعد أن وضع المسدس الفارغ في يد «سميح»، بينما وقف «أحمد» خلف باب الشقة وقد صوب مسدَّسه إلى رأس «سميح» وبدت في عينيه نظرة كالفولاذ.
توقفت الأقدام أمام باب الشقة … ثم تقدم شخص ونظر إلى الصالة المضاءة، ورأى «سميح» يجلس وبيده المسدس فدخل قائلًا: هل كل شيء على ما يرام يا مستر «لاسكوف»؟
سمع «أحمد» اسم «لاسكوف» ولم يتمالَك نفسه من رعدة قوية سرت في بدنه، لقد تذكر الاسم فورًا، فقد كان ضمن مجموعة أسماء قال لهم رقم «صفر» أثناء التدريب إنهم من أخطر من يعملون تحت الأرض، إنه عالم كيمياء، ترك مهنتَه وتحوَّل إلى مُجرِم يطارد العلماء ويسرق اختراعاتهم وينسبها إلى نفسه أو يبيعها لمن يدفع أكثر.
مرت هذه المعلومات بذهن «أحمد» كالبرق … ثم شاهد فوهة مدفع رشاش تدخل من الباب. ولاحظ نظرة تحذيرٍ في عيني «لاسكوف» … ولكن «أحمد» كان أسرع … فقد دفع الباب بكل ما يملك من قوة. فأصاب الداخل بضربة قوية أسقطته على الأرض. وشاهد ذراع «عثمان» تقذف كرته الجهنمية في اتجاه الباب فتأكد أن شخصًا آخر كان يدخل … وسمع صدمة الكرة في رأسه، وصوت سقوطه على الأرض.
في هذه اللحظات تصرَّف «لاسكوف» سريعًا، ففي قفزتين كان ينقضُّ على «أحمد» كالصاعقة … وضربه بالمسدس الفارغ على ذراعه ضربة رهيبة أطارت المسدس المحشوَّ من يده، والتحما معًا في صراع مميت … كان «لاسكوف» متين البنيان كالثور وأدرك «أحمد» أنه كي يتغلب عليه فلا بد أن يُفقدَه توازنه، وهكذا ضربه بطرف حذائه بكل قوته في ساقه، فارتفعت الساق إلى فوق، وأصبح «لاسكوف» يقف على ساق واحدة فلفه «أحمد» بين ذراعَيه بسرعة ثم وجه إليه لطمة قوية سقط على إثرها كالجثة الهامدة.
في هذه الأثناء كانت الفتيات الثلاث و«عثمان» قد انقضُّوا على الرجلين اللذين كانا يحملان المدافع الرشاشة … وأمسكت «إلهام» بذراع الرجل الأول وثنته إلى الخلف وجثمت فوقه، أما «زبيدة» فقد هاجمت الرجل الثاني وأوقعته على الأرض، ثم أمسكت أحد المدفعين ووجَّهته إلى الجميع قائلة في صوت ثابت: لا داعيَ للمقاومة.
كان الرجلان اللذان وقعا عند الباب هما نفس الرجلين اللذين كانا في الكوخ الخشبي عند الجبل. فقال «عثمان» موجهًا حديثه إلى أحدهما: هل تذكُر كم ضربتني؟ أظن أنه من الواجب أن أرد لك الجميل.
كانت «زبيدة» واقفة وهي توجه المدفع الرشاش إلى الرجال الثلاثة. وقد أغلق «أحمد» الباب، واستند إليه في هدوء ووجَّه حديثه إلى «لاسكوف» قائلًا: هل هناك مُفاجآت أخرى يا مستر «لاسكوف»؟
قال «لاسكوف»: من يدري … إن الصراع معكم حافل بالمفاجآت.
أحمد: سأتركُك تفكر في مفاجأة أخرى بضع لحظات، فعندي ما أفعله.
أشار «أحمد» إلى «عثمان» ليتولى حراسة الرجال الثلاثة، ثم أشار إلى الفتيات أن يتبعنه. ودخل غرفة «خالد» فوجده يتناول طعامه بشهية، وقد استرد لونه.
وقالت «زبيدة»: إنه الآن على ما يرام.
أحمد: لقد كدنا نُحصَد بالمدافع الرشاشة!
خالد: لقد تتبعت حديثك مع «لاسكوف» وشاهدتُ كل الأحداث وأنا أقف خلف الباب وكنت مستعدًّا.
ومدَّ «أحمد» يده إلى جيبه، وأخرج الرسالة «سينما ٩٩» وأغلق الباب ثم أخذ يقرأ:
أكتب هذه الرسالة بسرعة وأنا في سيارة. ومعي الحقيبة التي بها المعادلات الخاصة باختراع الوقود … إن هذه المعادلات ناقصة، وقد قصدت أن تكون ناقصة حتى لو حصل عليها أي إنسان فلن يُمكنَه الاستفادة منها … لا أدري كيف استطعت الهرب من قلعة الرعب، إنه مجرد حظ طيب … ولكني أحس الآن أني مُطارَد … هناك سيارة تتبعنا على طريق دمشق–بيروت … فعندما هربتُ من «قلعة الرعب» التي توجد في مكانٍ ما ﺑ «لبنان» … اتجهت إلى سوريا لأضلل المطاردين … ثم حاولت العودة إلى لبنان.
وانتهت الصفحة الأولى فقلب «أحمد» الرسالة وعاد يقرأ:
قررتُ أن أترك المظروف الذي به المعادلات في أقرب مكان، حتى إذا استطاع المطارَدُون الوصول إليَّ فسوف يجدون الحقيبة معي … ولكن ستكون فارغة … إننا نقترب الآن من الحدود … وسأعطي المظروف لأيِّ شخصٍ وأطلب منه أن يُرسله على عنواني القديم في الجبل في «كفر زبيان» وهذه الرسالة تفويض منِّي باستلام المظروف … إنني لا أعرف حتى الآن أين أضع هذه الرسالة … إن ذلك يتوقف على الأماكن التي سألجأ إليها لتضليل المطارِدين.
قال «أحمد» موجهًا حديثه إلى «إلهام»: هل تعرفين كفر زبيان؟
إلهام: نعم … إنها قرية صغيرة على مسافة نحو ساعة من بيروت.
أحمد: ستذهبين أنت و«ريما» و«زبيدة» و«خالد» إلى هناك، واسألوا عن عنوان الدكتور … واحصلوا على المظروف بأيِّ ثمن … وسأقوم أنا و«عثمان» بمحاولة إنقاذ الدكتور … فلا بدَّ أنهم أخفوه في مكان ما في بيروت، انتظارًا لحصولهم على المعادلات … وخذي معك رسالة الدكتور في توكيل منه باستلام المظروف.
وأسرعت الفتيات و«خالد» لتنفيذ ما طلبه «أحمد».
جلس «أحمد» وفي يده مسدس وبجانبه «عثمان» وأمامهما «لاسكوف» والرجلان رافعان يديهما إلى أعلى … وقال «أحمد»: أظن أنه لا داعي للمقاومة أكثر … وقولوا لنا أين الدكتور «معروف».
قال «لاسكوف»: أليس من الأفضل أن نتَّفق؟
أحمد: على أي شيء؟
لاسكوف: عندنا الدكتور … وعندكم المعادلات، والدكتور بدون المعادلات لا يساوي شيئًا، فهو لا يستطيع تذكرها … والمعادلات بدون الدكتور لا تُساوي شيئًا لأنها ناقصة … فادفعوا لنا ثمن الدكتور وخُذوه … أو ندفع لكم ثمن المعادلات ونأخذها.
قال «أحمد» مبتسمًا: فكرة معقولة جدًّا … ولكنَّك نسيت شيئًا … إنك بين أيدينا، وعن طريقك سوف نعرف مكان الدكتور.
ابتسم «لاسكوف» وقال: هل تسمح لي بتدخين سيجارة. إنك مُساوم بارع.
وأخرج «عثمان» علبة السجائر والولاعة من جيب «لاسكوف»، وناولها له، فأخذ سيجارةً، ووضعها في فمه ثم وجه حديثه إلى «أحمد» قائلًا: لعلَّك لم تسمَع عنِّي من قبل؟
أحمد: بل سمعت، فأنت «برنارد لاسكوف»، عالم الكيمياء الذي تحوَّل إلى رجل عصابات دموي بعد أن أُصيب في رأسه أثناء إحدى تجاربه.
لاسكوف: ورغم ذلك فلستُ زعيم هذه المجموعة. فهناك من هو أخطر مني، وأشد بطشًا … لو اعترفتُ أو اعترف أيُّ واحد من مجموعتنا فسوف يُقتل.
أحمد: إنني أضمن لكم حماية … رجال الأمن في لبنان.
لاسكوف: إنك واهم يا صغيري!
ثم ضغط «لاسكوف» الولاعة … وحدث ما لم يكن في الحسبان … فقد انبعث منها ضوء شديد مُبهِر كأنه ضوء الشمس مُضاعَفًا مئات المرات … وأحس «أحمد» كأن سيفًا اخترق عينيه … ودارت الدنيا به … وأحس بيد قوية تجذب المسدس من يده … وصوت آمر يقول: لا تتحرَّك!
ومثلما حدث ﻟ «أحمد» حدث ﻟ «عثمان» وعندما فتح الصديقان عيونهما بعد لحظات كان «لاسكوف» يقف في أحد أركان الصالة وهو يوجه مسدَّسه إليهما. ثم قال باستخفاف: لقد قلت لك إن المفاجآت لم تنتهِ بعد …
كان الرجلان الآخران قد أصيبا كما أصيب «أحمد» و«عثمان» فأخذا يَفركان عيونهما من شدة الألم … وبينما كان «أحمد» يضع يدَيه فوق عينيه ويفكر في الخطوة التالية قال «لاسكوف»: لعلكم أنتم الأربعة نسيتم أنني عالم كيميائي وأن لي مخترعاتي الخاصة … ما رأيكم؟ أليست لعبة مُسلية؟
لم يردَّ أحد فمضى «لاسكوف» يقول: وبالمناسبة فإنني أضع عدسات على عيني تمنع تأثير الضوء!
وسكت «لاسكوف» لحظات ثم قال: والآن يا صغيري العزيز إنك تعرف أين المعادلات … وهو سرٌّ يساوي ملايين، بل بلايين الجنيهات، وأظنُّك توافقني على أنه لم يَعُد عندك فرصة للمساومة … فأين الخطاب السري؟!
أحمد: إنه ليس معي.
قال «لاسكوف» بحدة: أين هو؟
أحمد: في مكان ما … ولكنَّه على كل حال ليس هنا!
قال «لاسكوف» بهدوء: إنني أصدقك … فقد خرج منذ ربع ساعة مع الفتيات الثلاث، وصديقكم الذي خدعنا … ولكن لن نبقى هنا لتبادل الأحاديث … هيا بنا.
وأشار إلى الرجلين وإلى «عثمان» و«أحمد» … فوقفوا جميعًا، ثم أشار لهم بالخروج من الباب فخرجوا … ووصلوا إلى الشارع … كانت سيارة العصابة الضخمة في الانتظار … فقال «لاسكوف»: سنذهب لمقابلة الزعيم … وأعتقد أنكما هناك سوف تعترفان … فعندنا كل الوسائل التي تُجبركما على الاعتراف.
ثم أمر أحد أعوانه بتقييد ذراعَي كلٍّ من «عثمان» و«أحمد» لمنعهما من أيِّ محاولة للهرب.
كانت الشوارع خالية في هذه الساعة المتأخرة من الليل … فمضت السيارة مسرعة، وسرعان ما غادرت بيروت إلى طريق الجبل في اتجاه «البقاع» … وبعد مسيرة نحو ساعة، أخرج أحد المعاونين شريطًا لاصقًا وضعه على عيون «أحمد» و«عثمان» وعرف الصديقان أنه لمنعهما من معرفة الطريق الذي سيسلكانه إلى مقر الزعيم المجهول. ولم يكن «أحمد» و«عثمان» يفكران في تلك اللحظة إلا في معرفة مقر الزعيم … فقد كان هذا هو الحل الوحيد للوصول إلى «معروف مبارك» وربما بقية العلماء الذين اختُطفوا في السنوات الأخيرة كما قال رقم «صفر».
ومضت السيارة تشقُّ طريقها في أرضٍ غير ممهَّدة، وأحس «عثمان» و«أحمد» بالمطبات والحفر، ثم عاد الطريق يُصبح أملسَ لمسافة قصيرة لا تزيد على كيلومتر واحد ثم وقفت تمامًا ودارت حول نفسها، ثم أحسَّ الصديقان كأنها تنزل في مصعد إلى عمقٍ سحيق ثم استقرَّت مرة أخرى، وسمعا صوت أجراس تدوي من بعيد، وسمعا أصوات الأبواب وهي تُفتح، ثم امتدَّت الأيدي إليهما فأخرجتهما من مكانهما، وسمعا صوتًا يقول: ألم يكن هناك حلٌّ آخر سوى إحضارهما هنا؟
وسمعا «لاسكوف» يرد: إن الزعيم مهتمٌّ بالقضاء على هذه المجموعة من الشبان اهتمامًا بالغًا. فلم تَستطِع أيُّ أجهزة أمن أن تضايقه مثلما ضايقه هؤلاء.
وسار الصديقان وما زال الشريط اللاصق فوق عيونهما — ولكن بعد فكِّ رباط أيديهما — فوق أرض كان لها رنين المعدن، ثم على أرضٍ مُغطَّاة بالمطاط السميك … ثم فُتح بابٌ ودُفعا إلى داخل غرفة أغلق بابها … وعلى الفور سمعا صوتًا فيه رنين سخرية واضح يقول لهما: مرحبًا بكما.