الموت ليس أسوأ الحلول
مدَّ «أحمد» يده ونزع الشريط اللاصق، وفوجئ بالضوء الشديد يبهر عينيه وبصوت يقول: لا تقدم على عمل بعد الآن قبل أن تُؤْمر به … إن أيَّ تصرُّف قد يُعرِّضك لآلام لا داعيَ لها!
ونزع «عثمان» هو الآخر الشريط، ونظرا حولهما، كانت غرفة فارغة تمامًا مبنية بالأسمنت المسلَّح، وكانت قطرات المياه التي تجمعت على الجدران وفتحات التهوية العالية التي بها … تؤكد أنها مبنية تحت الأرض وكان هناك مقاعد من الخشب المصقول … وطاولة صغيرة عليها بعض الأوراق والأقلام.
لم يكن هناك أحد في الغرفة. فعرفا أن الزعيم المجهول يتحدَّث إليهما من ميكروفون وتأكدا من وجود كاميرا تليفزيون تنقل تحركاتهما إليه ما دام قد شاهد «أحمد» وهو ينزع الشريط اللاصق من عينيه.
عاد الصوت يقول: إنكما الآن في مكان لا يعلمه أحد … ولا أظن أن أحدًا سوف يسعى إلى إنقاذكما … وبالطبع فإنكما لن تَستطيعا الفرار مطلقًا … إنني أريدكما أن تجيبا على عدة أسئلة … وأرجو أن تَنجحا في الامتحان.
وضحك الزعيم المجهول ساخرًا … وغلى الدم في عروق «أحمد» و«عثمان»، ولكنَّ الدرس الأول الذي تعلماه في التدريب هو ضبط النفس … وعدم الاستِسلام للانفعالات، فتمالَكا أعصابهما … واتجها إلى الطاولة وجلَسا حولها.
وقال الزعيم المجهول: حسنًا … إنَّكما ولدان عاقلان حقًّا … اكتبا الأسئلة.
وسكَت لحظة، ثم قال: اسم كلٍّ منكُما بالكامل وسنُّه …
لم يتمالك «أحمد» نفسه فقال ﻟ «عثمان»: يبدو أننا سنُمتحَن في الثانوية العامة!
وابتسم «عثمان» وبرقت أسنانه البيضاء في وجهه الأسمر. وارتفع الصوت مرة أخرى بنغمة متضايقة: ربما كانت هذه آخر نكتة وآخر ابتسامة! اكتبا …
– ما هي الجهة التي تعملون لها؟
– ما اسم رئيس هذه الجهة؟
– أين مقر هذه الجهة؟
– مَنْ غيركما يعمل لهذه الجهة؟
– كيف علمتما بقصة «معروف مبارك»؟ وما مرَّ بكما من أحداث حتى الآن؟
وسكت لحظات ثم قال: هذا هو الامتحان … وهناك امتحان شفوي، وأظن أنَّني يجب أن أنبهكما أن عندنا من الوسائل ما يُمكننا من الحصول على اعترافاتكما … ولكنَّني … ولكنني أحب ألا ألجأ إلى وسائل العنف إلا بعد أن أستنفد الوسائل الأخرى … أمامكما حتى الساعة السادسة صباحًا للإجابة.
وسكت الصوت. ومال «أحمد» على «عثمان» وقال له هامسًا: ألم تُلاحظ شيئًا؟
عثمان: نعم … إنه لم يَسألنا عن الفتيات ولا عن «خالد» … ولا عن الرسالة!
أحمد: إن هذا ما يُقلقني أكثر من أيِّ شيء آخر … فمعنى أنه لم يسألنا عنهم أنه قد وصل إليهم واختطفهم.
وأخذا ينظران إلى الأسئلة … من المؤكد أنهما لن يُجيبا عليها. ونظر «أحمد» إلى ساعته وكانت تُشير إلى الثالثة، وأخذ يفكر في الفتيات … ماذا حدث لهن و«خالد» … هل تم الحصول على المظروف الذي به المعادلات؟ وأين ذهب به؟
وأخرجه من خواطره صوت الرجل المجهول يقول: يبدو أنني سأُضطرُّ إلى استخدام العنف معكما ولكنِّي، وفاءً بوعدي … سوف أترككما المدة التي وعدتُ بها.
قال «أحمد» ﻟ «عثمان»: هل تعرف أفضل ما نفعله؟
عثمان: ماذا؟ محاولة الفرار؟
ابتسم «أحمد» رغم الموقف الرهيب الذي هما فيه وقال: الفرار! كيف؟
صمت «عثمان» فقال «أحمد»: أفضل ما نفعله أن نَنام. لنستعد للصراع المقبل مع وسائل التعذيب.
وأبعد «أحمد» كرسيه، ثم مد قدميه على كرسي آخر، وشبك ذراعيه خلف رأسه وأغمض عينيه بعد أن جعل اتجاه النور خلفه وسرعان ما قلده «عثمان» … ولم تمض لحظات حتى راحا في نوم عميق.
بعد ساعة تقريبًا استيقظ «أحمد» ولكنه ظل مغمض العينين … كان يُفكِّر في المأزق الذي هما فيه … غرفة مصفَّحة تحت الأرض مراقَبة بواسطة كاميرا تليفزيون … أصدقاؤهما بعيدون عنهما … رقم «صفر» لا يعلم شيئًا … وفتح عينيه فتحة رفيعة … تكفي فقط للنظر من خلال أجفانه المطبقة، وأخذ يتأمَّل الغرفة … المساحة حوالي ثلاثة أمتار في أربعة … فتحات التهوية عالية … ولكن يمكن الوصول إليها إذا وقف فوق كرسي … الباب يفتح ويغلق بطريقة أوتوماتيكية من الخارج، فليس هناك أثر لقفل … ولكن أين عدسة الكاميرا؟ … إنها ليست في الجدران الثلاثة التي أمامه … إنها إما في السقف أو في الجدار الذي خلفه … وتظاهر بأنه يسند رأسه على ظهر المقعد ونظر إلى السقف كان الضوء الكهربائي يأتي من مُستطيل زجاجي وفي الأغلب فإن عدسة الكاميرا في نفس المكان.
كانت الساعة التي نامها قد بعثت في جسده بعض النشاط. وساعدت ذهنه وأعصابه على الاسترخاء … فأصبح مُستعدًّا مرةً أخرى للتفكير العميق … وأخذ يتذكَّر التدريبات التي مرُّوا بها. خاصةً ما يتعلَّق بالغرف المغلقة … ولم يكد يتذكر التدريبات حتى تذكر «إلهام» … وأحسَّ بقلبه يقفز بين ضلوعه … أين هي الآن؟ ما هو مصيرها؟ لماذا لم يسألونَهما عن الفتيات؟ … و«خالد»؟ … من المؤكد أن الأربعة قد وقعوا في يد هذه الجماعة الرهيبة … ولعلهم قد أسلموا الظرف وبه المعادلات. أو هم الآن يتعرَّضون لتعذيب مُخيف … وأحس بالدماء تغلي في عروقه … ولكنه أخذ نفسًا عميقًا وعاود السيطرة على أعصابه … ففي ذهنه خطة معينة … ويريد أن يخطر «عثمان» بها دون أن يراها أحد … وكانت هذه مسألة هيِّنة بالنسبة له … فقد حسب المسافة بينه وبين «عثمان» … ثم تظاهَر بأنه يتقلب في كرسيه … وأنه سيقع، ومد يده يَتساند على مقعد «عثمان»، وجذبَه بشدة، ووقعا معًا على الأرض … وهمس في أُذن «عثمان» بسرعة بما يُريد … ثم وقف وهو ساخط. وكذلك فعل «عثمان».
بعد لحظات عادا إلى التظاهر بالنوم. ولكن كلًّا منهما كان يفكر في دوره … إن الخطة تعتمد على الحركة السريعة المفاجئة المضبوطة المسافة والتوقيت.
ومرَّ الوقت، والصمت يُخيِّم على المكان إلا من صوت ماكينات بعيدة تدور … وتساءل «أحمد» في نفسه عن المكان الذي هما فيه … أين يقع، لقد قطعا نحو ساعتين بالسيارة؛ أي أنهما في المتوسط على بعد ١٢٠ إلى ١٨٠ كيلومترًا عن بيروت، ولكن في أي اتجاه … إنها مسافة تكفي للوصول إلى دمشق مثلًا … وربما إلى الأردن … أو إلى … وعاود قلبه الدق السريع …
نظر «أحمد» إلى ساعته من خلف أجفانه المطبقة … كانت الخامسة والنصف … وكان «عثمان» مُستسلمًا للنوم … ولم تبقَ سوى نصف ساعة … وبعدها إما أن يَنجحا … وإما أن يموتا … وإما أن يذهبا إلى غرفة التعذيب.
وكان «أحمد» واثقًا بأنه سيكون تعذيبًا رهيبًا بجميع الوسائل العلمية التي عرفها البشر، وربما بوسائل لم يسمع عنها …
كان عقرب الدقائق يمضي سريعًا على وجه الساعة … و«أحمد» يُمعن في التفكير … ويُركِّز تفكيره في اللحظات القادمة … وتعامَدَ العقربان … الساعة السادسة. وسمع «أحمد» صوتًا لم يكن هو صوت الزعيم المجهول … صوتًا يقول: لقد دقت الساعة السادسة … ولم تكتبا شيئًا … وعندي تعليمات أن أنذركما للمرة الأخيرة!
ظلَّ وجه «أحمد» جامدًا … وكان «عثمان» قد استيقظ على الصوت وتمطَّى وقال ﻟ «أحمد»: صباح الخير …
قال «أحمد»: صباح الخير.
ولو رآهما أي إنسان في هذه اللحظة لظن أنهما مستسلمان لمصيرهما … فلم يكن يبدو على الوجهَين الشابَّين أي أثر لما هما مُقدمان عليه … وفجأة شاهدا الباب يفتح بهدوء … وفجأة أيضًا تحرك الشيطانان … قذف «أحمد» بكرسي إلى السقف أصاب المستطيل الزجاجي فحطمه وساد الظلام … وفي نفس الوقت كان «عثمان» يَدفع الطاولة بقوة الصاروخ إلى فتحة الباب ليمنعه من الانغلاق … وفي ذات اللحظة كان «أحمد» يقفز فوق الطاولة التي سدت الباب ويُطوح بقدمه بقوة في وجه الرجل الذي أطلَّ عليهما فانطرح على ظهره … ثم انقضَّ «أحمد» على رجل آخر ظهر خلف الأول … ولم يكن هناك وقت للمصارعة فقد هوى «عثمان» بكرسي على رأس الرجل فسقط صريعًا … وفي اللحظة التالية كانا يقفان في الدهليز المُضاء …
قال «أحمد»: إنه وقتٌ مناسب قبل أن يستيقظ جميع الحراس.
عثمان: إلى أين نتجه؟
وقبل أن يأخذا قرارًا سمعا صوت أقدام تأتي من دهليز متقاطع فأسرعا يجريان إلى ركن الدهليز، والتصقا بالحائط … وبرز من الدهليز المُجاوِر آخر ما توقعاه … الفتيات الثلاث يسرن، وخلفهنَّ حارسان مسلحان … وكتم «أحمد» و«عثمان» أنفاسهما حتى مرَّ الموكب وأصبح ظهر الحارسين إليهما … وفي قفزة هائلة انقض كلٌّ منهما على حارس … والتفتت الفتيات الثلاث على آخر ما كنَّ يتوقعن … وانضممن إلى المعركة التي لم تستمرَّ سوى ثوانٍ قليلة، سقط على أثرها الحارسان على الأرض غائبين عن الوعي.
نظر «أحمد» إلى «إلهام» ونظرت إليه … كانت نظرة تُعبِّر عمَّا في نفسيهما من حب عميق يتزايد في لحظات الخطر … كانت نظرة خاطفة، وقال «أحمد»: أين «خالد»؟
إلهام: لا ندري … إنه لم يُغادر العمارة معنا!
أحمد: شيء غريب … المهم أنني ألاحظ أن الدهاليز فارغة من الحراس.
عثمان: يبدو أن كل شيء يتحرَّك هنا بأوامر … فلا يتحرَّك الحراس إلا بتعليمات …
تدخَّلت «زبيدة» في الحديثة قائلة: هيا بنا نبحث عن غرفة التحكُّم هنا … إن كل شيء في هذا المكان يتحرَّك بالكهرباء … وإذا استطعنا التحكُّم فيها سيطرنا على المكان.
عثمان: إنكِ متخصصة في الكهرباء يا «زبيدة» وهذه فرصتكِ.
وكانت «زبيدة» تنظر طول الوقت في التوصيلات الكهربائية محاولة الوصول إلى المصدر الرئيسي، ثم أشارت إلى آخر الدهليز الذي يقفون فيه … وقالت: غرفة التحكُّم من هنا.
قال «أحمد»: سننقسم إلى قسمين: «عثمان» و«زبيدة» و«ريما» … وأنا و«إلهام» … كل فريق يتقدَّم الآخر يحميه وهكذا … فليس من المعقول أن نتحرك معًا بهذا الشكل.
كان كلٌّ من «عثمان» و«أحمد» قد التقط مدفعًا رشاشًا … وسارت مجموعة «عثمان» في البداية، وبعدها ببضعة أمتار سار «أحمد» و«إلهام» وعند مدخل كل دهليز كانت المجموعة المتقدمة تُعطي إشارة الأمان إلى المجموعة التالية وهكذا … و«زبيدة» تراقب التوصيلات الكهربائية حتى وصلوا في النهاية إلى حائط من الرخام الأسود انتشرت عليه مجموعة من العقارب والساعات والمؤشرات الكهربائية … وأشارت «زبيدة» إلى الحائط وقالت: قاعة التحكُّم الكهربائية خلف هذا الحائط.
أشار «عثمان» إلى «أحمد» و«إلهام» … فلحقا بالمجموعة وهمس «عثمان»: خلف هذا الحائط توجد قاعة التحكُّم المركزي في شبكة الكهرباء.
قال «أحمد»: ما زلت مستريبًا في هذه الدهاليز الخالية … وأخشى أن نكون مراقبين طوال الوقت دون أن ندري … المهمُّ الآن سنقتحم هذه الغرفة بأي ثمن … فعن طريقها يمكن أن نتحكم كما قالت «زبيدة» في حركة هذا المكان العجيب. وسنَقتحِم غرفة التحكم على ثلاث مجموعات … وأنا وحدي المجموعة الأولى … وبعدي «عثمان» و«ريما» وبعدها «إلهام» و«زبيدة» … ومن المهم جدًّا المحافظة على سلامة «زبيدة»؛ فهي أملنا في إدارة الصراع المقبل!
كان الحائط الرخامي يقع على طرف دهليز من الصخر. وسرعان ما رفع «أحمد» مدفعه الرشاش، وانحرف داخل الدهليز شاهرًا مدفعه، ولحيرته الشديدة، كان الدهليز كبقية الدهاليز خاليًا، وأرسل بصره إلى نهاية الدهليز، ولاحظ على الفور أنه ليس أصمَّ كبقية الدهاليز التي مرُّوا بها … فقد كان هناك عدد من الغرف المغلقة الأبواب على الجانبين … وجرى ينظر إلى أبواب الغرف … كانت كلها متشابهة وعلى كل باب مجموعة من الأزرار وضوء مختلف اللون … وظهرت المجموعة الثانية المكوَّنة من «عثمان» و«ريما» وأشار لهما «أحمد» أن يقف كلٌّ منهما أمام باب … ثم ظهرت المجموعة الثالثة … وأشار «أحمد» إلى «زبيدة» أن تتقدَّم وترى الأبواب …
تقدمت «زبيدة» تنظر إلى كل باب نظرة عاجلة. ثم أشارت إلى أول باب في الدهليز إشارة يفهم منها أنه الباب المقصود … وتقدمت «زبيدة» من الباب … وفي تلك اللحظة حدث ما لم يكن في الحسبان … فقد ظهر باب خفي عند طرف الدهليز أخذ يُغلق الدهليز … وفي الناحية الأخرى ظهر باب آخر، وبدا واضحًا أن الدهليز هو سجنهم الجديد؛ فقد أغلق من الناحيتين.
ولم تتردد «زبيدة» … اتجهت فورًا إلى الباب الذي أشارت إليه، ثم صاحت ﺑ «عثمان»: أطلق الرصاص هنا!
كان ما أشارت إليه هو مجموعة الأزرار التي على الباب، وأطلق «عثمان» دفعة من مدفعه الرشاش، وتطاير شرر مُخيف وفُتح الباب … وأطلق «عثمان» دفعة أخرى من الرصاص داخل الباب … فظهر رجل مذعور رافعًا يديه إلى فوق، وأسرعت «زبيدة» إلى داخل الغرفة في نفس الوقت الذي ظهرت فيه مجموعة الحراس من غرفتين متقابلتين في الدهليز يحملون المدافع الرشاشة … وصاح «أحمد»: انبطحوا أرضًا!
وأطلق مدفعه في اتجاه الحراس … وفرقع الرصاص في الدهليز بين الحراس والأصدقاء … وترنَّح «عثمان» ووقع على الأرض … ثم تبعته «ريما» ولكن «عثمان» الباسل ظلَّ يُطلق مدفعه رغم سقوطه على الأرض …