في انتظار ما لا يجيء
صعدت إلى سطح البيت. مسحت النجوم المبثوثة في السماء السوداء، تختفي لمرور سُحب صغيرة متناثرة، ثم تعاود الظهور.
كانت الليلة شتوية. الهواء البارد ينداح بصفير مُوحِش، في الحواري الضيقة، الملتوية. البيوت أغلقت نوافذها، فبدَت ساكنة الواجهات. وثمَّة رائحة نفَّاذة، تترامى من موضع لا تتبيَّنه.
تكرر الحمل والإجهاض، فلم يعُد أمل الإنجاب ماثلًا — وحده — في أُفُق الأشهر التالية. تستعيد فترات الترقُّب، والصدمة المتكرِّرة. يضيف إلى توتُّرها ما تتعاطاه من أدوية، يكتبها لها الأطباء في مستشفى الملكة نازلي.
داخت من اللف على الحكيمات والمستشفيات والمشايخ والمقامات والأضرحة. كنست مقامات أبو العباس وياقوت العرش والبوصيري وخضر ونصر الدين. وزَّعَت ما أخذته بنثره على جسمها، وفي طست الحمَّام، لجأت إلى ضاربي الرمل وقارعي الودَع ومفسِّري الأحلام والأحجِبة والقواقع والأصداف. أعدَّ لها الحاج محمد صبرة خلطات أعشاب، عادت بالمأمول على كثيرات، واستعملت الدهانات والسفوف. اختلطت في أنفها روائح القرفة والزنجبيل والخلنجان وتين الغليل وعرق الجناح وحبَّة البركة وعود القرع والفانيليا. كتب لها الشيخ مكي عبارة «المصوِّر جل جلاله». طلب أن تقرأها كلَّ يوم إحدى وعشرين مرَّة على صوم بعد الغروب، وقبل الإفطار، سبعة أيام على ماء. تنفث فيه، وتشربه، فيثبت الولد في رَحِمها بإذن الله.
كانت تكتم تشوُّقها إلى أطعمة ترافق أيام حملها الأولى. تخشى رفض سيد، وتَلْميزه، ومُعايرته.
تضيق بالأسئلة، والنظرات المُشفِقة، والمَصْمَصات، والنصائح بأعشاب، ووصفات. تحزن للعبارة: عقبال عوضك، ففي داخلها ما يجب أن تعوضه. يؤلمها السؤال: ألا يوجد شيء في السكة؟
فاجأتها زمزم بالقول: يا أم الحاضر.
أردفَت لعينَيها المتسائلتَين: تعشَّمي في حضوره بإذن الله!
أدركت أن المرأة تقصد الحلم الأمنية.
أكدت زمزم المعنى: غدًا تزهقين من رعاية الأولاد!
ثم في نبرة محرِّضة: لن تستطيعي امتلاك زوجك ولا بيتك إلَّا بالخلفة.
قالت لها الكودية نظلة: إذا حلبت نجمك، فسينقطع الحيض من ثاني شهر!
أين نجمها في هذه السماء الواسعة؟
ثمَّة مشاعر تنداح في داخلها، وهي تطلُّ من النافذة على الأولاد يلعبون في الشارع، وهي ترى أمًّا تحمل طفلها في الترام، وهي تمضي في صراخ المواليد يعلو حولها في مستشفى الملكة نازلي.
لماذا الناس يُنجبون؟ ولماذا هي لا تنجب؟
قدَّر السلطان ظروفها، وتوسَّط سيدي ياقوت العرش، فأعطاها كمال مصباح تاجر المانيفاتورة شقة البلقطرية. لا تتصوَّر أن الله يعاقبها على ما لم يكُن لها حيلة فيه.
نسيت الكلمات المداعبة، والضحكة. تمضي الأيام، أربعة أيام أو خمسة، لا يتبادلان كلمة واحدة. حلَّت بينهما جفوة الصمت. ما يصل بينها وبينه خيوط واهية. تمدُّها بمحاولات إرضائه. يهمل الْتِقاطها، ويظلُّ على صمته. الْتَقى بناس من كفر الدوار. عاد إليها ليروي ما حدث. لو أنَّها الْتَقت بأبيها، أو إخوتها، أو ناس من القرية: هل يعرفونها بالملاءة اللف والبرقع؟ وكيف تواجه الأمر؟ تحاول الاختفاء، أو تقف لترد على الأسئلة، وتشرح البواعث، أو تستضيفهم في الحياة المستقرة؟ يناوشها القلق: هل يظلُّ سيد والشقة والبلقطرية، أو تتغير الظروف إلى ما تتوقعه، وتخشاه؟
أعطاها كمال مصباح الشقة بأمرٍ من سيدي ياقوت العرش. لا تستطيع — إن طلَّقها سيد — برفض الناس أن تظل فيها.
توقعت أن يغادر البيت، فلا يعود. يرمي عليها يمين الطلاق. يتزوَّج ثانيةً. غلبها الخوف. لم تعُد تدري لماذا، ولا كيف. تنتبه بأذان المغرب. تزيل عن جسمها رائحة تعب النهار. تبدِّل فستانها. ربما جرت بالقلم الأحمر على شفتَيها، ولمست خدَّيها بقطعة قطن مغموسة في البودرة. تقف وراء النافذة المواربة تتوقَّع مجيئه. تُقبِل عليه، تصدُّه، تخضع، تُعاير، تصرخ، توبِّخ، تطلب الطلاق. يُعلن التأفُّف، ويترك البيت. تلاحقه في الكشك. تُصالحه. تذكِّره بطيبته، وبالعِشرة. تظلُّ في النافذة، لا تتحرك، حتى يطالعها شبحه في أول البلقطرية.
يبدو كل شيء حلمًا. تصحو، فتُسعفها ذاكرتها بما رأته، وتحزن. تُعاني رغبةً في البكاء، أو في اللطم، أو في تَرْك البيت، والجري — حافيةً — في الشوارع.
ألِفَت توقُّفه — لا تناقشه — أمام باعة الصنف، على الرصيف، وفي القهوة، ووسط الطريق. يسلِّمه البائع، ويتسلَّم منه. وألِفَت أسماء الغبارة والربع قرش ودهان العفريت والصاروخ والدتورة وجوزة الطيب.
كثر تردُّده على سوق الترك. يشتري تحويجات وسفوف ودهان. تضمن له الإطالة حتى تزهق المرأة. يدس ما يشتريه في سيَّالة الجلباب، يحرص فلا يلمحه أحد.
انتتر بتلقائية إلى الوراء، حين قدَّم له خميس شعبان تحويجة في برطمان صغير: مجرَّد لحسة قبل النوم تجعل المرأة تفيق.
قال سيد: المرأة ليست مقصِّرة … أنا أريد الخلفة.
قال خميس شعبان: كيف تطلب الخلفة من امرأة باردة؟!
تداخلت في صوته بحَّة: أنا لم أتكلَّم عن برودة ولا سخونة … أريد أعشابًا تساعد على تثبيت حمل المرأة!
الإنجاب، الخلفة، الأولاد. الامتداد الذي لا قيمة للحياة بدونه.
ليتك إذَن ما جئت. ليتك تموت!
واجهته بالسؤال: ماذا لو أن الله لم يرزقنا بالخلفة؟
اختلجت شفتاه: هذه مصيبة لم أفكِّر فيها!
وهز سبَّابته في وجهها: نحن موتى بالحياة لو لم نُنجِب!
يطالبها بما لا تقوى عليه، بما لا تملك تنفيذه. هي تملك الدعوات والابتهالات والتوسُّل ببركات الأولياء والرقى والتعويذ والأحجبة. ما عدا ذلك، فهو ملك الله. تمنحه إرادته، ويمنعه إن شاء. تترقَّب، وتخشى، كلمة يقطع بها خيط العلاقة.
متى؟
كسا وجهه بهدوء، لا يُتيح لها أن تتعرَّف إلى ما بداخل نفسه، وما ينوي فعله. قناع من السكينة الهادئة، المتوترة. إذا حدث ما تخافه، لن تستطيع الحياة في بحري. لن تقوى على مواجهة الناس في صورتها القديمة. ربما انتهى بها الحال إلى السير على البحر!
تأمل الطبيب الأشعة جيدًا، ثم قال: العيب ليس في الرَّحِم.
ونقر بالقلم على المكتب: أنتِ في حاجة إلى تحاليل.
واستطرد في تنبُّه: والزوج أيضًا.
ثم في لهجة مشاركة: ربما كان العيب من زوجك.
قالت أنسية: وماذا أفعل؟
كتب كلمات في ورقة صغيرة. دفعها لها: انصحيه بإجراء هذه التحليلات.
وشى صوت سيد بانفعاله: تضحكين على نفسك؟ أُجري تحليلًا لو أنك لا تحبلين!
وهي تنظر إلى الأرض: وما له؟ ربما البذرة ضعيفة.
رمقها بعينَين متعبتَين: ما كان يحدث الحمل.
همسَت بلهجة مُحرِّضة: لن تخسر شيئًا … لماذا لا تحاول؟
تكوَّرَت قبضته، واهتزَّت: هل تريدين تشكيكي في نفسي؟!
أزمعت أن تترك الأمر لإرادة الله، لكن الهاجس الذي لا تدري مبعثه — هل هي الأمومة؟ — كان يلحُّ بما يصعب مغالبته. لو أن العيب من جانبه: هل يوافق على علاج نفسه؟ وماذا لو أنه عالَجَ نَفْسه — دون أن تعلم — وفشل؟! إنها أكثر حاجة منه إلى الولد، حتى تظل حياتها معه. حتى يستمر زواجهما. لا ينهيه خصام، ولا مَشاهد ممَّا يحدث بين الأزواج. لا تظل أسيرة القلق والتوجُّس والخوف من قادم الأيام. لا تشعر أن حياتها معه مُعلَّقة في الهواء، بلا خيوط تُبقي عليها.
لمَن كانت تُعِد الأقمطة والأغطية والمرتبة الصغيرة؟!
كان قد أقلع عن الكيف. لم تعُد تجِد في جيوبه ما كان يُودِعه فيها قبل أن ينتقلا إلى البلقطرية.
ضحكت من قلبها لملاحظته: أليس غريبًا أن أبطِّل المزاج بعد أن سكنتُ مع تجَّارِه؟!
ثم وهو يُعيد خصلة الشعر المتهدِّلة إلى موضعها: أنا لا أسأل حتى عن السعر وهم يقفون به على الرصيف.
وضعَت يدَيها على كتفَيه: لا شأن لنا به ولا بسعره.
قال ليطمئنها: حتى قِطع المجاملة أعتذرُ عن قبولها.
وأبعدَ ذراعَيها برفق: نحن أصحاب عيال.
لم يعُد يربط بين ترقُّب الخلفة، والإقلاع عن المخدرات، وإن لم يعُد إلى تعاطيها.
لماذا عاد؟
قالت كالمتذكِّرة: حلمت هذه الليلة ما أدعو الله أن يجعله خيرًا.
وبصقت من فوق كتفها ثلاث مرات: اللهم اجعله خيرًا.
أومأ برأسه يستحثها على الكلام: رأيت رجلًا لا أعرفه، وإن لم يبدُ غريبًا عنِّي. يرتدي عباءة بيضاء، ويضع على رأسه عمامة بيضاء، ويدسُّ قدمَيه في خُف أبيض. اتسعت ابتسامته في وجهي، وقال: ربنا يعمل ما فيه الخير. ثم اختفى.
شابَ صوتَها تذلُّل: معنى الحلم أن الفرج قريب. أليس كذلك؟
وضربت بطن يدها بظهر اليد الأخرى: أنا الرابعة بين ست بنات وثلاثة أولاد.
وافتعلَت ابتسامة: أمي كانت أرنبة. وأنا قطعة حجر!
ظلَّ سيد على صمته. خمَّنَت أنه يُذيب فصًّا تحت لسانه.
•••
حين عاد سيد من الخارج، فوجئ بنثار الأطباق المكسورة في الصالة.
نظر إلى أنسية، ونظرت إليه.
أدرك ما حدث، فظلَّ على صمته.