صراع
رأى مهجة تهبط من ترام ٤ القادم إلى بحري.
غالبَ ارتباكه. لم يحاول اجتذابها بأي كلمة أو تصرُّف. لا يدري إن كانت لمحَتْه أم لا، لكنها عبَرَت ميدان أبو العباس إلى شارع السيالة.
ظلَّ — لحظات — مقيَّدًا في مكانه. نسي لماذا هو هنا، أو لماذا جاء.
لاحظ خلو أصابع يدَيها من دبلة. أدرك أنها لم تُخطَب بعدَ طلاقها من فؤاد أبو شنب. وأدرك أن حُبه لها ما زال كما هو، لم يتغير بانقضاء السنوات، ولا بكل ما جرى. حتى زواجها من فؤاد أبو شنب لا حيلة لها فيه، وهي التي أجبرته على تطليقها. هي تُحبُّه، وهو يحبُّها. هو الآنَ موظف بمصلحة الموانئ والمنائر. مستقبله لا صِلة له برفض أبيه، ولا بالقهوة.
– إلى أين؟
سيد الفران. الخصلة المتهدِّلة، والوجه النحيل، والعينان الواسعتان، والأنف الضخم، والسِّنَّتان العُلويتان النابيتان، تضغطان على الشفة السُّفلى.
أسعفَتْه بديهته: عائد من الحلقة. اشتريت ثلاث أقات ترسة!
قال سيد: ولماذا تتعب نفسك؟ أنا موجود!
وأعاد خصلة الشعر المتهدِّلة إلى موضعها: أنت لم ترَ كشك سيد حتى الآن. ماذا لو زرتني؟
اتسعت ابتسامته: بعيد؟
قال سيد: أبدًا. على ناصية الموازيني.
وهما يعبُران الطريق سأل بعفوية: ما أخبار ولي العهد؟
– ولي العهد؟!
لو أن هشام يعرف ماذا واجه بالأمس حتى ينتزع الأمنية الصعبة؟!
•••
أطلق «أف» منغَّمة، حاول من خلالها أن يلمَّ مشاعره المُبعثَرة، الخائفة.
بدت الوكالة أمامه ساكنة، غارقة في الظلام، فيما عدا لمبة خافتة في نهاية الساحة الواسعة.
حذرت زمزم أنسية من أن البيت قد يكون ملاذًا لروح شريرة، تمنع الخير عن أصحابه. تجاهلت أمر سيدي ياقوت العرش إلى التاجر كمال مصباح بأن يُعطيها الشقة. بخَّرَت الحجرات كلها، ودَعَت الشيخ مكي قارئ سيدي نصر الدين، فقرأ آيات من القرآن لفك الأعمال السفلية. علَّقَت — أعلى السرير — أحجبة وقِطَع نحاس وخرزًا ملوَّنًا. وضعت في جوانبه أربعة سكاكين، تخيف الشر، تدفعه إلى التراجُع، فلا يركب السرير، لا يطول أذاه الجنين في بطنها. كتبت لها نظلة حجابًا، تشربه مع الطعام، أو مع الماء، أو مع الشاي، أو اللبن. لا تعلِّقه، ولا تضعه تحت المرتبة أو المخدة، لكنه لا بد أن يدخل معدتها، يحدث تأثير الطعام والشرب والدواء، في تحقيق العافية للبدن. خضبَّت يدَيها وقدمَيها بالحناء، ودلَّكَت نظلة جسدها بمزيج من الأعشاب البرية المسحوقة، المخلوطة بماء الورد والطلاسم والأدعية. نصحتها الكودية نظلة أن تتحمَّم في ماء مخلوط بدم قلب كلب أعمى.
قالت من بين دموعها: والمرسي … لا تعُد من غيره.
رفع حاجبَيه في دهشة: إذا لم يكُن أعمى … ألا يصلح؟
تحوَّل بكاؤها إلى نشيج: طلب الأسياد.
وأعادت القول: لا تعُد من غيره.
وهو يهز رأسه: بإذن الله.
داخَلَ صوتها حشرجة: سأقتل نفسي لو تكرَّرَت وفاة المولود.
الْتَمعَت عيناه: لا تكفري يا ولية … حتى لا يعاقبنا الله.
الْتقطَ كلمات قاسم الغرياني: أغرب حراسة في وكالة درويش بسوق الترك … الحارس كلب أعمى!
انشغل بمراقبة الوكالة، حركة الدخول والخروج، موعد قدوم الخفير، وموعد انصرافه، تبدو كقلعة ساكنة الواجهة، يشي الباب الخشبي الضخم، الموارب، بالحياة داخلها، وإن تغطَّت — في النهار — بظُلمة شفيفة. وأنارتها — إلى الصباح — لمبة صغيرة، مدلاة من السقف، في نهاية الساحة.
كان يشغله ألَّا ينبح الكلب، وألَّا يُصدر صوتًا يشرخ الصمت المحيط بالمكان. يثق أنه أعمى، وإن خاف أن يشي به نباحه.
حاول أن يدفع الباب، فزام الكلب.
اجتاحه خوف … ظلَّت قدماه في مكانهما … تسرَّبَت القدرة على الحركة من جسمه … فكر في العودة من حيث أتى.
قبل أن يدفع باب الوكالة، تعالى النباح من الداخل. توالت اللحظات بطيئة تفحُّ بالخوف، فأدرك أن الكلب مربوط في سلسلة.
تعمَّد أن يحدث حركة في وقفته، لكن الكلب — في ضوء عود الكبريت — هزَّ ذيله، ولم ينبح، وظلَّت عيناه في تحديقهما الساكن.
تحسَّس السكين بيده المرتعشة … أحسَّ ببرودتها تُلامِس أصابعه.
لما زمجر الكلب في مكانه، خمَّن أنه شعر بوجوده.
تواصَلَ زمُّ الكلب في تواصُل، دون أن يفتح فمه. ثم وقف على قدمَيه الخلفيتَين، ومال بصدره إلى الوراء، وأطلق صوتًا ممطوطًا كالعواء.
سحب السكين من جيب بنطلونه الخلفي، وتقدَّم داخل الوكالة.
•••
ألقى أمامها جثة الكلب: أمامي مشوار إلى مستشفى رأس التين لتلقِّي حقنة في البطن واحدًا وعشرين يومًا!
شهقت في تراجُعها إلى الخلف … علَت رائحة التعفُّن. سدَّت أنفها بأصابعها. أحسَّت بأمعائها تتحرَّك، تصعد بدوار وميل إلى الغثيان. وضعت يدها – بتلقائية – على فمها المفتوح. مالت المرئيات — بالخوف — وتشابكت، واختلطت. لم تلحظ الخدوش التي تقاطر منها الدم في وجه سيد وذراعه. تخاذلت قدماها فلم تساعدانها على الوقوف، ولا أسعفها لسانها بما ينبغي قوله. ثم أسرعت إلى المطبخ. أفرغت كل ما بجوفها.
قرفصت نظلة بجثتها الهائلة، وبشرتها السوداء، وأنفها الأفطس، ورنين الأساور الذهبية يعلو في ساعدَيها. هوت بالساطور. شطرت الكلب المذبوح، الملقى على ظهره، إلى نصفَين. ثم شطرت الصدر وأعلى البطن إلى نصفَين. أعملت السكين في الصدر، فاقتطعت الجزء الأيمن منه.
أغمضت أنسية عينَيها بالخوف، ولحم الكلب يقاسمها ماء الطشت، ويد نظلة تضوع البخور في الأركان: يا سيدي المرسي. فك عقدة أنسية بنت …
واتجهت إليها بالقول: ما اسم أمك؟
ظلَّت عيناها مغمضتَين: أم رمضان.
قالت نظلة: اسمها هي؟
– هاجر.
واصلت نظلة تضويع البخور: يا سيدي المرسي … فك عقدة أنسية بنت هاجر.
•••
حمل سيد ما تبقى من الكلب. ألقى به في البحر، فلا تحدث عكوسات.