أُفُق بلا غيوم
مضى في الشوارع الضيِّقة، لا يجيل عينَيه في النوافذ المفتوحة، ولا الأبواب التي سُدَّت بالنسوة الجالسات، يعددن الطعام، ويغسلن، ويثرثرن، والبيوت قصيرة، متساندة، تطلُّ من شرفاتها الصغيرة ونوافذها مناشر عُلِّقَت فيها قطع الغسيل، وتكوَّمَت أمامها، ولصق الجدران، عروق الخشب، والشباك القديمة المثقوبة، والصفائح الصاج، والإسفنج، وأعشاب البحر. تتبيَّن أذناه طشيش التقلية، ويشم رائحة التراب والعطن والأسماك الميتة والبول والغائط، وهبات من الهواء البارد تنداح في الْتِقاء الأزقة.
تلفَّتَ — بعفوية — لضحكة امرأة تناهت من نافذة قريبة، تشابهت النوافذ المفتوحة، الخالية. فاتَّجه بعينَيه إلى الأمام، وواصل السير، يحاذر مياه الغسيل الزرقاء المختلطة بالتراب، والأوساخ المتخلفة من تنظيف السمك.
كان يطيل الوقوف على ناصية السيالة — يتوقَّع — أو يتمنى خروج مهجة إلى الشرفة، تنشر الغسيل، أو تُدلي السبَت لبائع، أو تتفرج؛ يشغله أن ينظر إليها، وتعرف أنه يفعل ذلك، تُرهقه الوقفة، فيسير خطوات، ويعود، وعيناه ترنوان إلى شقة عباس الخوالقة.
في شهادة الابتدائية، كتب إلى أبو العباس رسالة، يطلب فيها مساعدته على النجاح، أودَعَها مقصورة الضريح. هل يكتب للسلطان رسالة تحنِّن عليه قلب مهجة فتعود إليه؟ هل يستجيب المرسي؟
حاول أن ينساها.
تردَّدَ — مع أصدقاءٍ، وبمفرده — على كوم بكير. تأمَّل، واختار، وأغلقت صاحبة النصيب الستارة عليهما، يحتضنها دون كلام. لا يسألها عن اسمها، ولا تسأله مَن هو. يكتم رغبته في أن يزيل ارتباكه. تمدُّ يدها. يتمنى أن تشعله المرأة، تزيد من الدفقات الموارة داخله. يكتفي بفك أزرار البنطلون، حتى لو عرَّت نفسها من الثياب تمامًا. ينتهي، فيُعيد ترتيب بنطلونه. يضع النقود على الكومودينو المجاور، ويمضي. لا يقرِّر العودة إلَّا إذا امتلأ.
لم يكُن يتصورها في نساء الكوم، وإن ظلَّت في باله ساعات وساعات، لا تغادره. يرى صورتها على الوسادة بجانبه، تطلُّ عليه من النافذة، تطالعه في صفحات الكتاب، تتقافز صورتها بين السطور، تكلِّمه، وتُنصت إليه، وتبتسم، وتضحك. يلمحها في زحام شارع الميدان. وحتى لا تغيب عنه، كان يُغلق عليها عينَيه، يتأمَّل ملامحها، وربما صحا على صورتها: الوجه الباسم، العينَين البنيتَين، الواسعتَين، الشَّعر الأسود المُنسدِل على الكتفَين، الشفتَين الرقيقتَين كورقتَي وردة. تتشرَّبها عيناه بنظرات متأملة. تتحدَّث، ويكتفي بالإنصات. سعادته في أنه يجلس إليها، يطمئن إلى وجودها بالقُرب منه. يتأمل تعبيراتها وهي تقوم، وتقعد، وتخرج، وتأتي، وتتكلَّم. يُفاجئها باحتضان أصابعه لأصابعها. تجتذب يدها، ثم تتركها له. يرفعها إلى فمه، ويُقبِّلها.
كان يسرح في تهويمات لا نهاية لها، متداخلة، متشابكة. يمتزج وضوحها وغموضها وبساطتها وغرابتها: يتمدَّدان على رمال الأنفوشي، يتمشَّيان على الكورنيش، يختبئان تحت ظِل شجرة في حديقة رأس التين، يركبان بلانس يُبحر بهما إلى مدن بعيدة، تروي له عن الحياة في الحلقة، ويروي لها عن الحياة في قهوة كشك. عيناه في عينَيها، ينظر إليها، وتنظر إليه. أنفاسهما تختلط. بدَت له ملامستها، يدها أو شعرها أو فستانها، حلمًا يتوق لتحقيقه. لا يكلمها ولا تكلِّمه. لا يطيل الوقوف أمامها. تكفيه الملامسة، ثم الابتعاد.
مالت معظم مشاويره إلى الوسعاية، يبحث عن الوجه الذي لا يخطئه بين البنات الواقفات حول الحنفيَّة. يفرح لرؤيتها. تبطئ خطواته، أو يتظاهر بحاجته إلى الشرب ليقترب، يكتم الخيبة في نفسه إن لم يرَها، ويمضي بالأمل في أن يراها عند العودة.
فوجئ بسيرتها على قهوة كشك.
قال بيومي جلال إنه شاهدها مع شاب غريب في لسان السلسلة، كانت أصابع أيديهما متداخلة، وكانا يضحكان.
قهره الألم.
لم يكُن في بال بيومي جلال فشل زواجه من مهجة، ولا أن المسألة تهمُّه أصلًا.
لم يتدبر السؤال، أو أنه فوجئ به: هل تعرفها؟
قال بيومي جلال: طبعًا. مهجة بنت المعلم عباس الخوالقة.
استطرد في تنبُّه: لا شأن لك بها منذ زواجها من أبو شنب.
شعر بسخونة أذنَيه لسماع اسمها: أنت تحكم على سلوكها.
أطرق برأسه: حكيت ما شاهدته.
تكرَّرَت السيرة، وهو يصيخ السمع لهمس — داخل القهوة — بين مصطفى حجازي ومؤمن الدشناوي، وهو يتابع مباراة الكرة في ساحة السيالة، وهو يفاصل على شروة سمك في شارع الميدان، وهو يقرأ الفاتحة لسيدي خضر.
لم تعُد مهجة التي يعرفها.
رآها تخرج مع بنات في العصاري إلى ما بعد أبو العباس، ترقص في حفل ختان، تحمل صينية البطاطس إلى حلقة السمك، ورآها في ظِل المراكب بالقزق، وتثرثر مع البنات، وتداعب، وتضحك أمام حنفية الماء. وثمَّة بنات وعجائز أخذن جانبًا، يملأن الصفائح، ويغسلن الملابس والحلل والأطباق والأكواب والصواني، يدعكن ويعصرن ويشطفن، ويتبادلن الحكايات والنكات والتعليقات التي لا تنتهي.
مال إلى الحنفية، يتظاهر بالرغبة في غسل رائحة الزفر من جسمه. الحوض الصغير من الطوب المكسو بالأسمنت. يمتلئ، فتصبح الأرض حوله بِركة آسِنة.
عاودتها مشاعر التحدي.
هل يكلِّمها؟ هل يؤذيها؟ ولماذا؟ كلمات طه مسعود ليست قرار الموت. لماذا لم يرفض؟ لماذا لم يصرَّ على زواجهما؟
أبعدت يده وهي تضحك: غسل اليدين مع شخص آخَر في نفس الحنفية، شؤم.
أضافت للدهشة في وجهه: إذا غسلت يدك مع آخَر لا بد أن تتعاركا قبل أن يحل المساء.
قالت أشجان بنت خميس شعبان: فإذا حدث الاغتسال في الليل؟
قالت مهجة: أتكلم بجد.
أردفت كالمتذكرة: وأنا أقف فوق سطح بيتنا أمس، حامت حمامة مرتين من حولي.
وغمزت بعينها: هذا يعني أن مَن يحبني لم ينسَ حبه.
داخلته فرحة، أدرك أنه هو المقصود، وإن ظلَّ على صمته.
دفعت يد الطلمبة، فاندفع الماء في دفعات متوالية، حتى امتلأت الصفيحة.
فاجأته بالقول: يدك معي لأضع الصفيحة فوق رأسي.
تلفَّتَ — بعفوية — حوله. لم يتصوَّر أنها تكلِّمه، فلماذا صدَّته حين الْتَقى بها في شوارع بحري؟
قال بلهفة: أحملها عنك.
هزَّت أصابعها في تظاهر بالخوف: تذهب بها إلى بيتنا … يراك أبي فيقتلنا.
تباطأت في رفع الصفيحة، شلحت طرف فستانها، ومدَّت ساقَيها تحت الحنفية، دعكت باطن القدمَين والكعَبين، وجانب عينَيها يتأمل وقفته المتحيِّرة، وارتباكه.
أعادت القول: يدك معي.
تقدَّم يرفع معها الصفيحة إلى رأسها. مدَّ يده، ومدَّت يدها. حين تلامست اليدان، شعر بتحرُّك شيء في داخله، ما يشبه الفرحة، أو النشوة، أذهلته عن كل ما حوله، عكسَت ابتسامتها الواسعة سرورها لارتباكه. تخلَّلَت بأصابعها أصابعه، فانتفض. نسي أنها تركت يدها في يده، وتكلَّما، وقال لها: أحبك، وقالت له: أحبك، وتكلَّما في خطوات تأثيث البيت، قبل أن يصدر الإمام أمره القاتل.
قالت لأشجان وهما تميلان بالصفيحتين فوق رأسَيْهما داخل السيالة: اسمعوا اليمام … سبِّحوا ربكو … جوِّزوا بنتكو.
لم تعُد تفارقه في اليقظة ولا في النوم، ألحَّ عليه إصرار في أن ينفرد بها، يكلمها. يأخذ منها ويُعطي، مجرَّد جمل قصيرة، يوجِّهها إليها هي بالذات، وتوجِّهها إليه هو بالذات. لا يبوح، ولا ينطق عيبًا. يقول كلمات عادية مما يتبادله الناس في لقاءاتهم: الصحة والجو والوقت وغيرها مما يفِد عفو الخاطر. ربما فتحت له قلبها، وفتح لها قلبه، ووصلا البدايات بما انتهى إليه حالهما.
لمحها في انحناءة الطريق إلى الموازيني.
حيَّاها بهزة من رأسه. واجهته بنظرة باسمة، ثابتة، وواصلت طريقها. خمَّن أنها ستردُّ على تحيته لو ألقاها، وتجيب على أسئلته. تطمئن إليه، وتروي له عن حياتها بعد الطلاق.
لبد لها في عتمة شارع حداية المتفرِّع من السيالة. توقَّع أن تميل إلى الشارع، فيجتذبها. يدفعها إلى سماعه أو … ماذا؟ لا يدري! المهم أن يجدها أمامه، في النور أو الظلمة، يحدثها عما يُعانيه، ويتعرَّف إلى ما تنوي عمله.
غالب نفسه مرات، خشي أن توبخه، أو تلم عليه الناس.
دبَّر في ذهنه الكلمات، بدل، وأخَّر، وحذف، وأضاف. وحين رآها — ذلك الصباح — تصعد الدحديرة، بيدها كيس لم يتبيَّن ما بداخله، نسي كل ما أعدَّه من كلمات. لفحته سخونة وجهه، وهمَّ بالعودة. لمح وميض ابتسامة وهو يتظاهر بتأمُّل جدران الجامع. استجمع الكلمات من أغوار بعيدة: مهجة … أقول لك كلمة.
أدرك أنه يجب أن يقول شيئًا، أي شيء. مجرَّد أن يتكلم، وتنصت. يأخذ منها ويعطي. ينكسر حاجز الارتباك والصمت.
كانت قد أولته ردفها، ومضت في اتجاه الموازيني.
لحقها في ناصية شارع حداية.
صدَّته بنظرة عابسة، وأسرعت في خطواتها.
لاحظت أنه يقترب باتساع خطواته. همَّت بالتوقُّف ومواجهته، لكن أضواء ميدان المساجد، القريبة، دفعتها إلى الإسراع في مشيتها، حتى خرجت إلى الميدان.
همس في هدوء القيلولة أمام مدرسة البوصيري الأولية: أريد أن أكلمك.
وهي تُبدي الضيق: عيب يا هشام.
انبثق في صدره أمل: العيب لو أني أعاكسك.
فاجأه عباس الخوالقة — عصر اليوم التالي — بوقفته الغاضبة على باب القهوة، انتزعه — بصوته الزاعق — من انشغاله في قراءة كتاب: ماذا تريد من مهجة؟
فطن إلى أنها روت له … غمغم: أنا؟
رماه الخوالقة بنظرة ساخطة: تلاحقها أكثر من ظِلها.
واتَتْه جرأة: كانت ستصبح زوجتي لولا الفرية الكاذبة.
ظلَّ الخوالقة على صوته الزاعق وهو يتجه إلى الطريق: هذا كلام لا معنى له. لا تُفسد العلاقة بيني وبين والدك!
لاحظ تردُّدها — عصر كل يوم — على مساكن خفر السواحل. ظلَّ على مراقبتها، فعرف أنها لم تكُن تذهب — كما ادَّعت — للمذاكرة.
طال ترقُّبه لها بجانب دكان الحاج محمد صبرة، كأنه ينتظر مريضًا بالداخل. نظرته ثابتة نحو حنفية الماء. يبدِّل رجلًا برجل. يعاني الحرج في سؤال معارفه: مَن تنتظر؟ يهمهم بكلمات مدغمة، ويحوِّل عينَيه، يلمحها، فتتبعها نظراته وهي تميل من شارع أبي السعادات إلى الكورنيش، تمضي ناحية سينما الأنفوشي، ومنها إلى الساحة الترابية المُفضية لمساكن السواحل.
فاجأها بوقفته على الأرض الردم بجوار سينما الأنفوشي، قاست — بعينَيها — المسافة بينها وبينه.
اعترض طريقها.
أول مرة — من زمن — يقترب منها إلى هذا الحد، توقفت، اختارت بين مواصلة سيرها، أو العودة، تحرك نحوها ببطء، فتراجعت متوجِّسة. هل يؤذيها؟ اقترب منها. دفعَت يده، وتراجعت إلى الوراء.
تقافزت الكلمات على شفتَيه، وإنْ لم ينطقها: أين تذهبين يا مهجة؟ أنا أعرف كل شيء عنك، وأعرف الشاب الذي تصادقينه، والبيت الذي تذهبين إليه فيه. أنا أعرف كل شيء … كل شيء.
صرخَت بتلقائية صرخات عالية متوالية، جرى نحوها العشرات من داخل السينما، ومن قهوة بركات القريبة.
واصل تراجُعه أمام الاندفاع الغاضب، عانى تعثرات اصطدامه بالصخور والحصى الصغيرة. واصلوا تقدُّمهم، وواصل تراجُعه بالقفز دون أن يلتفت وراءه. لامسَ حدَّ الأرض أعلى البحر. تشبَّثَت قدماه، واهتزَّ جسمه، ارتفع ذراعاه يتقي ما لا قِبَل له على مقاومته، ثم انفلتت منه صرخة مذبوحة، أسكَتَها صوت ارتطام جسمه بالصخور الناتئة، المتصاعدة من المياه.