الستر والتجلِّي
فاجأه بضربة على كتفه. ثم توالت الضربات عنيفة، قاسية. لا يعطيه وقتًا لردها.
وقع على الأرض، فبرك خوفه. كالَ له بقبضة يده في رأسه. تمازجت الآهة بانبثاق الدم من مقدمة الرأس.
الْتَقى به في بداية الطريق إلى مساكن السواحل: إلى أين؟
قال محمد الراكشي: الجامع.
قال مرعي بيبي: لماذا؟
رمقه بنظرة دهشة: لأصلِّي!
فاجأه بضحكة سخرية: هل تنوي الدروشة كأبيك؟!
ارتعشت أهدابه. قبض على جلباب مرعي بيبي من الصدر. صرخ وهو يهزه: الدرويش أشرف من البلطجي!
قال له الحاج قنديل: أريدك أن تعمل معي في الحلقة.
قال محمد الراكشي: بيع السمك مهنة لا أعرفها.
وهو يربت كتفه: لن تفعل شيئًا. أنت بركة من رائحة أبيك.
ضايقته الكلمات. استفزَّته. وافق على العمل مساعدًا لعم محمد كسبة في رفو ثقوب الغزل. يظل يومه في الساحة المقابلة لمساكن السواحل. رفض الحياة بلا عمل. في باله ما قاله حنفي قابيل: مَن معه نقود، فهو أبو أحمد، فتوة. مَن يفرض إتاوات، فهو بلطجي!
شاطه مرعي بيبي بركلة في بطنه. صرخ من الألم، وتقوَّس جسمه، وتعثَّر في وقفته. لحقه بيبي بركلة، فسقط، توالت الركلات، فتحمَّلَها، احتضن الساق المندفعة. تراجَعَ الرجل بأعلى جسمه، وحاول أن يجتذب الساق المُقيَّدة، لكن محمد الراكشي وضع فيها كل قوته، فلم يُفلِتها. علا الرجل بالساق الأخرى، فسقط على ظهره. ارتمى محمد فوقه. كال له الضربات في رأسه ووجهه، وخمش ظهره.
[قال له حنفي قابيل: إذا لم يعتدِ عليك أحد، فلا داعي لإظهار قوتك. وقال: لا تعتدِ على أحد إلَّا إذا اعتدى عليك. مَن يحترف أذية الناس، بلطجي وليس أبو أحمد. ليس فتوة. وقال: لا تظهر قوتك إلَّا لمَن يستهين بها. لمَن يستهين بك. انزع ثوب التواضُع والبساطة والملاينة، وواجهه. قِف على نقطة الصفر، واستعِد لخوض المعركة. إذا خضتها، فإلى النهاية.]
تملَّص مرعي بيبي من تحته. داسه في صدره — وهو يتهيَّأ للوقوف — بضربة من كعب الحذاء. تحاملَ محمد الراكشي على نفسه. طوَّح قبضته في وجه مرعي، فتطاير الدم من الأنف.
مسح مرعي أنفه بظهر يده، ونزع البنش عن كتفَيه. طوَّح به، واقترب بقبضة مكوَّرة، وعينَين تومضان بالشرر.
[قال حنفي قابيل: إذا أُصبت، فلا تُظهِر تأثُّرك، حتى لو ساح الدم على جسمك، واصل الضرب. اكتم ألَمَك، وتماسَك، وخُض معركتك إلى نهايتها. لا تُظهر التخاذل، ولا الخوف.]
لحق مرعي بيبي بلكمة ثانية. تعثر في نفسه، وسقط. حاول النهوض، فعاجله محمد الراكشي بركلة في بطنه، تطوَّح من قوتها على ظهره.
فزَّ مرعي بيبي. اندفع ناحية الشارع بكل سرعته. مدَّ محمد ساقه في طريقه. تعثَّر. انقضَّ عليه محمد، وجذب ذراعه خلف ظهره. ضغط، وضغط، وضغط. أطلق مرعي بيبي صرخةً، ونتر جسمه. اختلطت الصفعات والركلات وقبضات الأيدي والشتائم والصرخات والصيحات. امتلكه محمد من الخلف. أدخل ذراعَيه بين ساعِدَي مرعي بيبي، وضغط. مال بأعلى صدره، فتأوَّه مرعي لألم رقبته. واصل محمد الضغط، وتأوُّهات مرعي تعلو. ثم أخلى ساعِدَيه، فسقط الرجل من طوله.
قام مرعي بيبي بجانب كتفه. ثم استلَّ من جراب في ساقه مطواة ملتمعة، قذفها واستعادها. تراجَعَ وتقدَّم. تحرَّك إلى اليمين وإلى اليسار. قرَّب المطواة بين عينَي محمد، وقال: نهايتك!
تمنى لو أنه كان يحمل مطواة.
[قال له حنفي قابيل: إذا أفلحت في استخدام المطواة، أخرِجها من جيبك في الوقت المناسب. وافتحها بلا ارتباك. صوِّبها في موضع يُصيب ولا يقتل. تصبح — بعون الله — أبو أحمد، لا يقدر على هزيمتك أحد.]
طال طرف المطواة وجنته، فأدماها. أحسَّ بسخونة تنبثق من أنفه. تحسَّسها بأصابعه. أخافته رؤية الدم.
[قال له حنفي قابيل: احرص على رأسك وعنقك وصدرك وبطنك. إذا نال الساعد طعنة خنجر، فما أيسر أن يلتئم الجرح بالخياطة. أما إذا نالت بقية الجسم، فإنك لن تضمن حياتك.]
عاد إلى الوراء. أطار المطواة بساعده. اصطدمت بالأرض الحجرية، وانتترت إلى بعيد. لحق مرعي بيبي بقدمه، وهو يحاول الجري. تخلخلت ركبتاه، وسقط من طوله. ارتمى على تكوُّره، وهوى عليه بلكمات سريعة.
[قال له حنفي قابيل: لا تمل المحاولة. فالمسمار لن يخترق الحائط من أول ضربة!]
لمح أصابع الرجل تتحسَّسان الأرض، بحثًا عن السكين. أطبق بيدَين كلَّابتَين على جانبَي فمه. فشخه بما وسعه. غاب صراخ الرجل بالألم، وإنْ توالى ضربه للأرض بقدمَيه في توالٍ.
[قال له حنفي قابيل: حاول أن تُصيبه بجرح. احرص، فلا يكون الجرح نافذًا. مجرَّد أن يتحسَّس الدم في وجهه وذراعه. يقتله الخوف، ويجري.]
رفع مرعي بيبي قطعة خشب مُلقاة على الأرض الجيرية. هوى بها عليه. تفاداها محمد بإمالة رأسه، ثم دفع رأسه في بطن الرجل.
انتهيا إلى الكومة الحجرية المُطلَّة على أول الأنفوشي. تعثَّرا في عدم استوائها. تماسكا ليحمي كلٌّ منهما نفسه من السقوط. فزَّ مرعي بيبي ووقف. لحق محمد بساقه، فأمسكها. تشنَّجَت عليها أصابعه. دفعه مرعي بيبي في جنبه، حتى يُخلي ساقه، وسار خطوات متعثِّرة. ظلَّ محمد مُمسِكًا بساقه، وظلَّ مرعي يواصل الضرب بالقدم الأخرى.
[قال له حنفي قابيل: إذا قُطعت يدك اليمني في معركة، فإن عليك أن تقاتل باليد اليسرى. وإذا شق خنجر بطنك، فإن عليك أن تعيد أمعاءك إلى جوفك، وتواصل العراك حتى النهاية. هذه هي أخلاق الفتونة!]
قوَّس محمد جسمه. أمسك بموضع القدرة في مرعي بيبي. ضغط بآخِر قوته. أهمل صراخ مرعي واختلاجاته المُرعِبة، حتى غلب البياض عينَيه، وسقط من طوله.
تهيَّأ محمد الراكشي فوق رأسه لمواصلة العراك.
تحامل مرعي بيبي على نفسه، وابتعد يتقافز على يدَيه وقدمَيه.
[قال له حنفي قابيل: إذا لاذ خصمك بالفرار، فاتركه. لا تجرِ وراءه. ولا تدفعه إلى العودة للعراك. فقد انتصرت. والكل عرف بفراره، وانتصارك.]