التحليق بلا أجنحة
أمواج البحر تتشابك زرقتها في نهاية الأفق بزرقة السماء. لا شيء حوله إلَّا الماء. وفي مرمى البصر، البيوت العالية تطلُّ على الكورنيش، تنتهي — من ناحية — إلى السلسلة، ومن ناحية إلى قلعة قايتباي.
حين دخل المعلم أبو الحسن هنو قهوة البحر، كان مختار زعبُلَّة قد استقرَّ وراء البنك، وياقوت ينثر على الأرض نشارة الخشب.
عرفه مختار.
غالب البياض سواد الرأس، وتخلَّلَت الوجه خطوط وتجاعيد، وضاقت العينان. لكن ملامح الوجه لم تتبدَّل. حتى القامة النحيلة لم يطرأ عليها امتلاء، وإن استبدل بالجلباب قميصًا، وبنطلونًا، ووضع على رأسه — مستغنيًا عن الطربوش — قبعة من الخوص.
قال: تعرفني؟
قال مختار زعبُلَّة بصوت مُهلِّل: طبعًا. معلم الجميع الحاج أبو الحسن.
هجر بحري. ترك تصريف أعماله لموظفِّيه وصبيانه. لا يزور المنطقة إلَّا لأمر مهم: مشكلة يعجز الموظفون عن حلِّها، أو مجاملة عقد قران، أو عزاء.
وهو يهز رأسه: هذا ييسِّر مهمتي.
ثم اعتدل في مواجهته: عرفت أنك ستوقِّع في الصباح عقدًا بشراء بلانس.
هزَّ رأسه: صحيح.
قال أبو الحسن: مبارك!
واعتمد على الطاولة بكوعَيه، واتجه إليه بنظرة متسائلة: هل تنوي أن تصبح معلمًا؟ شيخًا للصيادين؟
انتزع مختار ابتسامة هادئة: أبدًا. أشتريه لأركبه بنفسي.
ظلَّ ركوب البحر أمله الذي لم يفارق خياله. يمضي إلى آفاق الأمواج من كل الجوانب، وأضواء الفنارات، والبوغازات، والمدن البعيدة. اختلطت الذكريات — لطول غيابه عن البحر — وتشوَّشَت، وذوَت. لم يعلق في ذاكرته إلَّا صور كالومضات، لا يعرف أين: زقاق خلفي يلتف بالظلمة، شارع عريض، الأضواء على جانبَيه ملوَّنة ومُبهِرة. قارب صغير ينقله إلى مرساة خشبية، فندق صغير يشغى ببحارة يتكلَّمون بلغات لا يفهمها. حلقات دخان تتصاعد في دوائر، تصطدم بسقف حجرة، تتسع، فتمتلئ الحجرة بما يُشبه الضباب الشفيف. ضوء فنار يمسح السماء. بلدوزر هائل، تتدلَّى منه حبال معدنية ملفوفة، تنتهي بكلَّابة. ميدان يمشي الحمام في ساحته، ويطير، أبواب مُغلَقة، تتناهي من ورائها أصوات واضحة، وغامضة. جثة متفسِّخة، تطفو في قلب البحر. الرعد يبرق خارج الكوة المستديرة، وقطرات المطر تصطفق بالزجاج.
عرف أن تحقيق حلمه بيده. لن يركب البحر إلَّا بالبلانس الذي يملكه. وضع القرش على القرش، يشتري — ويبيع — ما يحمله بحَّارة البواخر الأجنبية من المعلَّبات والسكر والدقيق والزبد والحلوى، ويشتري من البحَّارة صورًا عارية، يبيعها بأضعاف ما يدفعه، ويفوِّت بيع الصنف على القهوة لقاء عمولة، ويغلق القهوة — في بعض الليالي — على لاعبي القمار.
قال المعلم أبو الحسن: عرفت أن ظهرك يؤلمك.
قال مختار: سأُباشر لقمة عيشي. لا أقود البلانس، ولا أصطاد.
وواجه الرجل بعينَين متأثِّرتَين: إن لفظ البحر سمكة. ماذا يجري لها؟
وهو يهز رأسه: تموت.
قال مختار: هذا أنا. إذا ابتعدتُ عن البحر أموت!
رسم الرجل على شفتَيه ابتسامة ود: ما دمت تريد ركوب البحر. فأنا أرحِّب بك ضيفًا على أي بلانس لي.
– لا أريد الفسحة.
ثم وهو يحدجه بنظرة جانبية: بصراحة. أحب رزق البحر.
وبنبرة ملونة: كله حلال.
قال أبو الحسن: مشيخة الصيادين لا تهمني.
واستعاد نبرة الود: أنا أعتبر نفسي مجرَّد صياد. مثلكم تمامًا.
وهو يعبِّر بيدَيه: مضى زمن الشراع. نحن الآن في زمن البلانسات ذات الموتور.
شحب الود في صوت أبو الحسن: لكننا ورثنا من آبائنا نظامًا لا نستطيع أن نبدله. لا بد من معلمين وصيادين وسماكين.
وتلكَّأَت الكلمات على شفتَيه: هذه هي أصول المهنة من أجيال.
لم يتصوَّر أنه يستغني عن البلانس. ركَّب فيه موتورًا، وترك الأشرعة في أماكنها. وكانت قد ظهرت في مياه الأنفوشي سفن كبيرة بشراعين، وبلانسات ضخمة برفاص.
غالب مختار ارتباكه: على العين والرأس. لكنني أريد أن أكون حُر نفسي.
قال الرجل في صوت أملَس: وما يمنعك؟
ونزع القبعة، وهرش رأسه بطرف إصبعه: هل وجدتَ مَن اقتنع بالعمل معك؟
قال مختار بلهجة مؤدَّبة، حاسمة: ربنا يوفق!
فكر في منصور مكاوي لموتور البلانس، يُعطيه مرتبًا أول كل شهر، فلا تتبادله البلانسات. عرض على محمد الراكشي أن يعمل معه، الْتِماسًا لبركة أبيه. اعتذر محمد بغضب أمين عزب لو أنه ترك العمل في الدائرة الجمركية. الْتَقى به في اليوم الثالث لمعركته مع مرعي بيبي.
– ماذا حدث بينك وبين مرعي بيبي؟
قال محمد الراكشي: حاول أن يعتدي عليَّ. فدافعتُ عن نفسي.
نطقَتْ عينا الرجل بالألم: كان أبوك رجلًا طيبًا. ماذا تريد أن تكون؟
اتجهت نظرته إلى الأرض: أبي لم يخلف لنا أي شيء. وعليَّ أن أنفق على إخوتي.
رفع حاجبَيه في دهشة: ليس بالفتونة يا محمد.
همس بالتهيُّب: أذكر أنك طردت الرجل الغريب من قهوة الزردوني، عندما حاول فرض البلطجة.
أهمل الملاحظة: ما شهادتك؟
– خرجت من الأولى الثانوية.
وهو يمضي ناحية المسافرخانة: ربما استطعت تدبير عمل لك في الميناء.
توسَّط له في وظيفة كتابية بمخازن الدائرة الجمركية. ابتعد عن البلانسات والصيد، وإنْ ظلَّ يتردَّد على الحلقة، ويتنقل بين قهاوي مخيمخ والزواوي والبحر. ينصت إلى أحاديث الرجال عن ولاية أبيه، فلا يناقشها.
قفز السلالم ليقضي على تردُّده.
لم يُخفِ ثروت دهشته: مختار.
ملأت البسمة وجهه: خاصمتني بلا سبب. قلت أصالحك.
وهو يسبقه إلى الداخل: لا خصام. لكنني مشغول في تجارة تأخذ كل وقتي.
استأذن، ودخل المطبخ.
طافت نظرته بالصالة الواسعة، الساكنة، تحيط بها حجرتان تطلَّان على زقاق العماوي، وطرقة تُفضي إلى المطبخ والحمام. الكنبة الإستامبولي الملاصقة للحائط في موضعها. تتقاسم عيناه قراءة رسائل المدن البعيدة، ورؤية قميص النوم الذي تهدَّلَت حمالته، فظهر الجِيد العاري، وتَعرِّي الفخذ في تربيعة الساقين. اطمئنانها إلى نوم سحر في الحجرة المغلقة.
وهو يرفع كوب الشاي إلى فمه: أريد أن تعود إلى البحر.
هتف ثروت: مَن؟ أنا؟!
قال مختار: اشتريت بلانس تمنع ظروفي أن أكون رئيسًا له.
أدار نحوه ملامح مندهشة: أنا لا أفهم في البلانسات. طول عمري في المراكب الكبيرة.
رمقه بنظرة معاتبة: نسيت أني ركبت البحر معك؟!
لم يعُد بوسعه ركوب البحر في السفن الضخمة، ولا التطلُّع إلى البلاد البعيدة، لكن البلانس ينزل به البحر. يظلُّ في حضنه أيامًا كأنها العمر. البواخر الضخمة لنقل الناس والبضائع والسفر إلى مدن لا يعرف أسماءها. وفي البواخر أوامر وشخط ونطر وصداقات يحبُّها، أو لا يريدها. البلانس للصيد والسفر إلى السواحل القريبة. لكن ركوبه البحر هو الهدف. الحياة داخل الأمواج والآفاق المحيطة، المترامية. هو المسيطر على الدفة والقلوع والشراع والتموين والصيادين. كلمته لا تُرد، ولا يشغله الفصل لإصابته.
تُدار الماكينة، وتُبسط الأشرعة، فتمتلئ بالهواء. يُمسك الدَّفَّة بيده. ينطلق البلانس إلى داخل البحر. لن يرسو على المواني البعيدة، لكنه سينقله إلى حياة البحر، إلى المياه المحيطة من كل الجوانب، والأفق الذي بلا نهاية، والشمس والرياح والنوات والتوقع.
– البلانس للصيد. ولا أعرف الفرق بين البوري والمياس.
وأردف بنظرة قاطعة: عندما أتخذ قرارًا لا أرجع عنه. قراري منذ أعوام هو البُعد عن البحر.
هل اتخذ قراره بقتل يُسرية، فلم يرجع عنه؟!
كان يطيل تأمُّل البواخر العملاقة الراسية على رصيف باب نمرة ستة. يهمس لنفسه بالسؤال: هل يركب — ذات يوم — واحدة من هذه البواخر الضخمة، تمضي به إلى بلاد الله خلق الله، يرى ما لم يره من المدن والبشر؟
قرَّر أن يكِل أمر البلانس إلى قاسم الغرياني. لم يكُن يُخفي إعجابه بقدرته على طي الشراع، ونشره، يتحكَّم فيه حين تهب ريح مفاجئة. يجيد طيه في عز النوة. يتسلَّق الجراندي، أكبر صواري البلانس، في خفَّة، يستخدم يدَيه، والريح تلطمه. يقيِّده في القلع، ويلف الحبل حوله. يعرف كل أنواع الصيد: شباك الجر، الجرافة الساحلية، حبل السنار، غزل السردين، والمياس، والبوص، والبوري، شباك الطرح. يجيد التصرُّف في التيارات المائية العنيفة والرياح المفاجئة والدوامات. قاسم صياد، وصديقه، وهو يثق به. لمَّح بالعرض.
قال الغرياني: ألا تخاف الوحش؟
جاشت مشاعره: أنت قتلته؟
وهزَّ قبضته في تأكيد: الجميع يعرفون هذا.
هز الغرياني رأسه: ما عدا المعلمين. يرفضون التعامل معي.
قال مختار في جَيَشان مشاعره: لكن الجد السخاوي أيَّد كلامك.
ولكزه في جنبه: سأسمي البلانس قاسم. وتكون أنت رئيسه.
واجه الوحش بمفرده، وقتله. هو وحده الذي أقدَمَ على الفعل. لم يرَ أحد ما حدث، فتهامسوا بعدم التصديق.
قال عباس الخوالقة: لعله استعان بالجنِّية التي يزعم أنه يُواخيها.
قال حمودة هلول: لكنه أُصيب في وجهه وصدره. وتحطَّم لنش حمادة بك.
وهو يشيح بمبسم النرجيلة: لأنه لا يُحسن قيادة اللنش، فقد اخترع مسألة قتله للوحش!
قال الغرياني: هل البلانس لمعلم في الحلقة.
قال مختار: لا معلم ولا دياولو. لن يسألك صاحب البلانس إلَّا عن الإيراد.
ولانت ملامح وجهه: ربما طلع البحر معكم في بعض الرحلات.
ثم قال في ابتسامة كبيرة: بصراحة، أريد أن أشتري بلانس.
وفي نبرة واثقة: عرفت أني أستطيع سداد ثمنه في ظرف عامَين.
ضرب قاسم الأرض بقدمه: ولماذا الغلب؟ ورش المراكب تصنع لك البلانس الذي تريده بسعر أقل.
ذهب إلى «القزق». طلب من الأسطى أبو المكارم النجار أن يصنع له بلانس جديدًا بموتور. يعلو صاريه صواري سفن الأنفوشي كلها.
راقب العمود الرئيس والأضلاع، ثم التكسية بالألواح. الخشب مصقول، والأبواب لامعة، والمقابض النحاسية تضوي ببريق، والغزل لم يلامس الماء، وعين الحسود مرسومة على جانبي البلانس، والكلمات ضد الحاسدين مكتوبة بخط الثلث.
هلَّل الأسطى أبو المكارم ذات صباح:
– بسم الله مجراها ومرساها.
قرَّر أن ينفِّذ نصيحة الجد السخاوي. لا يأذن للنساء بالسير فوق البلانس قبل أن ينزل البحر. ربما كانت المرأة عاقرًا، فهي — إن قفزت فوق قاعدة البلانس الجديد — لا بد أن تنجب طفلًا، ولأن الله عادل، فهو لا بد أن يأخذ روحًا، بدلًا من الروح الجديدة. يحل الموت قبل أن يهبط البلانس الماء، أو وهو يقطع رحلته الأولى. حفظ من الجد السخاوي عبارة «البر جل جلاله». ظلَّ يكرِّرها — كل فترة — سبع مرات، فيتحقَّق له الأمان، في البر والبحر.
يزدان البلانس بالرايات، وقطع القماش الملونة. تدقُّ الطبول، وتتعالى الزغاريد، وصيحات الأولاد. تجري يد شبيرو الجزار بسكين على عنق عجل. ينبثق الدم. يغمس فيه يده، ويخمِّس على جوانب البلانس وهو يواصل انزلاقه داخل البحر. يقف على المقدمة. يواجه البحر في نزول البلانس إليه للمرة الأولى، أو يتحامل على نفسه، ويدير الدفة بنفسه، يوجهها صوب الدنيا التي يحلم بالعودة إليها.
تلفَّتَ حوله، يتأمل السحب البيضاء، المتناثرة، والأسماك الصغيرة تتقافز على السطح الهادئ، وتناثر — في المدى — بلانسات وصواري وأشرعة، ومد الموج يلامس المكعبات الأسمنتية، أسفل الكورنيش الحجري.
ضم قبضته، وهزَّهما. خبط الأرض بقدمَيه. علا صوته بكلمات لم يفهمها هو نفسه. غنَّى:
تعالى الانفجار. اخترق سكون الشاطئ الخالي. تناثرت قطع الأخشاب المشتعلة على المياه، وعلى الشاطئ. سقطت كرة لهب على شادر البطيخ، الملاصق للمحكمة الوطنية، فاشتعلت فيه النيران. تدافعت الأمواج — في تلاحُق — نحو الشاطئ، ساحبة معها بقايا البلانس المحطَّم.