الطيران بجناح الهمة
الدنيا ليل.
شفت الظلمة بلمبات الاستصباح المتناثرة، والكلوبات المعلَّقة على أبواب الدكاكين، وفي عربات اليد، والأضواء المنبعثة من الشرفات والنوافذ التي فتحت مصاريعها للنسائم المحمَّلة برائحة الملح والأعشاب. هدير البحر يترامى، ونجاتي يمد عنقه، يعلو بآخِر صوته، في تنغيم، ينادي على المطلوب.
قال إبراهيم سيف النصر: نحن الآن في الجانب الصيفي بالقهوة.
كان يرتدي قميصًا أزرق من البوبلين المخطَّط، وبنطلونًا أبيض، وحذاءً يتقاسمه الأسود والأبيض.
رفع أدهم أبو حمد عينَيه في تثاقُل: وأين الجانب الشتوي؟
مال سيف النصر على الكرسي، وشبَّك أصابع يدَيه على صدره: الرصيف.
كانوا يتابعون انطلاق الصواريخ في الميناء الشرقية، تتصاعد من السلسلة، فتضوي السماء بالألوان المتطايرة والأشكال والتكوينات والألعاب النارية والأصوات المتفجِّرة. في وسط البحر، تزيَّنَت البلانسات بلمبات ملوَّنة، وأعلام.
قال إبراهيم سيف النصر: كان ينقص هذه الاحتفالات وجود الأسطى مواهب.
قال فهمي الأشقر: لعلك لم تستمع إليها وهي تغني «زهر الربيع ترى … أم سادة نجب؟»
وضم أصابعه على شفتيه: صوتها في هذه الأغنية أجمل من صوت أم كلثوم!
قال أدهم أبو حمد: رائحة البارود وصلت إلى هنا.
قال الشيخ قرشي: ثمانية أيام مضت ولا تزال حفلات عيد الجلوس.
غمز إبراهيم سيف النصر بعينه: ألم تحتفل بطريقتك؟
لاحظ سيف النصر أن الشيخ قرشي نسي القول في أذان الفجر: «الصلاة خير من النوم». رفع الأذان كأنه للصلوات الأربع الأخرى. تحرج في مصارحته بنسيانه.
قال أحمد أبو دومة: لا حياء في أمور الدين، إذا لم تصارحه فسأكلمه أنا.
قال أدهم: السهو من طبيعة البشر.
قال أبو دومة في دهشة: هل في الأذان سهو؟!
قال فهمي الأشقر: لاحظ رفعه لأذان فجر الغد. إنْ كرَّر ما فعل لا بد أن تكلمه.
أردف بلهجة مشفقة: مصيبة لو أن الشيخ عبد الحفيظ أخذ باله.
كان الشيخ يرفض التلحين والتغنِّي في الأذان، ربما — للمحافظة — على توقيع الإيقاعات والنغمات، لا تتوضح الحروف والحركات والسكنات. وكان يكره الفصل بين كلمتين بسكتة. عاب على الشيخ قرشي أنه يمد صوته أكثر مما ينبغي. يغفر الله للمؤذن مد الصوت، لكن الإطالة تضع الأذان خارج العبادة.
كان يرى في المنبر عرش الله، لا يرتقيه إلَّا مَن اطمأن إلى طهارة نفسه.
عاب الشيخ على المهدي اللبان أنه يسرق من صلاته، فهو لا يُسبغ الوضوء، ويخطف الركوع والسجود، ولا تبدو عليه خشية.
قال: الصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد.
ولاحظ أن المصلين انشغلوا بأحاديث جانبية. تشابك الهمس، فبدا لغطًا.
علا صوته في غضب: نحن في جامع لا في قهوة!
وخالف رده ما توقعه إبراهيم سيف النصر: كيف يكون سؤال القبر لمَن غرق في البحر وأكله السمك؟
قال في لهجة باترة: الميت يسأل بعد موته. سواء دُفن أو لم يَدفن. حتى لو أكله السمك، لا بد أن تسأله الملائكة.
علا صوت أدهم أبو حمد: هل قرأتم أسماء الوزراء الجدد. أتعجب؛ كيف مارس هؤلاء الناس الوطنية ذات يوم؟!
ثم وهو يدفع بالجريدة إلى إبراهيم سيف النصر: كيف ارتضوا لأنفسهم أن يصبحوا وزراء في حكومات مشبوهة؟!
وعلَت الحمرة وجهه: هذا سيرك لاعبوه من المستوزرين!
قال زكي بشارة: حتى نجيب الهلالي الذي جعل شعار وزارته التطهير، يتكلَّم عن آمال مصر بين يدي الملك عزه الذي يرام وكنفه الذي لا يضام.
ثم وهو يحكُّ ذقنه في حيرة: أي ناس هؤلاء؟!
تنبه سيف النصر لوجود زكي بشارة: حمد الله على السلامة.
مدَّ زكي بشارة يده بالمصافحة: الله يسلمك.
قال الشيخ قرشي: لك وحشة.
قال زكي بشارة: كنت خارج الإسكندرية.
تحدَّث عن شراء بيت في كنجي مريوط. بلدة للصيد، هواؤها جاف، فهي مشتى ومصيف معًا، ومنتجع، وشهرة طواحين الهواء بها واسعة.
مدَّت المرأة يدها بورقة يانصيب إلى أدهم أبو حمد: جرب مرة.
أزاح يدها في ضِيق: أنا لا أحب البخت.
ضحك فهمي الأشقر: يسمونه حظًّا وليس بختًا يا أدهم أفندي.
وربت — بودٍّ — كتفه: سأشتري الورقة على حظك!
قال أدهم: أنت إذَن أضعت ثمن الورقة.
قال إبراهيم سيف النصر: ثمنها لا شيء أمام ما يُنفقه على اليانصيب.
همس إبراهيم سيف النصر في أذن حمدي رخا بما لاحظه. فهمي الأشقر له ولع ببائعة اليانصيب، الوقفة المتأودة، والعينين المكحولتين، والشفتين الممتلئتين، والأنف الأفطس، وخصلة الشعر المخضَّب بالحنَّاء على جبهتها، وغنة الصوت الواضحة.
استطرد وهو يكتم ضحكة: لعلها تُرضيه بما لا يجده في بيته!
واتجه إلى شرود حمدي رخا: اللي واخد عقلك.
كان خياله يجسد الصور التي تأتي في التعبيرات. يضع لها ملامح وقسمات. يبتسم لتجسيد الصورة، أو يحزن، أو يُعاني القرف. كانت فايزة تتكلَّم، وتتكلَّم، وتتكلَّم. يكتفي بالإنصات. يتظاهر بالإنصات. تجتذبه عوالم يتصوَّرها. يتخيَّل ما بها. وكان يرافق خياله في مشاوير لا تختار مقصدها. غاب المعنى، فألقى التأمُّل في الشرود. لا يقصد وجهة بالذات، وإنما يترك قدمَيه تمضيان إلى ما يجذب انتباهه، فيطيل الوقفة. تشرد نظراته. تستقر على مكان غير مرئي في المدى البعيد. ربما تبين أن جيشان الذهن أملى عليه خطوات المسافة — للمرة الثانية، أو الثالثة — بين السلسلة وانحناءة الطريق إلى الأنفوشي. يقف على رصيف نمرة واحد، يرقب البواخر الضخمة وناقلات البترول والحاويات والسفن الحربية. الجلسة المسترخية — تحت شمسية الشاطئ في أبي قير — وامتدادات المياه بلا أُفق. يمضي. على الكورنيش، إلى الشاطبي. يعدُّ النوافذ على الجهة المقابلة للكورنيش، بطريقة لا تعني العد بالفعل، يبطئ الخطوات في لسان السلسلة. يرقب صيادي السنارة وباعة الترمس والذرة. يتأمَّل طيور البحر في أسرابها المتداخلة. تسترخي نظرته أمام فاترينات وسط البلد. يفاصل بين الأفلام المعروضة في الهمبرا وريتس وفريال وراديو. يلحظ اجتذاب الظلام لشروده. تبدو أحداث الفيلم — في ذاكرته — منفصلة، وغير مترابطة، ومملة. يعاود السير في الشوارع المحيطة. يحاول — في وقفته أمام قهوة البلياردو — فهم قواعد اللعبة، معنى ارتطام الكرات، وتلقف الثقب المستدير لها. يهزُّ كتفَيه، ويواصل السير. ربما مال من صفية زغلول إلى المستشفى الأميري. يستلقي تحت شجرة في حدائق الشلالات. يخلو إلى ما يحيا في داخله. تغيب عنه الهمسات ونداءات باعة اللب والسوداني وتنغيم الغجريات: أدق واطاهر. ربما أفاق على ارتطام كرة بجسمه.
تتكرَّر هذه الجولة مرتين، أو ثلاثًا، كل شهر. تبطئ خطواته بتلقِّي نسائم اعتدال الجو. إذا كان الجو حارًّا، أو في الشتاء، يميل من الشارع الجانبي إلى شارع حسن باشا عاصم، حتى الْتِقائه بإسماعيل صبري. تبدو حلقات الجالسين على الرصيف — في نصف دائرة — حول المهدي اللبان. ربما تدفعهم حرارة الشمس، أو هبات الهواء الشتوية، إلى الجلوس داخل القهوة المغلقة.
يصل إلى قهوة المهدي عقب صلاة المغرب. لا يتكلَّم عن الأماكن التي تردَّد عليها، ولا ما صادفه في طريقه. يدخل محارة صمته. يتابع المناقشات بعينَين يغشاهما الشرود.