السير في نفق الحيرة
وافق على إجراء تحليل في مستشفى الملكة نازلي.
أعطاه الممرض أنبوبًا زجاجيًّا، وأغلق عليه دورة المياه: إذا انتهيت. هات الأنبوب.
نصح الطبيب بأدوية ومنشطات.
عاود رفضه: أنا لا أشكو شيئًا. صحتي بمب.
قال لها الطبيب: نصيحتي أن تتجنَّبي الحمل فترة.
– كيف؟
لم تعُد تُنصت إلى الكلمات بلهفة اعتادتها منذ فاجأها المخاض الأول في الشهر الثالث. بدَت أقرب إلى الاستسلام، وربما البلادة. ثمة أمل يحيا داخلها، ملامحه شاحبة، ولا صوت له، لكنه قائم، يشاركها أنفاسها.
فاجأها الطبيب: الإجهاض المتكرر أثَّر على صحتك. ولا بد من استعادتها.
قال سيد: ولكن …
قاطعه الطبيب: من الصعب أن تحملي وأنت في هذه الحالة.
واتجه إليه بابتسامة ود: هذه فرصة لاستعادة نشاطك.
همس سيد في عودتهما إلى البلقطرية: يبدو أن حياتك السابقة أثَّرت على الوعاء.
تحرَّكت شفتاها. انفرجتا. ارتعشتا قليلًا، ثم التصقتا، وانفرجتا ثانية. ظلَّت صامتة، وبكت. انهمرت الدموع من عينيها. هو لم يفاجأ بغير المتوقع. يعرف من حياتها كل شيء، فلماذا وافق؟ ولماذا يحاسبها الآن؟ حتى في لحظات ضغط اليأس على عنقه، لم يحاول الإساءة إليها، لم يواجهها، ولا تهكَّمَ عليها، وإن كتمت ضيقها من نظرته اللائمة. يفاجئها بها، كأنه يدينها على ما لا حيلة لها فيه. تحاول الكلام. مجرد أن تعطي معه وتأخذ. تصطدم الكلمات بصمته السادر. مساحات لا نهاية لها من الصمت. يصد حتى محاولاتها لاستدعاء حكاياتهما القديمة: تردد الخائف على بيت شارع سيدي داوود، والرغيفين الرجوع، ولقاءاتهما في دحديرة أبو العباس، ومفاجأته لها يوم الإضراب، والنزهة في الشلالات، والتمشي على الكورنيش، وليلة زفافهما في قهوة كشك. هل يفكر في تطليقها؟ هل يتزوج عليها؟ وإلى أين ينتهي بها الحال لو أن الظروف ظلَّت على عنادها؟
لاحظت أنه لم يعُد يعنيه أن يطيل نومه معها حتى تتحقق لها الرجفة. يقذف بما لديه، فيقوم من فوقها. يرتدي جلبابه، ويتمدَّد على جنبه إلى الناحية المقابلة.
حانت منها الْتِفاتة إلى مرآة التسريحة بجوارها: ماذا جرى؟
طفت الهموم على ملامحها. غاب الجمال القديم. علا الوجه شحوب، وتورم جفناها، وذبلت العينان، فقدا بريقهما، وأحاطت بهما هالات سوداء. وتسلَّلَت التجاعيد إلى بشرتها، وعلَت الجبهة، وأحاطت بجانبي الفم. وغارت الوجنتان، واصطبغتا بالشحوب. حتى الشعر الناعم تقصَّفَت أطرافه، وتشعَّثَت، وتسلَّل الشعر الأبيض قبل الأوان.
– الطبيب أكد أنك …
وبدلت الكلمات: الدلَّالة نصحت بشراء حجر جهنم.
زوى ما بين عينَيه: ماذا؟
اصطنعت ابتسامة: هذا هو اسمه. يأتي من بلاد برة. قطعة منه تجعلك مثل الرهوان.
قاطعها: وهل أنا في حاجة إلى مَن يؤكد رجولتي؟
في لهجة معتذرة: أنا لا أتحدث عن رجولة ولا أنوثة.
علا صوته: أريد ولدًا يحمل اسمي.
همست في تألُّم: قال الطبيب إن السبب هو ضعف حيواناتك المنوية.
قذف الهواء بقبضته: فليقُل الطبيب ما يشاء.
غمغمت: لا تشتمني إذَن!
ارتعش صوته بالتوتر: أنا أذكر الحقيقة!
•••
هل رجولته ناقصة؟ هل هي مجرد ماء بلا خصوبة؟
زار الشيخ كراوية قارئ مسجد الشوربجي. عرض الأمر عليه منذ بداياته. حتى ما لا يصح قوله رواه. قدم منديل رأسها أثرًا يستعين به. انشغل الشيخ بتأملاته وأوراقه، وتقليب الأثر، ومخاطبة أشخاص مجهولين. ثم ألقى أسئلة. أجاب عليها سيد، وحبس أنفاسه.
قال الشيخ: رحم المرأة مغلق، فلا تستطيع الإنجاب.
هتف سيد في قلق: هل تنصح بعملية؟
تكرمشت جبهة الشيخ: مَن يجريها؟
قال سيد: الطبيب … أي طبيب.
وشي صوت الشيخ باستياء: للأطباء حدودهم … هذه إرادة الله.
غادر الجامع، وفي يقينه ما قاله الشيخ: قرينة أنسية تحسدها على إنجابها. القرينة لا تستطيع الإنجاب، فهي تهاجم الطفل حتى يموت. لا بد — كما نصح الشيخ — أن يشتري السبعة عهود السليمانية، العهود التي أخذها سيدنا سليمان على أم الصبيان، بألَّا تمس الطفل الذي يحمل هذه العهود في رقبته.
مال إلى فرن التمرازية.
تكررت زياراته باشتغال صابر الشبلنجي فيه، صداقتهما بدأت في قهوة كشك، واستمرَّت. صابر يزور سيد في الكشك، وسيد يزور صابر في الإسطبل، ثم في الفرن. اغتصب ابتسامة لرؤية صابر ينفض عنه غبار الردة والدقيق، علقت بشعره، ورموش عينيه، وداخل أنفه وأذنيه، وعلى ملابسه.
قال صابر متهلِّلًا: يا روائح السيالة … أنت ثاني مَن ألتقي به اليوم.
رنا إليه بنظرة متسائلة: مَن الآخَر؟
وهو يعبر بأصابعه: الأسطى فتحي الخياط.
لمحه في زحام شارع الميدان. يزك بساقه المهيضة، وعصاه.
هتف صابر بعفوية: أسطى فتحي.
يتساند على العكاز ليعوض ساقه المهيضة، وإنْ ظلَّ يظلع في مشيته. طفولة وجهه تُخفي حقيقة سنه. أبرز ما فيه جبهة عريضة، وعينان واسعتان حادتان، وأنف أقنى. على شفتَيه بسمة ثابتة، تُخفي ما يدور في داخله من مشاعر. يرتدي جاكتة خفيفة، يطلُّ من جيبها العلوي طرف علبة سجاير، فوق جلباب أبيض من البوبلين، ويحرص على إمالة طربوشه ناحية اليمين.
وبَّخ صابر نفسه في اللحظة التالية. توقَّع أن يذكِّره الرجل بفعلته مع جمالات، لكن كلمات الأسطى فتحي اقتصرت على تبادل التحية. لم يأتِ بسيرة المرأة.
– دكاني الآن في الإبراهيمية.
ثم وهو يحيي بهزة رأس: دعنا نراك!
همَّ بسؤاله: أين ذهبت جمالات؟ هل هي تحيا معه، أو تحيا بمفردها، أو أنها تزوجت مَن لا يعرفه. وهل تركا بحري بغضب حنفي قابيل؟
– أراد أن يتكلم، لكن الكلمات عصته، وكان الأسطى فتحي يمضي — بخطواته القافزة — ناحية شارع الميدان.
•••
مضى سيد في اتجاه الموازيني.
لمح أمين عزب في ناصية الْتِقاء التمرازية برأس التين.
لحقه.
مدَّ أمين عزب يده: كيف حالك يا سيد؟
وهو يغالب ارتباكه: الحمد لله.
وفرك كفًّا بأخرى: أريدك يا مولانا في مسألة مهمة.
اتسعت ابتسامته: زمان … كنت تستطيع رؤيتي كل وقت.
دخل زاوية خطاب — مترددًا — قبل أذان العصر.
حكى، وإنْ لم يُشر إلى ما قالته أنسية.
قال وهو يحيط إصبعه بخصلة الشعر المتهدِّلة: اللي خلف ما ماتش، واللي ما خلفش ما تولدش.
وتدلَّت يداه المضمومتان أمامه: أنا حتى الآن لم أحيا، لأني لم أنجب.
وتنهَّد: مَن يزور قبري بعد موتي؟!
قال أمين عزب كلامًا كثيرًا، فهم منه أنه يجب أن يلتزم بالصبر، وأن لكل شيء أوانًا.
غادر الزاوية قبل الصلاة.
ارتمى في ظلام المسافرخانة.
تأخَّر في العودة إلى البيت، فنامت أنسية. استيقظت على صوت حركته في الصالة. قامت لتعد له العشاء. كان قد ارتمى على الكنبة مهدود الحيل. شوَّح بزجاجة غامقة اللون في يده. أدركت أنه مخمور. وضعت العشاء على الترابيزة أوسط الصالة، ومضت — صامتة — إلى الداخل.
•••
كان الشيخ عبد الحفيظ — إذا دخل عليه أحد غرفته في الجامع — دارى المصحف الذي يقرأ منه بطرف ردائه، فلا يعلن أنه يتعبَّد. كان يستقبل في حجرته مَن يريد لقاءه، ويرد على الناس — في الطريق — سلامهم وأسئلتهم، وانْ ظلَّت نظراته تمسح الأرض. يخشى أن تزني عيناه، مثلها مثل الجوارح، إن جاوزت النظرة الخاطفة للتبيُّن. الملامح الجادة تُخفي قلبًا طيبًا، وروحًا صوفية عذبة.
انحنى على يد الشيخ عبد الحفيظ يُحاول تقبيلها، فشد الشيخ يده.
قال الشيخ: ما دام لا يوجد عيب في زوجتك أو فيك، فهذه إرادة الله، وعليك أن ترضى بها.
واتجه إليه بنظرة مُشفِقة: قل اللهم أجِرني فيما حرمتني منه، واخلفني فيه خيرًا كثيرًا.
وشى ارتجاف رموشه بالتأثُّر: تعنى أني لن أنجب؟
قال الشيخ في نظرته المشفقة: هذا كلام في علم الله، ونحن لا نملك إلا الرضوخ لإرادته.
وهز إصبعه: لا تجعل من حاجتك بلاءً، واذكر أن آدم لما تعلَّق قلبه بالجنة، جعلتها القدرة محنة عليه، حتى زالت الجنة!
وخالط صوته حزن: أنت مشغول بالمفقود، ونسيت أن تشكر الله على الموجود؛ زوجة طيبة.
هل هو مجرد كلام، أو أن الرجل لا يعرف ماذا كانت تعمل أنسية؟ وهل مسحت مكاشفة السلطان ما يعرفه الناس عن حياتها القديمة؟
الْتَمعَت عيناه بالقلق: ما أريده طفل مثل بقية الآباء.
قال الشيخ: ما يشاء الله سيكون!
لحقه صوت الشيخ وهو يخطو إلى الباب الخارجي: اذكر «المصور جل جلاله» عشر مرات عندما تأوي إلى فراشك، وقبل الوطء.
ونطق صوته بطيبة واضحة: مَن يفعل ذلك قد يرزقه الله ولدًا صالحًا.
•••
قالت الطبيبة: نصيحتي أن تتجنَّبي الحمل سنتين أو ثلاثًا.
وقرصتها من خدها برفق: لا بد أن تستعيدي صحتك أولًا!
راودها الخاطر، فنفذته.
أهملت التسوق في شارع الميدان، ومالت إلى دكان مانيفاتورة كمال مصباح. سِره باتع مع سيدي ياقوت العرش، فهل يعينها بسِرِّه على مواجهة ظروفها؟ هل يحنِّن قلب سيد، فيصبر عليها، ولا ينفذ ما تلتمع به عيناه؟
الرجل يقف وراء البنك الخشبي في نصف مربع، بجواره عمال يرصُّون الأقمشة، ويعرضونها، ويفاصلون، ويبيعون، ويتقاضى الثمن. الأرفف صفت عليها أنواع الأقمشة إلى السقف.
لمحها من انفراجة طولية بين الواقفين.
هتف بالتذكُّر: أهلًا يا ست!