خوف المفارقة
فوجئ المصلون حين رأوا شيخًا آخَر يصعد المنبر، بدلًا من الشيخ عبد الحفيظ. قيل إنه أُصيب بوعكة مفاجئة، فتخلف عن الحضور. فلما صعد منبر جامع القائد إبراهيم، عرف المصلون أنه نُقل إليه.
تباينت الشائعات حول أسباب نقله.
قيل إنه يقول كلامًا لم يذكره القرآن ولا أحاديث الرسول، إنما هو يقول ما يفد إلى خاطره، ويعلن تفسيرات غريبة. وقيل إن وزارة الأوقاف عابت عليه شهوة الخطبة في صلاة الجمعة، فهو يطيل ويطيل، لا يعنيه إن أدرك الناس الملل، أو تضايقوا. يأخذه الاستطراد، فينتقل من حديث إلى آخَر، وربما أعاد كلامًا ذكره في خطب سابقة. وقيل إن أعوان الملك أشاروا عليه بشراء الشيخ عبد الحفيظ. تلقى الشيخ رسالة تبلغه اعتزام الملك أداء صلاة الجمعة المقبلة في علي تمراز. آخِر زياراته للجامع في ٧ سبتمبر ١٩٤٥. أتى — في الأيام التالية — عمال ومشرفون، أعادوا تأثيث الجامع، واستبدلوا بالحصر سجاجيد من الصوف. طاف بأرجاء الجامع رجال يرتدون الثياب الميري، وثياب الأفندية. أغلقوا معظم الحجرات والأبواب. حتى الباب الخلفي المُطِل على محطة الكهرباء، أغلقوه، واكتفوا بالباب الرئيس. وقف عليه عساكر، لم يغادروه إلى صباح يوم الزيارة. أتى الحرس الملكي، ضباط وجنود، أحاطوا بالجامع، وانتشروا في صحنه، وأمام الحجرات المُغلَقة، وفوق السطح. زيادة في الحيطة، صعد بعضهم إلى أسطح البيوت المجاورة، وسدوا الحواري المُطلَّة على الميدان، فيما عدا الاتجاه إلى شارع فرنسا وأبو العباس ورأس التين. والْتفَّ تلاميذ المدارس حول الساحة المقابلة للجامع، لتحية الملك.
قيل إن الشيخ عبد الحفيظ ابتعد في خطبته — للمرة الأولى — عن السياسة. ذكَّر الحضور بالآخِرة وبالحساب والعقاب، ودعا لأُولي الأمر أن يهديهم الله سبيل الرشاد.
رُوي أن الملك خلع على الشيخ عبد الحفيظ بردة من الجوخ، ومنحه كيسًا به نقود، ووعده بزيارة تالية. لكن التنقلات التي أجرتها وزارة الأوقاف بين الأئمة جعلته إمامًا لجامع القائد إبراهيم بمحطة الرمل.
علا صوت الشيخ عبد الحفيظ بالغضب حين همس الشيخ دسوقي رزق مفتش إدارة الوعظ بالملاحظة: هل تخلع الجبة في الجامع؟
قال: ومَن يُطيق ارتداء الجبة في حَر أغسطس؟
وحوَّل وجهه إلى الناحية الأخرى: إذا حان وقت الصلاة ارتديتها.
لم يكُن يغادر البيت إلَّا إذا اطمأن إلى ما يرتديه: القفطان الشاهي، المزهر، والجبة الجوخ، والحزام الأخضر، والعمامة المنقوشة، والحذاء الأجلسيه ذي الرقبة. وتجري أصابعه على حبات المسبحة العاجية الحبات.
قال المفتش: يا شيخ عبد الحفيظ. مَن تقصد برؤساء الدول الإسلامية الذين يجب أن يراعوا في سلوكهم تقاليد الإسلام ويتمسكوا بقواعده؟
في صوت متلكئ: أقصد مَن ذكرت.
نطقت الدهشة في وجه المفتش: مولانا ملك دولة إسلامية.
قال الشيخ عبد الحفيظ: وهل ترى أن الملك لا يُراعي تقاليد الإسلام؟
وهو يدفع براحته خطرًا غير مرئي: حاشا لله.
كور الشيخ عبد الحفيظ مسبحته، ودسها في جيبه، ثم واجه دسوقي رزق بنظرة مستريبة: ما معنى سؤالك إذَن؟
فاجأه المفتش بما أذهله: هل صحيح أنك لا تُعطي وقتك للإمامة؟
اهتز جسمه بالانفعال: ماذا تقصد؟
وهو يطوي ساقه تحت فخذه: جاءتنا معلومات أن التجارة تبعدك عن الجامع.
توقع اتهامات، لكنه لم يتوقع أن ينقلها الشيخ دسوقي رزق. هو زميل دراسة في المعهد الثانوي، وفي كلية أصول الدين. وأقاما — لفترة — في بيت المسافرخانة.
قيل إن الشيخ يشارك في شادر البطيخ بجوار المحكمة الكلية، وفي عمليات بيع بهائم ودواجن، يتاجر بها أقارب له في المحمودية.
قال دسوقي رزق: ليتك تعرض عليَّ موضوع خطبة الجمعة.
أعاد القول: أعرض الخطبة عليك؟!
في نبرة تهوين: الفكرة العامة.
ورسم على شفتَيه ابتسامة: هذه مسألة وظيفية.
ألغى الإمام الجديد درس ما بعد صلاة المغرب. الجامع للصلاة وحدها. مَن يريد الفقه، فعليه أن يلجأ إلى المكتبة. الوعظ في خطبة الجمعة لا سواها. وقال من فوق المنبر إن احترام الحاكم واجب، حتى لو كان جائرًا. وقال: إن الله هو الذي ولَّى على الناس الحاكم، والخروج عليه عصيان، وتمرُّد على حكمه.
غاب الإمام عن الجامع، إلا في بعض أوقات الصلاة، وإلقاء خطبة الجمعة.
قيل إنه كان إمامًا للبوصيري، قبل أن ينتقل إلى ديوان وزارة الأوقاف. رأى تحويل الترام إلى الناحية المقابلة، وفصله بالحديقة الصغيرة عن الجامع. انزعج الملك فاروق — عند زيارته للجامع — من قرقعة الترام في تراميها إلى غرفة صاحب الضريح. أمر بإبعاد الترام، وأظهر عدم الرضى، فلم يمنح الإمام كسوة. نُقل الإمام — في اليوم التالي — إلى ديوان الوزارة.
تناقص المتردِّدون على سيدي علي تمراز، فلم يمتلئ بهم صحن الجامع، وظلَّ الميدان خاليًا. وقيل إن أمين عزب رجع عما اعتزمه بإهداء مكتبته الخاصة إلى سيدي علي تمراز. حافلة بعلوم التفسير والفقه والحديث والتصوُّف والتاريخ الإسلامي. نقلها في عربة كارو إلى زاوية خطاب. وقاطع أحد المصلين خطبة الإمام الجديد: لم يعُد الجامع في حاجة إلى إمام.
ساد هرج واضطراب. هوش المصلون على الإمام، وصاحوا، وزيَّطوا، وهتف عجوز في الصف الأول: لا يخطب فينا إلا الشيخ عبد الحفيظ!
تكاثرت أعداد المصلين في القائد إبراهيم، حتى أعلنت القنصلية البريطانية القريبة من الجامع قلقها. خُطب الشيخ تقتصر على السياسة، وردود الأفعال تلقائية، ويصعب علاجها.